قلنا : المعتبر هو كيفيّة خاصّة للعبادة التي هي شكر ، وأصلها قائم ، ولم لا يكون البارئ جلّ اسمه جعل للشكر وظائف مختلفة بحسب الأشخاص والأزمنة والأحوال والأمكنة؟
مع أنّ الشكر في الشاهد يختلف بحسب المقام ، وحينئذ يتطرّق إليه النسخ والتخصيص وغيرهما ، ولا قبح في الإلزام بالشكر ، ولهذا يحسن ذمّ كافر النعمة.
سلّمنا قبحه شاهدا ، لكن لعدم استتباع عوض ، وفي الغائب يستتبع الثواب الجزيل فلا قبح ؛ لأنّه تعالى أمر بشكر نعمه بقوله : ( وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) (١) و ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ) (٢).
واحتجّ أصحاب الشكر بثلاثة أوجه :
الأوّل : أنّ نعم الله تعالى لا تحصى ، كما قال تعالى : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) (٣) فيجب أبلغ أقسام الشكر ، والعبادة صالحة لذلك ، فصرفها إليه أولى.
الثاني : أنّ العبادة ـ فعالة ـ من التعبّد الذي هو الخضوع ، وهو معنى الشكر.
الثالث : ما اشتهر من قول كثير من المتكلّمين : إنّ العبادة كيفيّة في الشكر.
وأجيب بتسليم مقدّمات الأولى ، ولا يلزم صرف العبادة إليه ؛ ولأنّه لو وجب الأبلغ لم يقف على حدّ العبادة ، لإمكان ما هو أبلغ منها.
ونمنع كون الخضوع شكرا وإن اشتمل عليه اشتمال العامّ على الخاصّ ، فلا يكون مسمّى العبادة شكرا وإن كان الشكر واقعا فيها.
وفي التحقيق : الخضوع للمعبود شرط صحّة العبادة ، والشرط قبل المشروط في الوجود ، والعلّة الغائيّة قبله في التصوّر وبعده في الوجود ، فلا يكون أحدهما عين الآخر.
والشهرة ممنوعة ، ولو سلّمت فليست حجّة ، ولو سلّمت حجّيّتها ، فإطلاق اسم العبادة على الشكر لاشتمالها عليه كما مرّ ، والمجاز يصار إليه للقرينة. وإنّما يطلق عليه اسم العبادة عند بلوغه الغاية ؛ لأجل بلوغ النعمة الغاية ، ومن ثمّ لم يطلق على شكر بعض نعمه بعض
__________________
(١) البقرة (٢) : ١٥٢.
(٢) لقمان (٣١) : ١٤.
(٣) إبراهيم (١٤) : ٣٤.