أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

وقد وقع الخلاف في كون الأخيرين قياسا (١). والحقّ أنّهما هو كما يأتي.

والحاصل تسعة أصناف. وكلّ واحد منها إمّا جليّ ، وهو ما يعلم فيه نفي الفارق بين الأصل والفرع ، كقياس الأمة على العبد في تقويم النصب ، فإنّا نعلم أنّ الفارق بينهما ـ وهو الذكورة والانوثة (٢) ـ لا يصلح للتأثير في اختلاف أحكام العتق وإن صلح للاختلاف في أحكام غيره.

أو خفيّ ، وهو ما كان نفي الفارق فيه مظنونا ، كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدّد. والحاصل ثمانية عشر قسما.

وربما ظهر من كلام جماعة أنّ الجليّ اسم للقياس بالطريق الأولى لا غير (٣) ، فيتّحد القياس بالطريق الأولى معه ولا ينقسم إليه وإلى غيره.

ولا يخفى أنّ كلّ قياس بطريق أولى ليس جليّا بالمعنى الذي ذكرناه ؛ فإنّ كون اقتضاء الجامع للحكم في الفرع أولى منه في الأصل ، لا يستلزم العلم بنفي الفارق بينهما ؛ لجواز أن يكون الاقتضاء المذكور ظنّيّا ؛ فإنّه لا يشترط في القياس بالطريق الأولى أن يكون الاقتضاء قطعيّا ، وحينئذ يكون تعليل الحكم بالجامع ظنّيّا ، فربما كان لخصوص مادّة الأصل مدخليّة في الحكم ، فلا يقطع بنفي الفارق بينهما فيه ، فيصحّ انقسام القياس بالطريق الأولى إلى الجليّ والخفيّ ، كما يصحّ انقسام عكسه إليهما.

ولا يرد أنّ اقتضاء الجامع للحكم في الأصل إذا كان أقوى (٤) منه في الفرع ، لا يمكن القطع بنفي الفارق ، فينحصر في الخفيّ ؛ لجواز أن يقطع باقتضائه له فيهما وإن كان في الأصل أشدّ.

نعم ، إن اريد بالجليّ معنى يرادف القياس بالطريق الأولى وبالخفيّ ما يقابله ، فلا كلام ، إلاّ أنّ العرف المشهور بين القوم ما ذكرناه (٥) ؛ لأنّ الظاهر أنّ الجليّ عندهم ما يعلم فيه نفي

__________________

(١) قال الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٥ : إنّهما ليسا بقياس ، وأشار إليه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٦ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥١ و ٢٥٢ ، كما قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٤.

(٢) في « ب » : « الذكوريّة والانوثيّة ». والصحيح ما أثبتناه كما في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٦.

(٣) راجع : المحصول ٥ : ١٢١ ـ ١٢٤ ، وتهذيب الوصول : ٢٧١ و ٢٧٢ ، ونهاية السؤل ٤ : ٢٦ ـ ٢٨.

(٤) في « ب » : « أولى ».

(٥) ذكره آنفا.

٤٤١

الفارق مطلقا ، أي سواء وجد معه علّة للحكم أم لا.

والذي ينقسم إليه الأصناف التسعة هو الأوّل. والثاني هو القياس في معنى الأصل بالمعنى المذكور ، فإن اريد بالجليّ الثاني وبالقياس بالطريق الأولى ما يرادف القياس في معنى الأصل ، فيتّحدان.

ثمّ كلّ واحد من الأقسام الثمانية عشر إمّا قطعيّ ، وهو ما يقطع فيه بكون الحكم في الأصل معلّلا بالجامع وبثبوته في الفرع. أو ظنّيّ ، وهو ما يظنّ فيه بهما أو بأحدهما. والحاصل ستّ وثلاثون صورة.

وانقسام كلّ من الأقسام المذكورة إليهما مبنيّ على أنّ العلم بنفي الفارق لا يستلزم قطعيّة القياس بالمعنى المذكور.

وربّما ايّد ذلك بأنّا نعلم نفي الفارق بين الهندي والأعرابي في تعلّق الكفّارة بهما إذا وجد مقتضيها ، مع أنّا لا نقطع بكون الوقاع علّة للكفّارة في قضيّة الأعرابي ، بل هو مظنون لنا.

وغير خفيّ أنّه إذا جوّز أن يكون لخصوص الواقعة مدخليّة ، فلا يقطع بنفي الفارق ، وإن لم يجوّز ، يكون حكم الفرع في ثبوت الحكم له حكم الأصل بعينه ، وثبوت الحكم في الأصل إذا كان قطعيّا ومستندا إلى العلّة لا غير ـ كما هو الفرض ـ يستلزم قطعيّة العلّيّة.

نعم ، إذا لم يكن الحكم في الأصل قطعيّا بأن ينحصر ثبوته بعلّة عقليّة تكون علّيّتها له ظنّية ، أو بعلّة شرعيّة ظنّية الطريق وعلم ثبوتها في الفرع ، يمكن حصول العلم بنفي الفارق بينهما من غير قطعيّة القياس بالمعنى المذكور ، وحينئذ يرد القسمة الأخيرة على الأقسام المتقدّمة. وعلى أيّ تقدير ، لا شبهة في استلزام القطعيّة بالمعنى المذكور للعلم بنفي الفارق ، وهو ظاهر.

ثمّ لا يخفى أنّ الجنس الثاني ـ وهو قياس الدلالة ـ وإن لم ينقسم إلى الأنواع المذكورة إلاّ أنّه يمكن انقسامه إلى الأصناف والأقسام والصور المذكورة ، ووجهه ظاهر.

وأمّا الجنس الثالث ـ وهو القياس في معنى الأصل ـ فعلى التفسير الذي ذكرناه (١)

__________________

(١) في ص ٤٣٩.

٤٤٢

لا ينقسم إليها. ولو اريد منه ما لم ينصّ على علّة في أصله ـ وإن اثبت الحكم في الفرع بعلّة إيمائيّة أو استنباطيّة أو معلومة بالإجماع ـ واريد من الجنس الأوّل ـ وهو قياس العلّة ـ ما كانت العلّة في الأصل منصوصة ، لا يشمل (١) النوع الأوّل ، وينقسم إلى باقي الأنواع وجميع الأصناف والأقسام والصور المذكورة.

ولا يشمل الجنس الأوّل ما سوى النوع الأوّل ، أي منصوص العلّة ، بل يتّحد معه ، ولكنّه ينقسم إلى الأصناف والأقسام والصور المذكورة.

واعلم أنّ الظاهر من كلام جماعة أنّ تنقيح المناط ـ وهو الاستدلال في عرف الحنفيّة (٢) ـ هو الجمع بين الأصل والفرع بمجرّد إلغاء الفارق ، أي القياس في معنى الأصل (٣).

وقال بعضهم : هو الجمع بينهما بنفي الفارق مع كون العلّة مستخرجة في الأصل بالإيماء ، ففي قضيّة الأعرابي إذا قيل : كونه أعرابيّا لا مدخل له في العلّيّة ، فالهندي مثله ، كان تنقيح المناط (٤).

