مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

أمور أربعة : الأعدلية ، والأورعية ، والأفقهية ، والأصدقية ، ولا أكاد أظنّ أنّ الأخباري أيضا يلتزم بذلك ؛ إذ قلّ ما يوجد ما يجتمع فيه الأمور الأربعة (١) ، والتفكيك بينهما ممّا ينافيه ظاهر العطف ، وعلى تقدير التفكيك فلا دلالة في الرواية على الاقتصار على المرجّحات المنصوصة في مقام الترجيح ، بل تكون (٢) على هذا التقدير واردة في مقام إراءة الطريق كما لعلّه يومئ إليه ظاهر الأصدقية كما ستعرف.

ومنها : أنّ العلم بالأعدلية متعسّر في الأغلب ؛ إذ غاية ما يتكلّف في المقام هو الظنّ بمجرّد الملكة ، وأمّا شدّتها في واحد دون واحد فممّا لا سبيل لنا إليه جدّا ، فإنّ مدار تشخيص هذه الأمور في أمثال زماننا إلى الرجوع إلى ما ذكره أهل الرجال في أوصاف الرواة ، ومن الظاهر أنّه لا يستفاد منها ذلك ؛ لأنّ تمجيد بعض الرواة بذكر بعض مدائحه ممّا لا دلالة فيه على عدم اتّصاف غيره به وذلك أمر ظاهر ، ومن هنا قلنا بأنّ ما قد يوجد في بعض الأخبار من الثمرات المترتّبة على بعض الأعمال لا يدلّ على أفضلية ذلك العمل بالنسبة إلى غيره ، فتأمّل.

ومنها : أنّ ذكر موافقة الكتاب في عداد المرجّحات مقارنة لمخالفة العامّة ، ثمّ بعد ذلك أمر بالأخذ بما خالف العامّة لعلّه لأجل لطيفة هي أنّ كلّ ما وافق الكتاب فقد خالف العامّة ، وإلاّ فلا وجه لذلك ؛ لأنّ توسيطه بين الأخذ بالمشهور وبين ما خالف العامّة ممّا لا نعرف له وجها.

بيان ذلك : هو أنّه لا يخلو إمّا أنّ نقول بتخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، أو لا نقول ، فعلى الأوّل لا بدّ من ذكرها بعد تمام المرجّحات ؛ إذ لا إشكال على هذا التقدير في وجوب التخصيص بعد ما ترجّح أحد المتعارضين على الآخر ولو بواسطة مخالفة العامّة ، وعلى الثاني فلا بدّ من ذكرها قبل كلّ مرجّح ولا أقلّ من أن يكون في عرض المشهور حينئذ.

__________________

(١) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : الأربع.

(٢) في النسخ : يكون.

٥٨١

ومنها : أنّ الأمر بالإرجاء والتوقّف ممّا لا يصحّ على إطلاقه ؛ إذ ربّما لا يمكن ذلك ، فلعلّ ذلك ممّا يؤذّن باختصاص الرواية فيما يمكن تحصيل العلم فيه في أمثال أزمنة الأئمة عليهم‌السلام (١). هذا تمام الكلام في المقبولة.

وأمّا المرفوعة فهي ما نسبها في القوانين إلى غوالى اللآلى مرفوعة إلى زرارة قال : سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه‌السلام : « يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر » فقلت : يا سيّدي إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم؟ فقال : « خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان؟ فقال : « انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم » فقلت : ربّما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ [ فقال : « إذا فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط » فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ ] فقال : « إذا فتخيّر أحدهما وخذ (٢) به وتدع الآخر » وفي رواية : « فإذا فأرجه حتّى تلقى إمامك فتسأله » (٣).

والإنصاف أنّ هذه الرواية مع كونها قاصرة السند لكونها مرفوعة مع عدم ظهور حال الكتاب الذي رفعها فيه كما طعن فيه بعض من ليس له سجيّته الطعن في الروايات كصاحب الحدائق (٤) ، ممّا لا يغني عن شيء ؛ لعدم وضوح وجوه الترجيح المذكورة فيها عندنا ، كما أذعن الشيخ الجليل ثقة الإسلام في ديباجة الكافى (٥) بذلك

__________________

(١) من هنا سقط من نسخة « ج » قدر أربع صفحات تقريبا.

(٢) في القوانين والعوالى : فتأخذ.

(٣) القوانين ٢ : ٢٩٠ ؛ عوالى اللآلى ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠ وما بين المعقوفين منهما.

(٤) الحدائق ١ : ٩٩.

(٥) الكافى ١ : ٩. في هامش « م » : اعلم يا أخي ـ أرشدك الله ـ أنّه لا يسع أحد تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم‌السلام برأيه إلاّ ما أطلقه العالم بقوله : « اعرضوها على كتاب الله

٥٨٢

حيث أفاد : أنّ ما سوى التخيير بين الأدلّة المتعارضة ممّا لا يمكن (١) استفادته من الأخبار العلاجية ؛ لاختلاف مواردها وعدم العلم بوجوه الجمع بينها (٢) ، فهذه المرفوعة تعارض المقبولة في ترتيب المرجّحات ، فإنّ المقدّم في الترجيح في المقبولة هو الأعدلية ، ثمّ بعد ذلك الترجيح بالشهرة ، بخلاف المرفوعة فإنّ الترجيح بالشهرة مقدّم عليها وإن كان يمكن ترجيح المقبولة على المرفوعة على الوجهين ؛ لأعدلية رواتها مع استشهارها أيضا بالنسبة إلى المرفوعة ، إلاّ أنّ وجوه الاختلاف بين هذه الروايات كثيرة ظاهرة : فتارة : آمرة بأخذ ما وافق الكتاب ، وأخرى بطرح ما خالف العامّة ، وتارة : حاكمة بالتوقّف ، ومرّة : ناطقة بوجوب التخيير ، إلى غير ذلك ، فلا تكاد (٣) يستقيم شيء منها كما هو ظاهر على المتأمّل في مساقها.

