مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

وبالجملة : فالقياس وجوده وتقارنه لأحد الخبرين ـ لو لم ينقص من عدمه ؛ إذ ربّما يعدّ المخالف للقياس مخالفا لطريقة العامّة ـ لا يوجب شيئا من الأحكام الشرعية حتّى أنّ الاحتياط في مورده أيضا غير مطلوب ، فلا وجه للأخذ بالخبر الموافق (١) بواسطة قاعدة الاشتغال على تقدير تماميتها ، فإنّ العالم بواقعيات الأشياء قد منع من الاتّكال على الوجوه الظنّية ، كما رواه في العيون عن مولانا الرضا عليه‌السلام في رواية ـ بعد الترجيح فيها بموافقة الكتاب والسنة ، ثمّ التخيير ـ : « وما لم تجدوه في شيء من ذلك الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا » (٢).

ويغنينا عن ذلك كلّه ما ورد في ذيل المرفوعة (٣) من قوله : « فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » والتقريب ظاهر ؛ إذ ليس المقصود من الوقوف هو الوقوف عند عدم المرجّح في النفس ؛ إذ يستحيل صدور الفعل بدون المرجّح ، بل المراد به عدم الاعتناء بالمرجّحات التي لم ينصّ عليها بالخصوص أو بوجه من الوجوه التي عرفت سبيل الاستنباط فيها من الأدلّة الدالّة عليها كما تقدّم.

فالإنصاف أنّ التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها موقوف على حصول الاطمئنان بعمل الأصحاب فيه ونحوه ، فعليك بإمعان النظر في هذا المقام مراعيا أحسن الأوصاف مجانبا عن الاعتساف ، والله الموفّق وهو الهادي سواء السبيل.

__________________

(١) « ج ، د » : المخالف.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠ ، باب (٣٠) فيما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار ، ح ٤٥ ؛ وعنه في الوسائل ٢٧ : ١١٥ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢١ ، و ٢٧ : ١٦٥ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٦.

(٣) كذا. والصواب : المقبولة ، وقد تقدّمت بتمامها في ص ٥٧٦ ـ ٥٧٨.

٦٤١
٦٤٢

هداية

[ في بعض آخر من المرجّحات الدلالية ]

قد قدّمنا (١) بعض القول في المرجّحات (٢) بحسب الدلالة ولنشر إلى بعض (٣) آخر ممّا أمسكنا منه ، فنقول : كما أنّ المرجّحات الصدورية تنقسم إلى داخلية كالأعدلية والشهرة في الرواية ، وخارجية كالشهرة في الفتوى والقياس ونحوهما من الأمارات ومثل أن يكون مفاد الرواية حكما وضعيا من غير الأمارات ، كذلك المرجّحات المعمولة في الدلالة أيضا على قسمين : فتارة : يقع الترجيح بأمور مرتبطة بالدلالة ، وتارة بأمور خارجة عنها غير منوطة بها.

وقبل الخوض فيه ينبغي أن يعلم أنّ ملاحظة (٤) الترجيح في الدلالة إنّما هو متأخّر عن ملاحظته في الصدور وجهته ، فلا يفيد التعرّض في الدلالة ، إلاّ بعد فرض المتعارضين معلومي الاعتبار من هاتين الجهتين ، كما في تعارض الكتابين أو المتواترين من الأخبار أو أحدهما بالآخر بعد عدم الأخذ باحتمال التقيّة في المتواترين ، وكما في أخبار الآحاد فيما لا سبيل إلى قدح في السند أو منع في جهة الصدور.

ومن هنا يظهر أنّ أخبار التخيير أيضا ممّا لا مسرح لها في تعارض الدلالة ؛ إذ لا

__________________

(١) قدّم في ص ٥٥٥.

(٢) « ج » : بالمرجّحات.

(٣) « د » : ولنشرع ببعض ، وفي « م » كتب أوّلا « لنشرع » ثمّ شطب على « ع ».

(٤) « ج ، د » : ـ ملاحظة.

٦٤٣

وجه لملاحظة الدلالة إلاّ بعد فرض التكافؤ من سائر الجهات مع احتمال وجود الترجيح من هذه الجهة ، والمنساق من أخبار التخيير ليس إلاّ حال عدم ما يصلح للترجيح مطلقا.

وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنّه لا ريب في اعتبار المرجّحات الداخلية المعمولة في الدلالة ممّا يعتبرها أهل اللسان في كشف المراد من الأمور المكتنفة بالألفاظ ، والأغلب رجوعها إلى الغلبة ، والمعتبرة منها ما كانت بحيث يصحّ التعويل عليها عرفا في التفهيم عند التخاطب ، فلا عبرة بالحادثة بعد الاستعمال ولا بما لا يعلم تعويل المتكلّم عليها ؛ لعدم العلم بتحقّقها حال الاستعمال.

وتوضيح ذلك : أنّه تارة : يعلم بتحقّق الغلبة على وجه يصحّ الاتّكال عليها في مقام التفهيم والتفهّم ، كما في غلبة التخصيص على سائر أنواع المجاز فإنّها غلبة واقعية قابلة لأن يعتمد عليها المتكلّم بكلامين يحتمل أحدهما التخصيص ، والآخر مجازا آخر ، في تقديم التخصيص في أحدهما على المجاز في الآخر (١) ، وتارة : تحصل (٢) الغلبة بعد الاستعمال على وجه يكون الاستعمال المقترنة (٣) بالقرينة موجبة لحدوث الغلبة ، ففي تلك الاستعمالات لا وجه للتعويل على الغلبة ؛ إذ بها تحصل وإنّما تثمر بعد حصولها ، وتارة : لا يعلم تعويل المتكلّم عليها ـ مثلا ـ أنّ الأمر في عرف الأئمّة عليهم‌السلام إنّما غلب (٤) استعماله في الندب كما زعمه صاحب المعالم رحمه‌الله (٥) ، فهذه الغلبة على تقدير صحّتها إنّما يجدي فيما يعلم التعويل عليها ، وأمّا لو فرضنا أنّ أحدا سأل الإمام عليه‌السلام عن شيء فأمره فلا يصلح (٦) لأن يكون هذه الغلبة معوّلا عليها في صرف الأمر عن ظاهره وحمله على المجاز ، فالغلبة المعتبرة هي الغلبة على الوجه الأوّل ، وأمّا الأخيران فلا

__________________

(١) « م » : آخر.

