مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

ولعلّهما متّحدان ، والمسامحة من الناقل (١).

التاسع : عكس ذلك ، ولم يعلم قائله على ما قيل (٢).

العاشر : التفصيل بين الحكم الشرعي فيعتبر ، وبين الأمور الخارجية فلا يعتبر ، يظهر من المحقّق الخوانساري في الحاشية (٣) على ما ستعرف الكلام فيها ، ونسب إلى السبزواري أيضا (٤).

الحادى عشر : عكس ذلك.

الثاني عشر : التفصيل بين ما ثبت الحكم فيه (٥) بالإجماع فلا يعتبر ، وبين غيره فيعتبر ، نسب إلى الغزالي (٦) وكتابه في الأصول ـ على ما حكاه البعض ـ ممّا لا عين فيه منه (٧) ولا أثر ، ولعلّه إنّما أخذوه من كتابه في الفقه ، وستعرف أنّ المنقول منه ممّا لا يدلّ على التفصيل المذكور.

الثالث عشر : ما اختاره بعض الأجلّة (٨) وهو التفصيل بين ما إذا كان قضيّة الشيء المعلوم ثبوته بقاءه في الوقت المشكوك بقاؤه فيه لو لا عروض المانع أو منع العارض فيعتبر ، وبين غيره فلا يعتبر.

الرابع عشر : ما جنح (٩) إليه جملة من متأخّري المتأخّرين وهو اعتباره مطلقا من

__________________

(١) الفصول : ٣٦٧ ( ثامنها ).

(٢) حكاه أيضا في الفصول : ٣٦٧ في تاسع الأقوال.

(٣) سيأتي كلامه بتمامه نقلا من شارح الوافية في ص ١٣٦ ـ ١٣٨ ، ونقل عنه أيضا المحقّق القمي في القوانين ٢ : ٦٦ وفي ط : ص ٢٧٣ وأورده أيضا في الفصول : ٣٦٧.

(٤) سيأتي في ص ١٧٨.

(٥) « ج ، م » : ـ فيه.

(٦) نسب إليه المحقّق القمي في القوانين ٢ : ٥٥ ، والكلباسي في اشارات الأصول ، قسم الأدلّة الشرعية ( مخطوط ) ٩٤ / أ ، قال الغزالي في المستصفى من علم الأصول ١ : ٢٢٤ : لا حجّة في استصحاب الإجماع في محلّ الخلاف خلافا لبعض الفقهاء ، ومثاله المتيمّم ...

(٧) « ز ، ك » : منه فيه.

(٨) الفصول : ٣٦٧.

(٩) « ج ، م » : احتجّ.

٦١

باب الأخبار.

ثمّ اعلم أنّ التفصيل الحادي عشر قد نسبه (١) المحقّق (٢) صاحب (٣) القوانين (٤) إلى الأخباريين (٥) وجعله عكسا لما صار إليه السبزواري ، ولعلّه ليس على ما ينبغي ؛ حيث إنّ الأحكام تارة يطلق ويراد بها نفس الأحكام الكلّية الإلهية ، وتقابلها (٦) الموضوعات بإطلاقاتها من الأحكام الجزئية ، والموضوعات المستنبطة ، والأمور الخارجية من حياة زيد ورطوبة لباسه ويبوسة (٧) يده ونحوها (٨) ، والأخباري ـ على ما هو صريح صرّهم وأمينهم (٩) ـ يعتمدون على الاستصحاب فيما عدا الأحكام الكلّية الإلهية من الأمور الخارجية كالليل والنهار والنجاسة والطهارة والملكية والزوجية ونحوها. وقد يطلق ويراد بها ما يعمّ الأحكام الجزئية ، والمعهود من مذهب السبزواري (١٠) وطريقه (١١) تعويله على الاستصحاب في الأحكام الجزئية أيضا كما في الموضوعات المستنبطة أيضا كذلك ، وإنّما يظهر منه فيما نسب إليه عدم اعتداده بالاستصحاب في الأمور الخارجية الصرفة التي لا يكاد يمازجها شوب الحكمية كحياة زيد ورطوبة لباسه ونحوهما ، فيشتركان في اعتبار الاستصحاب في بعض أقسام الموضوعات ، وإنّما افترقا في اعتباره في الأحكام الشرعية لدى السبزواري دون الأخباري ، واعتباره في الموضوعات الصرفة لدى الأخباري دون السبزواري ، فالقولان ليسا بمتعاكسين.

__________________

(١) « ز ، ك » : قد نسب.

(٢) « ك » : المحقّق القمي.

(٣) « م ، ج » : ـ صاحب.

(٤) القوانين ٢ : ٦٦ ـ ٦٧ نقل ذلك من الشيخ الحرّ في كتاب الفصول المهمّة وسيأتي الكلام فيه أيضا في ص ١٨٣.

(٥) « ز ، ك » : الأخبارية ، وفي « م » : الأخباري.

(٦) « ج ، م » : يقابلها.

(٧) « ز ، ك » : دموية.

(٨) « ج ، م » : نحوه.

(٩) انظر الفوائد المدنية : ٢٨٨ و ٢٩٥ ، وفي ط الحجري : ١٤٣ و ١٤٨.

(١٠) انظر الذخيرة : ١١٥ ـ ١١٦.

(١١) « ج » : طريقته.

٦٢

فالتحقيق في التفصيلين : أنّ الأخباري يفصّل بين الأحكام الكلّية الشرعية فلا يعتبر فيها الاستصحاب ، وبين غيرها فيعتبر ، والسبزواري يفصّل بين الموضوعات الصرفة فلا يعتبر ، وبين غيرها فيعتبر ، ولعلّ الذي أوقعه في توهّم التعاكس بين القولين هو ما نقله عن المحقّق الخوانساري حيث قال ـ فيما نقل عنه ـ : وهو ينقسم إلى قسمين باعتبار انقسام الحكم المأخوذ فيه إلى الشرعي وغيره ، ومثّل للأوّل بنجاسة الثوب وللثاني برطوبته ، إلى أن قال : وذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ، وبعضهم إلى حجّية القسم الأوّل فقط (١) ، انتهى.