والظاهر أنّه مطلق الجمع بينهما بنفي الفارق ، سواء وجد معه علّة إيمائيّة أو استنباطيّة ، أو لا.

بل يظهر من كلام جماعة أنّ كلّ ما جاز أن يحذف عنه بعض الأوصاف ويعلّل بالباقي ، يسمّى تنقيح المناط (٥) ؛ لأنّهم عدّوا منه قوله عليه‌السلام وقد سألوا عن جواز بيع الرطب بالتمر : « أينقص إذا جفّ » قالوا : نعم ، فقال : « فلا إذن » (٦) ، إذا قيل : لا اعتبار بما عدا تلك العلّة من أوصاف الأصل ، ولا ريب في أنّ « إذن » نصّ في علّيّة النقصان عند الجفاف للتحريم. فإذا

__________________

(١) أي الجنس الثالث وهو جواب « لو ».

(٢) حكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٣٠ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٨.

(٣) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٣٠ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٨ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٢٨ و ١٢٩.

(٤) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٨٠ ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٨٥ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٨ ، والفاضل التوني في الوافية : ٢٣٨.

(٥) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٥١ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٧٣ ، والفاضل التوني في الوافية : ٢٣٩.

(٦) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٦١ ، ح ٢٢٦٤ ، والجامع الصحيح ٣ : ٥٢٨ ، ح ١٢٢٥ ، وسنن أبي داود ٣ : ٢٥١ ، ح ٣٣٥٩.

٤٤٣

قيل : كلّ ما نقص بعد الجفاف من الربويّات لا يجوز بيعه بيابسه ، يكون تنقيح المناط ، مع أنّ التعليل فهم نصّا.

هذه هي الأقسام والصور المندرجة تحت قياس راجح التأثير.

وأمّا مرجوح التأثير ، فله أيضا أقسام ؛ لأنّك عرفت (١) أنّه ما عرف الجامع فيه بالاستنباط ، وله طرق :

منها : المناسبة ، ويسمّى إخالة ؛ لأنّه بالنظر إليه يخال أنّه علّة ، وتخريج المناط ؛ لأنّه إبداء مناط الحكم. وحاصله تعيين العلّة في الأصل بمجرّد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من ذات الأصل ، لا بنصّ ولا بغيره.

والظاهر أنّ تعيين العلّة في الأصل بمطلق الاستنباط ـ سواء كان بالمناسبة أو غيرها ـ وإثبات الحكم فيه لأجلها يسمّى تخريج المناط. وإثبات العلّة في الفرع ، يسمّى تحقيق المناط. والقياس بهذا الاعتبار يسمّى « قياس إخالة » ، مثاله ما يقال : علّة تحريم الخمر الإسكار ؛ لأنّه مناسب له ، فالنبيذ حرام ؛ لوجود العلّة المناسبة فيه أيضا.

ومنها : الشبه. وله تفسيرات ، أشهرها أنّه ما يوهم المناسبة وليس بمناسب ، ويسمّى القياس بهذا الاعتبار « قياس الشبه » ، وما لا يوهم المناسبة أصلا يسمّى بالطرد ، ويسمّى القياس بهذا الاعتبار « قياس طرد ». ويمتاز الوصف الطرديّ عن الوصف الشبهيّ بأنّ الطرديّ وجوده كالعدم عند الكلّ.

مثال الشبه : كما يقال في إزالة الخبث : هي طهارة تراد للعبادة ، فتعيّن الماء كالحدث ؛ فإنّ المناسبة بين الجامع وهو (٢) طهارة تراد للعبادة ، وبين الحكم وهو تعيّن الماء غير ظاهرة ، إلاّ أنّ اعتبار الشارع للطهارة المائيّة في بعض الأحكام ـ كمسّ المصحف والصلاة والطواف ـ يوهم المناسبة ، فيكون الجامع وصفا شبهيّا.

ومثال الطرد : الخلّ لا يبنى عليه القنطرة ، ولا يصاد منه السمك ، فلا يزيل الخبث كالمرق ؛ فإنّه لا يتوهّم أحد وجود المناسبة بين الوصف الجامع والحكم هنا ؛ لأنّه ممّا ألغاه الشارع قطعا.

__________________

(١) راجع ص ٤٤٠.

(٢) أي الجامع.

٤٤٤

ومنها : السبر والتقسيم وهو حصر الأوصاف الموجودة في الأصل ـ الصالحة في بادئ الرأي للعلّيّة ـ في عدد ، ثمّ إبطال ما عدا الذي يدّعى أنّه العلّة واحدة كانت أو أكثر ، ويسمّى القياس حينئذ قياس السبر.

مثاله : كما يقال في قياس الأرز على البرّ في الربويّة : بحثنا عن أوصاف البرّ فما وجدنا ما يصلح أن يكون علّة للربويّة إلاّ الطعم والقوت والوزن ، لكنّ الطعم والقوت لا يصلحان لذلك عند دقيق النظر ، فتعيّن الوزن ، وهو موجود في الأرز ، فيكون ربويّا.

ومنها : الدوران ، وقد عرفت (١) أنّه الاستلزام في الوجود والعدم ، ويسمّى الأوّل الطرد ، والثاني العكس ، ولذا سمّي الدوران بالطرد والعكس ، ويسمّى القياس حينئذ « قياس الطرد ».

مثاله : كما يقال في قياس النبيذ على الخمر في الحرمة : العصير أوّلا لمّا لم يتّصف بالإسكار ، لم يكن حراما ، ولمّا حدث فيه وصف الإسكار حدثت فيه الحرمة ، وإذا صار خلاّ وزال عنه الإسكار ثانيا ، يزول عنه الحرمة أيضا. فيظهر أنّ الإسكار علّة للتحريم ، فيكون النبيذ حراما لوجوده فيه.

هذا ، وقد ظهر ممّا ذكرنا من أقسام القياس أنّ ثلاثة أقسام منه يسمّى قياس الطرد ، ونحن ـ للتمييز ـ نسمّي المقابل لقياس العكس قياس الطرد الأعمّ ، وقياس الدوران قياس الطرد المركّب ، والمقابل لقياس الشبيه قياس الطرد البسيط. ولمّا كان الصور المتقدّمة مندرجة تحت الأوّل ، وبعضها حجّة عندنا ، والباقي ليس بحجّة ، كما يأتي ، فبعض أقسامه مقبول والباقي ليس بمقبول ، ومن أقسامه التي ليست مقبولة قياس الطرد المركّب والبسيط.

واعلم أنّ كثيرا ما يستدلّ أصحابنا في كتبهم الفروعيّة على حكم بأنّه من باب اتّحاد طريق المسألتين لا القياس ، كما قالوا : يجب اليمين استظهارا مع البيّنة في الدعوى على الغائب والطفل والمجنون ؛ لمشاركتهم للميّت في العلّة المومى

__________________

(١) راجع ص ٤٢٤.

٤٤٥

إليها في النصّ (١) ، وهو أنّه لا لسان له للجواب.

