مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

وأمّا تفصيلا فبيانه (١) يتوقّف على تحقيق معنى الغلبة وأقسامها ، فنقول : هي (٢) عبارة عن كون الجزئيات المندرجة تحت كلّي في الأكثر على حالة واحدة بحيث يظنّ إلحاق المشكوك منها ـ مع قطع النظر عن ملاحظة تلك الجزئيات ـ بها بعد ملاحظتها ، والاستقراء عبارة عن تصفّح الجزئيات لإثبات حكم المشكوك وإلحاقه بها ، ولا ريب أنّ مجرّد ملاحظة الجزئيات مع قطع النظر عن استكشاف الجامع بين الأفراد لا يعقل أن يكون مفيدا للظنّ ، وإلاّ يلزم أن يكون الجزئي كاسبا ومكتسبا ، بل لا بدّ من الظنّ بالقدر الجامع ليترتّب عليه الظنّ بالنتيجة ، ومن هنا يظهر الوجه في انحصار الحجّة في القياس ؛ لأنّ الاستقراء والتمثيل ما لم يستخرج منهما القدر الجامع (٣) يمتنع منه (٤) حصول الظنّ ، وعلى تقدير الاستخراج ينقلب قياسا ، غاية الأمر فيما إذا لم يكن الاستقراء أو التمثيل قطعيا يكون إحدى مقدّمتي القياس ظنّية ، فتكون (٥) النتيجة أيضا ظنّية ؛ لتبعيتها (٦) أخسّ مقدّماتها (٧) ، فالفرق بين الغلبة والاستقراء ـ على ما نبّهنا عليه ـ أنّها صفة الأفراد ، والاستقراء وجدانها كذلك ، وقد يكون ملاحظة بعض الأفراد مفيدة للظنّ بالقدر الجامع وهذه وإن كانت ملحقة بالاستقراء حكما إلاّ أنّ الواقع خروجها منه موضوعا ، وبمثله نقول في الغلبة أيضا.

وأمّا لو فرض عدم استخراج القدر الجامع إمّا للشكّ في وجوده أو للقطع بعدمه ، فلا ريب في امتناع حصول الظنّ ، فلا يمكن إلحاق الفرد المشكوك ، وذلك كما إذا احتملنا أو علمنا بأنّ الحكم في كلّ واحد من الأفراد مسبّب عن سبب خاصّ غير مشترك بين الفردين من النوع مثلا ، فلو علمنا بوجود دود في الدار فبغلبة بقاء

__________________

(١) « ج » : فبأنّه.

(٢) « ز ، ك » : « الغلبة ».

(٣) « ز ، ك » : منهما التقدير.

(٤) « م » : فيه.

(٥) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : فيكون.

(٦) « ز ، ك » : لتبعية النتيجة.

(٧) « م » : مقدّماتهما.

٨١

الأشياء القارّة كالأرض والسماء والماء والهواء لا يصحّ الحكم ببقائه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الغلبة قد تكون (١) جنسية وهي ما إذا كانت الأفراد الموجودة على صفة أفراد الجنس (٢) ، كما إذا شككنا في استدارة جسم من الأجسام السفلية من المعادن أو النبات (٣) أو الحيوان ـ مثلا ـ فإنّه يحكم فيه بعدمها ؛ لأنّ الغالب في الموجودات الجسمانية المركّبة عدم الاستدارة ، ثمّ إنّ الغلبة الجنسية كنفس الأجناس متدرّجة في المراتب ، والفرض غير خفيّ ، وقد تكون (٤) نوعية كما في أفراد الإنسان فيما إذا وجدناها (٥) على صفة واحدة ككونها في الأغلب على رأس واحد مثلا ، وقد تكون صنفية كما في أفراد الزنجي فإنّ الغالب فيها السواد مثلا ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأصناف المندرجة تحت صنف فقد يكون أهل بلد (٦) مخصوص من الزنج على خلاف أفراد الصنف المطلق ، كما في الغلبة الجنسية أيضا تصير مختلفة على ما عرفت ، ولا شكّ في حصول الظنّ من الأقسام المذكورة ، ولا بدّ من الأخذ به أيضا على تقدير القول به أعاذنا الله منه بحقّ محمّد وآله (٧) ، ولكن ذلك فيما إذا لم تكن (٨) الغلبة معارضة (٩) بغلبة أخرى.

وأمّا إذا تعارضت الغلبتان الجنسية والنوعية أو الصنفية أو أصناف الصنف كما لا يخفى ، فالتحقيق (١٠) هو الإلحاق بالغلبة الخاصّة في جميع المراتب ؛ لأنّ منشأ الإلحاق في الغلبة هو الظهور على ما عرفت ، والغلبة النوعية أشدّ ظهورا من الغلبة الجنسية ، والصنفية أظهر من النوعية ، والصنف الخاصّ أظهر من الصنف المطلق ، فبالحقيقة يرجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر ، ولا شكّ في تقديم الأظهر على الظاهر

__________________

(١) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يكون.

(٢) « م » : أفرادا للجنس.

(٣) « ز ، ك » : النباتات.

(٤) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يكون ، وكذا في المورد الآتي.

(٥) « م » : ـ ها.

(٦) « ز ، ك » : مثل بلد ، وفي « ج » : هذا عليه.

(٧) « ز ، ك » : ـ بحقّ محمّد وآله.

(٨) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : لم يكن.

(٩) « ج » : متعارضة.

(١٠) « ز ، م » : التحقيق.

٨٢

على ما هو المعهود من تقديم الخاصّ على العامّ.

والسرّ فيه هو أنّ العقل يلاحظ المشكوك بما هو أقرب منه ، مثلا لو فرضنا أنّ محلّة من محلاّت بلدة تقضي بأن تكون أهلها على صفة ، ونفس تلك البلدة تقضي بأن تكون على صفة أخرى ، فعند الشكّ في لحوق فرد من تلك المحلّة بأهلها أو بأهل بلدها ، فلا ريب في أنّ العقل إنّما يستكشف حكمه من أهل تلك المحلّة دون تلك (١) البلدة ، وأمثال هذه المطالب ممّا لا ينبغي الاشتباه فيها ، بل ممّا لا يكاد يشتبه على ما هو ظاهر (٢).

