مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

العادل فيما يعارضه خبر الأعدل ـ مثلا ـ فالمفرّغ (١) للذمّة عند التعارض منحصر فيما هو الأقوى ، وعلى هذا فلا تعارض ، وبالجملة فنوع الأمارة مظنون الحجّية فيما إذا لم يعارض بعضها ما هو أقوى منه ، فتدبّر.

نعم ، قد يشكل الأمر في ذلك فيما إذا تعلّق الظنّ بحسب الواقع بخلاف ما هو المظنون كونه بدلا ، ودفعه بالتزام الأخذ بما هو أقوى الظنّين (٢) كما مرّ ذلك مفصّلا في محلّه.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى دليل الانسداد ، وأمّا الكلام في سائر الأدلّة الدالّة على حجّية أخبار الآحاد فتحقيقه أن يقال : إنّ بعد فرض انتفاء الأدلّة الخاصّة على حجّية مطلق الأقوائية في مقام الترجيح لا وجه للأخذ بها على مذهب من زعم وجوب العمل بقول العادل تعبّدا كما عرفت فيما مهّدنا لك من الأصل ، فلا بدّ من الاقتصار على المرجّحات المنصوصة الثابتة.

نعم ، يصحّ الأخذ بها على تقدير القول بحجّية الأخبار الصادرة ظنّا عن الأئمّة الأطهار ، فإنّ الأقوائية مرجعها إلى أقوائية الظنّ بصدور الأقوى ممّا (٣) هو الملاك في الحجّية ، والمناط في الاعتبار متأكّد في الأقوى دون الآخر ، وبذلك يظهر أنّ الأخذ بما هو الأقوى (٤) صدورا لازم على ما هو التحقيق من حجّية الأخبار الموثوق بها ، فإنّ سكون النفس وركونها في الأخذ بما هو الأقوى من الدليلين (٥) ، ولا حاجة إلى إقامة برهان غير ما انتهض على اعتبارها في محلّه ، ولا يلزم من ذلك عدم اعتبار المعارض الآخر نظرا إلى انتفاء الوثوق فيه كما هو المفروض حتّى يؤول الأمر حقيقة إلى انتفاء التعارض كما عرفت نظير ذلك على القول بحجّية الظنّ المطلق ، والوجه في ذلك أنّ

__________________

(١) « س » : كالمفرغ وفي « ج » : فالمفروغ.

(٢) « س » : الظنيين.

(٣) « ج ، د » : فيما. خ ل بهامش « م » : فما.

(٤) « د » : أقوى.

(٥) « س » : الدليل.

٦٠١

زوال الوثوق بالمعارضة لا يقضي بعدم الحجّية كما أنّ الذاهب إلى حجّية الخبر المظنون الصدور أيضا يلتزم بذلك ، وليس لك إجراء مثله على القول بمطلق الظنّ كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في المرجّحات التي بها يتقوّى أحد الدليلين على الآخر بإحدى الجهات الراجعة إلى كونه دليلا كتقوية الدلالة والصدور وجهة الصدور.

وفي المقام مرجّحات أخر لا دخل لها في تقوية الجهات الراجعة إلى الدليلية وهي ما يتقوّى بها أحد الدليلين مضمونا على الآخر كموافقته للأمارات (١) الظنّية كالاستقراء والشهرة الفتوائية ونحوها ، فالظاهر جريان الأدلّة المذكورة فيها أيضا إلاّ أنّ الإجماع المنقول في المقام السابق لعلّه لا ينهض في المقام بدعوى ظهور اختصاصه بما إذا أفاد المرجّح تقوية للدليل من حيث هو دليل ، وأمّا مجرّد الموافقة المضمونية (٢) فلا يورث تقوية في الدليل ، ولعلّك بعد الرجوع إلى وجوه التراجيح الواقعة في كلماتهم كما يظهر بالتصفّح في مطاويها تقدر على فكّ هذه العقدة فراجعها.

لا يقال : إنّ غاية ما يستفاد من الوجوه المذكورة في مقام الترجيح بالوجوه الظنّية هو الظنّ وهو لا يغني من الحقّ شيئا فكيف يجوز التعويل بمثله في المسألة الأصولية مع أنّ الشيخ نفى الخلاف في عدم اعتباره فيه كما عن العدّة (٣) ونقل السيّد الإجماع عليه ونسبه السيّد الشارح في شرحه للوافية (٤) إلى المحقّقين؟ فالتعويل على الظنّ في الترجيح يرجع إلى التعويل عليه في المسألة الأصولية وقد عرفت فساده في مذهب أهل التحقيق.

لأنّا نقول : بعد الغضّ عن ظنّية الوجوه المذكورة كما ربّما هو ظاهر لمن راجع نفسه منصفا أنّ ذلك وإن اشتهر عندهم غاية الاشتهار إلاّ أنّ عدم الفرق بينها (٥) وبين غيرها

__________________

(١) « س » : كموافقة الأمارات.

(٢) « م » : المضمونة.

(٣) لم أجده.

(٤) انظر شرح الوافية ( مخطوط ) ٢٠٠ / ب ـ ٢٠١ / أ.

(٥) « د » : بينهما.

٦٠٢

من المسائل الفرعية في منار كما يقضي بذلك الإنصاف.

قلت : ولعلّ الوجه في ذلك هو تخيّل أنّ المرجع في المسائل الفرعية هو المسألة الأصولية ، فاعتمدوا فيها على العلم قطعا للدور والتسلسل اللازمين على تقدير الظنّ فيها.

وذلك ليس على ما ينبغي ؛ لإمكان انتهائه إلى العلم في مدرك المسألة الأصولية كما لا يخفى.