(٢) المثبت من « س » وفي سائر النسخ : يحصل.

(٣) « د » : المقرونة.

(٤) « س » : غلبت.

(٥) المعالم : ٥٣.

(٦) « د » : فلا يصحّ.

٦٤٤

عبرة بهما.

وأمّا المرجّحات الخارجية فكالشهرة والإجماع (١) المنقول ونحوهما ممّا لا مدخل لها في الدلالة ؛ إذ لا يعقل أن يصير اللفظ دالاّ بعد تقارنه بالشهرة ، لكونها أجنبية عن اللفظ.

فإن قلنا باعتبار هذه الأمور الخارجية ، فالترجيح لمضمون الخبر الموافق لها لا لنفس الخبر ؛ لأنّ التعويل على أصالة الحقيقة إنّما يصحّ فيما لم تكن معارضة بمثلها ، ودفع المعارض فرع ما يصلح لأن تكون (٢) قرينة صارفة والمفروض انتفاؤها ؛ إذ الأمر الخارجي ممّا لا يصلح للصرف في عرف أهل اللسان ، فيحكم بالإجمال والتساقط ، والمفروض حجّية المقارن المطابق لأحد المضمونين فيرجع إليه.

وإن قلنا بعدم اعتبارها ، فالحقّ أنّها لا تأثير لها في شيء فلا يكون شيء منها مرجعا ، ولا مرجّحا ، أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلما عرفت من أنّ ترجيح أحد الظاهرين على الآخر فرع وجود ما يصلح لأن يكون مانعا عن الآخر ، والشهرة الحادثة بعد صدور الخبر أو (٣) الإجماع (٤) المنقول كيف يعقل أن يكون سببا لظهور اللفظ؟

اللهمّ إلاّ أن تكون (٥) كاشفة عن القرينة فيدور الأمر مدارها (٦) من حيث الاكتفاء بها ولو كانت مظنون الوجود أو لا ، نعم لو كشفت (٧) على وجه اليقين عن وجود القرينة المعتبرة في صرف اللفظ عند العرف ولو كانت ظنّية في حيال ذاتها صحّ التعويل عليها ، وعلى تقديره فالعبرة بالقرينة لا بالشهرة ، مثلا قوله تعالى : ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ

__________________

(١) المثبت من « س » وفي سائر النسخ : إجماع.

(٢) في النسخ : يكون.

(٣) « د » : و.

(٤) في النسخ : إجماع.

(٥) في النسخ : يكون.

(٦) « س » : مداره.

(٧) قوله : « نعم لو كشفت » ورد في نسخة « س » بعد « وجه اليقين ».

٦٤٥

أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ )(١) ظاهر يشمل الزوجة المتوفّى عنها زوجها وغيرها أيضا ، وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً )(٢) أيضا يشمل القبيلتين فإبقاء الظاهر الأوّل والحكم باختصاص الثاني بغير المتوفّى عنها زوجها ، أو (٣) الحكم باختصاص الأوّل وإبقاء الثاني بحاله من دون ما يصلح لذلك ، ترجيح بلا مرجّح ، فعلى المجتهد الأخذ بالأصول المعمولة عنده في مثل المقام.

نعم ، لو فرض أنّ المتعارضين يمكن رفع اليد عن أحدهما سندا كما في الأخبار الظنّية يمكن القول بترجيح المطابق للشهرة على بعض الوجوه المتقدّمة ، إلاّ أنّ ذلك رجوع عمّا نحن بصدده من انحصار وجه التعارض في الدلالة وقد عرفت صعوبة الخطب في (٤) ذلك المقام ومن هنا أذعن سيّد المدارك (٥) بأنّ مخالفة الأصحاب أشكل من طرح الخبر الصحيح.

وبالجملة ، ففيما لو فرض الكلام في الدلالة فقط لا نرى وجها للأخذ بالشهرة ، ومن هنا ترى أنّ السيّد المذكور ما تبع الشهرة في الحكم بنجاسة رجيع الطير الغير المأكول لحمه فقال (٦) : المتّجه القطع بطهارة الذرق تمسّكا بالأصل السالم من (٧) المعارض ، مع تعارض رواية عبد الله بن سنان : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (٨) ورواية الشيخ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله » (٩) في خصوص المسألة ، فظهر أنّ كلام السيّد وأمثاله إنّما هو فيما أمكن التصرّف السندي في الرواية دون ما كان الكلام متمحّضا في الدلالة على ما هو المفروض.

__________________

(١) الطلاق : ٤.

(٢) البقرة : ٢٣٤.

(٣) « س » : « و » بدل : « أو ».

(٤) « س » : فيما.

(٥) مدارك الأحكام ٤ : ٩٥.

(٦) المدارك ٢ : ٢٦٢.

(٧) « م » : عن.

(٨) تقدّم في ص ٣٩٧ و ٥٤٨.

(٩) تقدّم في ص ٤٥٨ ـ ٥٤٩.