فحسب أنّ التفصيل المذكور في ذيل كلامه ـ وهو اعتباره في الأحكام دون الموضوعات كما يظهر من التمثيل ـ مقابل للأخباري (٢) ، فجعله عكسا لقولهم ، وكيف كان فالفرق بين هذه الأقوال ممّا لا يكاد يخفى ، وستعرف وجوه الفرق في بعض ما لعلّه يحتاج إلى البيان في الهدايات الآتية فانتظرها (٣).

__________________

(١) مشارق الشموس : ٧٦ ، وعنه في القوانين ٢ : ٥٥.

(٢) « ز ، ك » : الأخباري.

(٣) انظر ص ١٧٨.

٦٣
٦٤

هداية

في ذكر حجج المطلقين في الحجّية من حيث الظنّ

وهي كثيرة :

الأوّل : ما احتجّ به في المعارج من أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت ؛ إذ الكلام على تقدير ثبوته ، والعارض لا يصلح رافعا ، لأنّ مرجعه إلى احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم وهو معارض باحتمال عدمه ، فيتدافعان ويبقى الحكم سليما عن المعارض (١).

واعترض عليه بعض الأجلّة بأنّه إن أريد بثبوت المقتضي مع احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم تحقّقه (٢) بصفة الاقتضاء (٣) ، فغير سديد ؛ لأنّ زوال الحكم يستلزم زوال الاقتضاء ، فلا يجامع احتمال زوال الحكم تحقّق (٤) الاقتضاء ، ضرورة أنّ الأمر النسبي لا يتمّ بدون المنتسبين ، فلا يمكن العلم بثبوته مع عدم العلم بثبوتهما.

وإن أريد تحقّقه بذاته فغير مفيد ؛ لأنّ ذات المقتضي لا يستلزم ثبوت الحكم ما لم يثبت عدم المانع والتقدير كونه احتماليا ، مع أنّ قوله : وهو معارض باحتمال عدمه ، غير مستقيم ؛ لأنّه إن اعتبر التعارض بين الاحتمالين من حيث الوجود ، فلا منافاة بينهما بهذا الاعتبار أصلا ، ضرورة (٥) اجتماعها (٦) فيه ، والتعارض فرع التنافي ، وكذا إن اعتبر

__________________

(١) المعارج : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٢) في المصدر : + معه.

(٣) « ج » : يوجب له بصفة الاقتضاء.

(٤) في المصدر : لتحقّق.

(٥) في المصدر : + صحّة.

(٦) في المصدر : اجتماعهما.

٦٥

بينهما من حيث الاقتضاء الثابت لكلّ منهما مع قطع النظر عن الآخر كما هو المتداول في موارد إطلاقه ؛ إذ لا نسلّم أنّ مقتضى أحد الاحتمالين يغاير مقتضى الآخر فضلا عن أن ينافيه ، بل يشتركان في اقتضاء عدم ثبوت الحكم معهما ، وإن اعتبر بين متعلّقيهما فلا ريب في أنّهما لا يتحقّقان فكيف يتصوّر بينهما التعارض الذي هو مشروط بتحقّق المتعارضين (١).

أقول : وفيه ما لا يخفى من اشتباه المقتضي بالعلّة التامّة والخلط بينهما ، فإنّ زوال الحكم يستلزم زوال العلّة التامّة للحكم ، ولا يستلزم زوال المقتضي بصفة الاقتضاء ، فإنّ التحقيق أنّ المانع إنّما هو علّة تامّة لعدم المعلول ونقيضه ، وليس له مدخل في الوجود إلاّ من حيث ارتفاع علّة النقيض ، فالمؤثّر في الوجود هو المقتضي وهو باق بصفة الاقتضاء حال العلم بتحقّق المانع فكيف باحتماله ، ولهذا نرى أنّ فقدان المانع لا يصير (٢) سببا لإيجاد شيء في المقتضي لم يكن قبل وذلك ظاهر.

وأمّا حديث النسبة فواه جدا ؛ إذ لا نعني بصفة الاقتضاء وثبوتها فعلا إلاّ مجرّد قضيّة تعليقية فعلية كما لا يخفى.

وأمّا ما أورده أخيرا من الترديدات فنختار الأوسط منها ، قوله : لا نسلّم أنّ (٣) مقتضى أحد الاحتمالين يغاير مقتضى الآخر ، منع فاسد ؛ لظهور أنّ المتداول في موارد إطلاقه إنّما هو الأخذ بمقتضاه باعتبار ما أضيف إليه لفظ الاحتمال لا نفسه.

وأمّا ما أورده (٤) من اشتراكهما في اقتضاء عدم ثبوت الحكم معهما ، ففساده ممّا لا يدانيه ريب ؛ إذ غاية ما في الباب أنّ (٥) عدم العلم بالحكم يلازم الاحتمال لا (٦) أنّ عدم

__________________

(١) الفصول : ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

(٢) « ز ، ك » : ممّا لا يصير.

(٣) « ز ، ك » : ـ أنّ.

(٤) « ز ، ك » : أفاده.

(٥) المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : ـ أنّ.

(٦) « ز ، ك » : إلاّ.

٦٦

ثبوته يلازمه ، ومع ذلك فلا يقال في مثله : إنّ مقتضاه عدم ثبوت الحكم ، فتدبّر.

فالتحقيق في الجواب هو أن يقال : إنّ بعد الغضّ عن عدم دلالتهما (١) على الظنّ ـ كما هو مرام (٢) المستدلّ ؛ لظهور أنّ مجرّد وجود المقتضي لا يوجب الظنّ بوجود المقتضى وإن كان المانع مشكوكا محتملا ، لدوران العلم بوجود المعلول أو الظنّ به مدار العلم بتمام أجزاء علّته التامّة من المقتضي ورفع المانع أو الظنّ به ، وحيث إنّ المقدّر كون بعض أجزائه محتملا فالمعلول احتمالي ؛ ضرورة تبعية النتيجة أخسّ مقدّماتها ، فما (٣) لم يحصل الظنّ بعدم المانع لا يحصل الظنّ بوجود المعلول في الخارج ـ أوّلا بأنّه (٤) أخصّ من المدّعى ؛ لاختصاصه بما إذا كان الشكّ في وجود المزيل من أقسام الشكّ من حيث المانع ، وقد عرفت أعمّية النزاع بالنسبة إلى أقسامه وإلى أصناف الشكّ من حيث المقتضي آنفا (٥).