والمراد منه (٢) كلّ قياس علم أو ظنّ فيه ظنّا شرعيّا تعليل الحكم في الأصل بعلّة واشتراك الفرع له في علّة حكمه ، فيرادف قياس (٣) راجح التأثير ويشمل جميع أقسامه ، ويحتمل أن يكون أعمّ منه وممّا علم ، أو ظنّ فيه كذلك (٤) نفي الفارق بين الأصل والفرع ، فيشمل تنقيح المناط أيضا.

فصل [٥]

يتحقّق النصّ على التعليل بذكر ما يدلّ عليه صريحا بوضعه ، وهو قسمان ، يتقدّم السابق على اللاحق في قوّة الدلالة عليه.

الأوّل : ما صرّح فيه بالعلّيّة ، نحو لعلّة كذا ، أو لسبب كذا ، أو لموجب كذا ، أو مؤثّر كذا ، أو من أجل كذا ، أو كي يكون كذا ، أو إذن كذا.

الثاني : ما ورد فيه أحد الحروف الظاهرة فيها (٥) ، كـ « اللام » و « الباء » و « من » ، و « إنّ » ، و « إن » (٦) مثل إن كان كذا ، وليست صريحة فيه ؛ لأنّها قد تجيء لغيره. ويظهر دلالتها على التعليل عند اقترانها بوصف صالح له ، ويزداد قوّة التعليل بالإجماع.

فصل [٦]

الأقسام المتقدّمة في مطلق الإجماع تتأتّى في الإجماع على كون الوصف الجامع علّة ، فيكون قطعيّا وظنّيّا ، كالسكوتي والثابت بالآحاد (٧) ، ولأجله يختلف معرفة التعليل الثابت منه بالقطعيّة والظنّيّة.

__________________

(١) منهم : الشيخ في المبسوط ٨ : ١٦٢ ، والحلبي في الكافي في الفقه : ٤٤٧ ، والمحقّق الحلّي في شرائع الإسلام ٤ : ٨٥ ، والعلاّمة في مختلف الشيعة ٨ : ٤٦٢ ، المسألة ٦٣.

(٢) أي اتّحاد طريق المسألتين.

(٣) هذا من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة.

(٤) أي ظنّا شرعيّا.

(٥) في « ب » : « فيه ». أي التعليل.

(٦) والمراد بها المخفّفة من الثقيلة.

(٧) أي يكون تحقّق الإجماع بالإجماع السكوتي والمنقول بالآحاد ظنّيّا.

٤٤٦

فصل [٧]

التنبيه والإيماء ما لزم مدلول اللفظ. فكلّ لفظ كان التعليل لازما من مدلوله ، كان دالاّ على العلّيّة بالتنبيه والإيماء. وله مراتب :

منها : ما دخل فيه « الفاء » في لفظ الشارع أو الراوي.

وفي الأوّل إمّا أن يدخل على الحكم وتكون العلّة متقدّمة ، كقوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا )(١) ، و ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا )(٢) ، وقوله عليه‌السلام : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » (٣) ، و « ملكت نفسك فاختاري » (٤).

أو على العلّة ويكون الحكم متقدّما ، كقوله عليه‌السلام : « زمّلوهم بكلومهم ودمائهم ، فإنّهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما » (٥).

والثاني مثل : « سها فسجد » (٦) و « زنا ماعز فرجم » (٧). وهو يختلف في الدلالة على التعليل بحسب اختلاف حال الراوي فقها وورعا. وهو دون الأوّل ؛ لاحتمال الغلط.

وقيل : الشقّ الأوّل من الأوّل أقوى من الثاني منه ؛ لأنّ إشعار العلّة بالمعلول أقوى من العكس ؛ للزومه دونه (٨).

وفيه نظر يطلب من محلّه ، مع أنّه ما قيل في بيانه لا يجري في العلل الشرعيّة.

ثمّ دلالة « الفاء » على التعليل لمّا لم تكن وضعيّة بل استدلاليّة ؛ لأنّها لمّا كانت للتعقيب فيلزم منه العلّيّة ؛ إذ معنى كون الوصف علّة أن يثبت الحكم عقيبه ، فيكون التعليل لازم مدلوله ، فدلالتها عليه إيمائيّة. وبذلك يظهر غفلة من عدّها من مراتب النصّ على التعليل (٩).

__________________

(١ و ٢) المائدة (٥) : ٣٨ و ٦.

(٣) الكافي ٥ : ٢٨٠ ، باب في إحياء أرض الموات ، ح ٦ ، والفقيه ٣ : ٢٤٠ ، ح ٣٨٨٠.

(٤) الكافي ٦ : ١٨٨ ، باب المكاتب ، ح ١٣. باختلاف.

(٥) كنز العمّال ٤ : ٤٢٩ ، ح ١١٢٥٤ ، وبحار الأنوار ٧٩ : ٧ ، ح ٦ باختلاف.

(٦) صحيح البخاري ١ : ٤١٢ ، ح ١١٧٠ و ١١٧١ ، وسنن أبي داود ١ : ٢٦٤ ، ح ١٠٠٨ ، وصحيح مسلم ١ : ٤٠٣ ، ح ٩٧ / ٥٧٣.

(٧) صحيح البخاري ٦ : ٢٥٠٢ ، ح ٦٤٣٨ ، وصحيح مسلم ٣ : ١٣١٩ ، ح ١٧ / ١٦٩٢ ، والإصابة ٣ : ٣٣٧.

(٨) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٤٧.

(٩) قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٢.

٤٤٧

ومنها : الاقتران بوصف لو لم يكن للتعليل ، لكان بعيدا ، كواقعة الأعرابي المتقدّمة (١) ؛ فإنّه عرض واقعته على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لبيان حكمها ، والحكم الذي ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله جواب له ؛ إذ لو كان مبتدئا ، لزم إخلاء السؤال عن الجواب ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ، فيكون السؤال حينئذ مقدّرا في الجواب ، فكأنّه قال : « واقعت فكفّر » فيرجع إلى سابقه ، إلاّ أنّه دونه ؛ لأنّ « الفاء » هنا مقدّرة وثمّة محقّقة ؛ ولاحتمال عدم قصد الجواب ، كما لو قال العبد : « طلعت الشمس » فقال السيّد : « اسقني الماء ». ولا يلزم تأخير البيان حينئذ عن وقت الحاجة في كلام الشارع ؛ لاحتمال معرفته بانتفاء حاجة المكلّف. وهذا وإن كان بعيدا إلاّ أنّه لإمكانه يصلح وجها للمرجوحيّة.

ويتفرّع عليه : أنّه لو قالت لرجل زوجته ـ واسمها فاطمة ـ : « طلّقني » ، فقال : « فاطمة طالق » ، ثمّ قال : نويت فاطمة اخرى ، طلّقت ، ولم يسمع ادّعاؤه ؛ لأنّ قوله جواب عن سؤالها ؛ فلا يطابق ادّعاءه ، بخلاف ما لو قال ابتداء : « طلّقت فاطمة » ، ثمّ قال : نويت فاطمة اخرى.

