مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

فقيل له (١) : ما أردت بذلك وما هذه الآيات؟ فقال : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال فإنّ الحمد والتوحيد لا يزيدان على عشرة وهي ثمان ركعات (٢). وما ورد (٣) من حكمهم بوجوب الوتر ، ثمّ التفسير بوجوبه على النبيّ ، إلى غير ذلك من الموارد ، وكيف كان فهذه أحد الوجوه المحتملة في الجمع بين الأخبار المختلفة والله أعلم.

ثمّ لا يخفى أنّ ظاهر المقبولة المشتملة على هذه المرجّحات تقديم الترجيح بمخالفة الكتاب على موافقة العامّة وهو محمول على ما إذا كان الخبر المخالف للكتاب مباينا (٤) ، مثل ما رواه القطب الراوندي عن الصادق عليه‌السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه (٥) ، وإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه » (٦).

والوجه في ذلك الحمل أنّ بعد القول بحجّية الأخبار الظنّية فعلى تقدير أن يكون الخبر خاصّا يجوز تخصيص الكتاب به ، فلو فرضنا أنّ أحد الخبرين المتعارضين يكون مخالفا للعامّة مع كونه أخصّ من الكتاب فيترجّح على الآخر وينهض مخصّصا بعموم الكتاب ؛ لأنّ العمل بأصالة الحقيقة في الكتاب إنّما يصحّ فيما لم يوجد ما يصلح لأن يكون قرينة والمفروض وجود ذلك ، وأمّا إذا كان الاختلاف بين الكتاب وبين الخبر المخالف على وجه العموم والخصوص من وجه ، فإن قلنا برجوع التعارض فيهما إلى السند فمن المعلوم لزوم طرح المخالف بعد مقاومته للكتاب حينئذ ، وإن قلنا برجوعه إلى الدلالة فيعاضد الدلالتان ويرتفع بذلك الخبر المخالف أيضا ، فلا وجه

__________________

(١) فسّره عليه‌السلام من دون سؤال.

(٢) الوسائل ٦ : ٦٤ ، باب ١٣ من أبواب القراءة ، ح ٣ والحديث منقول بالمعنى.

(٣) الوسائل ٤ : ٦٨ ، باب ١٦ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٦.

(٤) « د » : متباينا.

(٥) « س » : فذروه.

(٦) تقدّم في ص ٦١٥.

٦٢١

لتقديم العلاج الكتابي على العلاج بالمخالفة مطلقا ، وإنّما يصحّ ذلك فيما عرفت (١) من المباينة والعموم من وجه ، كما لا وجه لتقديم العلاج بالمخالفة على العلاج بالكتاب مطلقا ، وإنّما يصحّ فيما إذا كان الخبر أخصّ من الكتاب.

ومن المرجّحات المذكورة في المقبولة قوله عليه‌السلام أخيرا : « ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر » بعد قوله : « فإن وافقهما الخبران » لا يخفى أنّ موافقة الخبرين للعامّة على وجهين : أحدهما : أن يكون بعضهم موافقا لأحد الخبرين وبعض الآخر منهم للآخر وهو الظاهر من السياق ، والثاني : أن يكون كلّ واحد من الخبرين موافقا لجميعهم بأن يكون حكم الواقعة عندهم هو التخيير بين حكمين (٢) يستفاد أحدهما من أحدهما والآخر من الآخر.

وقوله : « أميل إليه قضاتهم » أيضا يحتمل بعد ما ذكرنا وجهين : أحدهما : أن يكون المقصود باسم التفضيل ما هو المعهود منه من إفادته كثرة الفعل وشدّته ، وثانيهما : أن يكون المقصود به كثرة المائلين لا شدّة الميل على ضرب من التأويل ، وهذا الوجه يلائم الوجه الأوّل من الموافقة فإنّ كثرة الميل بعد اختلاف المدارك بعيد ، سيّما بعد ملاحظة اختلاف مذاهب القضاة ، فإنّ الكلام فيمن هو المرجع عندهم في الأحكام الشرعية فقضاة مذهب الشافعي ـ مثلا ـ لا يتصوّر بعد أخذهم مذهب الشافعي كثرة ميلهم إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة ، فلا بدّ من الحمل على كثرة المائلين ، نعم يصحّ ذلك على الوجه الثاني ؛ إذ بعد ما هو المفروض من أنّ حكم الواقعة عندهم التخيير فيمكن كثرة ميل قضاتهم إلى طرف من أطراف التخيير ، و (٣) هذا وإن كان مناسبا لظاهر لفظ العامّة فإنّه ظاهر في الجميع وملائما (٤) لاسم التفضيل إلاّ أنّه بعيد عن السياق كما عرفت ، كذا أفيد.

__________________

(١) « م » : عرفت فيه.

(٢) المثبت من « س » ، وفي سائر النسخ : احتمالين.

(٣) « د ، س » : ـ و.

(٤) « س » : ملائم.

٦٢٢

قلت : ويحتمل أن يكون المراد بالموافقة هو موافقة البعض ، ومع ذلك فلا ينافي كثرة ميلهم إلى طرف ؛ إذ ليس بناؤهم على إصابة الواقع على ما هو عليه ، نعم لو فرض انحصار المطلوب في إصابة الواقع فبعد اختلاف المدارك لا وجه لكثرة الميل ، وأمّا بعد ما هو المعهود منهم من التخلّف عن العترة الطاهرة والأخذ بمشتهيات نفوسهم القاصرة فلا استبعاد في كثرة الميل إلى طرف من أطراف المسألة الخلافية كما هو ديدنهم في الحال.

فيكون محصّل المراد على هذا الوجه : إذا وافق الخبران العامّة بأن يكون أحدهما موافقا لبعضهم والآخر لبعض آخر فينظر إلى (١) كثرة ميل أكابر قضاتهم وسلاطينهم إلى أحدهما فيترك ويؤخذ بالآخر ، ولا حزازة في ذلك إلاّ بواسطة تقدير مضاف للقضاة ، ولا بأس به بعد مساعدة السياق عليه وذلك يستقيم وجها للأخذ بالآخر ، فيكون الرواية الشريفة إشارة إلى اغتشاش أمورهم في الفتوى والقضاء ونحو ذلك ، وكم من إشارة مثلها في أخبار أهل البيت ، عليهم من الصلاة أفضلها ومن السلام أزكاه وأنماه.