وثانيا بأنّه إن أراد بالمقتضي العلّة التامّة للحكم الشرعي الواقعي أو الحكم الشخصي ببقائه ، فيرد عليه : أنّ جريان الاستصحاب على تقديره غير معقول ؛ ضرورة أنّ العلم بوجود العلّة التامّة يستحيل اجتماعه مع الشكّ في وجود الرافع ، لتركّبها (٦) منه أيضا.

وإن أراد ما هو الظاهر من لفظ المقتضي من العلّة الناقضة للحكم النفس الأمري أو الحكم الشخصي ببقائه على أن يكون المراد به الدليل على ما يرشد إليه فرض الشكّ في وجود المانع وعدمه كما هو صريح ذيل الاحتجاج ، ففيه : أنّه لا يمكن إثبات المعلول بمجرّد وجود المقتضي ما لم يحرز عدم المانع.

فالحكم بسلامة المقتضي بعد تعارض الاحتمالين مع عدم ترجيح جانب العدم على

__________________

(١) « ز ، ك » : دلالتها.

(٢) « ج » : مراد.

(٣) « ج » : فيما.

(٤) خبر لقوله : « إنّ بعد الغضّ ... ».

(٥) عرفت في ص ٣١ ـ ٣٣.

(٦) « ج » : لتركّبهما.

٦٧

الوجود ليس بسليم ، وإحراز عدم المانع بالأصل يوجب الدور المحال على تقدير كونه استصحابا ، وينافيه ظاهر الاحتجاج ؛ حيث إنّ المستفاد منه أنّه برهان تامّ من غير أن يكون لشيء (١) فيه مدخلية على تقدير كونه غير الاستصحاب من سائر الأصول ، والإنصاف أنّ هذا الكلام من المحقّق مبنيّ على ما ستعرف (٢) من أنّ بناء العقلاء مستقرّ على عدم الأخذ باحتمال المانع بعد إحراز المقتضي ، بل بمجرّده يحكمون بوجود المقتضى وإن كان فيه من الخفاء (٣) ما لا يكاد يخفى ، وقد مرّ (٤) استظهارنا التعبّد العقلائي من هذه الجهة (٥) وما يتلوها ، فتدبّر.

الثاني : ما ذكره شيخنا البهائي رحمه‌الله (٦) ـ وقد سبقه في الاحتجاج به (٧) جماعة من الجمهور ـ من أنّه لو لم يكن حجّة لم تتقرّر المعجزة ، وبطلان التالي غنيّ عن التنبيه ، وأمّا الملازمة فلما ذكره الفخري في المحصول (٨) من أنّ المعجزة فعل خارق العادة وهي اعتقاد وقوع الفعل على ما عهد وقوعه قبل ذلك وهو الاستصحاب ، وتوضيحه أنّ الأشياء الخارجية (٩) الواقعة في ظرف الخارج لا بدّ وأن تكون (١٠) باقية على ما هي عليها حتّى يثبت النبوّة بالمعجزة ، وإلاّ فيحتمل أن يكون تسبيح الحصى أو انشقاق القمر أو إحياء الأموات مستندا إلى غير خارق العادة ، فينسدّ باب إثبات النبوّة ، وبقاؤها على ما هي عليها ليس إلاّ الاستصحاب.

وفيه : أنّه على تقدير الاستصحاب لا يثبت النبوّة أيضا ؛ إذ غاية ما يستفاد منه الظنّ وهو لا يغني من الحقّ شيئا ، فلا بدّ من تحصيل العلم باستناد الأفعال الواقعة من مدّعي النبوّة إلى معجزته لا إلى الاتّفاق.

__________________

(١) المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : شيء.

(٢) ستعرف في ص ٢٣١ وأشار إليه أيضا في ص ٨٥.

(٣) « م » : الخفايا.

(٤) مرّ في ص ٥٦.

(٥) « ج » : الحجّة.

(٦) « ز ، ك » : ـ رحمه‌الله.

(٧) « م » : ـ به. زبدة الأصول : ١٠٦.

(٨) المحصول ٦ : ١٢٠.

(٩) « ك » : الخارجة.

(١٠) في النسخ : يكون.

٦٨

الثالث : أنّ الاستصحاب يفيد الظنّ ، والظنّ الحاصل منه حجّة ، فالاستصحاب حجّة ، أمّا الصغرى فلوجهين :

أحدهما : الوجدان ، فإنّ الفطرة السليمة والسجيّة المستقيمة حاكمة بالفرق بين الشكّ في الوجود المسبوق بمثله والعدم المسبوق بعدم آخر ، وبين الشكّ فيهما المسبوق كلّ منهما بنقيض الآخر كما في الشكوك الابتدائية ، فكما أنّ وقوف مركب القاضي لدى باب (١) الحمّام أمارة ظنّية على كونه فيه (٢) ولا ارتباط بينهما ، وإلاّ كان دليلا ، فكذا في المقام ، فإنّ الوجود (٣) السابق أمارة ظنّية على بقاء الموجود في زمن الشكّ كما لا يخفى على من راجع وجدانه وأنصف من نفسه.

