مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

عن هذه الملاحظة أيضا فهي في هذه المرتبة ليست إلاّ هي فإنّها حينئذ نفس المعنى والماهيّة في نفسها مع قطع النظر عن (١) جميع ما عداها ، وهذا (٢) هو المقسم للاعتبارات اللاحقة للماهيّة (٣) ، ويمايز (٤) القسم بأنّ المعتبر في المقسم ليس إلاّ نفس الماهيّة والقسم هي (٥) الماهيّة (٦) مع الالتفات بكونها نفس الماهيّة من غير اعتبار هذه الملاحظة والالتفات في القسم وإلاّ لكان الماهيّة مأخوذة بشرط شيء ، فالقيود المعتورة (٧) على الماهيّة إنّما تلحق الماهيّة (٨) في هذه المرتبة السارية التي هي مع الكثير كثير ومع الواحد واحد وتتصف بالأمور المتقابلة (٩) في حدود ذواتها كالفصول اللاحقة لها ، وذلك معنى ما قيل من أنّ اللابشرط لا ينافي ألف شرط ويجتمع معها.

فلو فرض لحوق قيد بتلك الطبيعة المطلقة فإمّا أن يراد من اللفظ الدالّ على المطلق تلك الطبيعة المقيّدة ، فذلك وإن لم يوجب تصرّفا في نفس المعنى لما عرفت من عدم تطرّق التغيير (١٠) في الماهيّة المطلقة بواسطة لحوق الشرط والقيد ، إلاّ أنّه يوجب تصرّفا في اللفظ الدالّ على الماهيّة حيث إنّه لم يجعل مرآة للمعنى من حيث هي هي ، بل المقصود باللفظ (١١) كشف الماهيّة المقيّدة ولا ريب في كونه مجازا.

وإمّا أن يراد من اللفظ نفس المعنى ولو حال حصوله مع شرط خاصّ على وجه يكون لتلك (١٢) الخصوصية كاشفا (١٣) آخر غير ما كشف عن نفس المعنى من اللفظ المطلق من عقل أو لفظ ، فممّا لا ينبغي الارتياب فيه كونه حقيقة من دون شائبة

__________________

(١) « س » : في.

(٢) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : هذه.

(٣) « م » : عن الماهيّة.

(٤) « د » : تمايز.

(٥) « ج » : هو.

(٦) « س » : ـ والقسم هي الماهيّة.

(٧) « ج » : المعتبرة.

(٨) « م » : ـ إنّما تلحق الماهيّة.

(٩) « د » : المتضادّة.

(١٠) « د ، م » : التغيّر.

(١١) « د » : من اللفظ.

(١٢) « د ، س » : لذلك.

(١٣) كذا. والصواب : كاشف.

٥٦١

المجازية.

وممّا ذكرنا يظهر لك ضعف ما أفاده بعض المحقّقين في تعليقاته على المعالم حيث زعم اختصاص كون المطلق فيما إذا قيل بأنّ اللفظ موضوع للماهيّة التي هي تنقسم إلى أقسامها بخلاف ما إذا قيل بكونه موضوعا للقسم من حيث إنّ المعتبر في القسم هو التجرّد كأن يكون التقييد بكونها لا بشرط معتبرا فيها ، وقد عرفت فساده ؛ إذ ذلك ناش من عدم الفرق بين القسم والمقسم وقد قلنا بأنّ التميّز (١) حاصل بالاعتبار بمعنى أنّ الماهيّة اللابشرط تارة : تلتفت النفس إلى كونها منشأ لانتزاع (٢) هذا الاعتبار منها ، وتارة : لا تلتفت إلاّ إلى نفسها وإن كانت منشأ لانتزاع هذه الصفة حال الالتفات إلى نفسها أيضا ، فلا فرق فيما نحن بصدده بين أن يكون اللفظ موضوعا للقسم أو يكون موضوعا للمقسم.

