وقد دللنا على صحّة ما ذهبنا إليه قبل هذا بلا فصل ، حين قلنا انّ إجماع أصحابنا منعقد على أنّه إن رجع الشهود بعد حكم الحاكم (١) فلا يلتفت إلى رجوعهما ، فيما حكم به ، ولا ينقض حكمه ، لأنّ حكمه مقطوع من جهة الشرع على صحته ، ورجوعهما يحتمل الصدق والكذب ، فلا يرجع عن أمر مقطوع على صحّته ، بأمر مشكوك فيه محتمل.
وقد رجع شيخنا عما ذكره في نهايته ، في مسائل خلافه (٢) ، ومبسوطة ، فقال في مبسوطة : فصل ، في الرجوع عن الشهادة ، إذا شهد الشهود عند الحاكم بحق ، فعرف عدالتهم ، ثمّ رجعوا ، لم يخل من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يرجعوا قبل الحكم أو بعده وقبل القبض ، أو بعد الحكم والقبض معا ، فإن رجعوا قبل الحكم لم يحكم بلا خلاف إلا أبا ثور ، فإنّه قال : يحكم به ، والأول أصح ، وإن رجعوا بعد الحكم وقبل القبض ، نظرت ، فإن كان الحق حدّا لله ، كالزنا والسرقة ، وحدّ الخمر ، لم يحكم بها ، لأنّها حدود تدرأ بالشبهات ، ورجوعهم شبهة ، وإن كان حقا لآدمي ، سقط بالشبهة ، كالقصاص ، وحدّ القذف ، لم يستوف لمثل ذلك ، وأمّا إن رجعوا بعد الحكم وبعد الاستيفاء أيضا ، لم ينقض حكمه ، بلا خلاف ، إلا سعيد بن المسيب ، والأوزاعي ، فإنّهما قالا : ينقض ، والأول أصح ، قال : فإذا ثبت أنّ الحكم لا ينقض ، فانّ المستوفي قد قبض الحق ، فلا اعتراض عليه.
وما الذي يجب على الشهود ، قال رحمهالله : لا يخلو المستوفى من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يكون إتلافا مشاهدة كالقتل ، والقطع ، أو حكما كالطلاق والعتق ، أو لا مشاهدة ولا حكما ، كنقل المال من رجل إلى آخر ، قال : وإن شئت قلت : لا يخلو أن يكون إتلافا أو في حكم الإتلاف ، أو خارجا عنهما ، ثم ذكر رحمهالله رجوعهما عن الشهادة ، بالقتل ، والقطع في السرقة ، وشرحه ، ثم
__________________
(١) ج : بعد الحكم.
(٢) الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة ٧٤.