ومن هنا يعلم سقوط ما توهّمه بعض الأخبارية ـ في الطعن على أساطين العلماء كالعلاّمة الذي هو بين أرباب العلوم كالبدر الطالع بين النجوم ، فإنّه هو الذي قد منّ الله تعالى بوجوده على الفرقة الناجية ـ من أنّ هؤلاء إنّما تركوا الأخبار العلاجية وأخذوا بالظنّ (٤) في مقام الترجيح تبعا للعامّة ، فإنّ هذه الأخبار ممّا لا يستفاد (٥) منها شيء ، بل لنا أن نقول : إنّ اختلاف طرق هذه الروايات من أقوى الشواهد على عدم اختصاص المذكورات بالترجيح ، فعليك بالإنصاف في المقام والاجتناب عن الاعتساف في تحصيل المرام ، والله الموفّق وهو الهادي.

__________________

فما وافق كتاب الله عزّ وجلّ فذخذوه ، وما خالف كتاب الله فذروه » ، وقوله : « دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم » ، وقوله : « خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » ، ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله : « بأيّما أخذتم من باب التسليم وسعكم » ، انتهى موضع الحاجة من كلامه. ولعمري إنّه قد أفصح عمّا نحن بصدده غايته ، فتدبّر.

(١) « د » : لا يكون.

(٢) « د » : بينهما.

(٣) « د ج م » : فلا يكاد.

(٤) « س » : بالطعن.

(٥) « س » : ممّا يستفاد.

٥٨٣
٥٨٤

هداية

[ في التعدّي عن المرجّحات المنصوصة ]

بعد ما عرفت عدم وفاء الأخبار العلاجية بما هو المطلوب في مقام الترجيح فهل لنا في المقام دليل يدلّ على الأخذ بما يترجّح أحد الدليلين على الآخر وإن لم يكن من المرجّحات المنصوصة ، أو لا؟ التحقيق : نعم ، فتارة : نتكلّم فيما يستفاد من الروايات من وجوب الأخذ بما هو الأقرب من الواقع من المتعارضين ، وتارة : فيما هو قضيّة المذاهب على اختلافها في حجّية الأخبار.

واعلم أوّلا : أنّ المقصود في المقام إنّما هو إثبات أنّ أقوائية أحد الدليلين مطلقا يوجب ترجيح الأقوى على غيره ، والمراد من الأقوائية (١) هو أعمّ من أن يكون في أحد الخبرين احتمال لا يوجد في الآخر ، كما إذا علمنا مثلا بورود أحد الخبرين في مقام (٢) بيان الحكم الواقعي واحتملنا صدور الآخر تقيّة ، أو (٣) يكون الاحتمال في أحدهما أضعف من الاحتمال في الآخر كما إذا احتمل ورودهما تقيّة إلاّ أنّ الاحتمال في أحدهما أضعف منه في الآخر.

وإذ قد عرفت هذا فنقول : أمّا الكلام فيما يستفاد من الروايات فهو أن يقال : إنّ اختلاف الأخبار العلاجية دليل على أنّ المناط في الترجيح على مطلق الأقوائية

__________________

(١) « م » : أقوائية.

(٢) « س » : ـ في مقام.

(٣) « د » : و.

٥٨٥

والأقربية كما أومأنا إليه مرارا وأشار إليه أيضا محقّق القوانين (١) ، وهذا وإن كان قويّا إلاّ أنّه ربّما يمنعه مانع ويطالب على استكشاف ذلك من الأخبار بدليل ، فالأولى أن يقال : إنّ هناك (٢) إشعارات وتلويحات ينبّه بها البصير ويعترف بها الخبير على اعتبار مطلق الأقوائية ، فمن تلك ما يلوح من الأخبار المشتملة على لفظ « الثقة » و « الوثوق » كرواية الاحتجاج وغيره عن الحسن بن جهم عن الرضا عليه‌السلام : يجيء الأحاديث عنكم متخالفة (٣)؟ قال عليه‌السلام : « ما جاءك عنّا فقسه على كتاب الله عزّ وجلّ وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا » قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلم يعلم (٤) أيّهما الحقّ؟ فقال : « إذا لم يعلم (٥) فموسّع عليك بأيّهما أخذت » (٦).

وكرواية الغوالى « خذ بما هو أوثقهما » (٧).

وكرواية الاحتجاج أيضا في احتجاج أبي عبد الله عليه‌السلام عن الحارث بن مغيرة ، قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه‌السلام [ فتردّه إليه ] » (٨) والتقريب في ذلك واضح حيث إنّ المعصوم عليه‌السلام قد وكّل أمر الترجيح والاختيار في الأخبار على الوثوق ، ومن الظاهر أنّ مناط الوثوق هو الأقربية إلى الواقع ؛ ضرورة فساد احتمال التعبّد في الوثاقة وإن كان يمكن ذلك في العدالة ، ولذلك

__________________

(١) انظر القوانين ٢ : ٢٩٠ ، وما بعدها.

(٢) « د » : هنا.

(٣) في المصادر : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة.

(٤) في المصادر : فلا نعلم ، وفي الوسائل : ولا نعلم.

(٥) في المصادر : لم تعلم.

(٦) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ / ٢٣٣ وسيأتي عنه في ص ٦٣٣ ؛ الوسائل ٢٧ : ١٢١ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٠ ؛ البحار ٢ : ٢٢٤ ، باب ٥٢٩.

(٧) تقدّم في ص ٥٨٢ وفيه : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك.

(٨) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ / ٢٣٤ ؛ الوسائل ٢٧ : ١٢٢ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤١.

٥٨٦

عدلنا في المقام إلى الأخبار المشتملة على الوثوق. نعم لا يبعد دعوى أنّ العدالة أيضا معتبرة من حيث إنّها طريق لا من حيث إنّها موضوع لكن مجال المنع فيها واسع بخلاف الوثاقة ، والأمر في ذلك موكول إلى استقامة الطبيعة كما لا يخفى.

ومنها : ما في رواية عمر بن حنظلة من الأمر بأخذ ما قاله أصدق المخبرين ، فإنّ اعتبار الصدق في الترجيح ممّا لا يحتمل التعبّد قطعا فليس إلاّ بواسطة أنّ رواية الأصدق أقرب مطابقة إلى الواقع وأبعد عن احتمال الكذب من غيره.