وإذ قد عرفت ما مهّدنا (٣) فنقول : إنّ التمسّك بغلبة بقاء الممكنات القارّة ممّا لا يجدي في الحكم ببقاء الأحكام الشرعية إلحاقا لها بالأعمّ الأغلب كما صدر عن السيّد الصدر ، لما عرفت من أنّ الغلبة لا يمكن حصول الظنّ منها (٤) إلاّ بعد استخراج القدر الجامع القريب ، وانتفاؤه في محلّ (٥) الكلام ممّا لا يعتريه أثر الشكّ ، فإنّ القول ببقاء قطرة من الماء في ثوب زيد حال الشكّ فيه إلحاقا لها بوجود الأرض والسماء والبحار والهواء ، لعلّه يقرب من أن يكون من مضحكات الثكلى.

فإن قلت : إنّ هناك مرحلتين : الأولى : أصل بقاء الشيء المشكوك بقاؤه وارتفاعه ، الثانية : مقدار بقائه على تقدير البقاء ، والذي لا يمكن إلحاقه من الأحكام الشرعية كالخيار ـ مثلا ـ بالموجودات القارّة ، لعدم القدر الجامع بينهما ، هو مقدار البقاء دون أصل البقاء ، ولعلّ السيّد إنّما قال بالإلحاق في المرحلة الأولى دون الثانية ، فإنّه لا بدّ في المرحلة الثانية (٦) من ملاحظة الأحكام الصادرة من الموالي بالنسبة إلى عبيدهم ، وملاحظة استعداد مقدار بقائها ، وبعد إحراز ذلك يحكم بالإلحاق ، ولم يظهر منه مخالفة

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ تلك.

(٢) من قوله : « بل ممّا » إلى هنا ليس في « ز ، ك ».

(٣) « م » : مهّدناه.

(٤) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : « منه ».

(٥) « ج ، م » : محالّ.

(٦) « ج ، م » : فإنّه في المرحلة الثانية لا بدّ.

٨٣

في ذلك.

قلت : لا شكّ في اعتبار الوجود في الجملة ولو في زمان ما في الاستصحاب ، وبعد الوجود لا بدّ من الشكّ في البقاء والارتفاع ، وما يطلب من الاستصحاب هو مقدار البقاء لا أصل البقاء ، فإنّه عبارة عن الوجود الثابت في الزمان الثاني في الجملة ، وهو معلوم في الأغلب ، ولو رام إلى استصحاب أصل البقاء فهو أيضا فاسد ؛ إذ المفروض أنّه لا شكّ في البقاء في الجملة ، فلا يعقل الاستصحاب فيما لا يعقل فيه الشّك ، ومن هنا يظهر عدم استقامة ما أفاده المحقّق القمي رحمه‌الله (١) ـ (٢) في توجيه ما أفاده السيّد ، ولعلّك بعد الإحاطة بما قرّرنا لك تقدر على استنباط وجوه النظر في كلام الموجّه أيضا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ بعد تقدير التسليم عن إفادة الغلبة الظنّ بوجود المشكوك ، فالمستدلّ بها مطالب بالدليل على اعتبار الظنّ ، ولعلّه مبنيّ على القول بمطلق الظنّ ، وقد عرفت فيما حقّقنا لك من مباحث الظنّ عدم دلالة دليل على اعتباره كما أومأنا إليه (٣) في الردّ على الوجه الثاني في تقرير الكبرى من الدليل الثاني (٤) وإن لم يكن المناقشة فيما يكون مبنيّا على أصل بإنكار ذلك الأصل مرغوبا إليها عند أرباب النظر والتحصيل ، ولكنّ الذكرى تنفع (٥).

فالأولى في تقرير الغلبة لو قلنا باعتبارها أن يقال : إنّ (٦) الغالب في الأحكام الصادرة من الموالي إلى العبيد أو خصوص الأحكام الشرعية هو البقاء ، ففيما إذا شكّ في بقاء حكم منها وارتفاعه يحكم العقل ظنّا بإلحاقه بالأغلب.

ولكنّه مع ذلك لا يكاد يتمّ ؛ إذ هو موقوف على استخراج القدر الجامع من الغلبة النوعية أو الصنفية ، ودعوى ذلك في الأحكام الشرعية عهدتها على مدّعيها ؛ ضرورة

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ رحمه‌الله.

(٢) القوانين ٢ : ٥٧.

(٣) أومأ إليه في ص ٧٧ ـ ٧٨.

(٤) كذا. والصواب الثالث.

(٥) « ز ، ك » : قد تنفع.

(٦) « ج ، م » : بإنّ.

٨٤

انتفائه فيما إذا شكّ في استعداد الحكم الشرعي ، إذ لا طريق لنا إلى العلم بمقدار استعداده حتّى يقال بإلحاقه على الأحكام العرفية (١) على تقدير العلم باستعدادها.

وإن شئت التوضيح فلاحظ فيما إذا شككت في عروض مانع للحكم الشرعي أو مانعية عارض له ، فإنّه لا يمكن أن يقال ـ فيما إذا شكّ (٢) في وجود البول بعد الطهارة ـ إنّ أمر السيّد الفلاني عبده بشراء لحم ، والآخر بضرب زيد ، والآخر بإكرام عمرو ، والآخر بضيافة خالد ، لم يعرض له مانع ، فكذلك لم يعرض المانع للطهارة ، كما أنّه لا يمكن أن يقال ـ فيما إذا شكّ في مانعية المذي للوضوء ـ إنّ (٣) قلع الأشجار وجري الأنهار ودوران الفلك الدوّار وغيرها من الممكنات غير مانع ، فالمذي أيضا غير مانع.