ثمّ إنّ الترجيح بهذا المرجّح ممّا لا ينبغي الارتياب فيه فإنّه على منار من الوضوح ، والذي ينبغي أن ينظر فيه هو أنّه لو فرضنا تعارض الترجيح الصدوري لترجيح جهة الصدور فهل المقدّم في العمل أيّهما؟ مثلا لو دار الأمر بين روايتين ، إحداهما مخالفة للعامّة ، والأخرى راويها أعدل (٢) ، فهل يجب الأخذ بالمخالفة ، أو يجب الأخذ بالأعدلية؟ ظاهر المقبولة والمرفوعة المتقدّمين هو الأوّل ؛ لاعتبار الترجيح بالأعدلية فيهما مقدّما على الترجيح بالمخالفة ، إلاّ أنّ قضيّة القاعدة هو الثاني ؛ لدوران الأمر بين ارتفاع اليد عن عموم الدليل الدالّ على الحجّية بواسطة الأخذ بالترجيح الصدوري إذ يستلزم ذلك خروج الآخر عن عموم الدليل ، وبين ارتفاع اليد عن أصالة عدم التقيّة ، ولا ريب أنّ الثاني أهون فإنّ العمل بتلك الأصالة وإن كان بواسطة الدليل الدالّ عليها إلاّ أنّ التصرّف فيها لا يوجب التصرّف في أمر لفظي ، فالأخذ بمرجّح جهة الصدور

__________________

(١) « ج » : إلى ما هو.

(٢) « س » : الأعدل.

٦٢٣

أولى ، ويحتمل القول بعدم الفرق ؛ إذ الأخذ بمرجّح الصدور لا يفيد في الأخذ بعموم الدليل ؛ إذ المفروض كونه متروك العمل بعد حمله على التقيّة ، وليس بسديد كما لا يخفى.

قلت : ويحتمل أن يقال : إنّ الأخذ بمرجّح الصدور أيضا لا يستلزم التصرّف في دليل الحجّية فإنّ الحجّية في مقام النوع لا تنافي (١) عدم اعتبار فرد منه في مقابل الفرد المقارن للمرجّح ، بل عنوان الترجيح قاض بذلك أيضا ، سيّما على ما قدّمنا من أنّ القاعدة تقضي بالتخيير بين الخبرين عند فقد الترجيح بينهما فإنّ ذلك بمنزلة تزاحم الحقوق ، ولا ريب في أنّ حصول الترجيح لأحد الواجبين لا يوجب التصرّف في دليل الوجوب كما نبّهناك عليه ، فتدبّر ، وجه التدبّر أنّ (٢) التصرّف في الدليل لازم بوجه من الوجوه ولو بواسطة التقييد بالإمكان على ما ستعرف.

وفي المقام أخبار تدلّ على تقديم المرجّح المعمول في جهة الصدور على مرجّح الصدور ، والظاهر أنّ عملهم أيضا على ذلك كما يظهر بالتتبّع في مطاوي كلماتهم.

فمنها : ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن سماعة بن مهران قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام قلت : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالعمل (٣) والآخر ينهانا عن العمل (٤)؟ قال : « لا تعمل بواحد منهما حتّى تأتي (٥) صاحبك فتسأله عنه » قال : قلت : لا بدّ أن يعمل (٦) بأحدهما ، قال : « اعمل (٧) بما فيه خلاف العامّة » (٨).

ومنها : ما رواه الصدوق رحمه‌الله بإسناده عن يونس بن عبد الرحمن عن حسين بن السري قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا ما خالف

__________________

(١) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : لا ينافي.

(٢) « د » : « إذ » بدل : « وجه التدبّر أنّ » ومن قوله : « وجه التدبّر » إلى « ستعرف » لم يرد في « ج ».

وورد في هامش « م » ولعلّه الأنسب.

(٣) في المصدر : يأمرنا بالأخذ به.

(٤) في المصدر : عنه.

(٥) في المصدر : تلقى.

(٦) في المصدر : نعمل.

(٧) في المصدر : خذ.

(٨) الاحتجاج ٢ : ٣٥٧ ، عنه في الوسائل ٢٧ : ١٢٢ ، باب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٢.

٦٢٤

القوم » (١) وما رواه أيضا بإسناده إلى ابن فضّال عن الحسن بن الجهم قال : قلت للعبد الصالح : هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلاّ التسليم [ لكم ] ، فقال : « لا والله [ لا يسعكم ] إلاّ التسليم لنا » قلت : فيروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام شيء ويروى عنه خلافه فبأيّهما نأخذ؟ قال : « خذ بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه » (٢) والتقريب في ذلك ظاهر حيث إنّهم عليهم‌السلام أمروا بالأخذ بما خالف العامّة من غير تقديم شيء على ذلك ، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في المرجّحات المنصوصة في المقبولة والمرفوعة ، وأمّا ما اشتمل عليه الأخبار الأخر فأمران :

أحدهما : الأخذ بالأحدث ويدلّ عليه أخبار : منها : رواية حسين بن مختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : « أرأيتك لو حدّثتك بحديث العامّ ، ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ » قال : لكنت آخذ بالأخير ، فقال : « رحمك الله » (٣).

ومنها : ما رواه معلّى بن خنيس قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا جاء حديث من (٤) أوّلكم وحديث من آخركم فبأيّهما نأخذ؟ فقال : « خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله » (٥).

ومنها : صحيحة هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « يا أبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ، ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلافه ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ » قلت : بأحدثهما وأدع الآخر ، فقال : « قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى (٦) الله إلاّ أن يعبد

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٠ ، عن رسالة الراوندي.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣١ ، عن رسالة الراوندي.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٠٩ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٧.

(٤) في المصدر : « عن » ، وكذا في المورد الآتي.