نعم ، لو قيل بأنّ قيد التجرّد مأخوذ في معنى اللفظ كان التقييد مستلزما لإلغاء قيد التجرّد عن المعنى ليصلح لأن يكون مقيّدا ، فيكون المطلق مجازا من حيث استعماله في جزء المعنى الموضوع له.

ولكنّه فاسد قطعا كما يشعر بذلك كلمات اللغويين ويساعده الاعتبار الصحيح والوجدان الصريح ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون القيد مرادفا للمطلق أو لم يكن مرادفا كأن يكون منفصلا (٣) ؛ إذ مجرّد كون القيد غير متّصل بالمطلق لا يدلّ على أنّ المراد من لفظ المطلق ليس معناه الحقيقي ، فلعلّ القرينة المنفصلة جزء من الدالّ على تمام المراد ، نعم ربّما يمكن ذلك وقد قلنا بإمكانه في المتّصل أيضا كأن يكون المراد من المطلق هو خصوص المقيّد ويكون القيد المذكور قرينة للمجاز.

فظهر بطلان ما زعمه المفصّل أيضا ، فالتحقيق أنّ التقييد لا يوجب مجازا في

__________________

(١) « ج » : التمييز.

(٢) « ج » : للانتزاع ، وكذا في المورد الآتي.

(٣) « س ، د » : مفصّلا.

٥٦٢

المطلق ، وما هو مجاز منه في الحقيقة خارج عن عنوان التقييد.

وإذ قد عرفت ما قدّمنا لك فاعلم أنّ المشهور القائلين بالمجازية أيضا زعموا أنّ التقييد مقدّم على التخصيص إذا دار الأمر بينهما ، فإن كان ذلك بواسطة الغلبة فربّما يتطرّق إليها المنع ، فإنّ ذلك ليس في مرتبة من الظهور بحيث لا يتطرّق إليه المنع كما هو الإنصاف ، بل ربّما يدعى خلافه وإن كان بعيدا في الغاية.

وإن كان بواسطة صحّة إطلاق المطلق كالرقبة على المقيّد كالمؤمنة دون العامّ على الخاصّ فإنّه لا يصحّ إطلاق العلماء على جماعة خاصة ويصحّ إطلاق الرقبة على المؤمنة ، فهذا إن لم يكن راجعا إلى ما هو التحقيق من أنّ المطلق لا يوجب التقييد (١) مجازا فيه ، ممّا لا دليل على اعتباره في استكشاف المرادات به.

وإن كان بواسطة أنّ العرف مع تساوي العلّتين ربّما يقدّمون التقييد على التخصيص فهو في محلّه إلاّ أنّ ذلك في الحقيقة يؤول إلى أنّ التقييد ليس مجازا ، ولعلّ السرّ في ذلك هو أنّ شمول المطلق للأفراد ليس شمولا وضعيا مثل شمول العامّ للأفراد ، ففيما إذا ورد العامّ في قبال المطلق تنهض العامّ بيانا للمطلق فيكون بمنزلة المقيّد للمطلق ويجب الأخذ به ورفع (٢) اليد عنه.

وتوضيح ذلك أنّ مراتب الأدلّة في حكومة بعضها على بعض [ و ] ورودها على آخر متفاوتة جدّا ، فربّ دليل يرتفع به الدليل الآخر وإن كان اجتهاديا كما عرفت من ارتفاع العامّ بالخاصّ وإن كان أوله في الحقيقة إلى أصل عملي ، ومنشأ ذلك فيها اختلاف دليليتها ، مثلا فيما نحن بصدده من المطلق وجه كونه دليلا في الأفراد ليس كونه موضوعا للأفراد كما أنّ العامّ موضوع لها ، بل قد عرفت أنّ المطلق موضوع للماهيّة المعرّاة عن جميع الاعتبارات واللواحق ، وعند إطلاقه يسبق إلى الذهن نفس المعنى ، وحيث إنّه لو كان المراد غير تلك الماهيّة المطلقة كان على المتكلّم أن يكشف عن

__________________

(١) « د » : التقيّد. « س » : التعبّد.