٦٤٦

وكيف كان ، فزعم سيّد الرياض عليه الرحمة (١) إلى جواز الترجيح بمثل هذه الشهرة كما يظهر منه في جملة من موارد الكتاب المذكور ، وفصّل بعض المشايخ المعاصرين في بعض كلماته فقال بأنّ الشهرة تنهض قرينة معيّنة لأحد احتمالي المشترك ولا تصلح (٢) لأن تكون (٣) قرينة صارفة للحقيقة ، ومن هنا حكم بأنّ المراد بالرطل في مسألة تحديد الكرّ هو الرطل العراقي ؛ لأنّ الشهرة تنهض قرينة معيّنة للفظ الرطل المشترك بين العراقي والمدني ، وليت شعري ما أبعد قول المفصّل عن الواقع فكأنّما اعتمد على مخاطرة وقعت في باله ، وإلاّ فليس بالحريّ ضبط أمثاله في الكتاب كما لا يخفى ذلك عند أولي الألباب.

وكلاهما فاسدان : أمّا الأوّل : فلأنّ الشهرة على تقدير عدم الحجّية ليست مختلفة الحال ، فكما لا يجوز الركون إليها في محلّ رواية لا يجوز التمسّك في مورد الروايتين إن أريد التمسّك بها في نفسها ، وإن أريد الترجيح فقد عرفت عدم معقولية الترجيح بحسب الدلالة بالشهرة إلاّ في صورة الكشف عن القرينة ، وعلى تقدير معقولية الترجيح بها فلا بدّ من أن يكون ممّا يعتمد عليها العرف في مقام استكشاف المراد ، اللهمّ إلاّ أن يكون قرينة تعبّدية ، وفساد هذه الأمور من أجلى (٤) الضروريات ، نعم لو كان حجّية أصالة الحقيقة مقيّدة بعدم قيام ظنّ على خلافها أو اعتبرناها من حيث إفادتها الظنّ بالمراد جاز التعويل على الخبر الموافق للشهرة ، ولكنّه غير خفيّ أنّها حينئذ لا تكون (٥) من المرجّحات ؛ إذ بعد فرض إفادتها الظنّ يرتفع موضوع الحجّة في الآخر فهي بأن تكون موهنة (٦) أولى (٧) ، وأمّا على القول بالتعبّد فلا مجال لطرح الظهور

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٢١٧ و ٣٤٤ ـ ٣٤٥ ، وفي ط الحجري ١ : ٦٣ و ٨٣.

(٢) « د » : يصحّ وفي سائر النسخ : يصلح.

(٣) في النسخ : يكون.

(٤) « ج ، د » : أعلى.

(٥) في النسخ : لا يكون.

(٦) « س » : موهونة.

(٧) « س » : أولى من الترجيح.

٦٤٧

إلاّ بدليل معتبر شرعا والمفروض عدم اعتبار الشهرة ، فلا تصلح (١) لذلك.

وأمّا الثاني : فلا ينطبق على شيء من الأقوال والمذاهب ولا يساعده وجه من الوجوه الاعتبارية ؛ إذ لا فرق في نظر العقل والعرف في ذلك ، فالصالح لأحدهما ينبغي أن يكون صالحا للآخر والفرق تحكّم والإنكار تباهت وصرف العمر في تزييفه بطالة ، فإنّه إنّما نشأ منه بواسطة عدم استئناسه بالمطالب الأصولية وإلاّ فهو أجلّ شأنا من هذه الخيالات ، فتدبّر في المقام والله الموفّق وهو الهادي.

__________________

(١) في النسخ : فلا يصلح.

٦٤٨

هداية

[ في حكم المتكافئين : التخيير أو التوقّف؟ ]

قد استوفينا أحكام التراجيح على حسب ما هو في وسعنا وقدّمنا الكلام في التعادل أيضا إلاّ أنّه لا بأس بإعادة الكلام فيه تنبيها على مطالب لم يسبق إليها الإشارة ، قد اختلفت كلمة أصحابنا المتمسّكين بالعروة الوثقى في أنّ الحكم بعد فقد الترجيح في الأخبار هل هو التوقّف ، أو التخيير؟ فالمنسوب إلى الأخباريين من أصحابنا رضوان الله عليهم هو الأوّل ، والمشهور من مذهب المجتهدين منهم شكر الله مساعيهم هو الثاني ومنشأ الخلاف بينهم اختلاف الأخبار ، وربّما يعاضد كلّ منهما بوجوه أخر على ما قدّمنا في بيان الأصل هل هو التساقط أو التخيير.

وكيف كان ، فتدلّ على الأوّل طائفة من الأخبار وهي صنفان : أحدهما : الأخبار العامّة الواردة في مقام حكم المشتبه وقد مرّ بجوابها في مباحث البراءة والاحتياط (١) ، الثاني : الأخبار الخاصّة بما إذا تعارض الخبران الآمرة بالتوقّف والإرجاء والاحتياط وهي كثيرة :

منها : ما في منقول الوسائل عن محمّد بن إدريس نقلا من كتاب مسائل الرجال [ ومكاتباتهم ل ] عليّ بن محمّد [ الهادي عليه‌السلام مسائل ](٢) محمّد بن [ عليّ بن ] عيسى

__________________

(١) تقدّمت أخبارها في ج ٣ ، ص ٣٦٩ ـ ٣٧٠ وجوابها في ص ٣٧٦ ـ ٣٨٤.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ : « بن ».

٦٤٩

[ حدّثنا محمّد بن أحمد بن زياد وموسى بن محمّد بن عليّ بن عيسى ] كتب إليه مسألة عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك : فقد اختلف (١) علينا فيه فكيف العمل به على اختلافه والردّ إليه فيما اختلف فيه؟ فكتب : « ما علمتم أنّه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموه فردّوا (٢) إلينا » (٣).