ويتفرّع عليه أيضا : أنّه إذا قالت له زوجته : إذا قلت لك طلّقني ما تقول؟ فقال : أقول : « أنت طالق » لا يقع عليه الطلاق ؛ لأنّه إخبار عن فعله في المستقبل ؛ عملا بالجواب المطابق للسؤال. نعم ، لو قصد التنجيز يطلّق. وقس عليهما أمثالهما.

ومنها : الاقتران بوصف لو لم يكن نظيره للتعليل ، لم يكن في ذكره فائدة ، كقوله عليه‌السلام وقد سألته الخثعميّة : إنّ أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحجّ ، فإن حججت عنه أينفعه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته ، كان ينفعه ذلك؟ » قالت : نعم ، فقال : « فدين الله أحقّ بأن يقضى » (٢).

نبّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بذكر نظير ما سألته السائلة على التعليل به ، أي كونه علّة للنفع ، وإلاّ كان ذكره عبثا. ويحصل منه التنبيه على أنّ نظيره ـ وهو دين الله المسئول عنه ـ كذلك ، ففي مثل هذا تنبيه على أصل القياس ، وعلى علّة حكمه ، وعلى صحّة إلحاق الفرع به. والاصوليّون يسمّونه تنبيها على أصل القياس (٣).

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٤٤٠.

(٢) جامع الاصول ٣ : ٤١٩ ـ ٤٢٠ ، ح ١٧٤٧ ـ ١٧٤٨ ، ودعائم الإسلام ١ : ٣٣٦.

(٣) منهم : البصري في المعتمد ٢ : ٢١٤ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٢٧ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٨٣.

٤٤٨

ومنها : ذكر وصف عقيب سؤال لو لم يحمل على التعليل كان عبثا ، كما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب ، فقيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك تدخل على بيت فلان وعندهم هرّة؟ فقال : « إنّها ليست بنجسة ، إنّها من الطوّافين عليكم » (١) أو « الطوّافات » ، فلو لم يكن للطواف أثر في التطهير ، كان ذكره بعد الحكم بطهارتها عبثا. وكون التعليل هنا منصوصا من « إنّ » لا ينافي ذلك ؛ إذ لو قدّر انتفاؤها ، لبقي فهم التعليل من الوصف.

ومنها : ذكر وصف ابتداء كذلك (٢) ، كقوله عليه‌السلام ـ وقد توضّأ بماء نبذت فيه تمرات ـ : « تمرة طيّبة وماء طهور » (٣). فلو لم يقدّر كون بقاء اسم الماء عليه علّة لجواز الوضوء به ، كان ذكره لغوا.

ومنها : التقرير على وصف الشيء المسئول عنه ، كقوله عليه‌السلام ـ وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر ـ : « أينقص الرطب إذا جفّ؟ » فقيل : نعم ، فقال : « فلا إذن » (٤).

نبّه بمنع البيع إذا نقص على التعليل به. وكونه منصوصا من « إذن » ، ومفهوما من « الفاء » (٥) لا ينافي ذلك ؛ لأنّه لو قدّر انتفاؤهما ، لبقي فهم التعليل.

ومنها : الفرق بين شيئين في الحكم بوصف صالح للتعليل. إمّا بصيغة صفة مع ذكر الشيئين بوصفهما وحكمهما ، مثل « للراجل سهم ، وللفارس سهمان » (٦).

أو مع ذكر أحدهما ، مثل : « القاتل لا يرث » (٧) ؛ فإنّه لم يتعرّض لغير القاتل وإرثه ، إلاّ أنّه يعلم منه ـ بعد تقدّم بيان إرث الورثة ـ أنّ القتل علّة لنفي الإرث.

أو بغاية ، مثل : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ )(٨). نبّه بالغاية ، على التفرّق بين الحائض وغيرها ، وعلى أنّ الحيض علّة عدم جواز القرب.

__________________

(١) جامع الاصول ٧ : ١٠٢ ، ح ٥٠٧٥ ، وكنز العمّال ٩ : ٣٩٩ ، ح ٢٦٦٧٧.

(٢) أي لو لم يحمل على التعليل كان عبثا.

(٣) سنن أبي داود ١ : ٢١ ، ح ٨٤ ، والسنن الكبرى ١ : ٩.

(٤) سنن أبي داود ٣ : ٢٥١ ، ح ٣٣٥٩ ، والسنن الكبرى ٦ : ٢٩٤.

(٥) كذا في النسختين ، والصحيح ما أثبتناه.

(٦) الكافي ٥ : ٤٤ ، باب قسمة الغنيمة ، ح ٢ ، والسنن الكبرى ٦ : ٣٢٥.

(٧) جامع الاصول ٩ : ٦٠١ ، ح ٧٣٧٧.

(٨) البقرة (٢) : ٢٢٢.

٤٤٩

أو بالاستثناء ، مثل : ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ )(١). نبّه بالاستثناء على أنّ العفو علّة لسقوط المهر.

أو بالشرط ، مثل : « إذا اختلف الجنسان ، فبيعوا كيف شئتم » (٢). يعلم منه ـ بعد النهي عن بيع الجنس بالجنس متفاضلا ـ أنّ الاختلاف علّة جواز البيع.

أو بالاستدراك ، نحو : ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ )(٣). نبّه بالاستدراك على أنّ العقد علّة المؤاخذة.

ومنها : النهي عن فعل يمنع ما أمر به قبله ، كقوله تعالى : ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ )(٤). نبّه به على أنّ علّة النهي منعه عن الواجب.

ومنها : ذكر وصف مناسب مع الحكم ، مثل : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » (٥) ؛ فإنّ فيه تنبيها على أنّ الغضب علّة عدم جواز الحكم ؛ لأنّه (٦) مشوّش الفكر. ومنه « أكرم العلماء وأهن الجهّال » فإنّه يتبادر منه أنّ العلم علّة الإكرام ، والجهل علّة الإهانة ؛ لما عرف أنّ عادة الشرع اعتبار المناسبات.

تذنيبات :

[ التذنيب ] الأوّل : إذا ذكر كلّ من الوصف والحكم صريحا ـ كالأمثلة المتقدّمة ـ فلا خلاف في كونه إيماء ، ووجوب تقديمه على المستنبطة ـ عند من يعمل بها ـ عند تعارضهما. وأمّا إذا ذكر الوصف صريحا والحكم مستنبط ، مثل : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٧) ؛ فإنّ حلّ البيع وصف له وقد ذكر ، واستنبط منه حكمه وهو الصحّة ؛ نظرا إلى أنّه لو لم يصحّ انتفت فائدته ، وحينئذ كان عبثا ، والعبث لكونه مكروها لا يحلّ.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٣٧.

(٢) سنن أبي داود ٣ : ٢٥٠ ، ح ٣٣٥٠.

(٣) المائدة (٥) : ٨٩.

(٤) الجمعة (٦٢) : ٩.

(٥) كنز العمّال ٦ : ١٠١ ، ح ١٥٠٣٠ باختلاف.

(٦) أي القاضي الغضبان لا الغضب.

(٧) البقرة (٢) : ٢٧٥.