وكيف كان فغاية ما يلزم من نقل الإجماع المذكور هو الظنّ بذلك ، فيؤول الأمر إلى تعارض الظنّ المانع والممنوع وقد مرّ في محلّه أنّ الأقوى هو الأخذ بأقوى الظنّيين ، فتأمّل في المقام فلعلّك تهتدي إلى ما هو التحقيق في الكلام والله الموفّق وهو الهادي.

٦٠٣
٦٠٤

هداية

[ في بيان المرجّحات المنصوصة ]

قد مرّ تفصيل القول في حكم التراجيح بحسب الكبرى فلنعطف الكلام إلى تفاصيل الصغريات فتارة : في المرجّحات المنصوصة ، وأخرى : في غيرها في طيّ هداية أخرى.

واعلم أوّلا : أنّ التعارض بين الدليلين إمّا أن يكون بحسب الدلالة وقد عرفت أنّ المناط فيه على الظهور ، فالمقدّم منهما هو الأظهر.

وإمّا أن يكون بحسب الصدور وقد عرفت أيضا أنّ المقدّم هو الأقرب إلى الواقع.

وإمّا أن يكون بحسب جهة الصدور وقد مرّ أيضا أنّ المقدّم هو الأبعد عن التقيّة من الآخر.

وقد يكون التعارض بين كلّ واحد من هذه الجهات وبين الجهة الأخرى ، كما إذا دار الأمر بين حمل الرواية على التقيّة أو تصرّف (١) في الدلالة ، فالظاهر هو تقديم الترجيح في الدلالة على العلاج في السند مطلقا ولو كان المرجّح بحسب الدلالة في غاية الضعف ، وقد مرّ التنبيه (٢) على فساد مقالة من زعم تقديم المطلق على المقيّد بواسطة موافقة المقيّد لمذهب العامّة ، ولعلّ ذلك محلّ وفاق عندهم ، ولا فرق فيه بين أن يكون المرجّح في الدلالة داخليا كما مرّ أو خارجيا وستعرف تفصيله ، والوجه في

__________________

(١) « د » : التصرّف.

(٢) مرّ في ص ٥٤٣.

٦٠٥

ذلك هو ملاحظة طريقة العرف في امتثال أوامر الموالي.

وإذا وقع التعارض بين الترجيح بحسب السند بالأخذ بالمرجّحات السندية الداخلية كالأعدلية ونحوها وبينه بالأخذ بالمرجّحات الخارجية كالشهرة ـ مثلا ـ فيظهر من سيّد المفاتيح (١) طاب ثراه تقديم المرجّح الخارجي على الداخلي مطلقا ولعلّه ليس في محلّه على إطلاقه ؛ إذ ربّما يكون الأقرب هو المرجّح الداخلي ، نعم ، لا يبعد القول بأنّ الغالب هو تقديم الخارجي ؛ لأنّه هو الأقرب ، فالمناط هو الأقربية.

وإذا عرفت (٢) ذلك فاعلم أنّ المرجّحات المنصوصة مختلفة غاية الاختلاف ، وأوضح الروايات الواردة فيها هي المقبولة فنسوق الكلام فيها توضيحا لما اشتملت عليها من الفقرات وتحقيقا لتقديم بعضها على الآخر ، فنقول : إنّه قد اعتبر فيها الترجيح أوّلا بعدّة أمور وهي : الأعدلية ، والأفقهية ، والأورعية ، والأصدقية ، والأخذ بظاهرها كما مرّ غير نافع في مقام الترجيح لندر اجتماعها في الغاية ، بل ينبغي أن يكون المراد الترجيح بكلّ واحد منها ويكشف عن ذلك أمور :

أمّا أوّلا : فالعارف بصناعة الكلام ومن له ذوق في تحصيل المرام إذا تأمّل في مساق الخبر وأعطاه حقّ النظر لعلّه يقطع بذلك ، فإنّ اجتماع أمور في مقام التعبير مع اعتبار كلّ واحد منها على حدّه في مقام التأثير ممّا ليس بذلك البعيد.

وأمّا ثانيا : فالسائل لم يعدّ إلى السؤال عن اجتماع بعضها دون الآخر مع أنّ الترتيب الطبيعي على تقدير اعتبار الأمور الأربع يقضي بذلك.

وأمّا ثالثا : فانفراد الأعدلية عن أخواتها في مرفوعة زرارة شاهد صدق على اعتبار كلّ واحد منها في مقام الترجيح.

وأمّا رابعا : فلأنّ اعتبار الأعدلية مع الأصدقية في غاية البعد ، فإنّ ما هو المعتبر من العدالة في الخبر هو التحرّز عن الكذب ، وأمّا الاجتناب عن غيره من المعاصي فممّا

__________________

(١) مفاتيح الأصول : ٦٨٩.

(٢) « س » : إذ قد عرفت.

٦٠٦

لا دخل (١) له في صدق الخبر إلاّ أن يكون المدار على التعبّد الصرف ولا نقول به ، فما هو الحاصل من أحدهما يحصل من الآخر.

فينبغي أن يحمل على أنّ المعتبر في مقام الترجيح هو أحد هذه الأمور ، ولا يضرّ في ذلك تكرار أحدهما ولو بعبارة أخرى غير العبارة التي عبّر بها أوّلا ؛ إذ لا شبهة أنّ خبر العادل أقرب إلى الواقع من غيره وقضيّة ذلك أقربية الأعدل من غيره ، وذلك أمر ظاهر بالرجوع إلى كلماتهم فإنّ المناط عندهم الأقربية ولذلك يقدّمون روايات حسن بن عليّ بن فضّال مع كونه فطحيا على رواية بعض آخر وإن كان إماميا حيث إنّه لم يتّكل على الروايات التي رواها عن أبيه ؛ لعدم بلوغه حال التحمّل مع أنّ المعتبر عندهم هو البلوغ حال الرواية ، ومن هنا ينقدح لك الوجه في تقديم رواية صاحب الواقعة على غيره ؛ لكونه على حرص من ضبط الرواية في الأغلب.