ومنها : خبر جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : « انظروا إلى (٤) أمرنا وما جاءكم عنّا فما (٥) وجدتموه للقرآن موافقا فخذوه (٦) ، وإن لم تجدوه موافقا فردّوه ، فإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم [ من ذلك ] ما شرح لنا » (٧).

ومنها : موثّقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام [ سألته ] عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمره بأخذه ، والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : « يرجئه حتّى يلقى من يخبره فهو في سعة حتّى يلقاه » (٨).

ومنها : موثّقة ابن بكير المرسلة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : « إذا جاءكم منّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوه (٩) ، وإلاّ فقفوا عنده ، ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم » (١٠).

ومنها : ما ذيل المقبولة بعد ما قال : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا ، قال : « إذا

__________________

(١) في المصادر : قد اختلف.

(٢) في الوسائل والسرائر : وما لم تعلموا فردّوه.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١١٩ ـ ١٢٠ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٦ ؛ السرائر ٣ : ٥٨٤ ؛ وعنه في بحار الأنوار ٢ : ٢٤٥ ، باب ٢٩ ، ح ٥٥ ، وصدره في الوسائل : نقلا من كتاب مسائل الرجال لعليّ بن محمّد عليه‌السلام أنّ محمّد بن عليّ بن عيسى كتب ... وتقدّم في ج ٣ ، ص ١٢٣.

(٤) لم ترد « إلى » في المصادر.

(٥) في المصادر : فإن.

(٦) في المصادر : فخذوا به.

(٧) الوسائل ٢٧ : ١٢٠ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٧. وتقدّم في ج ٣ ، ص ١٢٣.

(٨) الوسائل ٢٧ : ١٠٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٥.

(٩) في المصدر : فخذوا به.

(١٠) الوسائل ٢٧ : ١١٢ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٨. وتقدّم في ج ٣ ، ص ١٢٤.

٦٥٠

كان ذلك فأرجه وقف حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (١).

وتدلّ على الثاني أيضا أخبار كثيرة قد أشير فيما مرّ إلى جملة منها فراجعها (٢).

والإنصاف : أنّ الراجح في النظر هو ما ذهب إليه المجتهدون فإنّ الظاهر من هذه الأخبار الخاصّة اختصاص موردها بما إذا تيسّر تحصيل العلم بالواقع والمفروض في زماننا هذا تعذّره ، فليس المنساق منها بيان حكم المشتبه فيما إذا لم يكن مرجوّ الزوال كما يرشد إليه قوله : « حتّى تلقى إمامك » وقوله : « حتّى نشرح لكم ما شرح لنا ».

وعلى تقدير التنزّل فأخبار التخيير أخصّ من هذه الأخبار ، فلا بدّ من الأخذ بالأخصّ تحكيما له على العامّ ، فإنّ موارد التوقّف بناء على عدم اختصاصها بصورة التمكّن من العلم يعمّ حال التمكّن وعدمه ، وأخبار التخيير تختصّ بما إذا كان المكلّف متحيّرا من جميع الجهات وهي حالة عدم التمكّن.

ولئن سلّمنا تواردهما في مورد واحد فالحقّ أنّ الترجيح لأخبار التخيير من وجوه : الأوّل : كثرتها فإنّها تبلغ نيّفا وعشرا على ما حكي ، الثاني : اعتضادها بذهاب المشهور إليه ، بل في المعالم : لا نعرف في ذلك مخالفا من الأصحاب وعليه أكثر أهل الخلاف (٣) ، الثالث : صحّة أسانيدها كما هو ظاهر بعد الرجوع إليها.

ولعلّ بعد ملاحظة ما ذكر يحصل الاطمئنان بأنّ الحكم في الواقعة هو التخيير دون التوقّف.

فإن قلت : إنّ ملاحظة حالات العقلاء في العمل بما في أيديهم من الطرق المعمولة عليها عندهم يعطي التوقّف ؛ إذ ربّما ينسبون القائل بالتخيير فيما تعارض عنده قول زيد بقول عمرو في واقعة إلى الهجر والهذيان (٤) ، وذلك من أقوى المرجّحات لأخبار

__________________

(١) تقدّم في ص ٥٧٦ ـ ٥٧٨.

(٢) راجع ص ٦٣٣ ـ ٦٣٤.

(٣) المعالم : ٢٥٠. وتقدّم عنه في ص ٥٣٧.

(٤) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : الهليان.

٦٥١

التوقّف.

قلت : وذلك مسلّم ومع ذلك لا يجدي فيما نحن (١) بصدده ؛ للفرق الظاهر بين العقلاء في الأمور المتعلّقة بمعاشهم وبينهم (٢) في الأمور المتعلّقة بمعادهم ، لأنّ (٣) المفروض عدم إمكان الوصول إلى واقع الواقعة عندهم في أمور المعاد ، بخلافه في أمور المعاش لإمكان الوصول إلى الواقع في ذلك ، وقد لوّحنا أنّ اللازم عند إمكان الوصول إلى الواقع هو التوقّف.

وتوضيح ذلك : أنّ بناء العرف في الأمور المستقبلة على الأخذ بالظنّ كما لا يخفى ، وعند عدم الظنّ لا يجترءون بالعمل ، وبعد فرض تعارض الأمارتين مع عدم المرجّح لا حامل لهم على الفعل ؛ لاستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فلا مجال لعدم التوقّف عندهم ولا يجوز قياس حالهم بحالنا من حيث نحن متعبّدون بأحكام الشارع ، وإنّما الملحوظ عندنا رفع ما هو الواجب علينا والملحوظ عندهم التوصّل إلى الواقع ، ولو فرض استواء الحالين نلتزم بالتوقّف.