لا يقال : إنّ المدار على صدق الراوي لا على صدق الرواية ولا تنهض على المطلوب إلاّ على تقدير الثاني ؛ إذ لا منافاة بين صدق المخبر وكذب الخبر.

لأنّا نقول : إنّ العرف قاض بأنّ ترجيح أحد الخبرين على الآخر بواسطة صدق مخبره ليس إلاّ بواسطة صدق الخبر كما هو ظاهر لمن تدبّر.

ومنها : ما يظهر في المقبولة أيضا من قوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » فإنّه يمكن الاستظهار من عموم التعليل المذكور ، وبيان ذلك أنّه حكم في الرواية بتقديم (١) الرواية المشهورة على الرواية الشاذّة وعلّل ذلك بأنّ المجمع عليه لا ريب [ فيه ] ولا ريب في أن ليس المراد بنفي الريب هو نفي الريب (٢) من جميع الوجوه المحتملة كما هو كذلك في المجمع عليه بحسب مصطلحهم في الفتاوى ، أمّا أوّلا : فلأنّ مجرّد كون الرواية ظاهرة ممّا نقلها غير واحد من الرواة لا يستلزم أن يكون مقطوعا بها ، وإلاّ لزم أن يكون الرواية الشاذّة ممّا يقطع بفسادها (٣) ، وفساده قطعي ؛ إذ على تقديره يكون التعارض بين الحجّة واللاحجّة ، مع (٤) أنّه يمتنع أن يكون الخبران على هذا التقدير مشهورين كما هو صريح الرواية.

وأمّا ثانيا : فلأنّ غاية ما يستفاد من الشهرة هو القطع بالسند ، وأمّا الدلالة أو

__________________

(١) « د » : بتقدّم.

(٢) « س » : ـ نفي الريب.

(٣) « د » : بفساده.

(٤) « س » : فمع.

٥٨٧

جهة (١) صدور الرواية فلا مدخل للشهرة في نفي الريب عنها من هذه الجهة ، فاحتمال التقيّة غير مدفوع فلا بدّ أن يكون المراد بنفي الريب هو الريب الموجود في الطرف المخالف للشهرة ، فلا بدّ أن يكون المراد بعدم الريب هو انتفاؤه بالنسبة إلى الريب الموجود في خلاف المشهور ، ومتى حقّقنا انتفاء الريب في أحد الخبرين مع وجوده في الآخر ولو من جهة واحدة يجب الأخذ بما ليس فيه الريب أخذا بعموم التعليل.

لا يقال : لا يجوز التسرية إلى غير مورد العلّة ؛ إذ لعلّ المناط في العلّية هو القدر المخصوص من الأقوائية الحاصلة في الخبر المشهور بالنسبة إلى الشاذّ ، وهذا المقدار (٢) المخصوص وإن كان يمكن حصوله في أحد الخبرين وإن لم يكن مشهورا إلاّ أنّه حوالة على المجهول ؛ إذ لا سبيل إلى تشخيصه ، فلا بدّ من الاقتصار على المورد المعلوم حصول المقدار المذكور.

لأنّا نقول : بعد الغضّ عن إطلاق العلّة لنا أن نقول : إنّ الأقوائية الحاصلة في المشهور لا تزيد على سائر المرجّحات كما لا يخفى.

وأمّا احتمال إرادة الشهرة الفتوائية في المقام فضعيف جدّا لا ينبغي الالتفات إليه.

وأضعف منه ما وجدناه في كلمات بعض المعاصرين (٣) من أنّ المراد بكون الخبرين مشهورين أن يكون أحدهما مطابقا للشهرة عند القدماء والآخر عند المتأخّرين ، وهذا الكلام لغاية سخافته لا يليق بأنظار العلماء إلاّ أنّ ذكره للتنبيه لئلاّ يتوهّم في المقام ، وإلاّ فهو ممّا يضحك الثكلى.

ومنها : ما ورد في الروايات : « أنّ لكلّ حقّ حقيقة ولكلّ صواب نورا ، فما (٤) وافق كتاب

__________________

(١) نهاية ما سقط من نسخة « ج ».

(٢) « د » : القدر.

(٣) « د » : المتأخّرين تقدّم عنه أيضا في بحث القطع : ج ٣ ، ص ١١٨.

(٤) المثبت من المصادر ، وفي النسخ : وما.

٥٨٨

الله فخذوه » (١) وجه الدلالة ظاهر بعد وضوح أنّ المناط هو أن يكون لكلّ حقّ حقيقة فإنّه يؤذّن بأنّ المدار على استكشاف الواقع.

ومنها : الأخبار الآمرة بالأخذ بما خالف العامّة ، وتوضيح المقام : أنّ الوجه في ترجيح ما خالف العامّة على ما وافقهم يحتمل أن يكون أمورا :

الأوّل : ما علّله شيخ الطائفة وتبعه في ذلك المحقّق (٢) أيضا من أنّ المخالف للعامّة أبعد عن التقيّة وأقرب إلى ما يرد في بيان الحكم الواقعي ، وهذا الوجه وإن كان يساعده صحيح الاعتبار إلاّ أنّه لا يظهر من الأخبار ، نعم ربّما يستشعر من بعض الروايات مثل ما رواه الشيخ في باب الخلع عن الحسن بن سماعة عن الحسن بن أيّوب عن ابن بكير (٣) عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ما سمعت منّي يشبه قول الناس

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٩ ـ ١١٠ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٠ ؛ المستدرك ١٧ : ٣٢٥ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٣. وتقدّم بتمامه في ج ٣ ، ص ١٢٤.

(٢) عدّة الأصول ١ : ١٤٧ ؛ معارج الأصول : ٢٢٥ ، قال الشيخ الطوسي : فإن كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامّة ويترك العمل بما يوافقهم.

قال المحقّق ـ بعد نقل كلام الشيخ ـ : والظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه‌السلام ، ثمّ ناقش فيه. كما سيأتي في ص ٦١٣ نصّ عبارته.