٤٥٠

أو بالعكس ، مثل : « حرّمت الخمر » ؛ فإنّ حرمة الخمر حكم له قد ذكر ، واستنبط وصفه ، وهو الشدّة المطربة (١). فقد اختلف في كونه إيماء على أقوال ، ثالثها التفصيل بأنّ الأوّل إيماء دون الثاني (٢).

قيل : إن اكتفي في تفسير الإيماء بأنّه مجرّد الدلالة على الشيء بالالتزام ، يكون أجود الأقوال أوّلها ؛ لأنّها تتحقّق من مطلق اقتران الحكم بالوصف ، سواء كانا مذكورين ، أو أحدهما مذكورا والآخر مقدّرا ؛ فإنّ حلّ البيع لمّا ذكر صريحا وعلم بالاستنباط أنّ الصحّة لازمة له ، تحقّقت الدلالة الالتزاميّة على علّيّته لها ، وكذا لمّا ذكر حرمة الخمر صريحا وعلم بالاستنباط أنّ الإسكار ملزوم لها ، تحقّقت الدلالة الالتزاميّة على علّيّته لها.

وإن لم يكتف به وقيل : هو الدلالة المذكورة الحاصلة من اقتران الحكم بالوصف بشرط كونهما مذكورين (٣) ، فخير الأقوال أوسطها. ووجهه ظاهر.

أقول : لا ريب في تحقّق الدلالة الالتزاميّة على التعليل من مطلق الاقتران ، إلاّ أنّ الوصف والحكم إن كانا مذكورين في كلام الشارع ، يحصل الدلالة المذكورة من كلامه ، ويتحقّق الإيماء منه. وإن كان أحدهما في كلامه مذكورا والآخر مقدّرا ، فهي ليست حاصلة من كلامه ؛ لأنّ المذكور إن كان هو الحكم فقط ، فمن أين يعلم أنّ علّته عنده هو الوصف الذي استنبط؟! وإن كان الوصف فقط ، فمن أين يعلم أنّه علّة عنده للحكم المستنبط؟! فلا يحصل الإيماء منه على التعليل ، مع أنّ الإيماء المعتبر هو الذي حصل منه ، فإنّ مجرّد الدلالة الالتزاميّة يتحقّق من وصف وحكم لم يكن واحد منهما مذكورا في كلام الشارع ، واستخرجهما المجتهد ابتداء من عند نفسه ، مع أنّها ليست من الإيماء المعتبر وفاقا.

فالحقّ أنّ الإيماء هو الدلالة الحاصلة من اقتران الحكم بالوصف بشرط كونهما مذكورين ، ولولاه لم يتميّز طريق الاستنباط من الإيماء ؛ لأنّه يدخل حينئذ جميع العلل والأحكام المستنبطة في الإيماء ، ولا يتحقّق استنباط ليس بإيماء.

__________________

(١) في « ب » : « المطلوبة ».

(٢) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٨٨.

(٣) المصدر : ٢٨٥.

٤٥١

هذا ، ودليل التفصيل بعد تسليم اشتراط ذكرهما ـ أنّ إثبات ملزوم الشيء يقتضي إثباته ؛ إذ العلّة تستلزم المعلول فيكون بمثابة المذكور ، فيتحقّق الاقتران الخاصّ ، وإثبات اللازم لا يقتضي إثبات ملزومه ؛ إذ المعلول لا يستلزم العلّة ـ لا يخفى ضعفه من وجوه.

[ التذنيب ] الثاني : الوصف المومى إليه قد لا يكون بنفسه علّة بل بلازمه ، مثلا قوله عليه‌السلام : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » (١) وإن دلّ بظاهره على أنّ العلّة هي الغضب ، إلاّ أنّ التأمّل يعطي أنّ المانع عن القضاء حقيقة هو تشويش الفكر اللازم للغضب ، ولذا جعل الجوع والألم المفرطان المشوّشان للفكر مثله. وعلى هذا ، فالغضب اليسير الذي لا يوجب الاضطراب لا يكون مانعا من القضاء. ولو جعل العلّة نفسه ، لكان اليسير أيضا مانعا منه.

[ التذنيب ] الثالث : لا ريب في اشتراط نفس مناسبة الوصف المومى إليه للحكم في صحّة علل الإيماء. وأمّا ظهورها ، فقد اختلف فيه على أقوال ، ثالثها الاشتراط فيما فهم التعليل فيه من المناسبة ، كقوله : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » (٢) وعدمه في غيره (٣).

والحقّ أنّ ترتّب الحكم على الوصف يفيد العلّيّة ، وتكون علل الإيماء صحيحة وإن لم يكن مناسبتها للحكم ظاهرة عندنا ؛ فإنّ القدر المسلّم أنّ بين الوصف والحكم مناسبة.

وأمّا كونها بحيث كانت ظاهرة عندنا ، فلا دليل عليه ، وما يؤكّده أنّ قول القائل « أهن العالم وأكرم الجاهل » مستقبح ، مع أنّ ذلك قد يحسن لمعنى آخر ، فدلّ على أنّه لفهم التعليل.

وممّا يتفرّع عليه أنّه إذا سمع مؤذّنا بعد مؤذّن ، يستحبّ له حكاية الجميع ؛ لقوله : « إذا سمعتم المؤذّن » (٤) وهو متحقّق فيهما. نعم ، ربّما كان الاستحباب في الأوّل آكد (٥).

__________________

(١ و ٢) تقدّما في ص ٤٥٠.

(٣) ذكره الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٨٨ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٤٣ ـ ١٥٥.

(٤) سنن ابن ماجة ١ : ٢٣٨ ، ح ٧٢٠ ، وصحيح البخاري ١ : ٢٢١ و ٢٢٢ ، ح ٥٨٦ / ٥٨٨ ، وسنن النسائي ٢ : ٢٥ و ٢٦ ، ح ٦٦٩ ، وصحيح مسلم ١ : ٢٨٨ ، ح ١١ / ٣٨٤.

(٥) لمزيد الاطّلاع على المسألة وما يتفرّع عليها راجع تمهيد القواعد : ٢٦١.

٤٥٢

فصل [٨]

أجمع أصحابنا إلاّ من شذّ منهم على المنع عن العمل بقياس مرجوح التأثير ، ويأتي دليلهم عليه (١).

وأمّا راجح التأثير ، فبعض أقسامه ممّا اتّفقوا على حجّيّته ، وبعضها ممّا اختلفوا في حجّيّته ، وبعضها ممّا قالوا بحجّيّته باعتبار ، ومنعوا عن العمل به باعتبار آخر ، فهنا ثلاث مقامات :

المقام الأوّل : فيما لا خلاف في حجّيّته.

وهو على ثلاثة أقسام :

[ القسم ] الأوّل : القطعي ، وهو ـ كما عرفته (٢) ـ ما علم فيه قطعا أنّ الحكم في الأصل معلّل بالوصف ، والوصف موجود في الفرع. ويدخل فيه ما علم فيه كون الوصف حجّة بالإجماع القطعي.