وثانيهما : جري السيرة القطعية العقلائية على العمل على طبق الحالة السابقة وترتيب أحكامها حال الشكّ فيها ، كما يشاهد ذلك بالرجوع إلى ديدنهم في إرسال المراسيل من المكاتيب والجوائز والودائع والأمتعة والأقمشة ، فإنّهم لا يزالون يتعاملون على هذه الطريقة ويتعاطونها من غير ملاحظة دقيقة احتمال الارتفاع مع كثرة أسبابه ولو احتمالا ولا أقلّ من احتمال سدّ الطريق وعدم بقاء المرسول (٤) إليه ، بل وعدم بقاء الرسول ، إلى غير ذلك ممّا لا يكاد يحصيها نطاق البيان ، فهذه الأعمال منهم لا يخلو إمّا أن يكون لا لمرجّح مخصّص لأحد طرفي الوجود والعدم في تلك الأعمال ، أو يكون لمرجّح ؛ لا سبيل إلى الأوّل ، لامتناع صدورها عن العامل بعد فرض الاختيار ، فتعيّن الثاني ، وهو إمّا أن يكون مرجّحا واقعيا أو مرجّحا ظاهريا ؛ لا سبيل إلى الثاني ، لانحصار المرجّح الظاهري في أمثال المقام في الاحتياط بمعنى العمل على وجه لعلّه يوصله إلى المطلوب ، ولا شكّ في (٥) أنّ موارد (٦) الأخذ بالحالة السابقة غير

__________________

(١) « ج ، م » : ـ باب.

(٢) « ز ، ك » : في الحمّام.

(٣) « ز ، ك » : الوجوب.

(٤) « ز ، ك » : المرسل.

(٥) « ز ، ك » : ـ في.

(٦) « ز ، ك » : مورد.

٦٩

منطبقة غالبا على الاحتياط ، فإنّ النسبة بينهما هي العموم من وجه بحسب المورد ، ويرشدك إلى ذلك ملاحظة حالهم في إرسال المراسيل ، فإنّ المطلوب فيه أمران : سلامة الأمتعة ، ووصولها إلى المرسول إليه ، ولا يعلم حصول الثاني بالإرسال ؛ لاحتمال التلف ، فليس هذا من موارد الاحتياط ، فتعيّن أن يكون المرجّح مرجّحا واقعيا وليس في المقام ما يحتمل كونه مرجّحا إلاّ الظنّ ، فلو لم يفد الاستصحاب الظنّ للزم (١) خلوّ الأفعال والأعمال في تلك الموارد عمّا يقتضي رجحان أحد طرفي الوجود والعدم ، وهو فطري الاستحالة ، وليس لأحد أن يقول باختصاص ما ذكرنا بالأمور المتعلّقة بالمعاش دون الأحكام المرتبطة بالمعاد من الأحكام الشرعية ؛ لظهور استقرار بناء أهل الشرع من أصحاب النبيّ وأتباع الأئمّة عليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام (٢) على العمل على طبق الحالة السابقة في الأحكام المأخوذة عنهم من غير اختلال في ذلك باحتمال النسخ ، سيّما النائين عنهم ، ويرشدك إلى ذلك ملاحظة حال المقلّدة (٣) في أخذ فتاوى المفتين ، فإنّهم لا يبالون في العمل بها باحتمال الرجوع عنها (٤) ونحو ذلك من احتمال الفسق أو الموت أو الجنون.

وأمّا الكبرى فلوجهين أيضا :

الأوّل : بناء العقلاء على الاعتماد على مثل هذا الظنّ كما سمعت في الأمثلة المذكورة ، سواء في ذلك الأمور العرفية أو الشرعية.

فإن قلت : نعم ولكن ما الدليل على اعتبار بنائهم في أمثال المقام.

قلت : الدليل على اعتباره تقرير المعصوم لفعلهم ، ورضاؤه بعملهم على طبق الحالة السابقة واتّكالهم في الأحكام المأخوذة عنهم إلى مثل ذلك ، وعدم ردعهم إيّاهم بالأمر بالسؤال عنهم مرّة بعد مرّة ؛ ضرورة عدم كون تلك الأحكام مقرونة بما يستفاد

__________________

(١) « ج » : لزم.

(٢) « ك » : التحيّة.

(٣) « ج » : المقلّدين.

(٤) « ج » : عنهما.

٧٠

دوامها منه ، واحتمال عدم اطّلاعهم على هذا الأمر الشائع بينهم (١) مع كونه بمكان من محلّ ابتلائهم ، بمكان من البعد جدّا ، بل ومستحيل عادة وإن لم نقل بإحاطة علمهم فعلا ، كاحتمال أن يكون ذلك منهم عليهم‌السلام تقيّة ، وإلاّ لبطلت الأحكام عن آخرها ، وأوضح فسادا من الكلّ وقوع الردع وعدم الوصول إلينا ؛ لوضوح توفّر الدواعي على نقل مثل هذه الأمور ، لابتلاء العامّة بذلك ، فحيث لم نظفر (٢) عليه فنعلم بأنّهم عليهم‌السلام قد وكلهم إلى ما هو المركوز في أذهانهم والمجبول عليه طباعهم كما في غيره من وجوه اختلاف طرق الإطاعة والعصيان ، ومنه استكشاف المطالب من العبائر واستعلام المقاصد من الدفاتر إلى غير ذلك من النظائر الموكولة إلى عقولهم.

فإن قلت : قد تواترت الأخبار في النهي عن العمل بمطلق ما وراء العلم ، ومنه الظنّ الحاصل من ملاحظة الحالة السابقة ، مضافا إلى الآيات القرآنية والضرورة الدينية كما مرّ في محلّه (٣) ، ولا فرق في الرادع بين العموم والخصوص ، فالردع حاصل والخصم غافل.

قلت : بعد تسليم كفاية العموم في الردع كما هو قضيّة الإنصاف على ما يقضي به الوجدان الخالي عن الاعتساف ، أنّ الأدلّة المذكورة لا تنهض ردعا في المقام ؛ لما قد تحقّق في مباحث الظنّ (٤) أنّ المرجع فيها إلى أمرين ، أحدهما : حرمة التشريع ، وثانيهما : طرح الأصول القطعية في مقابل تلك الظنون ، وشيء (٥) منهما (٦) لا يتمشّى في المقام.

أمّا الأوّل : فظاهر ؛ إذ ليس الأخذ بالحالة السابقة من التشريع في شيء ، بل التعويل إنّما هو على ثبوت الحكم في الزمن الأوّل ، وليس هذا من إدخال ما ليس من الدين فيه.

__________________

(١) « ج » : منهم.

(٢) « ج ، م » : لم نعثر.