قال الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول ٤ : ١٢١ : إنّ ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة يمكن أن يكون بوجوه : الأوّل : مجرّد التعبّد ، كما هو ظاهر كثير من أخباره ، ويظهر من المحقّق استظهاره من الشيخ.

وقال أيضا في الفرائد ١ : ٦١٣ : إنّ الوجه في الترجيح بمخالفة العامّة أحد وجهين : أحدهما :

كون الخبر المخالف أبعد من التقيّة ، كما علّل به الشيخ والمحقّق ، فيستفاد منه اعتبار كلّ قرينة خارجية توجب أبعدية أحدهما عن خلاف الحقّ ولو كانت مثل الشهرة والاستقراء ، بل يستفاد منه عدم اشتراط الظنّ في الترجيح ، بل يكفي تطرّق احتمال غير بعيد في أحد الخبرين بعيد في الآخر ... الثاني : كون الخبر المخالف أقرب من حيث المضمون إلى الواقع. والفرق بين الوجهين :

أنّ الأوّل كاشف عن وجه صدور الخبر ، والثاني كاشف عن مطابقة مضمون أحدهما للواقع.

(٣) هذا هو الصواب ، وفي النسخ : « أبي بكر ».

٥٨٩

ففيه (١) التقيّة ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه » (٢) فإنّه يمكن استفادة الوجه المذكور من هذه الرواية.

ثمّ إنّه ليس المراد بأنّ (٣) جميع ما يشبه قول الناس فيه التقيّة ، كما أنّه ليس المراد بالثاني هو الجميع (٤) ؛ للقطع بموافقة بعض الأحكام الواقعية لأقوالهم كالقطع بورود التقيّة فيما لا يشبه قولهم كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد بالمشابهة أعمّ من (٥) أن يكون نفس الفتوى مشابهة لفتاويهم (٦) ، أو يكون استنباط الفتوى من المدارك شبيها لاستنباطهم كأن يكون الدليل استحسانا أو قياسا ونحو ذلك ، والمحمول على التقيّة هي الجهة المشابهة فقط ، فالمحمول على التقيّة ـ في قول أبي جعفر عليه‌السلام لزرارة حيث سأله بقوله : أصلّي نافلة وعليّ فريضة أو في وقت فريضة؟ قال : « لا إنّه لا تصلّي (٧) نافلة في وقت فريضة ، أرأيت إن كان عليك [ صوم ] من شهر رمضان أكان لك أن تطوّع حتّى تقضيه؟ » قال : قلت : لا ، قال : « فكذلك الصلاة » قال : فقايسني وما كان يقايسني (٨) ـ هو الاستدلال لا نفس الحكم فإنّ (٩) المشابه (١٠) هو الاستدلال فقط ، ومثله قياسه الحجّ عن الأب على الدين الواجب له.

الثاني : هو أقربية مضمون المخالف للواقع من الموافق.

والفرق بين الوجهين هو أنّ الأوّل يرجّح (١١) جهة صدور الرواية ، والثاني يقوّي

__________________

(١) في المصادر : « فيه ».

(٢) تهذيب الأحكام ٨ : ٩٨ ، باب ٤ ، ح ٩ ؛ الاستبصار ٣ : ٣١٨ ، باب ١٨٣ ، ح ١٠ ؛ الوسائل ٢٢ : ٢٨٥ ، باب ٣ من كتاب الخلع ، ح ٧ ، و ٢٧ : ١٢٣ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٦.

(٣) « م » : أنّ.

(٤) « س ، م » : الجمع.

(٥) « ج ، س » : ـ أعمّ من.

(٦) « م ، د » : لفتواهم.

(٧) في النسخ : لا يصلّي.

(٨) المستدرك ٣ : ١٦٠ ، باب ٤٦ من أبواب المواقيت ، ح ٣.

(٩) « س » : لأنّ.

(١٠) « د » : المشابهة.

(١١) « ج » : ترجيح.

٥٩٠

مضمون الرواية كما هو ظاهر ، وهذا الوجه ممّا يظهر من جملة من الأخبار كما في المقبولة حيث علّل ذلك بقوله : « ففيه الرشاد » وفي المرفوعة : « فإنّ الحقّ فيما خالفهم » بناء على ما هو الظاهر من أنّ كلمة « ما » موصولة وفي رواية أخرى : « فإنّ الرشد في خلافهم » (١) وفي رواية عليّ بن أسباط قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، فقال عليه‌السلام : « ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإنّ الحقّ فيه » (٢). وأوضح دلالة من ذلك مرفوعة أبي إسحاق الأرجاني (٣) إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال عليه‌السلام : « أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله (٤) العامّة ». فقلت : لا أدري فقال : « إنّ عليّا عليه‌السلام لم يكن يدين الله بدين إلاّ خالف عليه الأمّة إلى غيره إرادة لإبطال أمره وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الشيء (٥) الذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم بشيء (٦) جعلوا له ضدّا من عند أنفسهم (٧) ليلبسوا على الناس » (٨) ولعلّ المراد أنّ أصول مطالبهم الموروثة (٩) من أسلافهم التي يتفرّع عليها فروع مذاهبهم في الموارد المتفرّقة في الفقه والأصول مخالفة لما بيّن لهم الأمير عليه‌السلام ، وإلاّ فأغلب المخالفات في المسائل الفقهية إنّما نشأ بعد زمان الأمير عليه‌السلام في زمان السامري من هذه الأمّة ، نعم ذلك الشقيّ ما قصر في مخالفة الصادق عليه‌السلام حتّى قال ـ فيما حكى ابنه ـ : خالفت جعفرا في كلّ ما يقول أو يفعل لكنّي لا أدري هل

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٢ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٩ ، عن مقدّمة الكافى.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١١٥ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٣.

(٣) « س » والبحار : الأرجائي.

(٤) في المصادر : تقول.

(٥) « ج ، م » : ـ الشيء.

(٦) لم ترد في المصادر « بشيء ».

(٧) في المصادر : عندهم.

(٨) علل الشرائع : ٥٣١ ، باب ٣١٥ ، ح ١ ، وعنه في الوسائل ٢٧ : ١١٦ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٤ والبحار ٢ : ٢٣٧ ، باب ٢٩ ، ح ٢٥.