فقد ظهر من جميع ما مرّ عدم صحّة الاستناد إلى الغلبة في الاستصحاب ، فإنّها لا تصير منشأ لحصول الظنّ منه ، والذي يمكن أن يقال في المقام هو أنّا نرى العقلاء مطبقين على الأخذ بأحكام الحالة السابقة فيما إذا شكّ في المانع بأقسامه بعد إحراز المقتضي ، سواء كان في الوجوديات أو في العدميات ، وإن لم نعلم بالوجه في ذلك فلا نعلم أنّ ذلك منهم مبنيّ (٤) على الاستصحاب (٥) أو على قاعدة العدم ، وستعرف (٦) لذلك زيادة تحقيق وتنقيح في بعض الهدايات الآتية.

وأنت بعد ملاحظة ما اقتصرنا عليه من ذكر الحجج الظنّية وإيراداتها (٧) تقدر على دفع سائر الوجوه التي لم نذكرها وهي كثيرة جدّا ، فلاحظها تهتدي إلى وجوه الإيراد عليها ، والله الموفّق وهو الهادي (٨) إلى طريق الرشاد وسبيل السداد.

__________________

(١) « ك » : إلى الأحكام الفرعية ، وفي « ج » : بإلحاقه بالأحكام الشرعية.

(٢) من قوله : « في عروض مانع » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».

(٣) « ز ، ك » : وانّ.

(٤) « ك » : ـ منهم ، وفي « م » : مبنيّ عنهم ، وفي « ز » : مبنيّ منهم.

(٥) « ج » : قاعدة الاستصحاب.

(٦) ستعرف في ص ٢٣١.

(٧) « ج ، م » : إيرادها.

(٨) « ز ، ك » : فلاحظها والله الهادي.

٨٥
٨٦

هداية حاوية للنهاية والبداية

[ في ذكر أدلّة حجّية الاستصحاب ]

قد عرفت فيما تقدّم عدم دلالة العقل على اعتبار الاستصحاب على ما رامه المثبتون بأذيال الوجوه الظنّية.

وأمّا الكتاب العزيز فقد يظهر من بعض (١) من لا مساس (٢) له بالفنّ الاستناد إلى بعض الآيات ، ونحن وإن استقصينا التأمّل في تقريبه ما وقفنا على محصّل منه إلاّ أنّ أمثال هذه التقريبات من أمثاله غير عزيز.

وأمّا الإجماع على إثبات (٣) القاعدة السارية في تمام الموارد ، فلم نقف على ناقل منه أو محصّل له.

وأمّا التمسّك بالأدلّة الدالّة على ثبوت الحالة السابقة حال اليقين بتقريب أنّها دالّة على ثبوت الأحكام المشكوكة في اللاحق استلزاما ، فليس بشيء أيضا ؛ لعدم الملازمة بين ثبوت الشيء ودوامه ، فإنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم.

وأمّا الأخبار المرويّة عن السادة الأطهار عليهم‌السلام فمستفيضة في هذا المضمار :

__________________

(١) في هامش النسخ ما عدا « ج » : ( هذا « ز ، ك » ) إشارة إلى ما حكاه البعض عن بعض مشايخ الكشفية من التمسّك بقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الرعد : ١١ ] « منه ».

(٢) « ك » : لا أنس.

(٣) « ز ، ك » : ـ إثبات.

٨٧

منها : ما رواه شيخ الطائفة المحقّة في التهذيب عن شيخه المفيد عن أحمد بن محمّد بن الحسن عن أبيه عن محمّد بن الحسن الصفّار عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن حسين بن [ الحسن بن ] أبان جميعا عن الحسين بن سعيد عن حمّاد عن حريز عن زرارة قال : قلت له عليه‌السلام : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال (١) عليه‌السلام : « قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء » قلت له : فإن حرّك في (٢) جنبه شيء ولا يعلم به؟ قال عليه‌السلام : « لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض (٣) اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر » (٤).

وتوضيح المقام في تقريب المرام يحتاج إلى رسم أمرين :

[ الأمر ] الأوّل : في بيان سند الرواية ، فنقول : قد عدّها عدّة من أصحابنا في عداد الصحاح ، بل جعلها صاحب المعالم في المنتقى (٥) من المزكّاة في كلّ المراتب (٦) بتزكية عدلين.

ومع ذلك فقد نوقش (٧) في صحّة سندها : فتارة : بالإضمار ، فإنّ كتب الحديث غير التهذيب خالية عنها ، والإسناد إلى الباقر عليه‌السلام كما في بعض مصنّفات الفنّ غير معتمد عليه بعد خلوّ كتاب الرواية عنه.

وأخرى : بعدم ظهور وثاقة أحمد بن محمّد من مهرة رجال الرجال ، وأمّا عدّه من مشايخ الإجازة فلا دلالة فيه على الوثاقة ؛ لوجوده في إبراهيم بن هاشم مع أنّ صاحب المعالم يرى روايته من الحسان دون الصحاح ، وقد قيل فيه : إنّه أوّل من

__________________

(١) « ز ، ك » : قال.

(٢) في المصدر : إلى.

(٣) « ج » : تنقض.

(٤) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، باب الأحداث الموجبة للطهارة ؛ وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

(٥) منتقى الجمان ١ : ١٢٤.

(٦) « ك » : مرتبة.

(٧) « ز ، ك » : قد نوقش.

٨٨

نشر أخبار الكوفيين بقم.

فإن قيل : إنّهم ربّما يطعنون على البعض ـ كما في البرقي ـ بواسطة روايته عن (١) الضعفاء ، والراوي منه في السلسلة المذكورة هو المفيد ولم يطعن عليه بذلك أحد ، فيدلّ على وثاقة المرويّ عنه.

قلت أوّلا : إنّ الطعن إنّما هو فيما إذا علم ضعف الراوي وليس المقام منه ؛ إذ غاية ما يقال في حقّه عدم توثيقه لا ضعفه ، وذلك لا يكفي في الحكم بالضعف بالنسبة إلى الراويّ وإن اكتفي في الرواية.