ومن المرجّحات المذكورة في المقبولة اشتهار أحد الخبرين دون الآخر بحسب الرواية وقد عرفت (٢) المراد منه ، وتوضيحه أنّ الشهرة في المقام المراد منها معناها اللغوي كقولهم : سيف شاهر ، أي ظاهر بارز لا سترة عليه ولا يخفى عند أحد ، ولذلك أردفه في الرواية بقوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » فالرواية التي تتداول (٣) بين الرواة ويحكيها جماعة من الثقات تعدّ مشهورة ، وما انفرد في روايتها بعض الرواة على وجه يستراب فيها هو الشاذّ النادر.

ثمّ المراد باشتهار الرواية هو اشتهارها على وجه ينتهي اشتهارها إلى المعصوم ، وأمّا لو اشتهرت في بعض الطبقات دون أخرى فالظاهر أنّ الرواية ليست شاملة لها وإن كان لا يبعد إلحاق مثلها بالمشهورة حكما كما لا يخفى.

ثمّ إنّ في أمثال هذه الأزمنة قد يشكل العلم بموضوع هذه الشهرة ؛ لاجتماع

__________________

(١) « س » : مدخل.

(٢) عرفت في ص ٥٨٠.

(٣) « ج » : يتداولون « د » : يتداولوه.

٦٠٧

الأحاديث في الأغلب في الكتب المشهورة عندنا من تصانيف المشايخ الستّة وافتراق الأصول التي أخذوا منها من الأصول الأربعمائة ، نعم يمكن استظهار ذلك من تعدّد طرق الرواية فإنّ بعضها مرويّة في جميع تلك الكتب ومع ذلك قد يكون طريق صاحب الكتاب متعدّدا فيها وبعضها ينفرد في ذكرها بعضهم.

وبالجملة : فلا ريب في اعتبار مثل هذه الشهرة في الرواية عند الأصحاب فلا ينبغي فيها الإطناب.

ثمّ إنّه قد زعم بعضهم شمول الشهرة هذه للشهرة في الفتوى ، وقد دفعناه في محلّه بما لا مزيد عليه (١) ، إلاّ أنّ الشهرة في الفتوى أيضا قد يمكن أن تكون (٢) مرجّحة للرواية ، فلا بأس بذكرها إجمالا تتميما للمبحث وهي على أقسام : فتارة : لا يحصل منها الترجيح لإحدى (٣) الروايتين ولا التوهين للأخرى (٤) ، وتارة : يحصل الترجيح فقط وحينئذ فقد يكون من المرجّحات الداخلية ، وقد يكون من المرجّحات الخارجية ، وتارة : يحصل منها التوهين أيضا.

أمّا القسم الأوّل : فيتحقّق في موارد : منها : ما إذا علم بفساد مدرك المشهور كاستنادهم إلى رواية عادمة الدلالة على مطلبهم مع القول بأنّها لا تصلح لأن تكون (٥) قرينة صارفة كما هو التحقيق ، أو مع عدم كشفها عن القرينة كشفا قطعيا ، وأمّا إذا قلنا بالأوّل فالشهرة تنهض قرينة على إرادة خلاف الظاهر كما إذا كانت كاشفة.

ومنها : ما إذا كان مأخذ المشهور أمرا لا يصلح للترجيح كما إذا كان أصلا من الأصول العملية.

ومنها : أن يكون مآخذهم مختلفة ، كما إذا زعموا استحباب شيء فبعضهم

__________________

(١) انظر ج ٣ ، ص ١١٧ ـ ١١٨.

(٢) في النسخ : يكون.

(٣) « د ، س » : لأحد.

(٤) « م ، ج » : للآخر.

(٥) في النسخ : يكون.

٦٠٨

للاحتياط والآخر (١) لتضعيف الرواية ـ مثلا ـ والآخر للتسامح ـ مثلا ـ إلى غير ذلك من وجوه اختلاف المدارك ، فيكون الشهرة تقييدية نظير الإجماع التقييدي.

ومنها : ما إذا كان المأخذ مردّدا بين واحد من الأمور المذكورة وبين ما يصلح للترجيح.

وبالجملة : ففي أمثال هذه الموارد لا وجه للتعويل على الشهرة في مقام الترجيح.

وأمّا القسم الثاني : فكما إذا علم استناد المشهور إلى الرواية على وجه يورث اطمئنانا في صدورها أو جهة صدورها أو دلالتها وكما إذا أفاد الظنّ الواقعي بالحكم المطابق لمضمون أحد الخبرين ، فعلى الأوّل يكون الشهرة من المرجّحات الداخلية ، وعلى الثاني تكون (٢) من المرجّحات الخارجية.

وأمّا القسم الثالث (٣) : فكما إذا علم استناد المشهور إلى أحد الخبرين مع إعراضهم عن الآخر على وجه يكشف عن ضعف فيه وقوّة لمعارضه ولذا قيل : كلّما ازدادت الصحاح في قبال المشهور ازداد وهنا.

ومن المرجّحات موافقة الكتاب والسنّة (٤) ومخالفة العامّة ، قد سبق (٥) ما يرشدك إلى أنّ كلاّ من مخالفة العامّة وموافقة الكتاب والسنّة مرجّح في حيال ذاتهما ، فيكون اجتماعهما في الرواية تنبيها على لطيفة الملازمة بينهما ، وإلاّ فلا يكون لذكر المخالفة بعد ذلك وجه.

قلت : يحتمل أن يكون المعتبر في الترجيح أوّلا اجتماعهما ، ثمّ على تقدير عدم الاجتماع فالمرجّح هو المخالفة كما نبّهناك على مثله في الأصدقية فراجعه ، وكيف فالأولى تخصيص كلّ واحد منهما بالبحث.