(٥) الوسائل ٢٧ : ١٠٩ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٨.

(٦) في النسخ : وأبى.

٦٢٥

سرّا » (١).

والحقّ في المقام أن يقال : إنّ الأخذ بالأحدث في يومنا هذا يحتمل وجوها :

أحدها : أن يكون من باب التعبّد الشرعي ، وهذه الأخبار لا تنهض بإثباته فإنّ الظاهر منها أنّ الأخذ بالأحدث إنّما هو بواسطة احتمال التقيّة في الأوّل وإلاّ فما الوجه في سؤال المعصوم عليه‌السلام عن الراوي : « بأيّهما كنت تأخذ؟ » فإنّه في مقام بيان الحكم التعبّدي لا بدّ من أن يظهر الحكم بنفسه كما هو ظاهر ويرشدك إليه قوله : « أبى الله إلاّ أن يعبد سرّا ».

وثانيها : أن يكون الأخذ بالثاني من باب احتمال التقيّة في الأوّل وهو أيضا لا يخلو من وجهين : أحدهما : أن يكون صدور الحكم ثانيا منهم قرينة واقعية على أنّ الأوّل صادر تقيّة ، والثاني : أن يكون قرينة تعبّدية على أنّ الأوّل صادر تقيّة ، والأوّل ليس مطّردا ؛ إذ قد يكون آثار التقيّة لائحة من الثاني كما لا يخفى على من تتبّع ، والثاني خلاف الظاهر من الرواية.

وثالثها : أن يكون الثاني ناسخا للأوّل وذلك لا يتمّ في الأخبار الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام ولا بأس بالتزامه في الأخبار النبوية.

والحاصل : فهذه الأخبار على إطلاقها ليست معمولا بها عند أصحابنا ؛ للإرسال في بعضها وضعف بعض رواة (٢) الآخر كإسماعيل وأبي عمرو ، فلا يصلح وجها لعدم الأخذ بإطلاق أخبار التخيير كما لا يخفى.

الثاني : الاحتياط على ما نطق به المرفوعة وبعد ما عرفت من طعن بعض الأخبارية (٣) في الكتاب الذي اشتمل عليها لا وجه للتعرّض لذلك فالله الموفّق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٢ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٧.

(٢) « د » : رواة بعض.

(٣) وهو صاحب الحدائق كما تقدّم في ص ٥٨٢.

٦٢٦

هداية

[ في المرجّحات غير المنصوصة المضمونية ]

بعد ما عرفت تفصيل القول في المرجّحات المنصوصة فلا بدّ من الإشارة إلى بعض المرجّحات التي ذكرها القوم وهي أمور :

منها : الترجيح بموافقة الأصل ومخالفته ، والموافق يسمّى مقرّرا والمخالف ناقلا ، واختلفت (١) كلماتهم في ذلك ، فعن العلاّمة وأكثر العامّة (٢) اختيار الناقل ، وذهب شيخ الطائفة (٣) إلى اختيار المقرّر ، وتوقّف في ذلك قوم ، وصار إلى التخيير آخرون ، وعن المحقّق في المعارج (٤) اختيار التخيير في أخبار الأئمّة عليهم‌السلام والأخذ بالأحدث في أخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على تفصيل في ذلك ستطّلع عليه (٥) ، وكأنّه ليس منطبقا على هذا العنوان وإنّما هو قول في المسألة المتقدّمة كما لا يخفى.

وينبغي أن يكون المراد بالأصل في هذا المقام هي الأصول العملية كالبراءة والاستصحاب لا القواعد الكلّية مثل قاعدة نفي العسر والحرج ونفي الضرر والضرار (٦) ونحوهما فإنّ ذلك خارج عمّا نحن بصدده ؛ لرجوع الترجيح في ذلك إلى الترجيح

__________________

(١) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : اختلف.

(٢) مبادئ الوصول : ٢٣٧ ؛ تهذيب الوصول : ٢٧٩ ، وعن العلاّمة وأكثر العامّة في المعالم : ٢٥٣.

(٣) العدّة ١ : ١٥٢ ، وفيه ذهب إلى التوقّف أو التخيير ، ونسب أيضا ذلك ـ أي اختيار المقرّر ـ إلى الشيخ في المعالم : ٢٥٣.

(٤) معارج الأصول : ٢٢٥.

(٥) ستطّلع عليه في ص ٦٣١.

(٦) « س » : ـ والضرار.

٦٢٧

بالعامّ للخاصّ.

كما أنّه ليس المراد بالأصل التخيير فإنّ موافقة أحد الخبرين للتخيير غير معقول ؛ إذ التخيير مورده فيما إذا تعارض الخبران أو الاحتمالان مع عدم المرجّح لأحدهما ، فعلى الأوّل ظاهر فساده ، وعلى الثاني فلأنّ كلاّ من الخبرين موافق لأحد احتمالي الواقعة.

اللهمّ إلاّ أن يكون مفاد أحد الخبرين هو التخيير ويكون مفاد الآخر هو أحد الاحتمالين ، وذلك أيضا فاسد ؛ لأنّ ورود الرواية على وجه يكون مفادها التخيير بين الفعل والترك في غير ما يكون مفادها إباحة (١) غير معقول ، وعلى تقدير ذلك لا يكون أحد الخبرين حينئذ موافقا لأصالة التخيير ؛ إذ المقصود من الموافقة هو أنّ الأصل على وجه لو فرض ارتفاع الدليلين بالتساقط ـ مثلا ـ صحّ الرجوع إلى الأصل الموافق ، وفي المقام ليس كذلك ؛ إذ بعد فرض التساقط في ذلك المورد يدور الأمر بين التخيير والتعيين ، والأصل فيه ليس التخيير ، بل الاشتغال أو البراءة من التعيين.