(٢) « س » : يرفع.

٥٦٣

مراده بلفظ مقيّد للمطلق لئلاّ يكون كلامه قاصرا عن الإحاطة بتمام مقصوده ومراده ، والمفروض في مقام الإطلاق انتفاؤه بحكم العقل بضميمة هذه المقدمة الخارجية بشموله للأفراد صونا لكلام الحكيم عن وروده في مقام البيان مع قصوره عن الإفادة ، فالمقتضي للإطلاق هو عدم وصول البيان مع وروده في مقامه ، نعم مجرّد عدم وصول البيان يكفي في سريان الحكم المعلّق بالمطلق في جميع الأفراد حيث إنّ الماهيّة المرسلة سارية فيها فكأنّ كونه دليلا مستند (١) إلى أمرين : أحدهما : صلاحية سريان الطبيعة في الأفراد وهذا الأمر من لوازم نفس الماهيّة المطلقة ومقتضياتها ، الثاني : عدم ما يقضي بقصر تلك الطبيعة في بعض الأفراد ، فكلّ ما يصلح لأن يكون بيانا من الأمور المعتبرة عرفا وعادة ينهض بالتقييد ويصير سببا لتقصير (٢) الماهيّة على بعض الأفراد ، وليس كذلك القول بالعكس ؛ لأنّ الأخذ بعموم العامّ ليس بواسطة عدم المخصّص ، لأنّ المخصّص مانع عن مقتضى الوضع الثابت في العامّ ، بخلاف المطلق فإنّ عدم البيان من مقتضيات الشمول فيه ، ولذلك قلنا بأنّه البرزخ بين الأدلّة الاجتهادية والأصول العملية ، فتدبّر.

وخلاصة ما ذكرنا هو الحكم بتقديم التقييد على التخصيص نوعا على القول بالمجازية وعلى ما هو التحقيق أيضا إلاّ أنّ القائل بالمجازية إنّما قال بذلك نظرا إلى ما هو الواقع مع كونه غافلا (٣).

وإذا تعارض التقييد مع المجاز أو (٤) الإضمار فالظاهر تقديمه عليهما (٥) ؛ لتقدّمه على التخصيص المقدّم عليه نوعا ، فإنّ المجاز يكون (٦) مشهورا (٧) ، و (٨) مع عدم مساعدة العرف

__________________

(١) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : مستندا.

(٢) « ج » : لقصر.

(٣) « م » : عاقلا.

(٤) « د » : و.

(٥) « س » : عليها.

(٦) « س ، ج » : قد يكون.

(٧) « د » : فيه مشهورا ، وفي « م » : فيه يكون مشهورا.

(٨) « م » : ـ و.

٥٦٤

على التخصيص.

وإذا تعارض الإضمار والمجاز فالمقدّم غالبا هو الثاني ؛ لأنّه الأغلب ، وأمّا الإضمار فهو قليل بالنسبة إليه.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان التعارض بين نوعين من الوجوه المذكورة ، وإن وقع التعارض بين فردين من نوع واحد كالتخصيصين والتقييدين ونحو ذلك فقد ذكروا لتقديم أحدهما على الآخر وجوها : أقواها ملاحظة قلّة التخصيص وكثرته ، فربّما يصل التخصيص حدّا يعدّ في العرف مستهجنا ، ومن الظاهر أنّ ارتكاب التخصيص فيما كثر فيه التخصيص أولى ؛ لارتفاع ظهوره بزيادة التخصيص ، ويحتمل أن يقال : إنّ ظهوره أقوى من غير المخصّص ، والمدار على العرف ، ولا يجري ذلك في التقييد أو يجوز ذلك مطلقا وإن انحصر في فرد ، وقد يرجّح أحد التخصيصين على الآخر فيما إذا كان أحدهما مسبوقا بالسؤال بأنّ التخصيص في العامّ الغير المسبوق أولى منه في المسبوق ، فإن أريد منه تخصيص المورد فهو حقّ ، وإن أريد الإطلاق فهو ممنوع.