__________________

(١) « د » : الأخرى.

(٢) في النسخ : يكون.

(٣) « د ، س » : الثاني.

(٤) من هنا إلى قوله : « مرجّح » سقط من نسخة « د ».

(٥) سبق في ص ٥٨١.

٦٠٩

فنقول : أمّا موافقة الكتاب فتحقيق الكلام فيه يتوقّف على بيان وجوه المخالفة المتصوّرة بين الكتاب والخبر وهي على أنحاء شتّى : أحدها : أن يكون مفاد الخبر المخالف رافعا لموضوع الحكم الكلّي المستفاد من عمومات الكتاب ، مثل ما ورد في الموارد الخاصّة من أدلّة الأحكام المخالفة للأصول العملية المأخوذة من العامّ الكتابي كقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(١) ونحو ذلك.

وثانيها : أن يكون الثابت بالخبر أخصّ مطلقا ممّا ثبت بالكتاب ، مثل ما ورد من تخصيص وجوب الإنصات عند القراءة بحال قراءة الإمام (٢) ، ومثل ما ورد في وجوب الغسل على المريض المتعمّد بالجنابة وإن أصابه ما أصابه (٣) فإنّه تخصيص لقوله : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(٤).

وثالثها : أن يكون بين مفاد الخبر والكتاب عموما من وجه ولا يحضرني الآن مثالا لهذا القسم.

ورابعها : أن يكون المخالفة على وجه المباينة.

فعلى الأوّل : لا ينبغي الارتياب في تقديم الخبر على الكتاب ؛ إذ لولاه لم يثبت تكليف قطعا بالأخبار ، والسرّ فيه انتفاء المخالفة حقيقة وإنّما يظنّها مخالفة من لا يكاد يعقل معنى المخالفة ، كما أنّه لا إشكال في لزوم طرح الخبر على الرابع فإنّ الاخبار الآمرة بطرح الأخبار المخالفة للكتاب ربّما تعدّ (٥) من المتواترات وليس بذلك البعيد فإنّها زخرف لا بدّ من ضربها على الجدار.

__________________

(١) الطلاق : ٧.

(٢) انظر الوسائل ٨ : ٣٥٥ ، باب ٣١ ، باب عدم جواز قراءة المأموم خلف من يقتدي به في الجهرية ووجوب الإنصات لقراءته.

(٣) انظر التهذيب ١ : ١٩٨ ، باب ٨ ؛ الاستبصار ١ : ١٦٢ ، باب ٩٦ ؛ الوسائل ٣ : ٣٧٣ ، باب ١٧ ، باب وجوب تحمّل المشقّة الشديدة في الغسل لمن تعمّد الجنابة دون من احتلم.

(٤) البقرة : ١٨٥.

(٥) في النسخ : يعدّ.

٦١٠

وعلى الثاني : فلا ريب في وجوب تخصيص الكتاب بالخبر المخالف للكتاب على تقدير جواز التخصيص مع وجود مرجّح لذلك الخبر ولو في أدنى مراتب المرجّحية ؛ لعدم المانع منه ووجود المقتضي له ، وعلى تقدير عدم جواز التخصيص فلا تعارض ؛ لعدم اعتبار الخبر المخالف للكتاب ، فيكون المخالفة موهنة للخبر ، وعلى تقدير عدم المرجّح فالمرجع هو عامّ الكتاب لسقوط الخبرين بالمعارضة عن الحجّية ، وليس المقام محلّ التخيير ؛ لادّائه إلى عدم حجّية الكتاب ، إذ على تقديره كما يجوز (١) الأخذ بما يوافق كذلك يجوز الأخذ بما يخالف الكتاب ، وذلك طرح للكتاب من غير وجه.

قلت : ولعلّك تقول : إنّ التخيير بين الخبرين والأخذ بالمخالف يقوم مقام الأخذ بالخبر مع الترجيح ، فكما لا غائلة في التخصيص مع الترجيح لا غائلة فيه مع ما هو بمنزلته شرعا وليس ذلك طرحا للكتاب من غير وجه ، وكيف كان فعلى ما أفاده مدّ الله ظلاله على رءوس العالمين (٢) ليس المورد من موارد التخيير ، ولا من موارد ترجيح (٣) الموافق للكتاب (٤) على الآخر ، أمّا الأوّل فلما عرفت ، وأمّا الثاني فلأنّ الترجيح بالعموم إنّما يحصل بعد فرض بقائه على عمومه وهو حينئذ دليل مستقلّ.

قلت : كونه دليلا مستقلاّ لا ينافي أن يكون مرجّحا للدليل الموافق ، فإنّ كثرة الدليل أيضا من وجوه الترجيح كما هو معلوم وستعرفه.

وبالجملة : فالذي يفضي إليه النظر هو الأخذ بالخبر الموافق وطرح الخبر المخالف (٥) ؛ لحصول الترجيح له بالموافقة ، ولا سيّما فيما قلنا باعتبار أصالة الحقيقة من باب الظنّ ، ولو تنزّلنا عن ذلك فالحكم ـ كما نبّهت عليه ـ هو التخيير ، وعلى تقدير الأخذ بالخبر

__________________

(١) « س » : لا يجوز.

(٢) « د » : دام ظلّه.

(٣) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : ـ ترجيح.

(٤) « س ، ج ، م » : بالكتاب.

(٥) « ج ، د ، م » : ـ المخالف ، وشطب عليها في « س ».

٦١١

المخالف (١) فلا ضير في تخصيص الكتاب ؛ لأنّ التخيير بمنزلة الترجيح ولا مانع من ذلك بعد ما هو المعلوم من إطلاق أدلّة التخيير وقد أوردت عليه دام ظلّه فلم ينكره عليّ.