وثانيا : إنّ النقل من (٢) الراوي يحتمل أن يكون بواسطة الاعتماد عليه والركون إليه ، ويحتمل أن يكون بواسطة الاعتماد على نفس الرواية ولكنّ النقل منه إنّما هو من حيث عدم تفرّق رواة الحديث واتّصال سنده إلى الإمام عليه‌السلام.

ومع ذلك فلا دلالة في نقل المفيد على وثاقته ؛ إذ لعلّه بواسطة الوثاقة على نفس الرواية.

وتارة أخرى : بأنّ حريزا لم يوثّقه غير الشيخ في الفهرست (٣) فكيف يمكن أن يكون (٤) الرواية من الصحيح على مصطلح صاحب المعالم ، بل يظهر من النجاشي (٥) القدح فيه.

فإن قيل : إنّ العلاّمة أيضا وثّقه في الخلاصة كما يستفاد من (٦) عبارة الخلاصة ، قال : حريز ـ بالراء قبل الياء المنقّطة تحتها نقطتان والزاي أخيرا ـ ابن عبد الله السجستاني أبو محمّد الأزدي من أهل الكوفة أكثر السفر (٧) والتجارة إلى سجستان فعرف بها ،

__________________

(١) « ز ، ك » : من.

(٢) « ز ، ك » : عن.

(٣) الفهرست ١٦٢ / ٢٤٩.

(٤) « ك » : من أن تكون ، وفي « ز ، م » : من أن يكون.

(٥) رجال النجاشى ١٤٤ / ٣٧٥.

(٦) « م » : عن.

(٧) في المصدر : كثير السفر.

٨٩

وكانت تجارته في السمن والزيت ، قيل : روى عن أبي عبد الله ، وقال يونس : لم يسمع عن أبي عبد الله عليه‌السلام إلاّ حديثين ، وقيل : روى عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، قال النجاشي : ولم يثبت ذلك ، قال الشيخ الطوسي : إنّه ثقة ، وقال النجاشي : كان حريز ممّن شهر السيف في قتال الخوارج بسجستان في حياة أبي عبد الله ، وروي أنّه جفاه وحجبه عنه ، وهذا القول من النجاشي لا يقتضي الطعن ؛ لعدم العلم بتعديل الراوي للجفاء ، وروى الكشّي : أنّ أبا عبد الله حجبه عنه وفي طريقه محمّد بن عيسى ، وفيه قول ، مع أنّ الحجب لا يستلزم الجرح ؛ لعدم العلم بالسرّ فيه (١) ، انتهى.

قلنا : أمّا أوّلا : فلا دلالة في هذه العبارة على التوثيق ؛ لأنّ نفي الجرح لا يستلزم التعديل ، لكونه أعمّ.

وأمّا ثانيا : فلأنّه (٢) بعد التسليم فتعديل العلاّمة في الأغلب تابع لتعديل الشيخ ؛ لحسن ظنّه به ، كما يظهر ذلك لمن مارس كلامهما في التعديل ، إلاّ أنّ ذلك كلّه ممّا لا ضير فيه بعد ما استقرّ التحقيق على اعتبار الرواية الموثوق بها. أمّا حديث الإضمار فلظهور أنّ جلالة شأن الراوي مانعة عن السؤال عن غير الإمام عليه‌السلام ، والظاهر أنّ الوجه في الإضمار في أمثال هذه الروايات هو تقطيع الأخبار تسهيلا على من حاول الإحاطة بما فيها من الفقرات. وأمّا تعديل أحمد بن محمّد فلا دليل على لزومه سوى أنّه أحد طرق تحصيل الوثوق ، وربّما يحصل من كونه من مشايخ الإجازة ما يزيد على التعديل بمراتب. وأمّا حكاية حريز فكالسابق ممّا لا غائلة (٣) فيها بعد الاطمئنان بالصدور ، نعم لا يتمّ على مذهب صاحب المعالم بحسب ما اصطلح عليه ، ويزيدك توضيحا في وثاقة الرواية نقله لها في المنتقى.

الأمر الثاني في توجيه فقرات الرواية كي يتّضح موضع الحاجة في الاحتجاج ،

__________________

(١) الخلاصة ٦٣ / ٤.

(٢) « ج ، م » : فلأنّ.

(٣) « ز ، ك » : ولا غائلة.

٩٠

فنقول : قول السائل : « الرّجل ينام وهو على وضوء » المراد به إمّا تمدّد الأعضاء وإيقاع صورة النوم من المكلّف بالاستلقاء ومدّ الأيدي والأرجل استعارة ، وإمّا الشروع فيما يفضي إلى النوم من مقدّماته مشارفة ، وإمّا النوم الحقيقي ، بناء على أنّ الخفقة من مصاديقه الواقعية ، فلا منافاة بين هذه الفقرة وقوله : « أتوجب الخفقة ». وقوله : « ينام وهو على وضوء » يراد به أنّه يحدث النوم والحال أنّه في زمان مقارن لزمان الوضوء ؛ لمكان دلالة الجملة الفعلية على التجدّد والحدوث بخلاف الجملة الاسمية ، فيرتفع التنافي بين قوليه من أنّ « الرجل ينام » و « هو على وضوء » كما توهّم.

وأمّا لفظ « الخفقة » فقال في الصحاح : خفق الرجل : إذا حرّك رأسه وهو ناعس (١).