وأمّا الاشتغال فليس المراد بالأصل في المقام هو أيضا ؛ إذ المراد به إمّا الاحتياط اللازم ، أو غيره ، والثاني لا يجدي (٢) في مقام الترجيح ، والأوّل غير معقول أن يكون مرجّحا ؛ لأنّ موارد وجوب الاحتياط فيما إذا ثبت التكليف الإجمالي ودار الأمر بين أمور محصورة في تعيين المكلّف به ، كما في دوران الأمر بين الظهر والجمعة والصلاة بالجهات الأربع والاجتناب عن الإناءين ـ مثلا ـ كما مرّ وجوه ذلك في موارده مفصّلا فأحد الخبرين لو دلّ على وجوب الظهر بخصوصه لم يكن موافقا للاحتياط (٣) ، كما إذا دلّ الدليل على وجوب الصلاة بجهة خاصّة ، ولو دلّ على وجوب الجمع بين المحتملين لم يكن ذلك من موافقة الخبر للاحتياط ؛ إذ مدلول الخبر حينئذ هو الاحتياط ، ألا

__________________

(١) « د » : الإباحة.

(٢) « س » : فلا يجدي.

(٣) من هنا إلى قوله « إذ مدلول الخبر » سقط من نسخة « ج ».

٦٢٨

ترى أنّ واحدا من القوم لم يذهب إلى ترجيح أخبار الاحتياط على القول بتحقّق المعارضة بينها وبين أخبار البراءة أنّ (١) الترجيح لأخبار الاحتياط لموافقتها للاحتياط وذلك أمر ظاهر لا يكاد يخفى.

ومن هنا ينقدح لك أنّ الترجيح بالأصل على تقديره إنّما هو ترجيح مدلولي ولا مدخل للسند فيه ، نعم على القول باعتبار الأصل ظنّا يزيد على ذلك شيء وهو كشفه عن مطابقة مضمون الموافق للواقع ، بخلاف ما إذا قيل به تعبّدا فإنّ المطابقة اللازمة على هذا التقدير عملية صرفة ، ولذلك قلنا بأنّه ترجيح مدلولي صرف ، فتدبّر.

وإذ قد تحقّقت ذلك فاعلم أنّه احتجّ القائل بتقديم الناقل بأنّه يستفاد منه ما لا يستفاد إلاّ منه ، والموافق حكمه معلوم بالعقل فلا يحتاج حكمه إلى البيان ، ولمّا كان وظيفة الشارع بيان أمور غير معلومة كان اعتبار الناقل أولى.

وهذه الحجّة ظاهرة الضعف وبيّنة الفساد وسبيل المنع إلى مقدّمتيها واضح ؛ إذ لا نسلّم الأولوية أوّلا ولا غضاضة فإنّ وظيفة الشارع بيان ما يحتاج إليه العباد على أيّ وجه يكون ، وهل ترى أنّ الإمام عليه‌السلام أحال أمرا من الأمور في حكم من الأحكام إلى (٢) أصل من الأصول؟ كلاّ ثمّ كلاّ فإنّ الأصل إنّما هو علاج لمرض الشكّ في الواقع عند عدم إمكان الوصول إليه ومن هو في الواقع يستتبع الواقع كيف يوكل السائل عن الواقع إلى ما هو علاج للشكّ فيه؟! وذلك ظاهر ، وعلى تقدير التسليم لا دليل على جواز الاتّكال بمثل هذه الظنون العقلية التي منشؤها استحسان عقلي في مقام الترجيح ولا ينافي ذلك ما تقدّم من عموم حجّية الظنّ في مقام الترجيح ؛ إذ لم يكن التعويل هناك إلاّ على العمل والإجماع ، وانتفاؤها في المقام معلوم.

واحتجّ أيضا القائل بتقديم الناقل بأنّ العمل به يقتضي تقليل النسخ ؛ لأنّه يزيل

__________________

(١) كذا. والصواب : « وأن » أو « بأنّ ».

(٢) « م » : على.

٦٢٩

حكم العقل فقط ، بخلاف المقرّر فإنّه يوجب تكثيره (١) ؛ لإزالته حكم الناقل بعد إزالة الناقل حكم الأصل المستفاد بالعقل.

أقول : وهذه الحجّة مبنيّة (٢) على مقدّمتين : إحداهما : أنّ الأخذ بأحدث الخبرين لازم ، والثانية : أنّ الأحدث ينبغي أن يكون الناقل ؛ إذ لو كان المقرّر هو الأحدث يلزم ارتفاع حكم الناقل به وارتفاع حكم الأصل بالناقل ، فالنسخ اللازم على تقدير الأخذ بالمقرّر أكثر من النسخ اللازم على تقدير الأخذ بالناقل ؛ لأنّ ورود المقرّر ليس نسخا للأصل ، بل هو مقرّر له و (٣) مؤكّد له.

وفسادها ظاهر أمّا أوّلا : فلأنّ رفع الحكم الثابت بالأصل لا يعدّ من النسخ في شيء ، اللهمّ إلاّ أن يراد منه مطلق الإزالة وهو مع كونه خلاف مصطلحهم لا يلائم قول المحقّق كما ستعرفه (٤).

وأمّا ثانيا : فلأنّ الأخذ بالأحدث قد عرفت (٥) القول فيه على وجه يغني عن إعادة (٦) الكلام في المقام.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الاعتماد على هذه الاعتبارات الضعيفة ممّا لم يعلم جوازه في مقام الأحكام الشرعية.

واحتجّ القائل بتقديم المقرّر بأنّ حمل الحديث على ما لا يستفاد إلاّ من الشرع أولى من حمله على ما يستقلّ (٧) العقل بمعرفته ؛ إذ فائدة التأسيس أقوى من فائدة التأكيد ، وحمل كلام الشارع على الأكثر (٨) فائدة أولى ، والحكم بترجيح الناقل يستلزم الحكم بتقديم المقرّر عليه وذلك يقتضي كونه واردا حيث لا حاجة إليه ؛ لأنّ مضمونه معلوم ـ إذ ذلك بالعقل ـ فلا يفيد سوى التأكيد وقد علم مرجوحيته ، بخلاف ما إذا رجّحنا

__________________

(١) « ج ، س » : تكثره.

(٢) « س » : مبتنية.

(٣) « س » : « بل » بدل : « و ».

(٤) ستعرفه في الصفحة الآتية.