(٣) مرّ في بحث الظنّ : ج ٣ ، ص ٦٩ ـ ٧١.

(٤) تحقّق في ج ٣ ، ص ٦٩.

(٥) « م » : شيئا. « ج » : إنّ شيئا.

(٦) « م » : ـ منهما.

٧١

وأمّا الثاني : فلأنّ الأصول المعمولة في قبال الاستصحاب أحد الأصول الثلاثة : البراءة والاحتياط والتخيير ، ولا دليل على اعتبارها فيما خالف الاستصحاب أحدها ؛ لوضوح أنّ عمدة المدرك فيها العقل وبناء العقلاء ، والمفروض في المقام أنّ بناءهم على طرح (١) تلك الأصول والاعتماد على الحالة السابقة ، ففيما لو كان الشكّ في التكليف يعوّلون على الحالة السابقة ولا يعتمدون على البراءة كما في استصحاب الوجوب السابق أو الحرمة السابقة ، ويأخذون بها فيما (٢) كان المورد من مجاري الاشتغال كما في استصحاب عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبمثله يقولون (٣) فيما لو كان المورد من موارد التخيير ، فلا تنهض الأدلّة الناهية عن العمل بغير العلم حجّة في المقام ، فلا جدوى فيما رامه (٤) المعترض (٥) من إثبات الردع ، نعم لو كان اعتبار تلك الأصول بواسطة الأدلّة السمعية من غير احتمال رجوعها إلى ما يستفاد من العقل ، فيصير الأخذ بالاستصحاب المخالف لأحدها طرحا لها من غير دليل ، إلاّ أنّ من المحقّق في محلّه رجوعها إلى ما يستفاد من العقل ، فيتّحد مفادهما.

وتحقيق المقام وتوضيحه أنّ المخالف للاستصحاب إمّا أن يكون هو الدليل أو الأصل ، فلا كلام (٦) في ورود الدليل على الاستصحاب وهو خارج عن مفروض المسألة ؛ لوجوب الفحص عن الدليل في موارد الاستصحاب ، وأمّا الأصل فلا مجرى له في موارد الاستصحاب لتعويل العقلاء على الحالة السابقة على تقدير كونها مظنونة ، ولا يمكن النهي عن العمل بالظنّ الاستصحابي حينئذ والأخذ بأحد الأصول الموهومة ؛ لكونه ترجيحا للمرجوح على الراجح ، فلو حصل الظنّ بوجوب شيء (٧) في

__________________

(١) « م » : ترك.

(٢) « ج » : + لو.

(٣) « ز ، ك ، ج » : نقول.

(٤) « ج » : لزمه.

(٥) « ك » : المفرض ( ظ ).

(٦) « ج ، ز ، ك » : لا كلام.

(٧) « ج ، م » : شيء واجب.

٧٢

السابق فكيف يسوغ للشارع النهي عن العمل به والأخذ بالموهوم ، وأمّا ما يرى من النهي عن العمل بالقياس وأضرابه من الظنون الباطلة ، فلعدم استقرار بناء العقلاء على العمل به كما في الاستصحاب ، وليس المدار في كلامنا على مجرّد الظنّ ، بل الظنّ الخاصّ الذي استقرّ بناء العقلاء على العمل به (١).

فإن قلت : بعد وجود مناط البراءة وتحقّق مدركها في موارد الاستصحاب ـ وإن كان مفيدا للظنّ ـ من قبح العقاب بلا بيان ، كما في الاحتياط من حكم العقل بلزوم دفع الضرر ولو كان محتملا ولو (٢) وهما ، لا وجه للقول بطرحها والأخذ بالاستصحاب ؛ إذ الظنّ الاستصحابي لا دليل على كونه بيانا كما أنّه لا دليل على كونه دافعا للضرر ، فاللازم هو الأخذ بأحد الأصول دون الاستصحاب.

قلت : لا نسلّم قبح العقاب فيما إذا كان الظنّ الاستصحابي على الخلاف ، وكذلك المناط في الاحتياط ؛ إذ لا يجب عند العقل دفع الضرر الاحتمالي وإن كان قد يحسن عنده دفعه ، وقس عليهما حال التخيير (٣) ؛ إذ مرجعه حقيقة إلى البراءة. هذا (٤) غاية توجيه كلماتهم مع اختلافها غاية الاختلاف.

الثاني (٥) : أنّ باب العلم في الأحكام العاديّة والشرعية منسدّ لهم غالبا ، والأخذ بالبراءة والاحتياط وطرح الحالة السابقة يورث اختلال نظامهم ، فلا بدّ من الركون إلى الحالة السابقة وهو المطلوب.

وكلّ من الوجهين المذكورين في بيان الكبرى يظهر منهم كما يشعر بذلك عبارة القوانين (٦) فلاحظها ، إلاّ أنّ المقصود من الوجه الأوّل إثبات حجّية الظنّ (٧)

__________________

(١) « ج ، م » : ـ به.

(٢) « ج » : + كان.

(٣) « ج ، م » : وقس حال التخيير عليهما.

(٤) المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : وهذا.

(٥) تقدّم الأوّل منهما في ص ٧٠.

(٦) انظر القوانين ٢ : ٥٧ ـ ٥٨.

(٧) « م » : ظنّ.

٧٣

الاستصحابي ولو لم نقل بمطلق المظنّة ، والمقصود من الثاني اندراجه في دليل الانسداد على ما حرّرنا كلاّ من الوجهين بما لا مزيد عليه.

ومع ذلك فوجوه النظر ممّا لا يكاد يخفى على أحد :

أمّا أوّلا : فبمنع الصغرى ، فإنّه إن أريد أنّ الاستصحاب مفيد للظنّ في جميع موارده ، فيكذّبه (١) الوجدان ، فإنّ من المشاهد بالعيان عدم إفادته الظنّ في جملة منها ، بل ولم نر من ادّعى ذلك أيضا وإن حكم بعضهم بدوران اعتباره مدار الظنّ ، ومع ذلك فقد رموه بالمخالفة كلّ المخالفة.