ثمّ إنّه هل هو سؤال عن مانعية العارض فيكون الشبهة حكمية ، أو عن (٢) عروض المانع فيكون الشبهة موضوعية؟ وجهان ، أظهرهما الأوّل ، فإنّ المنساق منها ذلك ، ويحتمل بعيدا أن يكون السؤال عن (٣) اطّراد حكم النوم في جميع أفراده ؛ لاختلافها ظهورا وخفاء بعد العلم بدخولها تحت ماهيّة النوم. وممّا يوضح ما ذكرنا من ظهور الرواية في السؤال عن الشكّ في مانعية العارض ملاحظة ما رواه الشيخ عن حسين بن سعيد عن فضالة عن حسين بن عثمان عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن زيد الشحّام قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفقة والخفقتين؟ فقال عليه‌السلام : « ما أدري [ ما الخفقة والخفقتان ] إنّ الله يقول : ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ )(٤) إنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : من وجد طعم النوم فإنّما [ أ ] وجب عليه الوضوء » (٥).

ثمّ لا يخفى أنّ قول الإمام عليه‌السلام : « قد تنام العين ولا ينام الأذن والقلب » صريح في عدم الملازمة بينهما ، وتوهّم عدم الانفكاك ساقط ، نعم الظاهر أنّ نوم الأذن يلازم نوم

__________________

(١) الصحاح ٣ : ١٤٦٩.

(٢) « م » : من.

(٣) « م » : ـ السؤال عن ، وفي « ج » : ـ عن.

(٤) القيامة : ١٤.

(٥) التهذيب ١ : ٨ / ١٠ ؛ الاستبصار ١ : ٨٠ / ٢٥٢ ؛ وسائل الشيعة ١ : ٢٥٤ ، باب ٣ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٨.

٩١

القلب ولذا (١) اقتصر الفقهاء على نوم الحاسّتين.

وأمّا قوله : « فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم به » فهو سؤال عن حكم الشكّ في المانع ، ومحصّله : أنّ مجرّد حصول عدم سماع الصوت الحاصل من التحريك المزبور هل يصلح أن يكون ممّا يستكشف به عن وجود النوم كما في سائر الأمارات ، أو لا؟ عكس السؤال الأوّل كما يلوح من ملاحظة نفس السؤال ، فإنّ احتمال عروض النوم أو عدم الالتفات إلى التحريك يصحّ أن يقعا مسئولا بهما في الشكّ في عروض المانع بخلاف الشكّ في مانعية العارض. وبعبارة واضحة : إنّ قول السائل : « وهو لا يعلم به (٢) » بعد حصول التحريك في جنبه شكّ في أنّ منشأ عدم العلم ما ذا فهل هو عروض النوم أو مجرّد عدم الالتفات إلى الصوت كما قد يحصل للإنسان؟ وهذا يصلح أن يكون شكّا في عروض المانع بخلاف الشكّ في منع العارض ؛ إذ لا يحتمل مانعية عدم الالتفات إلى الصوت ، للقطع بعدم المانعية ، كما لا يحتمل عدم مانعية النوم ، للعلم بذلك قطعا ، على أنّ الثاني لا يوافقه الجواب كما لا يخفى ، ويزيده توضيحا ملاحظة قوله عليه‌السلام : « لا حتّى يستيقن أنّه قد نام » وقوله : « حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن » فإنّ ظهور الجواب في كون السؤال عن الشكّ في عروض القادح والمانع ممّا لا ينكر ، ومن هنا يظهر أنّ من (٣) اقتصر في الاستدلال بهذه الفقرة ، ثمّ بالغ في الرّد على المحقّق السبزواري من

__________________

(١) « م » : ولو ، وموضعه في « ج » بياض.

(٢) « م ، ج » : ـ به.

(٣) المراد به ظاهرا القزويني في ضوابط الأصول : ٤٠٣ حيث قال : إنّ قوله عليه‌السلام : « لا ينقض » في قوّة الكبرى الكلّية ، أي كلّ من كان على يقين من شيء حرم عليه نقضه إلاّ بيقين آخر ، مضافا إلى أنّ قوله عليه‌السلام : « فإنّه على يقين من وضوئه » كاف في إثبات المطلوب أعني حجّية مطلق الاستصحاب نظرا إلى حجّية منصوص العلّة ، والعجب من صاحب الذخيرة حيث نفى حجّية الاستصحاب فيما إذا شكّ في مانعية شيء كالمذي للوضوء ، أو شكّ في كون شيء فردا من المانع المعلوم المانعية كالخفقة والخفقتان إذا شككنا في صدق النوم عليهما مع أنّـ [ ـه ] مورد الرواية.

٩٢

حيث منعه حجّية الاستصحاب عند الشكّ في منع العارض بأنّ مورد الرواية مخالف ، له فقد أخطأ ، نعم لو احتجّ بالفقرة الأولى أيضا صحّ الردّ والإيراد كما أنّه يدلّ على فساد التفصيل بين الموضوعات وأحكامها كما نسب إلى المحقّق المذكور أيضا على الأوّل.

وإذ قد عرفت هذين الأمرين فاعلم أنّ محلّ الاستدلال هو قوله عليه‌السلام : « فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشكّ » والتقريب أنّ قوله : « فإنّه » (١) علّة للجواب المحذوف للشرط المستفاد من قوله : « وإلاّ » وقائم مقامه ، كما يوجد مثله كثيرا في كلمات الفصحاء ، سيّما القرآن العزيز فإنّه مشحون بذلك كما في قوله : ( فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (٢) وقال أبو الطيّب :

وان تفق الأنام وأنت منهم

فانّ المسك بعض دم الغزال (٣)

فالتقدير : وإن لم يستيقن فلا يجب الوضوء فإنّه على يقين من وضوئه ، فيكون بمنزلة صغرى من القياس ، وقوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ أبدا » بمنزلة الكبرى ، فتنتج النتيجة المطلوبة ؛ لصحّة القياس مادّة وهيئة ، ودلالته على هذا التقدير على حجّية الاستصحاب واضحة لا تكاد تخفى على أحد.