ثمّ إنّ جملة من الأصوليين قالوا بتقديم المنطوق على المفهوم عند عدم الاختلاف إلاّ من هذه الجهة ، فإن أرادوا بذلك مفهوم المخالفة فربّما يكون له وجه ؛ لأنّ المنطوق لعلّه أقرب عرفا وأظهر دلالة منه ، وإن أرادوا الأعمّ منه ومن الموافقة ، ففيه : أنّ الأولوية قد تصير على وجه يكون اللفظ منساقا لبيان الحكم في الفرد الأولى ، فاللفظ ظهوره العرفي إنّما هو يلاحظ بالنسبة إليه ، وقد يكون اللفظ نسبته (١) إليهما متساوية ، وقد يكون على وجه يستفاد منه حكم الأولى أيضا وإن لم يكن سياق اللفظ لإفادة الأولى كما أنّه (٢) في المعاني الكنائية أيضا تحتمل (٣) الوجوه المذكورة ، ففي الصورة الأخيرة يحتمل تقديم المنطوق عليه ، وأمّا في الصورتين الأوليين فلا وجه للحكم بالتقديم كما لا

__________________

(١) « م » : يستند.

(٢) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : أنّ.

(٣) في النسخ : يحتمل.

٥٦٥

يخفى.

وقد يظهر من بعضهم أيضا تقديم الحقيقة على المجاز مع القرينة الصارفة فيما إذا دار الأمر بين التصرّف فيما هو ظاهر وضعا وبين ما هو ظاهر بواسطة القرينة ، فإن أريد بذلك أنّ العرف يحكمون بالتقديم (١) فهو مسلّم فيما يساعده العرف إلاّ أنّ المدّعى اطّراد ذلك ، وهو ممنوع كيف ومرجعه إلى دعوى أقوائية الظهور (٢) الناشئ من الوضع من الظهور الناشئ من القرينة؟ وفيه : أنّ المجاز مع القرينة يعامل معه معاملة الحقيقة من غير فرق.

والسرّ فيه أنّ القرينة إمّا لفظية ، أو غير لفظية ، والثاني (٣) إمّا قطعية ، أو ظنّية ، لا كلام في الثاني ؛ لعدم اعتبار الظنّ الغير (٤) المستند إلى لفظ في استكشاف المرادات ، فلا يجوز طرح أصالة الحقيقة في قبال أمثال هذه الظنون ممّا لا يعتبرها العقلاء في استكشاف مطالبهم من عبائرهم ، وعلى تقدير اعتبارها فالأمر يدور مدار أقوائية الظنّ ولا عبرة بمجرّد الاستناد إلى الوضع كما هو ظاهر.

وأمّا القطع فالأمر فيه ظاهر لا ريب في تقدّمه على غيره ، فلا يجوز (٥) طرح المقطوع في قبال أصالة الحقيقة المعمولة في الحقيقة المقابلة لهذا المجاز المقطوع.

وأمّا الأوّل فالقرينة اللفظية لا بدّ وأن يكون ظهورها مستندا (٦) إلى الوضع ، كما في « يرمي » من قولك : « أسد يرمي » ، وعند التأمّل يعلم أن لا معارضة بين نفس المجاز والحقيقة وإنّما التعارض في الواقع بين القرينة الصارفة وبين الحقيقة والمفروض استناد الظهورين كليهما (٧) إلى الوضع ، والحكم بتقديم أحدهما على الآخر تحكّم.

__________________

(١) « د » : بالتقدّم.

(٢) في النسخ : ظهور.

(٣) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : فالثاني.

(٤) المثبت من « س » ، وفي سائر النسخ : المغيّر.

(٥) « د » : إذ لا يجوز.

(٦) « س ، ج » : مستندة.

(٧) في النسخ : كلاهما.

٥٦٦

لا يقال : إنّ القرينة الصارفة بعد تعارضها لما اعتبرت صارفة بالنسبة إليها يهوّن أمره فلا يقاوم (١) ظهور هذه الحقيقة.