(٩) « د » : المورّثة.

٥٩١

يغمض عينيه في الركوع أو يفتحهما؟ (١) قاتلهم الله أنّى يؤفكون.

الثالث : أن يكون الوجه في المخالفة هو مطلوبية مخالفتهم على أن يكون المخالفة معتبرة من حيث الموضوعية ، فلا يكون المناط في كشفها عن صدور الرواية من غير جهة التقيّة كما هو المدار في الوجه الأوّل ، أو أقربية المضمون للواقع على ما هو المناط في الوجه الثاني ، ويمكن استظهار ذلك من قوله : « فإنّ الرشد في خلافهم » إذا جعلنا الخلاف مصدرا ، فيكون المعنى فإنّ الرشد في مجرّد مخالفتهم ومحض خلافهم ، وكذا يستفاد من قوله : « فإنّ الحقّ فيما خالفهم » إذا اعتبر كلمة « ما » مصدرية لا موصولة.

وإذ قد تحقّق هذه الوجوه فنقول : إنّ الوجه الثالث ممّا يلتصق بما نحن بصدده لكنّه كما عرفت مبنيّ على استظهار غير ظاهر وإن كان محتملا ، والوجه الأوّل وإن كان يساعده الاعتبار إلاّ أنّه لم يكن معلوما من الأخبار ، نعم يمكن الاتّكال عليه عند ما يراد تشخيص عمل العلماء بمطلق القوّة ، والوجه الثاني لو تمّ كما عرفت من دلالة الأخبار عليه ينهض بما هو المقصود حيث إنّ المناط فيه هو الأقربية إلى الواقع ، فيعلم منه أنّ الأقرب إلى الواقع مقدّم على غيره ، وهذا هو الوجه في تعويل الأصحاب على الأخذ بما هو الأقرب إلى الواقع عند المعارضة ، وليس في ذلك متابعة للعامّة كما افتراهم بذلك بعض القاصرين ، فحاشاهم عن متابعة من ملئوا طواميرهم عن وجوب مخالفتهم ، وهل يرتضي المنصف من نفسه أن يظنّ في حقّ الشيخ والمحقّق والعلاّمة مثل هذا الظنّ؟ فإنّ بعض الظنّ إثم.

وقد يستدلّ على ذلك ـ مضافا إلى ما عرفت ـ بوجهين (٢) آخرين : أحدهما : ظهور الإجماع على ذلك وليس بكلّ البعيد ، وقد نقل الإجماع غير واحد من أصحابنا

__________________

(١) زهر الربيع : ٥٢٢ نقلا من هامش الرسائل ١ : ٦١٥ و ٤ : ١٢٥.

(٢) « س » : جهتين.

٥٩٢

كالعلاّمة في النهاية والأستاد الأكبر في بعض رسائله وسيّد المفاتيح (١) ، ويستكشف ما ذكرنا من الرجوع إلى كلماتهم حيث يقتصرون في مقام الاستدلال بإحراز صغرى (٢) الأقوائية من غير ملاحظة أنّ مجرّد إحراز الصغرى لا يجدي في إثبات الحكم المستدلّ عليه نظرا إلى أنّ الكبرى مفروغ عنها ، وقد عرفت (٣) تعليل الشيخ والمحقّق في مخالفة العامّة فراجع.

وثانيهما : قاعدة الاشتغال فإنّ الأمر دائر بين الأخذ بما في طرفه المرجّح الظنّي والتخيير ؛ إذ المفروض انتفاء التساقط على المختار.

فإن قلت : قد علم ممّا مرّ (٤) في بعض مباحث الظنّ أنّ الاشتغال في المسألة الفرعية ربّما يقدّم على الاشتغال في المسألة الأصولية ، وعلى ذلك بنيت في ردّ من زعم إهمال النتيجة الحاصلة من دليل الانسداد ، ثمّ حاول التعميم بالقاعدة المزبورة ، فلعلّ المقام أيضا من الموارد التي يقدّم الاشتغال في المسألة الفرعية عليه في الأصولية.

قلت : فرق ظاهر بين المقامين ؛ إذ أدلّة التخيير بين الدليلين الواردة في مقام علاج المتعارضين ناطقة بأنّ الطريق هو أحد الخبرين ، وبعد قيام الدليل الاجتهادي على

__________________

(١) قال في النهاية كما عنه في مفاتيح الأصول : ٦٨٦ : لنا الإجماع على العمل بالترجيح والمصير إلى الراجح من الدليلين. قال الوحيد في الفوائد الحائرية : ٢٢٠ ـ ٢٢١ : وعند الأخباريين أنّ بناء المرجّحات على التعبّد ... وأمّا المجتهدون فلمّا كان بناؤهم على التحرّي وتحصيل ما هو أقرب إلى ظنّهم في السند والدلالة والتوجيه فلا يستشكلون في هذه الأخبار أيضا ، وكلّ يبني الأمر فيها على ما هو الأقرب عنده.

قال السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٧١٧ : ولظهور اتّفاقهم على صحّة الترجيح بكلّ ما يفيد الظنّ عدا القياس.

قال العلاّمة في مبادئ الوصول : ٢٣٢ : لنا أنّه لو لم يعمل بالراجح لعمل بالمرجوح وهو خلاف المعقول ، ولأنّ الإجماع من الصحابة وقع على ترجيح بعض الأخبار على البعض.

ونقل ذلك أيضا في مفاتيح الأصول : ٦٨٦ عن الآخرين.

(٢) « د » : الصغرى.

(٣) عرفت في ص ٥٨٩.

(٤) مرّ في ج ٣ ، ص ٢٥١.

٥٩٣

التخيير لا وجه للاحتياط في المسألة الفرعية بخلاف ما ذكرنا في مباحث الظنّ ، كذا أفاد سلّمه الله (١).