وإن أريد أنّه لو خلّي وطبعه ومن حيث ملاحظته في نفسه مع قطع النظر عمّا يوهن ذلك من القضايا الخارجية والأمور المكتنفة بالواقعة الاستصحابية ، مفيد للظنّ وإن لم يفده في بعض الأحيان لبعض الموانع ، فلك أن تقول : إنّه في نفسه لا يفيد الظنّ وان كان قد يفيده باعتبار أمر خارج كالغلبة ، بل ولعلّه كذلك أيضا ، فإنّ التدبّر في موارده يقتضى بأنّ منشأ الظنّ في محلّ حصوله إنّما هو الغلبة في منشأ الشكّ وسبب الاشتباه ويدور الظنّ مدار وجود الغلبة ، والذي يرشدك إلى ما ذكر ـ من أنّ مجرّد الحالة السابقة ليس سببا لحصول الظنّ بعد امتناع الظنّ بالمعلول مع الشكّ في العلّة كما يساعد عليه الاعتبار الصحيح ـ أنّ ذلك يستلزم أن يكون حصول الظنّ من الأفعال الاختيارية التي لا واقع لها إلاّ بعد الاختيار مع أنّ الضرورة قضت بكونه كالعلم من الأمور الواقعية التي لها أسباب واقعية ، غاية ما في الباب أنّ المكلّف لو حاول تحصيل واحد منهما من ملاحظة أسبابهما الواقعية يمكن له ذلك. وأمّا اللزوم المذكور فيظهر بملاحظة ما لو (٢) علم بالاشتغال بالصلاة مع جهل القبلة وانحصارها في جهتين ـ مثلا ـ عند المكلّف ، فإن أراد أن يظنّ (٣) بالاستصحاب أنّ القبلة في طرف ، يصلّي أوّلا في غير

__________________

(١) « ج » : فتكذّبه.

(٢) « م » : ـ لو.

(٣) « ز ، ك » : أنّ الظنّ.

٧٤

ذلك الطرف ، فيستصحب الاشتغال ويظنّ ببقاء (١) التكليف ، وهو يلازم الظنّ بكون القبلة في الطرف الباقي ؛ إذ المفروض انحصار الجهة في الباقي ، ومن المعلوم أنّ الظنّ ببقاء التكليف لا يعقل بدون الظنّ بكون القبلة في الجهة الباقية ، وإن أراد أن يظنّ (٢) بكون القبلة في غير ذلك الطرف ، يصلّي أوّلا في ذلك الغير ، فيستصحب التكليف فيظنّ ببقائه ، ويلازمه (٣) الظنّ بكون القبلة في الجهة الباقية على نحو ما عرفت في عكس ذلك في الصورة الأولى ، بل لك أن تقول : ذلك يستلزم حصول الظنّ على طرفي الخلاف (٤) ، فإنّا لو حاولنا إملاء حوض من الماء فبعد وصول الماء إلى حدّ مخصوص من الحوض نشكّ في كونه كرّا ، فباستصحاب عدم الكرّية يحصل الظنّ بعدمها ، ولو كان ذلك الحوض مملوّا من الماء وعلمنا بكونه مقدار الكرّ ، ثمّ انتقص (٥) الماء إلى أن وصل إلى ذلك الحدّ المخصوص المفروض في العكس ، فباستصحاب الكرّية يحصل الظنّ بكونه كرّا مع ظهور امتناع كون المقدار المخصوص مظنون الكرّية وعدمها ، ومن هنا طعن بعض الأخباريين على المجتهدين بأنّه كيف يمكن (٦) حصول الظنّ على طرفي الخلاف ، فالقول بأنّ مجرّد الحالة السابقة من أسباب الظنّ واه جدا.

وأمّا ما استند إليه المستدلّ بانحصار المرجّح الواقعي في الظنّ ، فلا دلالة فيه على كون السبب فيه هو الحالة السابقة ؛ إذ لعلّه يستند إلى الغلبة كما قد تقوّى في بعض الموارد على ما ستعرف.

وأمّا ثانيا : فبمنع الكبرى ، فلأنّ المستدلّ إن أراد تقرير المعصوم في العمل بالظنّ الاستصحابي في أمور معاشهم من غير ارتباط بالأحكام الشرعية كما في أكثر الأمثلة الموردة (٧) عن القائلين به ظنّا ، فما علينا من إبطال ذلك أو إحقاقه فعهدته على مدّعيه.

__________________

(١) « ز ، ك » : بقاء.

(٢) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : « أنّ الظنّ ».

(٣) « ج » : يلازم.

(٤) « م » : ـ الخلاف.

(٥) « ز ، ك » : نقص.

(٦) « ز ، ك ، م » : ـ يمكن.

(٧) « م ، ج » : الموروثة.

٧٥

وإن أراد إثبات التقرير بالعمل به في موضوعات الأحكام ، فقد قام الإجماع على عدم جواز العمل بالظنّ فيها حتّى من القائلين بمطلق الظنّ ـ أعاذنا الله منه ـ والتقرير فيه غير موجود ؛ لوجود الأدلّة الرادعة فيها من قوله : « كلّ شيء مباح حتّى تعلم أنّه حرام » (١) و « إنّ كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٢) ونحوهما ممّا يدلّ على عدم جواز التعويل بغير العلم ، والمفروض أنّ الاستصحاب منه بعد ؛ لعدم دلالة على اعتباره حينئذ ، وإن أراد دعوى استقرار بناء العقلاء في الأحكام الشرعية على الأخذ بالحالة السابقة ، فممنوعة ، فضلا عن تقرير المعصوم عن ذلك.