لأنّا نقول : المناط على (٢) قوّة الظهور فلعلّ الصارفة ، لها قوّة تدفع بها كلتا الحقيقتين ، فتأمّل.

وكيف كان ، فالمعيار على ما سمعت مرارا هو قوّة الظهور ، ومن هنا تراهم يقدّمون الكلام المشتمل على التأكيد وأداة القسم على ما ليس فيه عند التعارض. هذا تمام الكلام فيما إذا تعارض الدليلان.

وأمّا إذا وقع التعارض بين أزيد منهما فالحكم في التقديم والتأخير هو ما عرفت من تقديم الأظهر على غيره ، ولكن قد يقال في المقام : إنّ المعالجة بين الأدلّة لا بدّ أن يلاحظ فيها الترتيب ، فإذا (٣) كان في المقام عامّ ، وبعد ذلك وقفنا على خاصّ ، ثمّ على خاصّ غيره ، فزعم بعضهم (٤) أنّ بعد التخصيص الأوّل تنقلب النسبة بين الدليلين وتصير عموما من وجه ، والمقصود في المقام إزاحة مثل هذه الأوهام والتنبيه عليها لئلاّ يقع غيره في مثله وإلاّ فهذه أمور واضحة جليّة لا يكاد يعتريها شكّ ولا يدانيها ريب.

فنقول : إنّ التعارض بين الأدلّة الزائدة على اثنين (٥) يقع على وجهين : الأوّل : أن يكون التعارض بين واحد منها وبين الآخرين ، الثاني (٦) : أن يكون التعارض بين الجميع ، وعلى الأوّل فالخبران المعارضان للآخر إمّا أن يكونا نصّين ولو بالنسبة إلى معارضهما ، أو ظاهرين ، أو يكون أحدهما نصّا والآخر ظاهرا ، فهذه صور ثلاثة :

__________________

(١) « ج » : فلا يفاد من.

(٢) « س » : ـ على.

(٣) « د » : فإن.

(٤) انظر عوائد الأيّام : ٣٤٩ ـ ٣٥٣ ، عائدة ٤٠ ؛ مناهج الأحكام : ٣٣٠ ـ ٣٣١.

(٥) « د » : الاثنين.

(٦) سيأتي الكلام فيه في ص ٥٧٣.

٥٦٧

الأولى : أن يكونا نصّين ، كما إذا ورد عامّ كقولنا : « أكرم العلماء » ثمّ ورد بعد ذلك خاصّ ، ثمّ خاصّ آخر ، فإن كانت النسبة بين الخاصّين تباينا كما إذا كان أحدهما « لا تكرم زيدا » والآخر « لا تكرم بكرا » فلا إشكال في عدم ملاحظة الترتيب بمعنى أنّه لا يتفاوت الحال في ذلك ، سواء اعتبر التخصيص بهما دفعة واحدة ، أو اعتبر التخصيص بأحدهما مقدّما على الآخر ، فإنّ العامّ المخرج منه فرد بعد باق على عمومه بالنسبة إلى فرد مباين للفرد المخصّص ، فيخصّص بالآخر أيضا من غير إشكال ، فإن كانت النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا كقولك : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفقهاء ، ولا تكرم فقهاء البصرة » فإن اعتبرنا التخصيص (١) بأعمّ المخصّصين فلا إشكال ؛ لعدم التنافي بينه وبين الأخصّ ، فيكون مؤكّدا والنسبة باقية بحالها ، وإن اعتبرنا التخصيص بالأخصّ مقدّما فتقلب النسبة بين العامّ الأوّل والمخصّص العامّ عموما من وجه لتعارضهما (٢) في فقيه غير البصرة واختصاص العامّ بالأصولي واختصاص الخاصّ بفقيه البصرة.