قلت : وفيه ما لا يخفى ، أمّا أوّلا : فلأنّ المفروض في دليل الانسداد حجّية مطلق الظنّ بواسطة الاحتياط في المسألة الأصولية ، وبعد اعتبار الظنّ وقيامه على أنّ السورة ليست جزء في الصلاة لا وجه للشكّ في كونها جزء حتّى يتحقّق موضوع الاشتغال في المسألة الفرعية ، فكلّما فرض حجّية دليل ولو بواسطة الاحتياط لا يعقل الشكّ الشرعي في المسألة الفرعية ؛ لأنّ الشكّ في المسألة الفرعية مسبّب عن الشكّ في المسألة الأصولية ، وهو دام ظلّه العالي تفطّن بذلك أيضا إلاّ أنّه دفعه بعدم المنافاة بين مفاد الظنّ القائم على عدم الوجوب وبين ما يدلّ على وجوبه بالفرض (٢) ؛ لكونه واقعا في أطراف العلم الإجمالي في المسألة الفرعية ، وظنّي أنّه غير مجد ؛ لأنّ العلم الإجمالي القاضي بالاحتياط إنّما ارتفع بواسطة حجّية الظنّ القائم على أحد أطراف العلم الإجمالي ، نعم ذلك يجدي فيما لو كان الشكّ ناشئا من غير الجهة التي أقيمت عليها الحجّة الظنّية وذلك ظاهر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إطلاق أدلّة التخيير لا يفرق فيه بين ارتفاع الاحتياط في الفرع وبين ارتفاعه في المسألة الأصولية ، فلو أخذ ما به (٣) يلزم القول بالتخيير (٤) مطلقا كما لا يخفى ، فالحقّ عدم استقامة الوجه المذكور نظرا إلى ما حقّقنا من أنّ أصالة البراءة محكّمة فيما دار الأمر بين التعيين والتخيير وإن قلنا بتقديم الاشتغال في المسألة الأصولية على الاشتغال في المسألة الفرعية ، على أنّه قد يحتمل أن يكون المرجّح النصوص في طرف آخر ، فلا يمكن الاستناد إلى الاشتغال ؛ لتعارضه من الطرفين ، فتأمّل.

__________________

(١) « د » : أفاده الأستاد.

(٢) « م ، س » : بالعرض.

(٣) « س ، ج » : « بأنّه » بدل « ما به ».

(٤) « س » : بالنتيجة.

٥٩٤

هذا تمام الكلام فيما يستفاد من الروايات والأدلّة الخاصّة ، وأمّا الكلام فيما هو قضيّة لمذاهب (١) بتقريب أنّ ما مرّ من التلويحات الأخبارية والإجماعات المنقولة ربّما يمنع عنها مانع ، وحيث إنّ دائرة المنع أوسع ممّا يمكن أن يحاط به فنحن إرخاء لعنان الخصم وإغماضا عمّا ذكرنا نفصّل الكلام على مقتضى المذاهب وإلاّ فالخبير تنبّه ممّا ذكر (٢) قطعا ، فنقول : إنّه قد يدّعى جريان دليل الانسداد القاضي بحجّية مطلق الظنّ في نفس مسألة الترجيح ، وتقريره هو أنّه لا ريب في وجوب الترجيح على المجتهد في الأخبار المتعارضة ؛ إذ لو لم يؤخذ به لزم طرح الأخبار الكثيرة المستلزمة للمخالفة القطعية ، والمرجّحات المنصوصة قد (٣) عرفت (٤) حالها من عدم انضباطها وقلّة مواردها وعدم إمكان الجمع بينها في الروايات المختلفة ، والاحتياط بالجمع بين مدلولي المتعارضين غير ممكن أو غير واجب إجماعا ، فلا بدّ من الأخذ بالظنّ القائم على أحد الطرفين ، ضرورة بطلان ترجيح المرجوح على الراجح.

فإن قيل : فليراجع إلى التخيير في كلّ الموارد. قلنا : مردود بالعلم الإجمالي بالمخالفة القطعية على تقديره.

ولكنّ الإنصاف عدم استقامة الوجه المذكور ؛ لأنّ الأغلب ارتفاع التعارض بين المتعارضين بإعمال المرجّحات الإجماعية كحمل الظاهر على النصّ والأظهر ، ونحو ذلك من المرجّحات المعمولة في الدلالة على ما عرفت شطرا منها ؛ إذ أغلب موارد التعارض كما يظهر بالتتبّع مرجعها إلى التعارض في الدلالة ، وبعد إعمال المرجّحات المنصوصة أيضا على الوجه المعلوم اعتبارها من اجتماع الأخبار (٥) العلاجية لا نسلّم أنّ الرجوع إلى التخيير يستلزم المخالفة القطعية.

__________________

(١) « د » : المذهب.

(٢) « س » : ذكرنا.

(٣) « ج » : وقد.

(٤) قد عرفت في ص ٥٨٢ ـ ٥٨٣.

(٥) « ج » : « أخبار » وكذا في المورد الآتي.

٥٩٥

وتوضيح المقام : هو أنّه قد عرفت (١) أنّ التعارض الواقع بين الأدلّة قد لا يحتاج الجمع بينها إلى قيام شاهد خارجي على الجمع ، وقد يحتاج ، وعلى الثاني فتارة : يكفي في الجمع إخراج أحدهما عن الظهور ، وتارة : لا يكفي ، بل لو أريد الجمع فاللازم إخراجهما عن ظاهريهما ، قد عرفت وجوب الجمع على الأوّل ، والرجوع إلى الأصل في الثاني ما لم يظهر لأحد الظاهرين مرجّح به يتقوّى ظهوره بالنسبة إلى الآخر ، فإنّ المطابقة المضمونية (٢) ممّا لا يكفي في حمل ظهور أحد الظاهرين على الآخر ما لم يرجع إلى قوّة نفس الظهور ، وأغلب موارد التعارض يرجع إلى هذين القسمين ، وأمّا القسم الثالث فبعض المرجّحات المتّفق على الترجيح بها الأخبار العلاجية ـ كالترجيح بالشهرة فيما لم يكن (٣) معارضة بالأعدلية ـ مثلا ـ أو كانت وقلنا بتقديم المقبولة على المرفوعة كما عرفت (٤) ـ ممّا لا كلام في لزوم الأخذ بذلك البعض ، وأمّا ما يبقى بعد ذلك فالعلم الإجمالي ببقاء التكليف بين الأخبار المتعارضة من جهة الترجيح ممنوع وعلى المستدلّ إقامة الدليل على ذلك وأنّى له بذلك؟ فلا وجه للاعتماد على دليل الانسداد في نفس مسألة الترجيح ؛ لعدم تمامية مقدّماته ، وهل يجدي في ذلك ملاحظة الأدلّة (٥) الدالّة على حجّية أخبار الآحاد ، أو لا؟ فيه تفصيل.