وأمّا ما استند إليه من استصحاب عدم النسخ في الأحكام المأخوذة عنهم عليهم‌السلام بالنسبة إلى أصحابهم وأتباعهم ، فيرد عليه : أنّا لا نسلّم أنّ (٣) استنادهم في ذلك إلى مجرّد الاستصحاب ، بل العلم العاديّ حاصل لهم بعدم النسخ ، ومنه يظهر الوجه في منع العمل بالفتاوى بالنسبة إلى المقلّدة بواسطة الاستصحاب عند الشكّ في موت المفتي أو حياته (٤) ، كيف والأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ فوق حدّ الإحصاء. و (٥) قول المستدلّ بعدم (٦) الكفاية في الردع ، ممنوع (٧) ؛ للقطع بالكفاية وإن كان يحسن المنع بالخصوص أيضا ، مثلا لو شرب الخمر بمحضر من الإمام فعدم ردعه لو فرض لا يدلّ على جواز شربه بعد ما قرع الأسماع (٨) قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ [ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ ] رِجْسٌ )(٩) نعم يحسن ذلك إجمالا ، فيدور مدار الموارد ، وأمّا ما زعمه من عدم دلالتها على الردع بواسطة رجوعها إلى نفي التشريع ـ والاستصحاب

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤ ، وفيه : « كلّ شيء لك حلال ... ».

(٢) وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، باب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٤ ، وفيه : « كلّ شيء نظيف ... ».

(٣) « ج ، م » : ـ أنّ.

(٤) « م » : جنونه.

(٥) « ج ، و » : ـ و.

(٦) « ج ، م » : لعدم.

(٧) « ج ، م » : + عليه.

(٨) « ك » : الاستماع.

(٩) المائدة : ٩٠.

٧٦

ليس منه ـ فهو باطل ؛ إذ الاستصحاب بعد لم يثبت اعتباره ، والعمل بأمارة حالها كذلك تشريع قطعا ؛ إذ الأخذ بالحالة السابقة ليس موافقا للاحتياط في جميع الموارد ، فلا ينفكّ عن التشريع البتّة.

وأمّا طرح الأصول القطعية من البراءة والاحتياط والتخيير ، فلزومه على تقدير الاستصحاب والأخذ به قطعي ، ولا ينافيه استقرار بناء العقلاء على العمل به بعد عدم دليل على اعتباره ، كما في غير الاستصحاب من الظنون المعمولة عند العقلاء الممنوع عنها شرعا كالظنّ الحاصل من قول البريد والمراسيل ، والقول باعتبار تلك الأصول عقلا لا ينافي ذلك ؛ إذ المفروض قطع العقل باعتبار البراءة عند الشكّ أو ما يرجع إليه من الظنون المشكوكة التي منها الاستصحاب ، وكذا الاحتياط ؛ إذ الحكم به في موارده قطعي على ما تقضي (١) به صراحة العقل ، فتلك الأدلّة الناهية تدلّ على أنّ الظنّ ليس مناطا للإطاعة والمخالفة ولا يكفي في تحصيل الثواب والمنفعة وفي دفع العقاب والمضرّة ، فكيف يمكن القول بعدم كفاية مثل هذه الأدلّة في الردع (٢)؟ فالظنّ (٣) الحاصل من الاستصحاب في نظر الشارع كعدمه كالظنّ الحاصل من القياس.

وأمّا ما رامه المستدلّ من إثبات حجّية الظنّ الاستصحابي بالخصوص ، فمناف لما قرّره من قوله : فكيف يسوغ للشارع النهي عن العمل به والأخذ بالموهوم؟ فإنّ ذلك على فرض صحّته (٤) لا يقضي بخصوص الاستصحاب ، بل مقتضاه اعتبار مطلق الظنّ كما هو ظاهر ، وأفسد من ذلك كلّه منعه عن استقرار بناء العقلاء على العمل بالقياس أو إناطة بعض الأمور المتعلّقة بهم (٥) ممّا لا يمكن إنكاره.

وأمّا ما أورده من الوجه الثاني في مقام إثبات الكبرى من اندارجه تحت مطلق

__________________

(١) « ك » : يقضي ، وفي « ج » : يقتضي.

(٢) « ز ، ك » : النزاع.

(٣) « ج » : والظنّ.

(٤) « ز ، ك » : حجّيته.

(٥) « ز ، ك » : به ، وكذا كتب فوقها في نسخة « م ».

٧٧

الظنّ الثابت اعتباره بدليل الانسداد ، فقد فرغنا عن تحقيقه وتنقيحه صحّة وفسادا بما لا مزيد عليه في مباحث (١) الظنّ ، فليراجع ثمّة.

وأمّا ثالثا : فبعد تسليم المقدّمتين لا ريب في عدم انتهاضه بتمام المدّعى ؛ لاختصاصه بالاستصحاب المفيد للظنّ ، والمدّعى ـ بقرينة الأخذ به والرجوع إليه في موارد لا يفيد الظنّ كالنجاسة والطهارة كما يظهر من ديدنهم ويوضحه تقديمهم الأصل (٢) على الظاهر ـ أعمّ من المفيد له ومن غيره.

فإن قلت : عدم إفادة الاستصحاب الظنّ في جميع الموارد إنّما يضرّ (٣) فيما لو أراد المستدلّ القول بإفادته الظنّ الشخصي وليس كذلك ، بل قد يكون المستدلّ من أرباب الظنون النوعية ، فيتمّ الاستدلال ؛ إذ لا أقلّ من القول بإفادة الاستصحاب في الموارد المتخلّف عنها الظنّ أنّه لو خلّي وطبعه يفيد الظنّ.

قلت : ومع ذلك أيضا ممّا لا يكاد يتمّ ؛ لظهور الفرق بين الاستصحاب وغيره من الأدلّة الظنّية ، فإنّ عدم إفادة الاستصحاب الظنّ في صورة دليل على خلافه ليس بواسطة وجود المانع عن إفادته الظنّ كما هو كذلك في سائر الأدلّة الظنّية بملاحظة امتناع قيام الظنّ على طرفي الخلاف ، بل بواسطة عدم المقتضي ، فإنّ الظاهر على ما يساعد عليه كلماتهم أنّ شرط إفادة الاستصحاب الظنّ هو عدم الظنّ الخارجي على خلافه ، يدلّ على ذلك قول العضدي (٤) في أوّل الاستصحاب : « ولم يظنّ عدمه » وإلاّ لما كان لأخذ القيد المذكور وجه ؛ ضرورة استحالة اجتماع الظنّين على طرفي النقيض ، فأخذ هذا القيد يدلّ على أنّ من جملة أجزاء المقتضي للظنّ الاستصحابي هو عدم الظنّ الخارجي ، فلا ينافي القول بالظنّ النوعي عند قيام الظنّ على خلاف

__________________

(١) « م » : فيما مرّ من. وفي « ج » : فيما مباحث.