ومثله ما إذا كانت النسبة بينهما عموما وخصوصا من وجه كقولك : « لا تكرم الأصوليين » و « لا تكرم الفقهاء » بعد قولك : « أكرم العلماء » فإنّ ملاحظة الترتيب توجب انقلاب النسبة بعد التخصيص بأحدهما إلاّ أنّ الواقع عدم ملاحظة الترتيب بينهما ، بل يجب التخصيص بهما دفعة ؛ لأنّهما قرينتان على التخصيص في العامّ وملاحظة الترتيب بينهما ترجيح من غير مرجّح ؛ لتساويهما في الكشف عن المراد من لفظ العامّ ولا مدخل للسبق واللحوق في ذلك ولا في العلم بأحدهما قبل الآخر.

نعم ، قد (٣) يجب ملاحظة الترتيب فيما إذا كان لتقديم (٤) أحد التخصيصين مرجّح مع تفاوت الحال في ملاحظة الترتيب ، مثل ما إذا قيل : « أكرم العلماء » ثمّ بعد ذلك « لا

__________________

(١) « ج » : اعتبر بالتخصيص.

(٢) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : لا لتعارضهما.

(٣) « ج » : ـ قد.

(٤) « د » : التقدّم.

٥٦٨

تكرم الأصوليين » و « لا يجب عليك إكرام العلماء » فإنّه لا إشكال في كونهما نصّين بالنسبة إلى قوله : « أكرم العلماء » أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلأنّ دلالة « لا يجب » على عدم الوجوب أظهر من دلالة الأمر على الوجوب ، ولا خفاء أيضا في تفاوت الحال فيما لو فرض الترتيب في المعالجة فإنّه على تقدير عدم ملاحظة الترتيب يلزم ارتكاب تخصيص ومجاز ، أمّا الأوّل فلقوله : « لا تكرم الأصوليين » وأمّا الثاني فلقوله « لا يجب » فلا بدّ من حمل الأمر على الاستحباب مع تخصيص العلماء (١) بغير الأصوليين ، بخلاف ما إذا فرض التخصيص أوّلا فإنّ بعد ذلك يصير العامّ الأوّل أخصّ مطلقا من العامّ الظاهر في عدم وجوب الإكرام ، فيخصّص به ؛ لدوران الأمر بين التخصيص في قوله : « لا يجب » والمجاز في قوله : « أكرم » وقد عرفت أنّ التخصيص أولى من ارتكاب سائر أنواع المجاز.

وكيف كان ، فحيث إنّ المقام ممّا يتفاوت فيه الحال (٢) مع وجود المرجّح لأحد التصرّفين فلا بدّ من الأخذ وهو العلم بالتخصيص بالنسبة إلى الخاصّ قطعا ، سواء حمل الأمر فيه على الاستحباب أو لا ، فإنّ الخاصّ قرينة صارفة للعامّ قطعية من غير توقّف (٣) على أمر غير حاصل ، فيدور الأمر بين ارتكاب المجاز في العامّ الأوّل أو تخصيص العامّ الثاني بحمله على الأصوليين في المثال المذكور وقد عرفت الأولوية فيما سبق آنفا.

فمحصّل الكلام في الصورة الأولى أنّ بعض الموارد ممّا لا فائدة في ملاحظة الترتيب كما إذا كانا متباينين ، وبعض ممّا يتفاوت فيه الحال لانقلاب النسبة إلاّ أنّه بواسطة عدم

__________________

(١) « د » : العامّ.

(٢) من هنا إلى قوله : « وإن كان الظاهران متباينين » قدر ثلاث صفحات تقريبا لم ترد في نسخة « ج » ولعلّ نسخة الأصل لها سقطت منها ورقة.

(٣) « د ، م » : توقّفها.