وعلى الثالث : فإن قلنا بأنّ مرجع التعارض في العامّين (٢) من وجه إلى تعارض سنديهما فمن المعلوم وجوب تقديم الكتاب ؛ لكونه معلوم الصدور ، فيبقى الخبر الموافق سليما عن المعارض ؛ إذ المفروض أنّ المخالف بمعارضته للكتاب (٣) فقد سقط عن الاعتبار كما في صورة التباين ، فالمخالفة موهنة حينئذ.

وإن قلنا بأنّ مرجع التعارض إلى (٤) الدلالة مع قطع النظر عن السند مطلقا ، فالظاهر تقديم الموافق على المخالف ؛ لدوران الأمر بين طرح ظاهر واحد والحكم بسقوطه من الاعتبار وبين طرح ظاهرين ، والأوّل على القول باعتبار أصالة الحقيقة من باب الظنّ أولى ، ولا يبعد ذلك بناء على الأخذ بها من حيث بناء العقلاء أيضا (٥) ، فتدبّر.

وإن قلنا بالتفصيل بين العامّين من وجه وأخواتهما كما عرفت ممّا فصّلناه لك في محلّه ، فيلحق بكلّ من القسمين حكمه من غير إشكال. وينبغي أن يعلم أنّ المراد من العموم والخصوص المطلق أو من وجه هو ذلك باعتبار موضوع الحكم وذلك أمر ظاهر لا يكاد يخفى على أوائل العقول.

وأمّا موافقة السنّة فالمراد (٦) بها قول الحجّة (٧) أو فعله أو تقريره على وجه قطعي ولا اختصاص لها بالنبيّ وإن كان يظهر من بعض تلك الأخبار ذلك.

وأمّا السنّة الظنّية فهي (٨) في عرض الأخبار المتعارضة و (٩) لا يصلح للترجيح في

__________________

(١) « م » : الموافق.

(٢) « د » : عامّين.

(٣) « د » : بمعارضة الكتاب.

(٤) « س » : + ملاحظة.

(٥) « م » : ـ أيضا.

(٦) في النسخ : والمراد.

(٧) « س » : + عليه‌السلام.

(٨) « د » : وهي.

(٩) « س » : ـ و.

٦١٢

حيال ذاتها ، اللهمّ إلاّ لمعاضدة أو شهرة في الرواية ونحو ذلك ممّا هو خارج عمّا نحن بصدده ، والكلام فيه كالكلام في الكتاب تحقيقا وتنقيحا.

وأمّا مخالفة العامّة فلا إشكال في حصول الترجيح بها في الجملة ، بل وبموافقتهم (١) يسقط الآخر عن الحجّية فيما إذا انضمّت قرائن التقيّة إليه.

قال شيخ الطائفة في العدّة (٢) : إذا تساوت الروايتان في العدالة والعدد عمل بأبعدهما عن قول العامّة وترك العمل بما يوافقهم.

واعترضه المحقّق في المعارج بأنّ الظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية (٣) رويت عن الصادق عليه‌السلام وهو إثبات لمسألة علمية بخبر واحد ، ولا يخفى عليك ما فيه مع أنّه قد طعن فيه (٤) فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره.

فإن احتجّ بأنّ الأبعد لا يحتمل إلاّ الفتوى والموافق للعامّة يحتمل التقية فوجب (٥) الرجوع إلى ما لا يحتمل.

قلنا : لا نسلّم أنّه لا يحتمل إلاّ الفتوى ؛ لأنّه (٦) كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الإمام كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل مراعاة لمصلحة يعلمها الإمام وإن كنّا لا نعلمها.

فإن قال : ذلك يسدّ باب العمل بالحديث.

__________________

(١) « ج ، د » : لموافقتهم.

(٢) العدّة ١ : ١٤٧.

(٣) « ج ، م ، س » : رواية؟

(٤) أي في الاحتجاج به. قال المفيد في جوابات أهل الموصل ( رسالة العدد ) ص ٤٧ وعنه في مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٦ : وإنّما المعنى في قولهم عليهم‌السلام : « خذوا بأبعدهما من قول العامّة » يختصّ ما روي عنهم في مدائح أعداء الله والترحّم على خصماء الدين ومخالفي الإيمان فقالوا عليهم‌السلام : إذا أتاكم عنّا حديثان مختلفان أحدهما في قول المتقدّمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام والآخر في التبرّي منهم ، فخذوا بأبعدهما من قول العامّة ؛ لأنّ التقيّة تدعوهم بالضرورة إلى مظاهرة العامّة بما يذهبون إليه من أئمّتهم.

(٥) المثبت من « م » وهو موافق للمصدر وفي سائر النسخ : يوجب.

(٦) « ج ، س » : ولأنّه.

٦١٣

قلنا : إنّما (١) يصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل لا مطلقا ، فلم يلزم سدّ باب العلم (٢) ، انتهى.

وضعّفه في المعالم أوّلا بأنّ ردّ الاستدلال بالخبر بأنّه إثبات لمسألة علمية بخبر واحد ، ليس بجيّد إذ لا مانع من إثبات مثله بالخبر المعتبر من الآحاد ، ونحن نطالبه بدليل منعه (٣). إلاّ أنّه رحمه‌الله بناء على ما سلكه في الأخبار إنّما منع من صحّة الخبر في المقام ، وليس بجيّد ؛ لأنّ الأخبار في هذا المعنى فوق حدّ الاستفاضة ، بل وكاد تبلغ حدّ التواتر.

وثانيا بأنّ الإفتاء بما يحتمل التأويل وإن كان محتملا إلاّ أنّ احتمال التقيّة على ما هو المعلوم من أحوال الأئمّة عليهم‌السلام أقرب وأظهر ، وذلك كاف في الترجيح ، فكلام الشيخ عندي هو الحقّ (٤) ، انتهى.