وتحقيقه : أنّه اختلف آراء المتمسّكين بعروة الانسداد ، فمنهم من يرى أنّ نتيجة البرهان حجّية الظنّ بنفس الحكم الفرعي ، وهذا هو المشهور بينهم ، ومنهم من زعم أنّها حجّية الظنّ المتعلّق بطرق الأحكام كما علم في محلّه مستوفى ، ومنهم من قال بأنّ النتيجة بعد تسليم المقدّمات هو الحكم بوجوب تفريغ الذمّة وتحصيل الامتثال الظنّي ، والظنّ بالفراغ كما يحصل بإتيان نفس الواقع الظنّي كذلك يحصل بالأخذ بما هو قضيّة

__________________

(١) قد عرفت في ص ٥٤٠.

(٢) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : المضمونة.

(٣) كذا. والصواب ظاهرا : لم تكن.

(٤) عرفت في ص ٥٨٣.

(٥) في النسخ : أدلّة.

٥٩٦

ما يظنّ كونه بدلا عن الواقع وهو الإتيان بما يستفاد من الطريق الظنّي.

فأصحاب المقالة المشهورة لا يعقل لهم مباحث التراجيح حيث إنّ الظاهر أنّ نتيجة الدليل هو الظنّ الفعلي.

قلت : ذلك على ما هو التحقيق من حكومة العقل باعتبار الظنّ بعد إبطال البراءة والاحتياط والرجوع إلى الأصول المحرّمة (١) ، وأمّا على تقدير الكشف كأن يكون (٢) الانسداد مع بطلان المحتملات كاشفا عن كون الظنّ حجّة كما هو المعتمد عند أصحاب هذه المقالة فيمكن أن يكون الحجّة عندهم نوع الأمارة الظنّية فيتعقّل عندهم مسألة الترجيح (٣) كما لا يخفى. وكيف كان ، فعلى ما هو التحقيق لا يمكن التعارض عند القائلين بالظنون الشخصية ، نعم يتأتّى ذلك في حقّهم بالنسبة إلى الأدلّة التي يعتمدون عليها من جهة أدلّة خاصّة كالصحاح الأعلائية الموثوق بها مثلا.

وأمّا أصحاب المقالة الثانية فقد يظهر من بعض الأجلّة على ما استظهره الأستاد دام مجده وعلاه من تضاعيف كلماته أنّه يكفي في الأخذ بالخبر المقرون بالمرجّح الظنّي عند التعارض ما زعمه من اعتبار الظنّ في الطريق ولا حاجة إلى ملاحظة اعتبار الظنّ في مسألة الترجيح بالانسداد أو بغيره.

وتوجيهه على ذلك المذهب أن يقال : إنّ الحاصل من دليل الانسداد هو إعمال الظنّ في طريق الأحكام والأخذ بما يظنّ (٤) فعلا في كلّ واقعة أنّه هو الطريق ، ولا خفاء في أنّ الطريق الظنّي فعلا في الواقعة التي توارد فيها الطريقان (٥) هو المعاضد (٦) بالوجه الظنّي دون الآخر ، فلا بدّ من الأخذ به وطرح مقابله بحسب نفس دليل حجّية الأخبار وإن لم يكن ذلك المرجّح الظنّي معلوم الاعتبار ، وهو ضعيف جدّا ؛ لأنّ قضيّة العلم

__________________

(١) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : محرّمة.

(٢) « د ، س » : + بعد.

(٣) « م » : التراجيح.

(٤) « د » : الأخذ بالظنّ.

(٥) « س » : الطريق.

(٦) « د » : فهو المعارضة.

٥٩٧

الإجمالي بوجود الطريق المنصوب بين الأمور المحتملة لذلك على هذا المذهب ليس إلاّ اعتبار الظنّ في تشخيص نوع الطريق بين الأنواع المحتملة ، وأمّا تشخيص شخص الطريق بين المتعارضين فليس يقضي بذلك شيء من وجوه الأدلّة التي أقامها هو وبعض موافقيه هنالك ، ونظير ذلك هو القول بحجّية الظنّ الحاصل بالموضوع كالوقت ـ مثلا ـ استنادا إلى جريان دليل الانسداد في الأحكام الشرعية.

وتوضيح المقام وتحقيقه : أنّ العلم الإجمالي الذي هو الملاك في دليل الانسداد تارة : يدّعى على وجه يقضي بحجّية الظنّ المتعلّق بنوع الأمارة ، فيكون الظنّ المتعلّق بخصوصية الأمارة في الواقعة الخاصّة خارجا عن مقتضى العلم الإجمالي ، فيحتاج التعويل عليه في مقام الترجيح من التماس دليل آخر وذلك كأن يقال : إنّا نعلم إجمالا بأنّ الشارع الحكيم قد جعل لنا طريقا إلى مطلوبه ولا تكليف إلاّ بما يستفاد من ذلك الطريق وقد تشابه علينا ذلك الطريق ، فلا بدّ من الأخذ بالظنّ التفصيلي في تشخيص ذلك المعلوم الإجمالي ، فإنّ هذا الدليل لا يستفاد منه إلاّ حجّية الطريق المظنون بحسب نوعه ، وأمّا أنّ المقدّم في مقام التعارض هو أيّهما؟ فلا دلالة فيه بوجه.

وأخرى : على وجه يقضي بحجّية الظنّ المتعلّق بشخص الطريق كأن يقال : إنّا نعلم إجمالا أنّ الشارع الحكيم قد جعل لنا في كلّ واقعة طريقا إلى ما هو مطلوبه في تلك الواقعة ، وحيث لا نعلمه بخصوصه فلا بدّ من الأخذ بالظنّ في تشخيصه.

