فاعل لا بمعنى الحركات والآلة بصير إذ لا منظور إليه من خلقه متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده (١) أنشأ الخلق إنشاء وابتدأه ابتداء بلا روية أجالها ولا تجربة استفادها ولا حركة أحدثها ولا همامة نفس اضطرب فيها أحال الأشياء لأوقاتها ولاءم بين مختلفاتها وغرز غرائزها وألزمها أشباحها عالما بها قبل ابتدائها محيطا بحدودها وانتهائها عارفا بقرائنها وأحنائها (٢).
وقال عليهالسلام في خطبة أخرى : (٣)
أول عبادة الله معرفته وأصل معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي الصفات عنه جل أن تحله الصفات بشهادة العقول أن كل من حلته الصفات فهو مصنوع وشهادة العقول أنه جل جلاله صانع ليس بمصنوع بصنع الله يستدل عليه وبالعقول يعتقد معرفته وبالفكر تثبت حجته جعل الخلق دليلا عليه فكشف به ربوبيته هو الواحد الفرد في أزليته لا شريك له في إلهيته ولا ند له في ربوبيته بمضادته بين الأشياء المتضادة علم أن لا ضد له وبمقارنته بين الأمور المقترنة علم أن لا قرين له.
__________________
ـ « ومن أشار إليه » سواء بالإشارة العقلية كأن يجعل له حدا منطقيا مركبا من جنس وفصل ، أو بالإشارة الحسية « فقد حده » وذلك أن كل مشار إليه لا بد أن يكون في جهة ما ، وكل ما هو في جهة فلا بد له من أطراف وأقطار هي حدوده وينتهي عندها و « من » فعل ذلك و « حده » « فقد عده » في عداد الممكنات. ومن قال « فيم » هو فقد جعله ضمن شيء ومن قال : « على م » هو فقد جعله مستعل على شيء وغير مستعل على غيره وحينئذ يكون قد « أخلى منه » ذلك الغير.
(١) حدث الشيء : تجدد وجوده. والمزايلة : المفارقة. والسكن ـ بفتحتين ـ : ما يسكن إليه من أهل ومال.
هذه الفقرات كل منها مركبة من قضيتين ، إحداهما موجبة ، والأخرى ، سالبة ، والفرق بين الفقرتين الأوليتين « كائن لا عن حدث » و « موجود لا عن عدم » اذ يبدو ان معناهما واحد في نفيهما تجدد الوجود ، هو : أن الفقرة الأولى تنفي تجدد الحدوث الزماني يعني أنه كائن منذ الأزل ، والثانية تنفي التجدد الذاتي وتثبت وجوب وجوده « مع كل شيء لا بمقارنة » كما أنه « غير كل شيء » ولكن « لا بمزايلة » ومفارقة ، فالمقارنة والمفارقة من الصفات الجسمانية وذاته المقدسة منزهة عن الجسمانيات فهو مع كل شيء بمعنى أنه عالم بكل شيء محيط به ، شاهد عليه ، غير غائب عنه ، ولكن هذه المعية وتلك الغيرية ليست كما هي بالنسبة لنا من المقارنة والمفارقة التي هي من خصائص الجسمية ولوازمها ، وذاته المجردة لا تشبه شيئا من ذوات الموجودات الممكنة فهو « فاعل » ولكن « لا بمعنى الحركات والآلة » ومن ضيق الألفاظ نعبر عن صفاته القدسية بهذه الألفاظ المتعارفة بيننا ، والتي نطلقها عليه كما نطلقها على سائر الممكنات ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، « بصير » منذ الأزل « إذ لا منظور إليه من خلقه » « متوحد » في سلطانه وملكوته « إذ لا سكن يستأنس به » و ( لا ) أنيس ( يستوحش لفقده ) فالوحشة والانس من لوازم الطبيعة الحيوانية ، وهو منزه عنها.
(٢) نشأ الشيء : حدث وتجدد. والابتداء : بمعنى الإنشاء ، والروية : الفكر والتدبر ، وأجال به : إذا أداره ، والتجربة : الاختبار. والهمامة : التردد. وأحال الأشياء : صرفها وحولها ، ولائم : أصلح. والغريزة : الطبيعة ـ والأشباح : الأشخاص والإحاطة :
الاستدارة والشمول. والأحناء ـ جمع الحنو ـ : الجانب والناحية. ( أنشأ الخلق إنشاء ) من غير مادة ( وابتدأهم ) ابتداء من دون مثال سبق ( بلا روية أجالها ) ولا فكر أداره ( ولا تجربة استفادها ) ولا خبرة اكتسبها من قبل ( ولا أحدثها ) كالحركة الحادثة لنا إذا أردنا فعل شيء ما ( ولا همامة نفس اضطراب فيها ) كما تتردد نفوسنا وتضطرب فكل هذه الأمور من لوازم الجسمية تقدست ذاته عنها ( أحال الأشياء ) ونقلها وصرفها حسب مقتضيات الحكمة والمصلحة ( لأوقاتها ) للقضاء والقدر وأصلح ( ولائم بين ) ما كان من عالم الغيب ، كالأرواح المجردة ، وما كان من عالم الشهود كالأجسام المركبة ، وغير ذلك من ( مختلفاتها ) كتوفيقه في سائر العناصر ( وغرز ) للأشياء ( غرائزها ) ثم خص كل جنس او نوع بغرائزه الخاصة به ( وألزمها أشباحها ) وأشخاصها ( عالما بها قبل ابتدائها ) كما هو عالم بها بعد إيجادها من غير فرق بين الحالين ( محيطا بحدودها وانتهائها ) شاملا بقدرته وعلمه جميع أطرافها.
(٣) ارشاد الشيخ المفيد ( قده ) أبو الحسن الهذلي عن الزهري وعيسى بن زيد عن صالح بن كيسان عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال ـ في الحث على معرفة الله ـ : أول عبادة الله معرفته ... الخ.