وهو كذلك ، والسرّ فيه : أنّ بناء العرف واللغة على الأخذ بالأصول المعمولة في الألفاظ من الأمور المشخّصة (٥) لنفس الإرادة وتعيين ما هو المراد منها ما لم يظهر دلالة يمكن التعويل عليه في صرف تلك الأمور ، والإنصاف أنّ الاعتماد على أصالة عدم التقيّة في أمثال المقام ربّما لا يساعده المقام ، فيدور الأمر بين الأخذ بتلك الأصالة دفعا لاحتمال التقيّة وبين الأخذ بأصالة عدم القرينة وأصالة الحقيقة دفعا لاحتمال التأويل من غير جهة التقية ، ولا ريب أنّ الثاني في كلماتهم أغلب فالأخذ به أقرب كما أفاده محقّق المعالم ، نعم قد يمكن أن يكون المقام بواسطة احتفاف القرائن والشواهد الدالّة

__________________

(١) « ج ، س » : « ربّما ».

(٢) معارج الأصول : ٢٢٥ ـ ٢٢٦ وقارن بما تقدّم في ص ٥٨٩.

(٣) ثمّ قال صاحب المعالم : « نعم هذا الخبر الذي أشار إليه لم يثبت صحّته فلا ينهض حجّة » وما ذكره في المتن من قوله : « إلاّ أنّه رحمه‌الله » إلى قوله : « حدّ التواتر » اعتراض منه على صاحب المعالم.

(٤) المعالم : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٥) « س » : المستحقّة.

٦١٤

على عدم التقيّة مردّدا بينهما ، وقد يزيد ذلك فيرجّح كما لا يخفى.

وبالجملة : فلا ينبغي إنكار كفاية المخالفة في مقام الترجيح على أحد الوجوه التي مرّ (١) إليها الإشارة من الأخذ بالمخالفة تعبّدا ، أو من جهة أنّ الموافق لا يحتمل إلاّ الفتوى ، أو من جهة أنّ الواقع في خلاف مقالتهم ، أو من جهة أنّ في خلافهم حسنا ومصلحة تزيد على مصلحة الواقع وإن لم تدرك نظير جلوس النبيّ حين ما سمع قيام اليهود عند دفن الأموات إبداء لمخالفتهم وإرغاما لأنفهم (٢) ، فقاتلهم الله أنّى يؤفكون.

ثمّ إنّ بعض الأخبار يشتمل على الأخذ بما خالفهم وهو ظاهر في المخالفة القولية ، وبعض الآخر يشمل على الأخذ بما يخالف أخبارهم ، فمن الأوّل ما قد سمعت مرارا ، ومن الثاني ما قد رواه الصدوق عن الرضا عليه‌السلام : « فانظروا إلى ما وافق أخبارهم فدعوه » (٣) وما رواه القطب الراوندي عن الصادق عليه‌السلام : « فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه » (٤) والظاهر أنّ المآل في ذلك إلى أمر واحد كما يكشف عن ذلك اجتماعهما في رواية الصدوق عن محمّد بن موسى بن المتوكّل عن [ عليّ بن الحسين ] السعدآبادي عن أحمد بن أبي عبد الله [ البرقي ] عن أبيه عن محمّد بن عبد الله (٥) قال : قلت للرضا : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال : « إذا ورد عليكم خبران مختلفان

__________________

(١) مرّ في ص ٥٨٩ ـ ٥٩٢.

(٢) الخلاف ١ : ٧١٩ ، مسألة ٥٣٤ ؛ البحار ٧٩ : ٢٥ ، باب ١٢.

(٣) هذه الرواية قطعة من الرواية الآتية بعد سطور.

(٤) مختصر رسالة القطب الراوندي المطبوع في ميراث حديث شيعة ٥ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ؛ وعنها في الفوائد المدنية : ٣٨١ وفي ط الحجري : ص ١٨٧ ؛ الوسائل ٢٧ : ١١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

ونقل عنها بالواسطة في البحار ٢ : ٢٣٥ ، باب ٢٩ ، ح ٢٠. وسيأتي بتمامه في ص ٦٢١.

(٥) في مختصر الرسالة وفي الفوائد المدنية : عبيد الله.

٦١٥

فانظروا إلى ما يخالف منهما العامّة ، فخذوه وانظروا إلى ما وافق (١) أخبارهم فدعوه » (٢).

ولعلّ ذلك أمر ظاهر لا ينبغي الارتياب فيه وإنّما الإشكال في تعيين ما هو المقصود من المخالفة في هذه الأخبار الكثيرة ، فإنّ الأخذ بظاهرها يوجب اختصاص هذه الأخبار بموارد قليلة لا يكاد يلتزم به الخبير في مثل هذه الروايات ، فإنّ مخالفة جميع العامّة كما هو الظاهر من الروايات لا يوجد إلاّ أقلّ قليل من الأحكام وهي تعدّ في (٣) ضروريات المذهب في الغالب ، بل الأغلب (٤) ، نعم قد يتّفق ذلك في غاية الندرة كما في روايات طهارة البئر مثلا.

وعلى تقدير التأويل (٥) فيها بأنّ المراد مخالفة البعض فهل المدار على مخالفة أيّ الفرق منهم؟ فإنّهم مع اجتماعهم على أمر باطل متفرّقين (٦) على وجوه شتّى ومذاهب لا تنتهي.

والأظهر في النظر أنّ هذه الأخبار إنّما وردت أنموذجا لما هو اللائق أن يؤخذ به ودستورا لما هو الحقيق لأن يعمل به ، وليس المراد بها تشخيص موارد المخالفة فإنّها مختلفة جدّا لا تكاد تنضبط ، فإنّ المقتضي للتقيّة تارة : يوجد في المتكلّم ، وأخرى : في المخاطب بحسب بلديهما أو بلد آخر ، أو السامع ، أو (٧) الحاكم في ذلك الزمان أو زمان آخر ، والفقيه يستشعر (٨) بذلك في موارده ، فإنّ ذلك محال على أنظار أرباب النظر وأصحاب البصر.