ويحتمل أن يقال أيضا : انّ الجواب هو قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » ويكون قوله : « فإنّه » إلخ توطئة لذكر الجواب ، كما قد تعارف عندهم أمثاله كما يقال : إذا قدمت من السفر فعندك منزل فانزل فيه ، وعلى تقديره أيضا يتمّ التقريب كما هو ظاهر إلاّ أنّه بعيد جدّا ، سيّما بعد ملاحظة الواو في قوله : « ولا ينقض » إذ الغالب في هذه الاستعمالات هو الإتيان بكلمة الفاء.

وأمّا ما يقال من أنّ حذف الجواب خلاف الأصل ، فمدفوع بأنّ خلاف الأصل

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ فإنّه.

(٢) آل عمران : ٩٧.

(٣) ديوان المتنبى : ٢٢٤ في مدح سيف الدولة.

٩٣

مجوّز الارتكاب بعد وجود الدليل ويكفي فيه ظهور المقام ، نعم في المقام شيء آخر لا يفرق فيه كلا الوجهين وهو احتمال إرادة العهد من اللاّم في قوله : « ولا ينقض [ اليقين ] » فإنّ ذكر اليقين في الوضوء قرينة قابلة لصرف اللفظ عن الحقيقة إليه ، ولا ينافيه لزوم كلّية الكبرى على التقدير الأوّل ؛ إذ يكفي فيها عموم الحكم لأفراد اليقين الوضوئي ولا يقضي بكون اليقين جنسا ، لا يقال : إنّ من المحقّق في محلّه مجازية اللام في العهد ، فأصالة الحقيقة تقضي باعتبار الجنس ، فيتمّ التقريب ؛ لأنّه يقال : قد أشرنا إلى دفع ذلك من أنّ أصالة الحقيقة ممّا لا عبرة بها بعد ما تقدّم من ذكر الوضوء واليقين المتعلّق به ، ونظير ذلك الجمل المتعقّبة (١) بالاستثناء ، والأمر الوارد عقيب الحظر ، وغيرهما ، فإنّ جملة من أرباب الفنّ إنّما أهملوا إعمال أصالة الحقيقة في هذه الموارد نظرا إلى سبق ما يحتمل أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقي ، سيّما فيما لم يكن بعيدا عن مساق اللفظ كما في المقام ، فالإنصاف أنّ دلالة هذه الرواية على حجّية الاستصحاب كانت في غاية الظهور لو كان المراد من اليقين هو جنس اليقين ، وبعد وجود ما يحتمل كونه صارفا في المقام فلا يتمّ التقريب إلاّ أن يبنى على دعوى وجود مناط الاستصحاب في غير موارد الوضوء ، وهذا وإن لم يكن بعيدا إلاّ أنّه كما ترى.

فإن قلت : على تقدير أن يكون اللام للجنس أيضا لا وجه للاستدلال ؛ إذ لا عموم في الجنس.

قلت : إنّ الجنس المنفيّ يفيد العموم ، فيصحّ الاستدلال ، وقد يحتمل بعيدا أن يكون المراد باللام هو الاستغراق ، إلاّ أنّه ضعيف جدّا ؛ لأنّه مجاز لا يصار إليه إلاّ بدليل ، على أنّ ذلك إنّما يستلزم نفي العموم والمقصود لا يتمّ إلاّ بعموم النفي.

اللهمّ إلاّ أن يقال بالفرق بين العموم المستفاد من اللام أو من كلمة « كلّ » كما يشهد به ملاحظة الأمثلة في العرف ، ولعلّ السرّ في ذلك أنّ العموم المستفاد من لفظ « كلّ »

__________________

(١) « ج ، م » : المتعقّب.

٩٤

ينحلّ إلى ذوات الأفراد مع قيد الإحاطة ، بخلاف عموم اللام فإنّه ينحلّ إلى نفس الأفراد من دون قيد ، فيتوجّه النفي (١) إلى القيد في الأوّل دون الثاني ، مع أنّ بعضهم قد أفاد (٢) أنّ مرجع عموم النفي ونفي العموم إلى ما هو المستفاد من الألفاظ الدالّة على ذلك عرفا ، فلا يفرق في ذلك لفظ الكلّ أو اللام ، فإنّ قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ )(٣) يفيد عموم النفي أو يتعسّف في إثبات العموم على تقدير نفي العموم أيضا ببرهان الحكمة ؛ إذ لا يتعيّن نفي العموم في ضمن البعض ، لاحتمال نفي الكلّ أيضا ، فإنّ السالبة الجزئية لا تناقض السالبة الكلّية.

وبالجملة : فالتحقيق أنّ دلالة الرواية على المطلوب تامّة لو لم يكن قيام الاحتمال المذكور ، فيا ليته لم يكن ولفظ « أبدا » كما يناسب أحدهما يناسب الآخر أيضا.

ومنها : ما رواه الشيخ أيضا في كتاب صلاة التهذيب عن الحسين بن سعيد عن حمّاد عن حريز عن زرارة قال : قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منيّ ، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له من الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك ، قال عليه‌السلام : « تعيد الصلاة وتغسله » قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه ، قال : « تغسله وتعيد » ، قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه ، قال : « تغسله (٤) ولا تعيد الصلاة » قلت : فلم ذاك؟ قال : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ، ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصاب ولم أدر أين هو فأغسله ، قال : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه (٥) قد أصابها حتّى تكون على يقين

__________________

(١) « م » : النفس.

(٢) « ج ، م » : أفادوا.

(٣) لقمان : ١٨.

(٤) من قوله : « وتعيد » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».

(٥) « م » : أنّها.

٩٥

من طهارتك » قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه بشيء أن انظر فيه؟ قال : « لا ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك » قلت : فإن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة ، قال : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت وغسلته ، ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ » (١).