٥٦٩

المرجّح لا يجوز ملاحظة الترتيب ، وبعض الموارد ممّا يجب الملاحظة لوجود المرجّح كما عرفت ، ولا بدّ أن يعلم أنّ ما ذكرنا من اختلاف الأقسام وأحكامها إنّما هو ملحوظ في المخصّصات المنفصلة كما عرفت في الأمثلة المذكورة ، وأمّا المخصّصات المتّصلة كالصفة والشرط والغاية وبدل البعض ونحوها فاللازم فيها ملاحظة الترتيب ؛ لكونها جزء من العنوان ، فما يحتمل معارضته للعنوان إنّما يؤخذ معارضا بعد أخذ العنوان على جميع أنحاء قيوده.

نعم ، قد يشكّ في بعض المخصّصات في أنّه ملحق بأيّ الفرقتين فيشكّ في حكمه أيضا كالاستثناء ؛ إذ يحتمل أن يكون من قيود الموضوع كالصفة ، ويحتمل أن يكون كالمخصّص المنفصل كقولك : « لا تكرم زيدا » بعد الأمر بإكرام العلماء ، والظاهر إلحاق الاستثناء بالمخصّصات المتّصلة فإنّ قولك : « ما جاءني القوم إلاّ زيد » يجري مجرى « ما جاءني غير زيد » ولا يعدّ عندهم من الكلامين المنفصل أحدهما عن الآخر.

وربّما يكون ما ذكرنا من الإشكال في إلحاق الاستثناء وجها لاختلافهم في العارية حيث إنّهم نفوا فيها الضمان إلاّ عند اشتراطه ، ثمّ إنّهم اختلفوا في الذهب والفضّة ، فقال بعضهم بالضمان ولو عند عدم الشرط ، وبعضهم خصّ الحكم بالدراهم والدنانير وحكم بعدم الضمان في غيرهما كما عن الإيضاح (١) محتجّا في ذلك برواية دلّت على استثناء الدراهم والدنانير فحكم بتخصيص ما دلّ على استثناء مطلق الذهب والفضّة ، وأورد عليه ثاني المحقّقين (٢) بأنّه لا تعارض ؛ لأنّ استثناء الذهب والفضّة في الرواية يقتضي ثبوت الضمان في هذين الجنسين ، واستثناء الدراهم والدنانير في الرواية التي تضمّنه يقتضي كون المخرج من العموم الدراهم والدنانير ، ولا تعارض بين المخصّصين ، فيحكم بخروج الجنسين ، وظاهر المورد أنّه فرض الاستثناء من قبيل المعارض المنفصل ، وإلاّ فعلى تقدير الاتّصال فلا بدّ من سلوك ما سلكه سيّد الرياض تبعا

__________________

(١) ايضاح الفوائد ٢ : ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٢) جامع المقاصد ٦ : ٧٩.

٥٧٠

للفاضل السبزواري (١) من أنّ النسبة بين ما دلّ على ثبوت الضمان في الذهب والفضّة وبين المستثنى منه في الرواية التي استثني فيها الدراهم والدنانير عموم من وجه ؛ لتصادقهما في غير النقدين من الجنسين وافتراقهما في النقدين وفي غيرهما من غير الجنسين كالثوب مثلا ، ففي مورد التعارض يرجع إلى عموم ما دلّ على عدم الضمان.

وكيف كان ، فاختلاف المذاهب في هذه المسألة منشؤه اختلافها في المسألة التي نحن بصددها ، ولعلّ الأقوى هو الإلحاق بالمخصّصات المتّصلة كما عرفت ، كما أنّه لا يبعد دعوى أقوائية ما أوضحه صاحب الإيضاح ؛ لدوران الأمر بين رفع اليد عن (٢) الحصر المستفاد من المستثنى والمستثنى منه في رواية الدراهم والدنانير ، وبين إطلاق المطلق وهو الذهب والفضّة وإرادة المقيّد ، ولعلّ الثاني أولى ؛ لأنّ الرواية الأولى أظهر دلالة في الحصر من دلالة المطلق على الماهيّة (٣) المطلقة كما لا يخفى ، هذا إذا كان المتعارضان نصّين مع إمكان العمل بهما كما عرفت في الموارد المذكورة.