وحجّيّة مثله لا يحتاج إلى تأمّل ؛ فإنّا إذا قطعنا أنّ الثوب النجس لا يجوز فيه الصلاة لنجاسته ، لا لشيء آخر ممّا يختصّ به من لوازمه وأوصافه ، فإجراء حكمه في البدن إذا قطع بنجاسته في حيّز البداهة.

[ القسم ] الثاني : الجليّ ، وهو ـ كما عرفته (٣) ـ ما تعلم فيه نفي الفارق بين الأصل والفرع.

ووجه حجّيّته أيضا ظاهر ؛ فإنّ الحكم إذا كان ثابتا في الأصل وعلم عدم الفرق بينه وبين الفرع في ثبوت هذا الحكم لهما ، صحّ إجراؤه في الفرع قطعا.

وكيفيّة التفريع قد ظهرت ممّا تقدّم.

[ القسم ] الثالث : القياس بالطريق الأولى ، وهو إن كان عين الجليّ ـ كما تقدّم أنّه

__________________

(١) يأتي في ص ٤٦١.

(٢ و ٣) تقدّم في ص ٤٤١.

٤٥٣

الظاهر من كلام جماعة (١) ـ فوجه حجّيّته قد ظهر ، وإن كان أعمّ منه من وجه ؛ نظرا إلى أنّه ما كان اقتضاء الجامع فيه للحكم في الفرع أقوى منه في الأصل. وهذا قد يعلم فيه نفي الفارق إذا كان الاقتضاء المذكور في الأصل قطعيّا ، وقد لا يعلم فيه ذلك إذا كان ظنّيّا ، وحينئذ يمكن أن يكون في الفرع أيضا ظنّيّا ، وإن كان الظنّ الحاصل منه أقوى من الظنّ الحاصل من الاقتضاء المذكور في الأصل ؛ فإنّ مجرّد ذلك لا يخرجه إلى القطع. وما يعلم فيه نفي الفارق أيضا قد يكون اقتضاء الجامع فيه للحكم في الفرع أقوى منه في الأصل ، وقد لا يكون.

فالمتّفق على حجّيّته هو المادّة التي يكون اقتضاء الجامع فيها للحكم قطعيّا ، وإن أمكن أن يقال بحجّيّة المادّة الظنّية أيضا ؛ نظرا إلى أنّ اقتضاء الجامع للحكم في الأصل وإن كان ظنّيّا ، إلاّ أنّ الظنّ لمّا كان بحيث صار سببا لاستناد الحكم إلى الجامع ، وحصل ظنّ أقوى منه باقتضائه للحكم في الفرع ، فيعلم ثبوت الحكم فيه. إلاّ أنّ ما فهمت من قواعد الإماميّة ـ كما يأتي (٢) ـ أنّ كلّ ما يصدق عليه القياس ليس حجّة إلاّ ما يقطع فيه بثبوت الحكم في الفرع (٣) ، كالقطعي والجليّ وأمثالهما ، فإنّ ذلك لقطعيّته يستثنى من مطلق القياس الذي ثبت عندهم بالتواتر عن أئمّتهم عليهم‌السلام منع العمل به (٤) ، واستثناء الظنّي لا يكاد يصحّ من العمومات القطعيّة ، إلاّ أن يثبت بظنّ كان حجّة شرعا.

ثمّ القياس بالطريق الأولى إذا علم في أصله تعليل الحكم بالوصف وكان أقوى في الفرع ، فلا خلاف في صحّة تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع ، وإنّما وقع الخلاف في كونه قياسا.

والحقّ أنّه هو ؛ لصدق القياس عليه لغة واصطلاحا ؛ ولأنّه لو قطع النظر عن المعنى المناسب المشترك المقصود من الحكم كالإكرام في منع التأفيف ، وعن كونه أقوى في الفرع لما حكم به ، ولا معنى للقياس إلاّ ذلك.

__________________

(١) منهم : الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٢٤ ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٨٥ ، والفاضل التوني في الوافية : ٢٣٨.

(٢) يأتي في ص ٤٦١.

(٣) راجع : معارج الاصول : ١٨٥ ، ومبادئ الوصول : ٢١٨ ، ومعالم الدين : ٢٢٩ ، والوافية : ٢٣٧.

(٤) راجع وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٤ ـ ٦٢ ، أبواب صفات القاضي ، الباب ٦ ، ح ٢٠ ـ ٥٢.

٤٥٤

وقيل : إنّه ليس بقياس. ووجه التعدية فيه إمّا دلالة مفهومه وفحواه عليه ، ولذلك سمّي مفهوم الموافقة ؛ لكون الحكم غير المذكور موافقا للحكم المذكور ، وفحوى الخطاب ولحن الخطاب أيضا ، ويقابله مفهوم المخالفة ، كمفهوم الشرط وأمثاله ، ويسمّى دليل الخطاب.

وإمّا الفهم العرفي ، فإنّ العرف نقل ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ )(١) ـ مثلا ـ عن موضوعه اللغوي وهو المنع عن التأفيف ، إلى المنع عن أنواع الأذى (٢).

واستدلّ عليه بأنّه لو كان قياسا لما قال به النافي له ، وبأنّه يقطع بإفادة الصيغة في مثله للمعنى المذكور من غير توقّف على استحضار القياس (٣).

والجواب عن الأوّل : أنّ النافي للقياس استثنى عنه ما يعرف الحكم فيه بالطريق الأولى.

وعن الثاني : أنّ التوقّف على استحضاره إنّما هو في الأقيسة الخفيّة ، لا في مثله ؛ فإنّه ممّا يعرفه كلّ من يعرف اللغة من غير افتقار إلى نظر واجتهاد.

وكيفيّة التفريع : أنّ آية التأفيف حجّة على تحريم ضرب الأبوين ؛ إذ يعلم من فحواها أنّ علّة النهي عن التأفيف حصول الأذى ، وهو أقوى في الضرب. وآية الذرّتين (٤) حجّة على الجزاء بما فوق المثقال ؛ لفهم العلّة ـ أعني عدم تضييع الإحسان والإساءة ـ من الفحوى ، وكونها أقوى في الفرع. وآية تأدية القنطار ، وعدم تأدية الدينار حجّة على تأدية ما دون القنطار ، وعدم تأدية ما فوق الدينار ؛ لفهم العلّة ـ أعني الأمانة في أداء القنطار وعدمها في عدم أداء الدينار ـ من الفحوى ، وأشدّيّتها في الفرع.

المقام الثاني : فيما اختلف في حجّيّته ، وهو المنصوص العلّة.

وقد اختلف في حجّيّته على أقوال ، ثالثها : الحجّيّة في علّة التحريم دون غيرها (٥).

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٢٣.

(٢) قالهما البصري في المعتمد ٢ : ٢٣٥ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٢١.

(٣) المصدرين.

(٤) إشارة إلى الآيتين ٧ ـ ٨ من سورة الزلزلة (٩٩) : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ).

(٥) حكاه الفخر الرازي عن أبي عبد الله البصري في المحصول ٥ : ١١٧ ، وحكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٥٩.

٤٥٥

ورابعها : الحجّيّة إذا كان هناك شاهد حال يدلّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة (١).