وهذه الرواية الشريفة مع اشتمالها على أحكام شتّى وفقرات لا غبار عليها ، ممّا لا ضير في إضمارها (٢) ولا في قطعها بعد كون الراوي جليل الشأن رفيع المنزلة عظيم القدر ، سيّما بعد ملاحظة ما في العلل (٣) من إسنادها إلى أبي جعفر ، ووقوع إبراهيم بن هاشم في طريقها ممّا لا يقضي بعدم الوثوق بصدورها على ما هو المناط عند التحقيق في حجّية الخبر واعتباره من حيث الصدور. ويمكن الاحتجاج بهذه الرواية من وجوه :

الأوّل : قوله عليه‌السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » بعد قول زرارة « ولم ذاك » والتقريب ظاهر مثل ما تقدّم في الرواية الأولى ، بل الأمر في المقام أظهر ؛ لكونه صريحا في التعليل ، فيوجد صغرى مفروضة ، وكبرى معلومة ، ويستدلّ بهما على النتيجة المطلوبة.

واحتمال العهد في المقام أيضا أظهر من احتماله في المقام الأوّل.

لا يقال : إنّ عموم العلّة المنصوصة في الرواية قاض بالأخذ بها حيث ما وجد ، فإنّ

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢١ ، باب ٢٢ ، ح ٨ ؛ الاستبصار ١ : ١٨٣ ، باب ١٠٩ ، ح ١٣ ؛ وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٦ ، باب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ١ وص ٤٧٧ ، باب ٤١ من أبواب النجاسات ، ح ١ ، وص ٤٧٩ ، باب ٤٢ من أبواب النجاسات ، ح ٢ ، وص ٤٨٢ ، باب ٤٤ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) لأجل ذلك ناقش في سندها العلاّمة الحلّي في منتهى المطلب ٣ : ٢٩٦ وفي ط الحجري ١ : ١٨١.

(٣) علل الشرائع : ٣٦١ ، باب ١٠ ، ح ١.

٩٦

التحقيق هو الأخذ بعمومها ، وقضيّة ذلك هو اعتبار الاستصحاب مطلقا.

لأنّا نقول : إنّ قضيّة عموم العلّة هو اطّراد الحكم المعلّل بهذه العلّة في مواردها لا ثبوت أحكام أخر على تقدير وجود العلّة ، والحكم في الرواية هو عدم إعادة الصلاة كما أنّ في الرواية السابقة هو عدم وجوب الطهارة ، واطّرادهما في الموارد معلوم غير محتاج إلى الاستصحاب.

الثاني : قوله عليه‌السلام : « تغسل من ثوبك (١) الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك » فإنّ المنساق منها ثبوت النجاسة إلى أن يعلم بزوالها ، وهو معنى الاستصحاب.

وفيه أوّلا : أنّه يحتمل أن يكون باعتبار قاعدة الاشتغال (٢). وثانيا : على تقدير التسليم أنّها تدلّ على الاستصحاب في الطهارة والنجاسة وهما معلوما الحكم من هذه الجهة.

الثالث : قوله ـ في ذيل الرواية ـ : « فليس ينبغي أن تنقض (٣) اليقين بالشكّ » بالتقريب والتضعيف المتقدّمين.

بقي في المقام شيء (٤) ينبغي التنبيه عليه ، وهو أنّ قول زرارة ـ في السؤال ـ : فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيته فيه ، إن كان المراد به عدم العلم بالنجاسة التي فحص عنها قبل الصلاة ، فجواب الإمام عليه‌السلام ظاهر لا إشكال فيه (٥) ، وأمّا إن كان المراد به عدم وجدان النجاسة قبل الصلاة ، ثمّ العلم بها بعد الصلاة قبل الصلاة ، فيشكل الأمر من حيث إنّ الإعادة بعد ذلك بواسطة العلم بوجود النجاسة ، فيكون من نقض اليقين باليقين ، فيشكل التعليل المذكور إلاّ أن يكون المراد اليقين بوقوع العمل مطابقا للأمر

__________________

(١) المثبت من « ج » وسقط من سائر النسخ.

(٢) « ز ، ك » : الشغل.

(٣) « م ، ك » : ينقض.

(٤) « ز ، ك » : بقي الكلام في شيء.

(٥) « ز » : ـ لا إشكال فيه ، ومن قوله : « التي فحص » إلى قوله : « وجدان النجاسة » سقط من نسخة « ك ».

٩٧

الاستصحابي الظاهري ، وهو يفيد الإجزاء ، فتكون (١) الرواية مفيدة لهذا الحكم ، وبعده غير خفيّ على من له أنس بصناعة الكلام ، فإنّ اللازم في الجواب على هذا التقدير « لم يكن ينبغي » فإنّه دليل على المضيّ لا قوله : « وليس ينبغي » فإنّه دليل على الحال ، فتدبّر (٢) ، على أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما أقدم المصلّي فيها اعتمادا على الطهارة واتّكالا على الاستصحاب ، والظاهر خلافه ، فإنّ المستفاد من قوله : فنظرت فيه فلم أر شيئا ، هو الإقدام عليها عالما بالعلم العاديّ أو الاطمئنان بعدم النجاسة ، فيكون من الأمر العقلي الظاهري لا الشرعي ، وهو ظاهر ، كذا أفاده الأستاد (٣) سلّمه الله تعالى (٤).

قلت : ثمّ لا يخفى دلالة الرواية في بعض فقراتها على عدم لزوم الفحص في الموضوعات عند العمل بالأصل ، وعلى لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة ، وهي قوله : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى (٥) أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك » ومن الغريب استنباط البعض من هذه الفقرة اعتبار الظنّ في الموضوعات متخيّلا أنّ معنى قوله : « ترى » تظنّ ، وقد أطنب في تقريبه مع ذهابه إلى جواز الارتكاب في الشبهة المحصورة ، وهو أغرب كما لا يخفى.

ومنها : صحيحة زرارة رواها في الكافى عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن حمّاد بن عيسى عن حريز عن زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام [ قال : ] قلت [ له ] : من لم يدر في أربع هو أم في اثنين وقد أحرز الثنتين؟ قال عليه‌السلام : « يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه ، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف (٦) إليها أخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشكّ ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ،

__________________

(١) « ج ، م » : فيكون.