وتحقيق المقام وتوضيح المرام : أنّ المقامات مختلفة : فتارة : لا بدّ من الحكم بالتخيير كما عليه المشهور (٤) ، وتارة : يحكم بالتوقّف والاحتياط بين الدليلين ، وتارة : يحكم بالتساقط. أمّا مقام التخيير ففيما إذا قلنا بحجّية خبر العادل تعبّدا صرفا من غير أن يلاحظ فيها (٥) كونه طريقا إلى الواقع كما ربّما يظهر من بعضهم ، فإنّ قضيّة القاعدة التي قدّمناها في أوائل الباب هو التخيير بحسب حكم العقل بين الدليلين ، ونزيدك توضيحا ونقول : إنّ التوقّف على ذلك التقدير ممّا لا يقضي به دليل ، بل الدليل على خلافه ، كما في صورة تزاحم الحقّين (٦) والواجبين فإنّ إطلاق الدليل الدالّ على لزوم

__________________

(١) « س » : نحن فيه.

(٢) « ج ، د » : ـ بينهم.

(٣) « م » : فلأنّ. وفي « ج » : أمّا أوّلا فلأنّ.

(٤) بل نفى الخلاف عنه في المعالم كما تقدّم في ص ٥٣٧ والصفحة السابقة.

(٥) « د » : فيه.

(٦) « د » : الحقوق.

٦٥٢

الأخذ بالدليل تعبّدا قاض بذلك مطلقا ولو حال التعارض ، وعند ذلك فيلاحظ نفس الحقّين فإن كان أحدهما أهمّ من الآخر يؤخذ به كما إذا دار الأمر بين حقوق الله وحقوق الناس على تقدير أهمّية أحدهما بالنسبة إلى الآخر كما عليه البعض ، وإن لم يكن أحدهما أهمّ من الآخر فمع وجود المرجّحات الخارجية يجب الأخذ بها ، وبدونه يحكم بالتخيير ، وليس ملاحظة الدليل الدالّ على الوجوب حينئذ وجيها ، بل يدور الأمر مدار تعيين الواجبين من غير حاجة إلى ملاحظة الدليل.

فإن قلت : لا سبيل إلى القول بوجوب العمل بكلّ من الدليلين حال التعارض ؛ لأنّ مفاد الأدلّة الدالّة على ذلك هو الوجوب العيني ، ولا يعقل تعلّق الوجوب العيني بالمكلّف حال التعارض بالنسبة إلى كلّ منهما ، والوجوب التخييري غير مستفاد منها و (١) إلاّ على وجه (٢) استعمال الألفاظ (٣) الواردة في تلك الأدلّة في الوجوب العيني والوجوب التخييري ، وهو محظور عندهم (٤).

قلت : قد قدّمنا (٥) دفع هذه الشبهة بما لا مزيد عليه ونقول أيضا : إنّ جميع الأوامر الصادرة في الشريعة مقيّدة بالإمكان العقلي ، وهذا التقييد يكفي في دفع هذه العويصة من غير حاجة إلى ملاحظة أمر آخر ، وبيانه : أنّ خبر العادل حينئذ بمنزلة قول الوالدين من وجوب العمل بقولهما ، فإذا أمر الوالدة بأمر يناقض ما أمر به الوالد لا ريب في أنّ الوجوب الفعلي الذي هو المناط في تحقّق الإطاعة والعصيان وعليه يدور الثواب والعقاب غير متحقّق بالنسبة إلى الأمرين ؛ لامتناع ذلك على قواعد العدلية ، إلاّ أنّ ذلك لا يقضي (٦) بالتصرّف في الدليل الدالّ على وجوب امتثال (٧) أوامر الوالدين ، كما أنّ عدم العلم بالتكليف لا يوجب التصرّف في دليل التكليف على

__________________

(١) كذا. والظاهر زيادة « و ».

(٢) « ج » : سبيل.

(٣) « س » : الاستعمال للألفاظ. « م » : استعمال للألفاظ.

(٤) « د » : محظور عنهم.

(٥) تقدّم ص ٥٣١.

(٦) « د » : لا يقتضي.

(٧) « س » : الامتثال.

٦٥٣

وجه يوجب (١) تخصيصا وإخراجا لفرد من عموم اللفظ مع أنّ العقاب على ترك الامتثال قبيح عند عدم العلم ، فكان التصرّف في أمر عقلي لا يوجب خروج اللفظ عن ظاهره ، بل اللفظ الدالّ على الوجوب بحاله.

نعم ، لا يمكن الجمع في الامتثال وهذا حكم عقلي يلتزم به على حسب ما هو المقدور وهو العمل بأحدهما ، ومنه جاء التخيير ، وإلاّ فكيف يعقل أن يكون الحكم الشرعي دائرا مدار خيرة المكلّف من دون استواء الأفراد في المصلحة؟

فالمختار من شقّي السؤال هو أنّ الدليل يدلّ على الوجوب العيني بالنسبة إليهما معا وذلك لا يوجب محذورا ؛ إذ الامتثال بغير الممكن ممّا لا يلتزم به العقل ولا يدلّ عليه دليل من الشرع ، فيقتصر في الامتثال بالممكن وهو أحدهما وهو المعنيّ من التخيير ، ويكشف عن ذلك أنّه لو تمكّن من العمل بهما بعد ما كان أحدهما غير ممكن العمل يكفي الخطاب الأوّل عن ذلك ، كما فيما إذا أفاق المكلّف من جهله ؛ إذ لا حاجة إلى خطاب جديد وإنشاء للتكليف ثانيا بعد العلم ، ولا غائلة في صدور مثل هذه الخطابات عن الحكيم بعد فرض اشتمالها على حكم غير (٢) المتمكّن أيضا كما في جميع الواجبات المشروطة ، ولئن سلّمنا أنّ التصرّف حينئذ في أمر لفظي فلا شكّ أنّ اللازم أيضا هو الحكم بالتخيير ؛ لأنّ عنوان الفرد الخارج عن العموم قاض بذلك.