احتجّ المثبت مطلقا بوجوه :

منها : أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح الخفيّة والشرع كاشف عنها ، فإذا نصّ على العلّة عرف أنّها الباعثة والموجبة لذلك الحكم ، فأينما وجدت وجب وجود المعلول (٢).

وجوابه : أنّ العلّة المنصوصة إنّما تكون موجبة ، إذا علم من نصّ أو تبادر أو غيرهما عدم مدخليّة خصوصيّة المحلّ ؛ فإنّ العلّة في قول الشارع : « حرّمت الخمر لإسكارها » (٣) يحتمل أن يكون (٤) الإسكار ، وأن يكون (٥) إسكار الخمر بحيث يكون قيد الإضافة إلى الخمر معتبرا في العلّة.

والإيراد عليه بأنّ تجويز ذلك يقتضي تجويز مثله في العلل العقليّة ـ بأن يقال : الحركة إنّما اقتضت المتحرّكيّة ؛ لقيامها بمحلّ خاصّ ، فالحركة القائمة بغيره لا تقتضي المتحرّكيّة ـ باطل ؛ لأنّ العلل العقليّة يترتّب عليها معلولاتها بالذات ، ولا يختلف اقتضاؤها لها بالوجوه والاعتبارات ، وأمّا العلل الشرعيّة ، فلكونها مبنيّة على الدواعي ، ووجوه المصالح يختلف بها اقتضاؤها لها ، فيمكن أن تكون موجبة لحكم في محلّ دون غيره. ومع قطع النظر عنه نقول : لا يجوز التعدّي عنه عندنا ؛ لصدق القياس عليه ، وثبوت الإنكار عن العمل به عن أئمّتنا عليهم‌السلام (٦) بحيث لا يقبل المنع.

ومنها : أنّ قول الأب لابنه : « لا تأكل هذا الطعام ؛ لأنّه مسموم » يقتضي منعه عن أكل كلّ مسموم ، والسرّ فيه أنّ العلّة تفيد التعميم عرفا.

وجوابه : أنّ ذلك قد عرف بالقرينة ، وهي شفقة الأب المانعة عن تناول كلّ مضرّ ؛ فإنّها تقتضي عادة النهي عن كلّ ما يضرّ ؛ بخلاف أحكام الله ؛ فإنّها قد تختصّ ببعض

__________________

(١) قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٨٥ ، والفاضل التوني في الوافية : ٢٣٧.

(٢) قاله العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ٥١٠ ، وحكاه عنه الشيخ حسن في معالم الدين : ٢٢٧.

(٣) قول الشارع هنا مفروض ؛ لأنّه ليس بحديث ولكن ذكره الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١١٧ ـ ١٢٠ ، والزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه ٤ : ٢٨ ـ ٢٩.

(٤ و ٥) التذكير باعتبار الخبر.

(٦) تقدّم تخريجه في ص ٤٥٤.

٤٥٦

المحالّ دون بعض لأمر لا ندركه.

نعم ، إن علم بشاهد الحال أو القرائن أو النصّ أو العموم أو الإطلاق ، إلغاء قيد الإضافة إلى المحلّ ، فلا ريب في التعدّي.

وبهذا يظهر الجواب عمّا قالوا : إنّ هذا الاحتمال إنّما يتأتّى فيما إذا قال الشارع : « حرّمت الخمر لإسكارها » ، أمّا لو قال : « علّة الخمر هي الإسكار » انتفى ذلك الاحتمال (١) ؛ لأنّ التعميم هنا لمّا كان مستفادا من اللام في الإسكار ، فنحن نقول به ، مع أنّه يمكن أن يقال : اللام فيه للعهد ، فيكون المراد من الإسكار ، الإسكار المعهود.

نعم ، مع التصريح بالإطلاق ينتفي هذا الاحتمال بأن يقول : « حرّمت كلّ مسكر ».

ومنها : أنّ العلّة لو لم تفد تعميم الحكم ـ أي ثبوته أينما ثبت ـ لعري ذكرها عن الفائدة ؛ إذ ثبوته في الأصل قد علم بنيانه مع قطع النظر عن ذكر العلّة (٢).

والجواب : أنّ فائدة ذكرها لا تنحصر في التعميم ؛ إذ بيان المقصود من شرع الحكم من الفوائد.

واحتجّ النافي مطلقا بأنّ من قال : « أعتقت غانما ، لحسن خلقه » لا يقتضي عتق غيره من حسني (٣) الخلق (٤).

وقد اجيب عنه بوجوه (٥) ظاهرة الضعف ، ولذا أعرضنا عنها.

واحتجّ المفصّل الأوّل (٦) بأنّ من ترك أكل شيء لأذاه ، دلّ على تركه كلّ ما يؤذي ، بخلاف من تصدّق على فقير لفقره ، أو للمثوبة ؛ فإنّه لا يدلّ على تصدّقه على كلّ فقير ، أو تحصيله لكلّ مثوبة (٧).

__________________

(١) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١١٨.

(٢) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٦٠.

(٣) جمع الحسن في حال الجرّ والإضافة.

(٤) قاله الآمدي ونسبه أيضا إلى أبي إسحاق الإسفرائيني وأكثر أصحاب الشافعي وجعفر بن مبشّر وجعفر بن حرب وبعض أهل الظاهر في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٥٨.

(٥) راجع المصدر : ٥٩ ـ ٦٤.

(٦) راجع ص ٤٥٥.

(٧) حكاه الآمدي عن أبي عبد الله البصري في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٥٨.

٤٥٧

وجوابه : أنّ ذلك معلوم من القرينة وشاهد الحال ؛ فإنّ ترك ما يؤذي ممّا هو مركوز في الطباع ، والعقل حاكم بإلغاء خصوصيّة ذلك المؤذي دون غيره ، بخلاف الأحكام ؛ فإنّها قد تختصّ بمحالّ لامور خفيّة.

واحتجّ المفصّل الثاني (١) : أمّا على عدم حجّيّته عند عدم وجود شاهد حال يدلّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة في ثبوت الحكم : فبما مرّ (٢) في جواب الحجّة الاولى للمثبت مطلقا.

وأمّا على حجّيّته عند وجوده ، فبأنّ تعدية الحكم حينئذ يصير برهانيّا (٣) ؛ إذ يحصل قضيّة كلّيّة يجعل كبرى القياس ، كقوله : « كلّ مسكر حرام » ويضمّ إليه صغرى سهلة الحصول ، كقولنا : « هذا مسكر » ويتمّ الدليل (٤).

أقول : الحقّ عندي هو المذهب الأخير ، إلاّ أنّه يجب تقييده بكون الدالّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة مفيدا للقطع ، أو ما ثبت حجّيّته شرعا ، كنصّ ، أو عموم ، وأمثالهما. والسرّ فيه دلالة الطرق القطعيّة على بطلان مطلق القياس ، فإخراج بعض أفراده يفتقر إلى دلالة صالحة لنقل مثله ، ولا ينتهض مجرّد النصّ على العلّة حجّة للخروج عن القياس. ولذا صرّح محقّقو الفريقين بأنّ النصّ على العلّة لا يكفي في التعدّي دون التعبّد بالقياس (٥).