(٢) « ك » : فتدبّر جيّدا.

(٣) « ج ، م » : ـ الأستاد.

(٤) « ز ، ك » : ـ سلّمه الله تعالى.

(٥) المثبت من « ك » وسقط من سائر النسخ.

(٦) « ز ، ك » : وأضاف.

٩٨

ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين فيبنى عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات » (١).

والكلام في هذه الرواية يقع (٢) تارة : في السند ، وأخرى : في الدلالة.

أمّا الأوّل : فقد عرفت أنّ لشيخنا الكليني فيها طريقين (٣) : أحدهما : ما فيه إبراهيم بن هاشم ، والآخر : ما فيه محمّد بن إسماعيل ، وهو على الأوّل حسن ، لما قرع الأسماع من حال إبراهيم ، وعلى الثاني فالظاهر أنّه صحيح أيضا ، فإنّ محمّد بن إسماعيل هو البندقي النيشابوري كما ذكر في مقدّمات المنتقى (٤) وهو ظاهر الوثاقة ، وأمّا ابن بزيع وإن كان في طبقة الفضل إلاّ أنّه يبعد رواية الكليني عنه ، فإنّ المذكور في ترجمته أنّه من رجال أبي الحسن موسى وأدرك أبا جعفر الثاني ، وظاهر الإدراك موته قبله عليه‌السلام والكليني مات بعد تكميل المائة الثالثة وانقضاء تسع وعشرين بعده. قال الأستاد دام مجده (٥) : ويمكن رفع الاستبعاد بأنّ الكليني كان في الغيبة الصغرى وتاريخها نور (٦) ، والرضا عليه‌السلام كان في المائتين ، والفرق بينهما ستّة وخمسون ، ولا يبعد (٧) بقاء (٨) [ محمّد بن ] إسماعيل في تلك المدّة ، فلعلّه كان في أواخر عمر المرويّ عنه (٩) وأوائل عمر الراوي ، فتدبّر.

وأمّا الثاني : فدلالتها مبنيّة على إرادة الجنس من اللام في اليقين مع احتمال العهدية على وجه لا مانع من عدم الأخذ بأصالة الحقيقة ، مضافا إلى اشتمال الرواية على ما يخالف الإجماع من البناء على الأقلّ على ما هو ظاهر ، فلا بدّ إمّا (١٠) من (١١) طرحها أو

__________________

(١) الكافى ٣ : ٣٥١ ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح ٣ ؛ وسائل الشيعة ٨ : ٢١٦ ـ ٢١٧ ، باب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣.

(٢) « ج ، م » : فيقع.

(٣) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : طريقان.

(٤) المنتقى ١ : ٤٥ ، في الفائدة الثانية عشرة.

(٥) « ز ، ك » : ـ دام مجده.

(٦) « ج » : ـ وتاريخها نور.

(٧) « ز ، ك » : فالأبعد.

(٨) « م » : لقاء.

(٩) « ز ، ج ، ك » ـ عنه.

(١٠) « ز ، ك » : ـ إمّا.

(١١) « م » : ـ من.

٩٩

تأويلها أو حملها على التقيّة ، سيّما بعد ملاحظة موافقتها لمذهب العامّة.

وأمّا ما يقال : من أنّ حمل بعض فقرات الرواية على التقيّة أو طرحها أو تأويلها لا ينافي الاستناد إلى الفقرات الأخر ، فمدفوع : بأنّ العامّ إذا كان في محلّ السؤال واردا على وجه التقيّة كما فيما نحن فيه ، فلا وجه للأخذ بعمومه في غير محلّ السؤال ، فإنّ عدم جواز نقض اليقين بالشكّ في مورد السؤال وارد على وجه التقيّة كما هو المفروض ، ولا دليل على أصالة عدم التقيّة في العمل بالعامّ كما إذا خصّ العامّ بمورده ، فإنّه لا يعمل بأصالة الحقيقة في غيره.

ثمّ إنّ بعض المحقّقين كالعلاّمة (١) ومن يحذو حذوه في حفظ مراتب الشريعة قد تصدّى لتوجيه الرواية على وجه لا ينافي مذهب الفرقة المحقّة بأنّ المراد من قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » هي قاعدة الاشتغال الآمرة بالإتيان بركعتي الاحتياط ، وليس المذكور في الرواية إلاّ لزوم الإتيان بركعتين ، وأمّا البناء على الأقلّ فلا يستفاد منها أبدا ، فإنّ الاحتياط يقضي بذلك ؛ لأنّ الواقع لو كان على أربع فيحسب له نافلة ، وإلاّ فيجزي (٢) عن فرضه ، سيّما بعد ملاحظة مذهب العامّة من لزوم الاتّصال ؛ إذ على تقدير التمامية يلزم زيادة الركعتين المبطلة سهوا وعمدا ، بخلاف مذهب الإمامية فإنّ زيادة السلام لا تضرّ (٣) كما في صورة السهو ، فقاعدة الاشتغال والاحتياط تقضي (٤) بذلك ، فعلى (٥) هذا فسقوط الاستدلال بالرواية واضح ؛ إذ لا دخل (٦) للاستصحاب في ذلك ولا يجوز إرادة القاعدتين معا ، لاستلزامها التناقض في المورد ، فإنّ قضيّة الاستصحاب هو البناء على الأقلّ ، وقضيّة الاحتياط على ما سمعت في قبال مذهب العامّة هو البناء على الأكثر لئلاّ يلزم زيادة الركعتين على تقدير التمامية المستلزمة (٧) لبطلان العمل

__________________

(١) انظر منتهى المطلب ١ : ٤١٦ ط الحجري.

(٢) « ك » : فيخرج.

(٣) « م ، ج » : لا يضرّ.

(٤) « ز ، ك » : يقضي ، وفي « ج » تقتضي.

(٥) « ز ، ك » : وعلى.

(٦) « ز ، ك » : مدخل.

(٧) « ز ، ك » : المستلزم.

١٠٠