وبيانه : أنّ التخصيص بأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح ، وأحدهما لا بعينه ليس فردا للعامّ حتّى يصحّ الحكم بخروجه ، فلا بدّ أن يكون الخارج هو عنوان الفرد الغير المقدور ، والداخل هو الفرد المقدور (٣) ، ولا ريب في أنّ هذين العنوانين ممّا تتبادل (٤) أفرادهما ، كما إذا كان عنوان الخارج عن العامّ هو العالم ـ مثلا ـ فإنّ تبادل أفراد العالم ظاهر فقد يكون الرجل عالما فيصير عامّيا جاهلا ، ثمّ يصير عالما بعد ذلك ، إلى غيره.

__________________

(١) « د » : لا يوجب.

(٢) « ج ، د ، م » : ـ غير.

(٣) « س » : ـ والداخل هو الفرد المقدور.

(٤) « س » : تتناول.

٦٥٤

ولا ريب أيضا أنّ تبادل أفراد عنوان الخارج تارة : لا يكون باختيار المكلّف كما عرفت من صيرورة العالم جاهلا ؛ إذ لا يناط علمه وجهله إلى اختيار من توجّه إليه التكليف بذلك العامّ الخارج منه العالم ، وتارة : يكون باختيار المكلّف كما إذا قيل : « أكرم العلماء ـ مثلا ـ إلاّ من أجرته دارك » فإنّ تبادل عنوان المستأجر للدار في أفراده إنّما هو باختيار المكلّف ، فأيّ منهم اختار أن يؤجره الدار يكون خارجا عن العموم ، والآخر داخلا يجب الحكم بإكرامه مثلا ، وما نحن فيه من قبيل الثاني فإنّ الخارج هو عنوان المعجوز عنه وذلك العنوان يختلف أفراده باختيار المكلّف ، فكلّ ما اختاره (١) المكلّف في مقام العمل بوجوه مرجّحة منقدحة في نفس العامل يصير الآخر غير مقدور ، وذلك أمر شائع في الأوقاف والوصايا كما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

والحاصل : أنّ قضيّة القواعد في الأدلّة التعبّدية هو القول بالتخيير ، ولا ينافي ذلك عدم توجّه الخطاب الفعلي على المكلّف كما في تزاحم الحقوق وتعارض الواجبين ، ولذلك قلنا بأنّ الحكم هو ملاحظة نفس الحكمين من وجود المرجّحات الداخلية من الأهمّية ونحوها والخارجية وعدمها من غير ملاحظة حال دليلهما ، فتدبّر.

وأمّا مقام التوقّف ففيما إذا قلنا باعتبار الخبر من حيث إنّه طريق معمول به عند العقلاء ، مرآة للواقع ، كاشف عنه ، فإذا تعارض ـ بناء على هذا القول ـ خبران لا بدّ من التوقّف ؛ إذ يستحيل أن يكون طريق الواقع على طرفي الخلاف ، فيقطع بأنّ الواقع في أحدهما ، والآخر ليس ممّا يتوصّل به إلى الواقع ، وحيث إنّه لا مزيد لأحدهما على الآخر فالعقل يقضي بالتوقّف ؛ لاستحالة الترجيح بلا مرجّح ، ومن هنا قلنا بأنّ العمل المعهود من العقلاء هو التوقّف فيما يتعلّق بأنفسهم من أمور المعاش ؛ إذ ليس المعتبر عندهم إلاّ نفس الواقع ، فعند الترديد فيه لا يجوز الخروج عن أطراف الترديد فلا

__________________

(١) « ج » : اختار.

٦٥٥

وجه للرجوع إلى أصل ثالث مخالف لهما ؛ للقطع بارتفاع الأصل المخالف بواسطة العلم الإجمالي بأنّ الواقع في أحدهما فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما حينئذ أو التخيير العقلي بين الاحتمالين.

قلنا : في المقام مطلبان : أحدهما : أنّ بعد القول بحجّية الأخبار من حيث الطريقية لا بدّ من التوقّف وعدم جواز التخيير بينهما ، الثاني : أنّه لا يجوز الرجوع إلى أصل ثالث مخالف لهما ، أمّا الأوّل فلما عرفت من دوران الأمر بين الطريق وما هو ليس بطريق من دون ترجيح لأحدهما على الآخر ، وأمّا الثاني : فلاعتضادهما في نفي الثالث كما يومئ إليه عمل العقلاء فيما هو طريق إلى مطالبهم ، فالأصل فيما هو حجّة من حيث كونه طريقا هو التوقّف ، سواء كان طريقا للأحكام أو الموضوعات ، إلاّ ما خرج بالدليل كالأخبار فإنّها على ما هو التحقيق حجّيتها بالخصوص مع قطع النظر عن دليل الانسداد من حيث الطريقية ، ومع ذلك فنقول فيهما بالتخيير بواسطة إطلاق أخبار التخيير.

فإن قلت : من البعيد جدّا أن يكون أخبار التخيير واردة على خلاف القاعدة المعمولة عند العقلاء وقد مرّ (١) أنّ الحكم بالتخيير إنّما هو فيما إذا قلنا باعتبار أمارة تعبّدا من غير ملاحظة الطريقية ، ولازم ذلك إمّا القول باعتبار الأخبار تعبّدا ، وإمّا القول بعدم التخيير فيما هو حجّة من باب الطريقية.