__________________

(١) في المصادر : يوافق.

(٢) مختصر رسالة قطب الراوندي المطبوع في ميراث حديث شيعة ٥ : ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ؛ وعنها الفوائد المدنية : ٣٨٢ وفي ط الحجري : ص ١٨٧ ؛ الوسائل ٢٧ : ١١٩ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٤.

ونقل عنها بالواسطة في البحار ٢ : ٢٣٥ ، باب ٢٩ ، ح ١٩.

(٣) « د » : ـ في.

(٤) « د » : في الأغلب.

(٥) « ج » : + منع هنا.

(٦) « ج ، د » : مفترقين.

(٧) « د » : و. « س » : إذ.

(٨) « س » : يشعر.

٦١٦

وهل يلزم في التقيّة وجود قول من العامّة على طبق ما يحتمل التقيّة ، أو لا؟ وجهان :

قال المحدّث البحراني في مقدّمات الحدائق : المقدّمة الأولى : غير خفيّ على ذوي العقول من أهل الإيمان وطالبي الحقّ من ذوي الأذهان ما أصاب بهذا الدين (١) من أولئك المردة المعاندين بعد موت سيّد المرسلين وغصب الخلافة من وصيّه سيّد الوصيين (٢) ، وتواثب أولئك الكفرة عليه وتزايد الأمر شدّة بعد موته صلوات الله عليه وما بلغ به (٣) حال الأئمّة عليهم‌السلام من الجلوس في زوايا التقيّة والاصطبار (٤) على كلّ محنة وبليّة ، وحثّ الشيعة على استشعار شعار التقيّة والتديّن بما عليه تلك الفرقة الأموية الغويّة حتّى كوّرت شمس الدين النيّرة وخسفت كواكب (٥) المقمرة ، فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلاّ القليل ؛ لامتزاج أخبارنا (٦) بأخبار التقيّة كما اعترف بذلك ثقة الإسلام وعلم الأعلام محمّد بن يعقوب الكليني نوّر الله مرقده في جامع (٧) الكافى حتّى أنّه قدس‌سره تخطّأ العلم برجحان الرواية (٨) عند تعارض الأخبار والتجأ إلى مجرّد الردّ والتسليم للأئمّة الأبرار ، فصاروا صلوات الله عليهم محافظة على أنفسهم وشيعتهم يخالفون بيّن الأحكام وإن لم يحضرهم أحد من أولئك الأنعام ، فتراهم يجيبون في مسألة واحدة أجوبة (٩) متعدّدة وإن لم يكن بها قائل من المخالفين كما هو ظاهر لمن تتبّع قصصهم وأخبارهم واحتدى (١٠) سيرهم (١١) وآثارهم ، وحيث إنّ أصحابنا رضوان الله عليهم خصّوا الحمل على

__________________

(١) في المصدر : ما بلي به هذا الدين.

(٢) « س » : الأوصياء. « ج » : من وصيّ سيّد المرسلين. وفي المصدر : من وصيّة أمير المؤمنين.

(٣) في المصدر : إليه.

(٤) في المصدر : زاوية ... والإغضاء.

(٥) في المصدر : كواكبه.

(٦) في المصدر : أخباره.

(٧) في المصدر : جامعه.

(٨) في المصدر : تخطّأ العمل بالترجيحات المرويّة.

(٩) في المصدر : في المسألة الواحدة بأجوبة.

(١٠) في المصدر : وتحدّى.

(١١) « ج » : بسيرهم.

٦١٧

التقيّة بوجود قائل من العامّة وهو خلاف ما أدّى إليه الفهم الكليل والفكر العليل من أخبارهم رأينا أن نبسط الكلام بذكر جملة من الأخبار الدالّة على ذلك لئلاّ يرمينا (١) الناظر إلى مخالفة الأصحاب [ من غير دليل ] وينسبنا إلى الضلال والتضليل.

ثمّ أخذ بذكر الأخبار المشعرة بذلك ناقلا ما ذكره من المحدّث الأمين أيضا وذكر في عدادها ما رواه في الكافى في الموثّق عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن مسألة فأجابني فيها ، ثمّ جاءه رجل آخر (٢) فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاء (٣) رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله [ رجلان ] من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كلّ واحد [ منهما ] بغير ما أجبت به صاحبه؟! فقال : « يا زرارة إنّ هذا خير لنا [ وأبقى لنا ولكم ] فلو (٤) اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم » ثمّ قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النار لمضوا [ وهم يخرجون من عندكم مختلفين ] قال : فأجابني بمثل جواب أبيه (٥).

قال في الحدائق ـ بعد توجيه دلالة الرواية على ما هو مطلوبه وذكر طرف من الأمور ـ : ولعلّك بمعرفة (٦) ذلك تعلم أنّ الترجيح بين الأخبار [ بالتقيّة ] بعد العرض على الكتاب العزيز من أقوى المرجّحات ، فإنّ جلّ الاختلاف الواقع في أخبارنا ، بل كلّه عند التأمّل والتحقيق ناش (٧) عن التقيّة (٨) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه ، وهو كما

__________________

(١) « س » : يريبنا. وفي المصدر : يحملنا الناظر على.

(٢) لم ترد كلمتي « فيها » و « آخر » في مصادر الحديث.

(٣) المثبت من « د » وهو موافق للمصادر ، وفي « س ، ج ، م » : جاءه.

(٤) في المصادر : ولو.

