الدليل الثالث
النصوص الشرعية تنافي تقسيم البِدعة
إنَّ اللغةَ التي تحدثت بها النصوصُ الشرعية حول مفهوم ( البِدعة ) تأبى التقسيمَ المذكور أيضاً؛ فقد جعلت هذهِ النصوصُ المستفيضة من ( البِدعة ) ندّاً مقابلاً للسُنَّة ، وضدّاً لا يلتقي معها أبداً ، وذمَّت المبتدع ، وأكالت له أنواعَ الذم ، والتوبيخ ، والتقريع ، وأوعدت بعذاب المبتدع بأقسى أنواع العقوبات الدنيوية ، والأُخروية ، ودعت الى مقاطعته ، وهجرانه ، وأطلقت القول بعدم قبول توبته ... فكيف يمكنُ مع كل هذا أن يكونَ هناك قسمٌ ممدوحٌ للابتداع؟ وكيف يمكنُ لهذا القسم أن يتخطى هذا الحجمَ الغفيرَ من النصوص الصريحة ، ويحيدَ عنها نحو اتجاه آخر ، لا أثرَ له ولا دليلَ عليه؟
كما أنَّ الموردَ الوحيدَ الذي تناولته النصوصُ الشرعيةُ المتقدمة على اختلاف مضامينها ، وتنوعِ مداليلها ، هو المورد المذموم ، الذي يُعدُّ ( البِدعةَ ) خصوصَ الأمر الحادث الذي يقابلُ الكتابَ ، والسُنَّة ، والتشريعَ الإلهي المقطوع؛ وبهذا فقد تعرض هذا الموردُ إلى الذم والانتقاد الشديد ، ولو كانَ هناك نحوٌ من أنحاء الاستثناء في موارد معينة مفترضة ، وحتى لو كانَت تلك المواردُ المستثناة مواردَ جزئيةً ومحدودة ، لما كانَ بوسع الشريعة المقدسة أنْ تتجاهلها ، وتغضَّ النظرَ عنها بشكلٍ من الأشكال ، في الوقت الذي نترقبُ حصولَ مثل هذا الاستثناء من قبل الشريعة ، فيما لو وُجد أمرٌ من هذا القبيل ، باعتبار أن لسانَ بيان التشريع يتحدثُ من موقع استيفاء جميع شؤون الأحكام والتعاليم.
فمفهومُ ( الكذب ) مثلاً ، وردَت في شأنه نصوصٌ صريحة وقاطعة ، تناولته بالذم الشديد ، حتى أصبحَ الإيمانُ بقبحه من مسلمات الاعتقاد ، وضروريات الدين ، إلاّ أنَّ الشريعةَ لم تتجاهل في نفس الوقت بعضَ الموارد التي يرتفع فيها موضوع الذم ، ولا