قلنا : نعم ولكنّ الإنصاف أنّ الأدلّة الدالّة على حجّية الأخبار ظهورها في كونها طرقا واقعية ممّا لا مجال لإنكاره فالعمل عليها لعلّه أقرب ، وأمّا الأخذ بأخبار التخيير في المقام فلا ضير في كونه تعبّديا عند عدم إمكان الوصول إلى الواقع ، كأن يكون التخيير أيضا من الأصول العملية التي حكم به الشارع فيما لا دليل على التعيين مع عدم إمكان إحراز الواقع كما أنّه لا بعد في جعل الشارع الأخذ بالحالة السابقة

__________________

(١) مرّ في ص ٦٥٢.

٦٥٦

علاجا للشاكّ والمتحيّر كما لا يخفى.

وأمّا مقام التساقط ففيما إذا تعارض أصلان من الأصول العملية إذا لم يكن أحدهما مزيلا للآخر كأصالتي البراءة والاستصحابين كما في الشبهة المحصورة واستصحاب طهارة الماء المتمّم ونجاسته المتمّم بعد الإجماع على أنّ الماء الواحد في السطح الواحد لا يختلف (١) حكمه بالطهارة والنجاسة ، والسرّ في ذلك : أنّ الأصل عبارة عن حكم ظاهري جعله الشارع للواقعة المشكوكة في مقام علاج الشكّ ، وذلك يمتنع أن يكون مجعولا في مقام التعارض بالنسبة إلى المتعارضين جميعا ، وبالنسبة إلى (٢) أحدهما أيضا.

أمّا بالنسبة إلى الأوّل : فلأنّ قوله : « لا تنقض » وقوله : « ليس على من لا يعلم شيء » إلى غير ذلك من أدلّة الأصول مرجعها (٣) إلى طلب الشارع ترتيب الآثار الشرعية على المشكوك على حسب اختلاف الموارد ، فترتيب آثار الطهارة على الماء المتمّم وآثار النجاسة على المتمّم يناقض القطع الحاصل من الإجماع على أنّ حكم الماء في السطح الواحد واحد ، وكذا القطع بنجاسة أحد الإناءين يناقض جعل الشارع حكم الطهارة لكلّ واحد من الإناءين ، فلا بدّ إمّا من القول بعدم شمول أدلّة الأصول لموارد التعارض بالنسبة إلى جميع المتعارضين أخذا بالإجماع الدالّ على اتّحاد الحكم وبالأدلّة الواقعية التي تدلّ على وجوب الاجتناب عن النجس الواقعي الموجود بين الإناءين ، وإمّا من القول بعدم وجوب امتثال الأوامر الواقعية وعدم لزوم اتّباع الإجماع الموجود في محلّ التعارض دفعا للتناقض ، ولا ريب أنّ بعد وجود الإجماع كما هو المفروض وكذا بعد فرض وجود الدليل الواقعي الدالّ على لزوم الاجتناب يمتنع عقلا تجويز عدم وجوب الامتثال ؛ لعدم لزوم اتّباع الإجماع ، لأنّه يؤول إلى إيجاب شيء على الغير مع عدم إرادة امتثاله ، وذلك محال عندنا فلا بدّ من القول بعدم شمول

__________________

(١) « س » : الواحد قد يختلف.

(٢) « د ، ج ، م » : ـ إلى.

(٣) « س » : ومرجعها.

٦٥٧

أدلّة الأصول لموارد التعارض بالنسبة إلى المتعارضين معا.

وأمّا بالنسبة إلى الثاني : فلأنّ أحدهما المعيّن دخوله تحت قوله : « لا تنقض » يحكم بعدم ما يوجب ذلك بعد اشتراك الآخر له في ذلك ، وأحدهما المعيّن في الواقع لا يجوز أن يكون الدليل الدالّ على الأصل شاملا له ؛ إذ الواقع أنّ أحدهما طاهر والآخر نجس ، ولا وجه لإنشاء حكم ظاهري لذلك الواقع ، وأحدهما الغير المعيّن ليس فردا ثالثا للعامّ حتّى يقال بأنّ الخارج هو أحدهما والداخل هو أحدهما الآخر ؛ إذ المفروض أنّ ذلك أمر انتزاعي من ذوات الأفراد وقد عرفت أنّ ذوات الأفراد لا تصلح (١) لأن تكون خارجة ، فذلك الأمر الانتزاعي يلحق بمنشإ انتزاعه في ذلك ، فلا يعقل أن يكون المراد من الشكّ (٢) المأخوذ في أدلّة الأصول هو الشكّ الموجود في أطراف العلم الإجمالي كما في الشبهة المحصورة ، فلا بدّ في مورد التعارض من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى أصل ثالث مؤخّر عنهما ، وهل ذلك من باب التخصيص أو التخصّص؟ التحقيق (٣) أنّه من واد آخر ؛ إذ قد عرفت (٤) أنّ الأصل عبارة عن علاج شرعي مجعول في مقام الشكّ ومرجعه إلى طلب الشارع وإنشائه وخطابه ولا يتوجّه خطاب الشارع إلى مثل هذا المورد ، ومنه يظهر الفرق بين المقام وبين ما مرّ من مورد التخيير فإنّ عدم توجّه الخطاب في مورد التخيير بواسطة عذر من قبل المكلّف من عدم قدرته ، وفي المقام حيث إنّ مرجعه ـ على (٥) ما عرفت ـ إلى (٦) إنشاء حكم ظاهري ترخيصا أو غير ذلك لا يجوز من المكلّف صدوره ؛ لاستلزامه نقض الغرض على تقدير الجعل فيهما معا ، والترجيح بلا مرجّح على تقدير الجعل في أحدهما في وجه

__________________

(١) المثبت من « س » وفي سائر النسخ : لا يصلح.