(٥) عرفت في ص ٦٢٦.

(٦) المثبت من « س » ، وفي سائر النسخ « إفادة ».

(٧) « س » : ما لا يستقلّ.

(٨) « د » : أكثر.

٦٣٠

المقرّر فإنّ ترجيحه يقتضي تقديم (١) الناقل عليه ، فيكون كلّ (٢) منهما واردا في موضع الحاجة ، أمّا الناقل فظاهر ، وأمّا المقرّر فلوروده بعده فيؤسّس ما رفعه الناقل فيكون هذا أولى.

ولا يخفى أنّ هذه الحجّة متّحدة مناطا مع احتجاج القائل بالناقل ؛ إذ بعد اشتراكهما فيما نبّهنا عليه من المقدّمتين بتفاوت (٣) قليل في تشخيص الصغرى استند المستدلّ الأولى إلى تقليل النسخ وتكثيره ، والمستدلّ بالثانية إلى ورود كلّ منهما في مقام الحاجة حملا لكلام الشارع على ما هو الأكثر فائدة ، فما هو المذكور في دفعها ينهض بدفع هذه الحجّة أيضا.

ومن هنا يظهر صحّة ما ذهب إليه المحقّق (٤) من التفصيل بين أخبار الأئمّة عليهم‌السلام فيحكم بالتخيير لانقطاع النسخ في أخبارهم عليهم‌السلام ، وبين أخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيحكم بوجوب الأخذ بالأحدث لو علم التاريخان ، سواء كان مطابقا للأصل أو مخالفا ، ويتوقّف عند جهل التاريخ.

والتحقيق في المقام : هو أنّ الترجيح بموافقة الأصل ومخالفة الأصل لا يبتني على القول بلزوم الأخذ بأحدث الروايتين ، ولذلك قلنا (٥) بأنّ قول المحقّق لا ينطبق على العنوان وإنّما هو قول في مسألة (٦) الأخذ بالأحدث ، وهو حقّ في تلك المسألة كما يظهر ممّا أومأنا إليه فيها من المحتملات (٧) وإحقاق الحقّ منها وإبطال ما سواه ، إلاّ أنّ التزام النسخ فيما يحتمل النسخ كأخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا مشروط بما يصحّ معه النسخ كمضيّ زمان العمل ـ مثلا ـ لئلاّ يلزم النسخ قبل حضور وقت الفعل ، فتدبّر.

__________________

(١) « د » : تقدّم.

(٢) « س » : كلّ واحد.

(٣) « ج ، د » : يتفاوت.

(٤) معارج الأصول : ٢٢٥ ، وتقدّم عنه في ص ٦٢٧.

(٥) قاله في ص ٦٢٧.

(٦) في النسخ : المسألة.

(٧) أومأ في ص ٦٢٦.

٦٣١

وأمّا التحقيق في مسألة ترجيح أحد الخبرين بالأصل وإن قطعنا النظر عن وجوب الأخذ بالأحدث فهو أن يقال : إنّ الأصول العملية بناء على التعويل عليها من باب الظنّ بعدم التكليف في البراءة وببقاء المستصحب في الاستصحاب فلا ينبغي النزاع في الترجيح بالأصول فإنّها حينئذ تفيد تقوية فيما هو ملاك الحجّية ومناط الاعتبار كما في صورة تعدّد الدليل ، وأمّا بناء على القول بها بواسطة القاعدة العقلية والأخبار الواردة فيها من حيث التعبّد بها وإن لم تفد ظنّا كما هو المعروف بين المتأخّرين ، فلا يكاد يعقل الترجيح بالأصل ؛ إذ مفاد كلّ من الأصل والخبر غير مفاد الآخر فإنّ هذا من واد وذاك (١) من آخر ، فلا يحصل تقوية فيما هو المناط في دليلية الرواية ، والترجيح التعبّدي ممّا لا دليل عليه كما هو المفروض ، فلا بدّ من الأخذ بإطلاق أخبار التخيير ، وبذلك يرتفع الشكّ في مورد الأصل فيحكم بالتخيير بين الدليلين وذلك ظاهر.

وقد يتراءى في بادئ النظر تفصيلا وهو أن يقال : إنّ موضوع الأصول قد يكون الشكّ والحيرة ، وقد يكون عدم العلم بالخلاف ، فعلى الأوّل لا وجه للترجيح بالأصل لما عرفت من اختلاف مناطهما ، وعلى الثاني كما ربّما يستظهر من بعض أدلّة الأصول كقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ )(٢) في البراءة ، وقوله عليه‌السلام : « لا حتّى يستيقن » في الاستصحاب ، وقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٣) في أصالة الطهارة ، فإنّ ظاهر هذه الأدلّة جريان الأصول عند عدم العلم بالخلاف ، وذلك لا ينافي العلم بالوفاق ، فيمكن الترجيح بهذه الأصول ؛ إذ لا مانع من ذلك بعد تحقّق مورد الأصل وجريانه.

وهو كلام ظاهري خال عن التحصيل أمّا أوّلا : فلعدم جريان الأصل في مورد

__________________

(١) « م » : ذلك.

(٢) البقرة : ٢٨٦ ؛ الطلاق : ٧.

(٣) تقدّم في ص ١٠٧ مع اختلاف ، فلاحظ.

٦٣٢

التعارض على ما ذكر أيضا ؛ إذ لا أقلّ من اعتبار عدم العلم بالخلاف في مجرى الأصل ، وذلك أيضا غير معلوم في محلّ التعارض ؛ لأنّ الخبر المخالف للأصل ما لم يحكم بسقوطه ، فلا يعلم عدم العلم بخلاف الأصل فلا يعلم بتحقّق مورد الأصل ولا يحكم بسقوطه ما لم يعلم بترجيح معارضه عليه ، فيلزم توقّف الجريان عليه ، وهو محال ظاهرا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الوجه في عدم الترجيح على ما عرفت هو عدم حصول التقوية بالأصل لأحد الدليلين ؛ لاختلاف مفادهما من حيث إنّ مفاد الأصل هو حكم الواقعة المشكوكة من حيث إنّها مشكوكة ومفاد الخبر هو الحكم الواقعي لها ، وما ذكر في وجه التفصيل ممّا لا ينهض (١) بدفع هذا الوجه بوجه ، فهو خارج عن قانون التوجيه ؛ إذ اللازم للمفصّل دفع ما جعله النافي وجها للنفي ، فتدبّر.