(٥) الكافى ١ : ٦٥ ، باب اختلاف الحديث ، ح ٥ ؛ ورواه الصدوق في العلل : ٣٩٥ ، باب ١٣١ ، ح ١٦ ؛ وعنه في البحار ٢ : ٢٣٦ ، باب ٢٩ ، ح ٢٤.

(٦) في المصدر : بمعونة.

(٧) في المصدر : نشأ.

(٨) الحدائق الناضرة ١ : ٤ ـ ٦ و ٨.

٦١٨

ترى صريح في أنّ الحمل على التقيّة لا يستلزم وجود قول من العامّة على طبقه.

واعترضه الوحيد البهبهاني في فوائده بوجوه : منها : أنّ الحكم إذا لم يكن موافقا لمذهب العامّة يكون رشدا وصوابا ؛ لأنّ الرشد في خلافهم إذا المراد هو الرشد الواقعي مع قطع النظر عن وقوع الفعل من جهة التقيّة ، وإلاّ فهذه الجهة قد تعرض (١) لمذهب من مذاهب العامّة فيصير رشدا.

ومنها : أنّ ذلك لا يصلح وجها للتقيّة ؛ لأنّ القول بخلاف ما ذهب إليه العامّة ولو واحدا أدخل في وقوع الأذى منهم على الشيعة فإنّهم كانوا يتّهمونهم بأمور جزئية فكيف بالقول بما هو خلاف الكلّ منهم؟

ومنها : أنّ التقيّة اعتبرت لأجل ترجيح الخبر الذي هو الحقّ على الذي هو ليس بحقّ ورشد على ما يظهر من الأخبار وهذا ينافي ما ذكر قطعا (٢).

والتحقيق في المقام : أنّ المحدّث المذكور إنّما قال بذلك روما إلى أنّ وجه الاختلاف بين الأخبار لا ينحصر في التقيّة بالمعنى المعهود بين الأصحاب ، بل يمكن أن يكون التقيّة على هذا الوجه ولم يرد بذلك أنّ التقيّة على هذا الوجه تنهض مرجّحة للخبر ، وإنّما ساق الكلام في ذلك المقام لا في مقام الترجيح ، نعم قد نبّه على ذلك بقوله : « ولعلّك » فلو أراد بذلك الترجيح بمثل هذه التقيّة كما يشعر به قوله : « من أقوى المرجّحات » فيرد عليه : أنّه لا يعقل أن يكون هذه التقيّة من المرجّحات ، كيف والخبران متساويان في هذا الاحتمال؟ كما اعترضه المحقّق البهبهاني ، إلاّ أنّ الظاهر منه في تضاعيف كلماته في الموارد الفقهية عدم الاعتداد بمثل هذه التقيّة في مقام الترجيح ، فالإنصاف أنّ مقصوده ما عرفت من إبداء وجه الاختلاف بين الأخبار ، وإنّما رام بذلك إبطال تقسيم الأخبار عند المتأخّرين من أصحابنا إلى الأقسام الأربعة.

__________________

(٩) في النسخ : يعرض.

(١٠) الفوائد الحائرية ( الفوائد الجديدة ) : ٣٥٣ ـ ٣٥٤ مع تلخيص.

٦١٩

وعلى ذلك فلا يرد عليه شيء من الوجوه المذكورة : أمّا الأوّل : فلاختصاص (١) كون الرشد في خلافهم بصورة التعارض ، وعلى إشكال في ذلك أيضا ؛ إذ الأخذ بعمومه ربّما يخالف الإجماع ، بل الضرورة.

وأمّا الثاني : فلأنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، فلعلّ المقام يقضي بالتقيّة على ذلك الوجه ولا دليل يقضي بامتناعه.

وأمّا الثالث : فلما عرفت من أنّ المقصود بذلك ليس إلاّ بيان وجه الاختلاف كما هو الإنصاف ، فراجعه متدبّرا ، وما ذكره من وجه الاختلاف ليس بذلك البعيد أيضا ، ويكشف عنه ـ مضافا إلى ما ذكره ـ رواية الخثعمي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّا فليكتف بما يعلم منّا ، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم أنّ ذلك دفاع منّا عنه » (٢) ويحتمل أن يكون الأخبار التي يتراءى اختلافها بحسب أنظارنا واقعة على وجه من الوجوه المحتملة في الواقع إلاّ أنّها خفيت (٣) علينا لقصورنا عن الإحاطة بجميع وجوه الواقع (٤) وأنحاء نفس الأمر ، ويؤيّد ذلك ما قد روي عنهم من النهي عن إنكار ما قد ينسب إليهم عليهم‌السلام صونا عن وقوعنا في الكفر من حيث لا نشعر ، ومن هنا أفتى بعضهم بحرمة الإنكار عند سماع الخبر والرواية ، ويستعلم ذلك من بعض التعليلات الواردة في الروايات القاصرة عنها عقولنا كقولهم : « ربّ الماء ربّ التراب » (٥) وممّا روي (٦) أنّ بعض أهل العراق سألهم (٧) أنّه كم آية يقرأ في الزوال؟ فقال عليه‌السلام : « ثمانون » ، ولم يعد السائل سؤاله في توضيحه وانصرف ، فقال الإمام عليه‌السلام : « وهذا يظنّ أنّه من أهل الإدراك مع أنّه لم يستفسر عمّا قلت له من وجوبه وندبه وسائر كيفياته » ،

__________________

(١) « س » : فلأنّ اختصاص.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٠٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣ ؛ البحار ٢ : ٢٢٠ و ٢٤٤ ، باب ٢٩ ، ح ١ و ٤٧.

(٣) « س » : جعلت.

(٤) « س » : الترافع.

(٥) الوسائل ٣ : ٣٧٠ ، باب ١٤ من أبواب التيمّم ، ح ١٥ و ١٧.

(٦) عطف على « من النهي ... ».

(٧) سأل عن الصادق عليه‌السلام.

٦٢٠