(٢) « س » : بالشكّ.

(٣) « س » : والتحقيق.

(٤) عرفت في الصفحة السابقة.

(٥) « س » : إلى.

(٦) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : ـ إلى.

٦٥٨

وعدم معقوليته في وجه آخر كما عرفت ذلك مفصّلا (١).

فإن قلت : قد قرّر في مقامه أنّ الشارع إذا طلب شيئا فيمتنع أن يرخّص في ترك الامتثال ؛ لأنّ ارتفاع الأمر منحصر في النسخ أو البداء أو الامتثال ، والأخير مفروض الانتفاء ، والأوّلان فاسدان أيضا كما هو ظاهر ، وأمّا إذا جعل بدلا عمّا هو المطلوب فيصحّ الاقتناع بالبدل وترك الامتثال بما يوجب اليقين بوقوع المطلوب فيه.

فنقول : إذا علمنا إجمالا بوجوب شيء مردّد بين أمور فلو جوّز الشارع ترك الامتثال عن ذلك الواجب المردّد يلزم ما ذكرت من اللوازم الفاسدة ، ولم لا يجوز أن يجعل الشارع بدلا عمّا هو المطلوب الواقعي في تلك الأمور بأن يقتنع بترك بعض المحتملات ويجوّز ارتكاب البعض فيحكم بأنّ ارتكاب أحد الإناءين غير جائز بدلا عمّا هو النجس في الواقع ، وارتكاب الآخر ممّا لا ضير فيه كما أذن بذلك فيما إذا اشتبهت القبلة بين جهات عديدة؟

قلت : نعم وذلك أمر معقول ولكنّ الكلام فيما يدلّ على ذلك ولا يمكن أن يكون دليل ذلك دليل الأصل ، وتوضيح ذلك : أنّ مفاد قوله : « لا تنقض » هو النهي عن عدم ترتيب الآثار المترتّبة على المعلوم سابقا ، وكذا مفاد قوله : « كلّ شيء مطلق » (٢) مثلا هو ترخيص عدم ترتيب آثار التكليف على المشكوك ، وكذا قوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه » (٣) مثلا يستفاد منه الإباحة الظاهرية للمشكوك ، والدليل (٤) الدالّ على البدلية لا بدّ من أن يكون مفاده بدلية أحد الأطراف عن الواقع بحيث لو فرض ترك الواقع في خلال العمل بالبدل لم يكن المكلّف معاقبا ، كما في الأدلّة (٥) الدالّة على ترخيص الترك فيما إذا اشتبهت القبلة.

__________________

(١) عرفت في ص ٦٥٤.

(٢) تقدّم في ج ٣ ، ص ١٥٩.

(٣) تقدّم في ج ٣ ، ص ٣٥٩.

(٤) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : دليل.

(٥) في النسخ : أدلّة.

٦٥٩

وبالجملة : ففرق ظاهر بين أن يقنع الأمر عن الواقع ببدله كما إذا قامت البيّنة على أنّ النجس هو هذا الإناء المعيّن فيجب الاجتناب عنه ولا يجب الاجتناب (١) عن الآخر ، وبين أن يجعل للمشكوك حكما ظاهريا في مقام الشكّ علاجا ، ومفاد الأصل هو الثاني ، ومفاد الدليل الدالّ على البدلية لا بدّ وأن يكون على الوجه الأوّل ، ولا يجوز أن يكون الكلام المنساق لأحدهما منساقا للآخر ، نعم بعد ما بنى المكلّف على الأخذ بالعلم الإجمالي بالامتثال بجميع أطراف الشبهة يجوز جعل الطريق إلى الواقع والبدل ، وأمّا الاستناد بدليل الأصل في هذا المقام فليس بسديد كما عرفت ، فلا بدّ إمّا من القول بوجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة وأمثالها كما هو التحقيق ، وإمّا القول بجواز الارتكاب بالنسبة إلى الجميع على وجه غير مرضيّ من حكومة أدلّة الأصول بالنسبة إلى الأدلّة الواقعية بتخصيص التكاليف إلى صورة العلم التفصيلي على ما فرغنا (٢) عن إبطاله في مباحث البراءة والاحتياط من دون تفصيل بين إبقاء (٣) ما يساوي الحرام وبين ارتكاب الجميع.

والحاصل : أنّ حكم الأصلين المتعارضين هو التساقط والرجوع إلى أصل ثالث ، أمّا الأوّل فلما عرفت من امتناع ترخيص الشارع بعد العلم الإجمالي عدم الامتثال ، وأمّا الثاني فلأنّ الأصلين وجودهما كعدمهما حقيقة في نفي الثالث فلا بدّ من الرجوع إليه.

واعلم أنّ ما ذكرنا من أنّ حكم الأصلين المتعارضين هو التساقط إنّما هو فيما إذا قلنا باعتبار الأصول تعبّدا ، وأمّا على القول باعتبارها من باب إفادة الظنّ فالظاهر أنّ حكم الأصل لا يخالف حكم الطرق الواقعية ، فتدبّر في المقام فلعلّك تطّلع على ما ربّما أسقطناه مخافة الإطالة ، والله الموفّق وهو وليّ الهداية.

__________________

(١) المثبت من « س » وفي سائر النسخ : ـ الاجتناب.

(٢) انظر ج ٣ ، ص ٤٤٨ ـ ٤٤٩.

(٣) « ج » : إلغاء.

٦٦٠