فالتحقيق في المقام : هو الأخذ بإطلاق أخبار التخيير لا الترجيح بالأصل ، ولا الحكم بالتساقط والرجوع إلى الأصل ، أمّا الأوّل فلما عرفت ، وأمّا الثاني فلقول الرضا عليه آلاف التحية والثناء فيما رواه الطبرسي في الاحتجاج : « إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت » (٢) وفي المرفوعة : « فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر » (٣).

ومن محاسن الاتّفاق أنّ الإمام عليه‌السلام حكم بالتخيير في مورد الأصل ، كما في صحيحة عليّ بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لعبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم : « صلّى (٤) في المحمل » وروى بعضهم : « لا يصلّيها إلاّ على الأرض » فأعلمني كيف أصنع؟ وأعلمني (٥) كيف تصنع أنت لأقتدي بك؟ فوقّع عليه‌السلام : « موسّع عليك بأيّة

__________________

(١) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : لا يلتصق.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ / ٢٣٣ ، وتقدّم عنه في ص ٥٨٦.

(٣) تقدّم في ص ٥٨٢.

(٤) في المصادر : أن صلّهما.

(٥) ليس في المصادر قوله : « كيف أصنع وأعلمني ».

٦٣٣

عملت » (١).

وفيما رواه في الوسائل فإنّه قال : قال أحمد بن عليّ الطبرسي في الاحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه‌السلام : يسأله (٢) عن المصلّي إذا قام من التشهد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر؟ إلى أن قال عليه‌السلام في الجواب : « إنّ في ذلك حديثين أمّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالة إلى (٣) حالة أخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فإنّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبّر ، ثمّ جلس ، ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا » (٤) فإنّ مفاد الخبر القائل بجواز الصلاة في المحمل مطابق للأصل وقد حكم الإمام عليه‌السلام بالتخيير ، كما أنّ الرواية الدالّة على عدم ثبوت التكبير موافقة للأصل وقد (٥) أفاد عليه‌السلام بالتخيير ، اللهمّ إلاّ أن يكون الخبران واردين في بيان الحكم الواقعي في نفس الواقعة ، وهو كما ترى.

نعم ، في الرواية الأخيرة يمكن أن يستشكل فيها بأنّ سياق الجواب فيها ممّا لا يشاكل كلام الأئمّة عليهم‌السلام فإنّه ليس شأنهم الاجتهاد و ( ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا )(٦). ويجاب عنه بأنّهم قد يستعملون هذه الوجوه إراءة لشيعتهم طريق الاجتهاد وسبيل الاستنباط.

وقد يقال أيضا : إنّ النسبة بين ما يدلّ على تكرار التكبير في كلّ انتقال وبين ما دلّ

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ : ٢٢٨ ، باب ٢٣ ؛ الوسائل ٤ : ٣٣٠ ، باب ١٥ من أبواب القبلة ، ح ٨ ، و ٢٧ : ١٢٢ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٤.

(٢) في المصدر : يسألني بعض الفقهاء.

(٣) المثبت من « س » وهو موافق للمصدر ، وفي سائر النسخ : من.

(٤) الوسائل ٦ : ٣٦٣ ، باب ١٣ من أبواب السجود ، ح ٨ ، و ٢٧ : ١٢١ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٩.

(٥) « س » : فيه.

(٦) ص : ٢٧.

٦٣٤

على عدم لزومه بعد السجدة الثانية عموم مطلق ، وقضيّة ذلك هو الحمل دون التخيير ، وقد يتعسّف في دفعه بأنّ العامّ لعلّه كان غير قابل للتخصيص ، فتدبّر.

ومنها : الترجيح بموافقة الحظر والإباحة وقد عرفت فيما قدّمنا لك أن لا محصّل لهذا الترجيح ، ومع ذلك فلا يخلو كلماتهم عن تشويش وتناقض أيضا فإنّ اختلافهم في تلك المسألة إلى الأقوال المختلفة وانحصار القول في هذه المسألة مع كونها من جزئيات تلك المسألة ممّا لم نعرف له وجها.

قلت : قد سبق (١) أنّ أقوال تلك المسألة تنطبق على مسألة الأخذ بالأحدث وإنّما راموا بالموافقة (٢) والمخالفة تشخيص الصغرى ، كما ينادي بذلك ما عرفت من الأدلّة التي تمسّك بها أصحابها ، وهذه المسألة إنّما يلاحظ فيها مطابقة الرواية للاحتياط كما ورد به المرفوعة ، فلا غائلة في اختلاف الأقوال.

نعم ، قد يشكل (٣) المقام بأنّ المشهور ـ على ما هو المحكيّ ـ قالوا بتقديم الحظر في المقام ، وهذا ينافي ما هو المعروف من مذهب المجتهدين من الأخذ بالبراءة فيما تعارض فيه النصّان وعدم الأخذ بالاحتياط.

ودفعه أيضا ظاهر ؛ إذ لم يعلم ذهاب المجتهدين من أصحابنا في المقام أيضا إلى الاحتياط ، بل المختار هو التخيير كما هو ظاهر ، فلا تناقض أيضا.

وقد يتمسّك في ذلك بما اشتهر عندهم من أنّ دفع المضرّة أولى من جلب المنفعة وبقوله : « ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ وقد غلب الحرام الحلال » (٤) ، ولا يستقيم شيء منهما ؛ لعدم قطع العقل بالأوّل ، نعم ربّما يستحسنه العقول وليس بذلك البعيد كما أومأنا إليه في مباحث البراءة ، وعدم دلالة الثاني ؛ لظهوره في الشبهات الموضوعية.

__________________

(١) سبق في ص ٦٣١.

(٢) « س » : لموافقة.

(٣) « ج » : يستشكل.