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الفروع له كثيرة ، وقد تقدّم (٦) بعضها. وقس عليه أمثاله.

وعلى ما اخترناه لا يخفى جليّة الحال في الجميع.

فائدة : النصّ على علّة الحكم وتعليقه عليها مطلقا ، يوجب ثبوت الحكم أينما ثبتت

__________________

(١) راجع ص ٤٥٦.

(٢) تقدّم في ص ٤٥٦.

(٣) عدم التأنيث باعتبار كون التعدية مصدرا.

(٤) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٥٨ و ٥٩. وهو المفصّل الثاني كما أنّ المفصّل الأوّل هو أبو عبد الله البصري. فإنّهما فصّلا المسألة على قسمين.

(٥) راجع : المحصول ٥ : ١١٧ ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٤ : ٥٨ ، وتهذيب الوصول : ٢٥١ ، ونهاية السؤل ٤ : ٢٣ ، ومعارج الاصول : ١٨٥.

(٦) آنفا.

٤٥٨

العلّة ، كقوله : « الزنى يوجب الحدّ » و « السرقة توجب القطع » (١) وهو ليس من القياس أصلا ، بل العمل به عمل بإطلاق النصّ.

المقام الثالث : فيما أثبتوا حجّيّته باعتبار ، ونفوا حجّيّته باعتبار آخر (٢).

وهو ما فهم فيه التعليل بالإيماء ، أو كان الجمع بين الأصل والفرع بعدم الفارق ، فإنّ مجرّد ذلك لا يصحّح التعدّي ، بل إن علمت المساواة بين الأصل والفرع من كلّ وجه ، جاز التعدية ، وإن علم الامتياز ، أو جوّز لم يجز إلاّ مع النصّ على ذلك. ولا ريب أنّ مجرّد الجمع لا يفيد العلم بالمساواة من كلّ وجه ، وكذا مجرّد الإيماء على العلّيّة لا يفيد القطع بكون الوصف علّة وعدم مدخليّة ما عدا تلك العلّة ، فالجمع بين الأصل والفرع بعدم الفارق إن كان مع العلم بالمساواة جاز التعدّي ، كما روي أنّ عليّا عليه‌السلام قضى في دابّة تنازعها اثنان وأقاما البيّنة « أنّها لمن شهد له بالنتاج » (٣) ، فإنّا نعلم عدم قصر الحكم على الدابّة ، بل تعدّى إلى كلّ ما حصل فيه هذا المعنى. وإن لم يكن معه لم يجز ، كالجمع بين القتل بالمثقل ، والقتل بالمحدّد.

وكذا ما فهم فيه التعليل بالإيماء إن علم فيه عدم مدخليّة ما عدا العلّة الإيمائيّة في الحكم ، ووجدت في الفرع جاز التعدّي ، كما إذا قال السائل : ملكت عشرين دينارا وحال عليها الحول ، فقال : عليك الزكاة ؛ فإنّا نقطع بأنّ الحكم متعلّق بملك الدنانير ، ولا اعتبار بأوصاف السائل ، فيحكم بأنّ كلّما اتّفق له ذلك ، يثبت له ذلك الحكم ، ومنه قوله عليه‌السلام لتمييز دم الحيض عن العذرة « تستدخل القطنة ثمّ تخرجها ، فإن كان مطوّقا في القطنة فهو من العذرة ، وإن كان مستنقعا في القطنة فهو من الحيض » (٤) ؛ فإنّا نقطع بأنّ الحكم يترتّب على التطوّق والاستنقاع ، ولا مدخليّة لأوصاف السائل.

__________________

(١) حكاهما المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٨٣ ولم نعثر عليهما في كتب الأحاديث.

(٢) قاله الغزالي في المستصفى : ٣٣٩ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٣٠ ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٨٥.

(٣) راجع : تهذيب الأحكام ٦ : ٢٣٦ ، ح ٥٨٢ ، والاستبصار ٣ : ٤١ ، ح ١٤١.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ١٥٢ ، ح ٤٣٢.

٤٥٩

وإن لم يعلم فيه ذلك لم يجز ، مثاله : قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ )(١) رتّب النهي على النجاسة ، فإن لم يكن لخصوصيّة نجاسة المشرك مدخليّة يكون تقريب مطلق النجاسة حراما ، وإلاّ كان الحكم مقصورا على مورده ، ولمّا لم يكن عدم مدخليّة الخصوصيّة معلوما لم يكن التعدية معلومة.

وبما ذكرنا ظهر أنّ تنقيح المناط إمّا قطعيّ أو ظنّيّ ، والحجّة هو الأوّل دون الثاني.

وظهر أيضا أنّ الحجّة على قواعد الأصحاب من أقسام قياس راجح التأثير بأيّ عنوان اطلق ـ كتنقيح المناط ، أو اتّحاد الطريق ، أو القياس بالطريق الأولى ، أو المنصوص العلّة ، أو القياس في معنى الأصل ، أو الجليّ ، أو القطعي ـ ما علم فيه العلّيّة وعدم مدخليّة خصوص الواقعة ، أو المساواة من كلّ وجه إذا كان الجمع بمجرّد نفي الفارق ، إمّا (٢) بالقطع ، أو بما ثبت حجّيّته شرعا ، كالنصّ ومثله.

والسرّ فيه ما يأتي من قطعيّة بطلان مطلق القياس على قواعدهم (٣).

فإن قلت : كيف يتصوّر حصول القطع بالعلّيّة؟

قلت : العلّة إن كانت عقليّة ـ أي كان للعقل مدخليّة في فهم العلّيّة ـ فلا ريب في إمكان حصول القطع بها ، إلاّ أنّ وجود مثله في الأحكام الشرعيّة نادر ، وإن كانت غير شرعيّة فقط ، فإنّ النصّ أو الإيماء على العلّيّة يمكن أن يبلغ حدّا يحصل معه القطع بالتعليل الشرعي ، وكما أنّ العلّة الواقعيّة يمتنع تخلّف معلولها عنها ، كذا يمتنع تخلّف الأحكام الشرعيّة المعلولة للعلل الشرعيّة عنها ، فالقطع بالعلّة الشرعيّة يستلزم القطع بالحكم الشرعيّ المعلّل بها ، فإن ورد التعليل من الشرع بطريق قطعي كالتواتر ، كانت العلّيّة وطريقها كلتاهما قطعيّة ، فيحصل القطع بالحكم. وإن ورد بطريق ظنّيّ ، كالآحاد ، أمكن القطع حينئذ بالعلّيّة إلاّ أنّ طريقها يكون ظنّيّة ، ولذا يحصل الظنّ بالحكم لا القطع به إلاّ أنّ الحجّيّة ثابتة ؛ لأنّ الفرض أنّ الطريق حجّة شرعا.

__________________

(١) التوبة (٩) : ٢٨.

(٢) هذا تقسيم للعلم المفروض في قوله : « ما علم فيه العلّيّة ».

(٣) يأتي في ص ٤٦١.

٤٦٠