(٢) « ز ، ك » : تقديم الأصل.

(٣) « ز ، ك » : يظهر.

(٤) شرح مختصر المنتهى : ٤٥٣ ، وتقدّم نقله عنه في ص ١١.

٧٨

الاستصحاب ، لعدم المقتضي للظنّ إذا ، ولا أقلّ من بقاء المقتضي في الظنون النوعية ، وهذا هو السرّ في تقديم سائر الأدلّة الظنّية على الاستصحاب على تقدير القول به ظنّا مع كونه من الأدلّة الاجتهادية أيضا على ما ستعرف في محلّه إن شاء الله (١).

وأنت بعد ما أحطت خبرا بما تلونا (٢) تقدر على رفع ما عساه أن يقرّر الوجه المذكور بتقريب أنّ بناءهم مستقرّ على الأخذ بالحالة السابقة تعبّدا عقلائيا من غير إناطة لحصول الظنّ ؛ إذ ـ بعد الغضّ عن عدم معقولية كون الشكّ مرجّحا ، لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح ، فلا يعقل دعوى استقرار بناء العقلاء على مثله ـ عدم دليل على اعتبار بنائهم ، على أنّه لم يذهب إليه فيما وجدناه وهم ، فإنّ الظاهر من القدماء اعتباره ظنّا وإن كان قد يوهم ذلك بعض وجوه احتجاجاتهم كما أومأنا إليه فيما تقدّم ، فتذكّر.

ثمّ إنّ السيّد الصدر المحقّق قد أورد في المقام كلاما (٣) وسلك في انتهاض الدليل على مطلبه مسلكا جديدا وطرزا طريفا لا بأس بذكر كلامه حتّى تحرّى في الاعتراض عليه على منواله ، فقال : إنّ العقل إذا لاحظ الممكن ـ الذي (٤) شأنه دوامه بدوام علّته التامّة وزواله بزوالها في زمان يكون من المحتمل عنده أن تحدث علّة الزوال وهي زوال (٥) جزء (٦) من أجزاء العلّة التامّة فيعدم الممكن ، أو لا تحدث فيبقى الممكن لوجود علّة الوجود ـ يرجّح جانب الوجود مع ملاحظة تحقّقه السابق وإن كان هو والعدم متساويين في النظر مع ملاحظة (٧) حدوث علّة العدم (٨) وعدم حدوثها ، فيكون الوجود معلوما متيقّنا أوّلا ، ومشكوكا فيه مع قطع النظر عن اليقين السابق ثانيا ، ومظنونا بعد ملاحظة اليقين السابق ثالثا ، ولا يجوز لعاقل أن يدّعي أنّ نسبة وجود قرية رآها على ساحل بحر كان احتمال خرابها به وبقائها متساويين إلى عدمها عنده ، كنسبة وجود

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ إن شاء الله.

(٢) « ج ، م » : ـ بما تلونا.

(٣) « ز ، ك » : في المقام لطيفا.

(٤) في المصدر : الممكن الموجود الذي من شأنه.

(٥) في المصدر : « عدم » بدل : « زوال ».

(٦) « ج ، م » : جزء زوال.

(٧) في المصدر : + تساوي.

(٨) « ج » : القدم.

٧٩

قرية أخرى إلى عدمها عنده مع تساوي احتمالي بقائها وعدمه ، كيف وهو يسافر بقصد التجارة إلى الأولى دون الثانية ، ومعلوم أنّ هذا الرجحان لا بدّ له من موجب ؛ لأنّ وجود كلّ معلول يدلّ على وجود علّة له إجمالا ، وليست هي اليقين المتقدّم بنفسه ؛ لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، ويشبه (١) أن يكون هي كون الأغلب في أفراد الممكن القارّ أن يستمرّ وجوده بعد التحقّق ، فيكون رجحان وجود هذا الممكن الخاصّ للإلحاق بالأعمّ الأغلب ، قال : هذا إذا لم يكن رجحان الدوام مؤيّدا بعادة (٢) أو أمارة أخرى ، وإلاّ فيقوّى بحسب تلك الأمارة والعادة ، وقس على الوجود حال العدم إذا تيقّنّا (٣) ، مع أنّ استمرار العدم الازلي للممكن الحادث إلى وقت تمام (٤) علّته التامّة يقيني (٥) ، انتهى كلامه رفع مقامه (٦).

وهو رحمه‌الله (٧) وإن دقّق النظر فيما ذكره إلاّ أنّ الحقّ أحقّ بأن يتّبع ، فنقول في الجواب عنه :

أمّا أوّلا : فبالنقض بالموارد التي لا يفيد ظنّا مع وجود الغلبة المذكورة ، بل قد عرفت امتناع حصول الظنّ في بعض المقامات (٨) وإلاّ لزم إمّا حصول الظنّ على وجه اختياري ، وإمّا قيام الظنّ على طرفي النقيض كما مرّ مفصّلا.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، وتحقيقه أنّ هذه الغلبة لا يمكن أن تصير (٩) سببا لحصول الظنّ ، أمّا إجمالا فلأنّ الغلبة والاستقراء لا يعقل أن يكون سببا للظنّ إلاّ بعد انتزاع القدر الجامع بين الأمور المستقرأة فيها وبين المشكوك على وجه يظنّ بكونه مناطا في الحكم الساري في الأفراد ، ووجود مثله ممنوع ، والأعمّ منه كالوجود غير حجّة.

__________________

(١) « ج » : نسبة!

(٢) « ج ، ز » : لعادة.

(٣) في المصدر : إذا كان يقينيا.

(٤) في المصدر : أن تتمّ.

(٥) شرح الوافية ( مخطوط ) ١٢٨ / أ.

(٦) « ز ، ك » : ـ رفع مقامه.

(٧) « ج ، م » : ـ رحمه‌الله.

(٨) « ز ، ك » : المقدّمات.

(٩) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يصير.

٨٠