ونظير الأوّل ما إذا قلنا بثبوت الأحكام الشرعية الواقعية مع عدم العلم بها ولو من وجه شرعي ، وبعد بطلان الوجوه المحتملة يحكم العقل باقتناع الامتثال الظنّي ووجوب تفريغ الذمّة على وجه ظنّي ، وأمّا لو تعلّق الظنّ بموضوع الحكم الشرعي كما إذا ظنّ بدخول الوقت المستلزم للظنّ بوجوب الصلاة فيه على الظانّ فهو خارج عن مفاد الدليل ، فإنّ العلم الإجمالي في نفس الأحكام لا يقضي إلاّ بحجّية الظنّ في نفس الأحكام.

٥٩٨

ونظير الثاني ما إذا قلنا بأنّا نقطع بأنّ هذه الحركات والسكنات الصادرة منّا طول الليل والنهار تشتمل على أمور واجبة علينا وأمور محرّمة بالنسبة إلينا ، ولمّا انسدّ باب العلم في تشخيص هذه الحركات انفتح طريق الظنّ بها بالاقتناع به في مقام الامتثال.

والمذكور في كلام الزاعم المذكور هو الوجه الأوّل وقد عرفت أنّه غير واف بإثبات المطلوب.

وأمّا الوجه الثاني فمع فساده في أصله غير مذكور في كلماتهم كما يظهر بالتتبّع في مطاويها ، ولعلّ ذلك هو منشأ الخلط ، وقد تفطّن بذلك في نظير المقام حيث لم يعتبر الظنّ بالعدالة مع أنّ الظنّ بها أيضا مثل الظنّ بأنّ المقدّم من المتعارضين هو الموافق للمرجّح الظنّي فراجع كلامه ، بل الحقّ أنّ أرباب هذه المقالة الباطلة كما ليس لهم العمل بالمرجّحات الظنّية كذلك ليس لهم العمل بالمرجّحات المنصوصة ، فإنّ العلاج المهديّ إليه بواسطة الأخبار العلاجية إنّما يعالج به فيما هو الحجّة عند السائل لا فيما هو الحجّة مطلقا.

وتحقيق ذلك : أنّ القائلين بالظنون الخاصّة يعوّلون عليها بواسطة قيام حجّة شرعية كالإجماع على حجّية أمارة خاصّة كأخبار الآحاد ، ولا شكّ أنّ قضيّة ذلك حجّية الخبر في نفس الأمر لجميع المكلّفين ، فما هو حجّة لنا فهو حجّة للسائل في الأخبار العلاجية أيضا وبذلك يصحّ الأخذ بالمرجّحات المنصوصة عند تعارض الظنون الخاصّة بخلاف ما إذا اشتبه الحجّة والطريق في أمور محتملة لذلك فإنّ الظنّ بأنّ الأمارة (١) (٢) الفلانية هي الحجّة التي يجب عليها التعويل يحتمل أن يكون مخالفا للواقع ولو عند الظانّ أيضا ، فما ظنّه حجّة يحتمل أن لا يكون حجّة واقعية والسائل إنّما سأل عمّا هو الحجّة في الواقع ، والوجوه المذكورة في الترجيح بناء على ذلك يختصّ بما هو الحجّة الواقعية ، فليس لهذا القائل إعمال المرجّحات المنصوصة فيما ظنّه طريقا وحجّة ؛

__________________

(١) « س » : الظنّ بالأمارة.

(١) « س » : الظنّ بالأمارة.

٥٩٩

إذ لا يعلم بأنّه هو الطريق الذي يجب الأخذ بتلك المرجّحات عند تعارضه بمثله مثلا.

لا يقال : فتلك الأمارة المظنونة وإن لم يعلم بكونها الحجّة الواقعية إلاّ أنّها حجّة قطعية نظرا إلى الدليل القاضي بذلك ، فيصحّ الأخذ بالمرجّحات المنصوصة فيها أيضا.

لأنّا نقول : هذه المرجّحات ليست بمرجّحات لمطلق ما هو الحجّة ، بل لما هو كذلك عند السائل كما لا يخفى ، فإنّ ظهور اختصاص السؤال بما هو المتعارف بينهم من الأخبار ممّا لا يقبل الإنكار ، فتأمّل.

نعم ، يمكن القول باكتفاء الظنّ عند الانسداد بما هو الحجّة الواقعية في ترتيب مثل هذه الآثار أيضا إلاّ أنّه لا يخلو من شيء.

وأمّا على المذهب المختار (١) من أنّ نتيجة البرهان هو وجوب تفريغ الذمّة الحاصل بإتيان ما هو الواقع وبإتيان ما هو بدل منه ، فالتحقيق أنّه لا يتصوّر التعارض أيضا كما عرفت من مذاق المشهور.

أمّا بالنسبة إلى الظنّ (٢) بالواقع فظاهر ؛ لأنّ النتيجة هو الظنّ الشخصي ولا يعقل التعارض بين الظنّين كما في القطعين (٣).

وأمّا بالنسبة إلى الظنّ بما هو مسقط عن الواقع وبدل منه ـ وإن كان يعقل (٤) القول بتعلّق الظنّ بنوع الأمارة فيصير الظنّ المتعلّق بتقديم أحد أفراد ذلك النوع على الآخر خارجا عمّا هو مفاد الدليل كما عرفت على تقدير القول بحجّية الظنّ في خصوص الطريق فقط ، فيحتاج في إثبات حجّية مثل هذا الظنّ إلى دليل آخر غير الدليل الأوّل ـ إلاّ أنّه ليس على ذلك المنوال ، فإنّا (٥) ندّعي أنّ الظنّ بالفراغ لا يحصل من خبر

__________________

(١) عطف على « أمّا أصحاب المقالة الثانية » في ص ٥٩٧.

(٢) « ج » : الطريق.

(٣) « س ، د » : الظنّيين كما في القطعيين.

(٤) « س » : يعلّق.

(٥) « د » : لأنّا.

٦٠٠