(٤) هذا هو الصواب. وفي النسخ : الحلال الحرام. وتقدّم تخريجه مع تفصيل في بحث البراءة : ج ٣ ، ص ٤٦٣.

٦٣٥

ومنها : كون مفاد أحد الخبرين حكما وضعيا فيرجّح على ما هو مفاده حكم تكليفي ، والمستند في ذلك عدم احتياج الأوّل إلى الفهم بخلاف الثاني ، وقيل : فيرجّح الثاني على الأوّل ؛ لأنّه يترتّب عليه الثواب.

وضعف هذه الوجوه ممّا لا يكاد يخفى على ذي فطنة ؛ إذ قدّمنا في بعض مباحث الاستصحاب ما يغني عن إطالة الكلام في المقام ، وعلى التنزّل فهذه الاعتبارات الضعيفة ممّا لا دليل على اعتبارها ، فإطلاق أخبار التخيير في محلّه وقد ذكروا أمورا ليس شيء منها بشيء.

ثمّ إنّ الترجيح بالمرجّحات هذه ليس كالترجيح بالشهرة ونحوها فإنّها ليست أمارة على الحكم في نفسها كما في الشهرة.

فالمرجّحات المضمونية على قسمين : قسم ما يكون من الأمارات على الأحكام كالشهرة والاستقراء ونحوهما ، وقسم لا يكون كذلك كموافقة الأصل وكون مفاد أحد الخبرين حكما وضعيا وأمثال ذلك ، وقد عرفت الكلام في هذا القسم.

وأمّا القسم الأوّل فلا بدّ من تفصيل الكلام فيه أيضا ، فنقول : إنّ مثل هذه الأمارات تارة : يعلم اعتبارها ، وتارة : يشكّ في ذلك ، وتارة : يعلم عدم اعتبارها : فعلى الأوّل فلا إشكال في حصول الترجيح بها بعد القول بها ؛ إذ كثرة الأدلّة معتبرة في مقام الترجيح ، وعلى الثاني فالقول بالترجيح بها موكول إلى ما قدّمنا من اعتبار مطلق الظنّ في مقام الترجيح وعدمه ، وعلى الثالث كما في القياس وأضرابه من الظنون التي دلّ الدليل على عدم اعتبارها فهل يصحّ (١) التعويل عليها في مقام الترجيح ، أو لا؟ قولان :

قال المحقّق قدّس الله نفسه الزكية في المعارج : ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر

__________________

(١) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : يصلح.

٦٣٦

على معارضه ، ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين فلا يمكن (١) العمل بهما ولا طرحهما ، فتعيّن أن يعمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض فلا بدّ من العمل بأحدهما من مرجّح والقياس ممّا يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه. لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة ، لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل على الحكم لا بمعنى أنّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين على الآخر ، وهذا لأنّ فائدة كونه مرجّحا كونه دافعا (٢) للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ويكون العمل به لا بذلك القياس ، وفي ذلك نظر (٣) ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.

والحقّ الحقيق بالتصديق هو أنّ ما ذهب إليه الذاهب ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ولا أن يكون مسرحا لأنظار العلماء ، فإنّ بداهة (٤) بطلان التعويل على القياس على أيّ وجه يقاس ممّا لا ينبغي أن يقاس بأجلى الضروريات وأوّل البديهيات في مذهب القائلين بإمامة الأئمّة عليهم أفضل الصلاة والسلام ومع ذلك فحيث إنّ المحقّق مع جلالة قدره وعظم مرتبته قد تصدّى لذكره ، فنحن اقتفاء له بخيل الطرف في هذا الميدان فنقول : يدلّ على فساد ما ذهب إليه الذاهب ـ أعاذنا الله وإخواننا عن أمثال هذه المذاهب الباطلة ـ أمور :

الأوّل : إجماع الفرقة المحقّة بأجمعهم على ترك التعويل عليه والركون إليه ، وبذلك يشهد كلّ موافق ومخالف ويذعن كلّ منافق ومؤالف وبهذا كانوا معروفين عند خصومهم ويبرءون (٥) ممّن زعم ذلك حتّى أنّهم تركوا بعض من ربّما يظهر منه الميل إليه ، وقصّة هجر بعض الكتب المنسوب إلى بعض أصحاب هذا القول معروفة إلى أن صار

__________________

(١) « م » : ولا يمكن.

(٢) « ج ، ش » : رافعا.

(٣) معارج الأصول : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٤) « ج ، د » : بداهته.

(٥) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : ينزّلون.

٦٣٧

الأمر بمرتبة لم يمكن إنكار ذلك عليهم.

والذاهب إن زعم أنّ الترجيح به ليس تعويلا عليه والقدر المعلوم من بطلانه هو ما إذا كان القياس دليلا لأحد طرفي الحكم في الواقعة فبعد أنّ ذلك فاسد في نفسه والمدّعي لذلك لا بدّ له من الرجوع إلى كلمات الأصحاب في المسائل الفقهية كي يتّضح له الحال ويظهر له صدق المقال (١) ، فإنّا بعد ما استقصينا التتبّع في مطاويها واستوفينا التصفّح في تضاعيفها ما وقفنا على مورد اتّكل فيه الأصحاب في مقام الترجيح عليه على وجه يظهر منه إعراضهم عنه ؛ إذ كثيرا ما لا يكون المورد خاليا عن قياس معتبر عند العامل به كما لا يخفى.

يرد (٢) عليه : أنّ الترجيح بالقياس يرجع إلى التعويل عليه والأخذ به دليلا أمّا أوّلا : فلظهور أنّ الوجه في تقديم الخبر الموافق للقياس وطرح الآخر هو القياس ، ولا معنى للأخذ بشيء دليلا إلاّ جعله مناطا لحكم على وجه يرتفع به الأصل المحكّم في محلّ ذلك الحكم لولاه ، والأصل في المسألة الأصولية على ما يفيده الأخبار هو التخيير أو التوقّف ، فلو لم يكن القياس دليلا في المسألة الأصولية لم يجز رفع اليد عن الأصل المذكور ، فقوله : بمعنى أنّه ليس بدليل مسلّم ، ونقول : إنّ الترجيح به راجع إلى اعتقاد كونه دليلا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الحكم في المسألة الفرعية أيضا مستند إليه فإنّ في دفع المعارضات وتوضيح الدلالات وغيرها ـ ممّا يتوقف تمامية الدليل الشرعي عليه من الأصول وغيرها ـ مدخلا في الحكم الشرعي الفرعي المستنبط من الدليل ، بل (٣) ربّما يكون الحكم في العادة مستندا إلى القياس بتمامه من حيث استناد الحكم المعلول إلى ما هو الأخير من أجزاء علّته التامّة كما يقضي بذلك العرف والعادة ، وهل ذلك إلاّ افتراء

__________________

(١) « س » : المقام.

(٢) المثبت من « م » وفي « س ، د » : ويرد وفي « ج » : « فتدبّر » بدل : « ويرد ».

(٣) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : ـ بل.

٦٣٨

على الله؟

وإن زعم أنّ أمر الترجيح ممّا قد يتساهل فيه كما زعمه بعض الأفاضل (١) فيما نبّهنا عليه في بعض مباحث الظنّ (٢) ، فيمكن الاعتماد فيه بأمور لا يجوز التعويل عليه في غير مقام الترجيح.

فهو زعم باطل وتوهّم عاطل قد برهنّا على فساده فيما سلف بما لا مزيد عليه.

الثاني : الأخبار المستفيضة (٣) ، بل المتواترة القائلة بأنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، وأنّه ليس شيء أبعد في (٤) دين الله من عقول الرجال ، وأنّ في القياس محق الدين وفساد شريعة سيّد المرسلين ، وأنّه ليس على دين الرسول من استعمل القياس فيه ، وأنّ مقاييس الأوهام تقصر عن إدراك المطالب والأحكام.

ولا يكاد يخفى أنّ الأخذ بالقياس في مقام الترجيح استعمال للقياس في الدين ، وليس المذكور في عناوين هذه الروايات لفظ الدليل حتّى يتوهّم الذاهب أنّه ليس بدليل مع أنّك قد عرفت على تقدير ذلك ، فالحقّ أنّ التعويل عليه مرجعه إلى جعله دليلا وإنكاره ربّما يعدّ في إنكار الضروريات.

لا يقال : هذه الأخبار تعارض الأخبار الدالّة على اعتبار مطلق القوّة في الترجيح تعارض العموم والخصوص من وجه ، وعند عدم المرجّح في مادّة التعارض يسقط

__________________

(١) قال في الفصول : ٤٤٥ : ويظهر من رواية الحسن بن الجهم المتقدّمة ترجيح المعتضد بالقياس على الحكم الثابت بالكتاب أو الحديث المأثور عنهم عليهم‌السلام على غيره ، وله وجه ، ولا ينافيه الأخبار الدالّة على عدم حجّية القياس ؛ لأنّ الحجّية غير المعاضدة.

(٢) انظر ج ٣ ، ص ٣١٥.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٤١ ، باب ٦ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٠ ، و ٢٩ : ٣٥٢ ، باب ٤٤ من أبواب ديات الأعضاء ، ح ١ ، و ٢٧ : ٤٥ ، باب ٦ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٢ ؛ المستدرك ١٧ : ٢٦٢ ، باب ٦ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٥ ؛ بحار الأنوار ٢ : ٣٠٣ ، باب ٣٤ ، ح ٤٠.

(٤) « س » : من.

٦٣٩

الاعتبار فيهما معا ، فلا وجه للاستناد بهذه الأخبار الواردة في مقام المنع عن العمل بالقياس.

لأنّا نقول : إنّ دلالة الأخبار على (١) حرمة العمل بالقياس أظهر (٢) من دلالة هذه الأخبار على حجّية مطلق القوّة ، ولعلّك تذكّر بعد الرجوع إليها فإنّها إشعارات محضة مستفادة من موارد جمّة لا يصحّ اجتماعها في عنوان لفظي حتّى يؤخذ بلوازمه من ملاحظة النسبة بينه وبين ما يعارضه ، فإنّ ذلك أمر قد استشعرنا به بأنّه بعد إعمال أنواع العنايات والتنويرات.

الثالث : أنّ أصحابنا الإمامية قد أولعوا في تحقيق المباحث التي يتوقّف عليها الاستنباط في الكتب (٣) الأصولية كما يشهد بذلك مراجعتها ، ولو لا أنّ من المحظور عندهم الترجيح بالقياس كان الواجب عليهم التعرّض لمباحثه كعلماء الجمهور وتشخيص أقسامه ، وعدم الاعتناء به في مقام الدليلية كما زعمه الذاهب لا يوجب عدم الاعتناء به مطلقا ، فلا يصلح (٤) ذلك عذرا في عدم تعرّضهم ، وهذا إجماع آخر منهم على عدم الاعتناء به ، وما عسى يظهر من البعض من الاستناد بوجوه ظنّية في تشخيص الأحكام الشرعية ، كما يلوح من استناد كاشف اللثام (٥) في طهارة الماء الموجود في البئر : بأنّ الكرّ الموجود في خارج البئر لا ينجّس بالملاقاة فكيف ينفعل فيها مع اتّصاله بالمادّة ، ونحو ذلك ، فمحمول على إرادة التأييد بمثل هذه الاعتبارات ، وليس مستندهم في الحكم إلاّ ما هو المعتبر شرعا كما هو ظاهر من ديدنهم في غير هذه الموارد (٦).

__________________

(١) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : « أخبار » من دون لفظه « على ».

(٢) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : ـ أظهر.

(٣) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : كتب.

(٤) « د » : يصحّ.

(٥) كشف اللثام ١ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٦) « ج ، د » : هذا المورد. قال الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية : ٤٥٢ : والفقهاء رحمهم‌الله ربّما يجعلون القياس المفيد للظنّ مؤيّدا مطلقا وإن اتّفقوا على عدم حجّيته وحرمة العمل به لا بأن يكون دليل الحكم ومستنده.

٦٤٠