وأمّا إذا لم يمكن العمل بهما لتباينهما كما في قولك : « أكرم العلماء » وقولك : « لا تكرم العلماء العدول » وقولك : « لا تكرم الفسّاق من العلماء » حيث إنّ التخصيص بهما يوجب استغراق العامّ ، فلا بدّ من التخصيص بأحدهما دون الآخر ، فإن وجدنا مرجّحا لأحدهما دلالة فهو ، وإلاّ فالمرجع إلى المرجّحات الصدورية من غير إشكال.

الصورة الثانية : أن يكون المعارضان (٤) للثالث ظاهرين فلا يخلو إمّا أن يكون النسبة بينه وبينهما تباينا ، أو عموما وخصوصا من وجه بالنسبة إليهما جميعا ، أو بالنسبة إلى أحدهما ، فعلى الأوّل فلا إشكال في لزوم الأخذ بالمرجّحات الصدورية إن وجدت وإلاّ فالتخيير ، وعلى الثاني فالحكم في مورد التعارض هو الإجمال بناء على

__________________

(١) رياض المسائل ٩ : ١٧٩ ـ ١٨٠ ، وفي ط الحجري ١ : ٦٢٥ ؛ ذخيرة الأحكام : ١٣٥.

(٢) « د ، م » : من.

(٣) « د » : الماهية.

(٤) « س » : المتعارضان.

٥٧١

ما هو المختار ، وعلى الثالث كما إذا ورد « أكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق » فالحكم بالنسبة إلى المتباينين هو الرجوع إلى مرجّحات الصدور ، فإن وجد مرجّح في طرف النهي فلا معارضة بينه وبين النهي في الثالث ، وإن وجد في طرف الأمر فيطرح النهي ويصير التعارض بين الأمر والنهي في العالم الفاسق ومرجعه إلى التوقّف كما مرّ ، وإن لم يوجد مرجّح في أحد الطرفين فلا بدّ من الحكم بالتخيير بين المتباينين ، فإن اختار المكلّف النهي الثاني فلا إشكال ، وإن اختار الأمر فهل في مورد التعارض يحكم بالإجمال ، أو المرجع إلى العامّ المطروح في قبال الأمر؟ وجهان : من أنّ حكم الشارع بالتخيير مرجعه إلى الترجيح بما ينقدح في نفس المكلّف فالمرجّح موجود ، ومن أنّ في مورد التعارض يتساقطان فلا بدّ من الرجوع إلى « لا تكرم الفسّاق » لسلامته عن المعارض ، وحكم الشارع بالتخيير ليس من لوازمه رفع اليد عن الثالث ، ولعلّ الثاني أقوى.

الصورة الثالثة : أن يكون أحد المعارضين للثالث نصّا والآخر ظاهرا فإن (١) كان الظاهران عامّين من وجه فلا إشكال ؛ لأنّ الخاصّ إمّا أن يكون مخرجا لمورد التعارض ، كالعالم الفاسق فيما إذا أمر بإكرام العلماء مع النهي عن إكرام الفسّاق ، فيختصّ الأمر بالعالم الغير الفاسق والنهي بمطلق (٢) الفاسق ، وبذلك يرتفع التعارض.

وإمّا أن يكون الخاصّ مخرجا لمورد الافتراق كأن يكون مفاده النهي عن إكرام الفاسق الغير العالم ، فينحصر مورد قوله : « لا تكرم الفسّاق » بالعالم الفاسق ، فيصير خاصّا مطلقا بالنسبة إلى الأمر فيقدّم عليه. وإمّا أن يكون مخرجا لعنوان يعمّ النوعين كقوله : « لا تكرم الأصوليين » فالنسبة باقية بحالها فلا يتفاوت الحال فيه (٣).

وإن كان الظاهران متباينين كما إذا قيل : « أكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء ولا تكرم

__________________

(١) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : وإن.

(٢) « م » : لمطلق.

(٣) نهاية ما سقط من نسخة « ج ».

٥٧٢

الأصوليين » فالأقوى تقديم العلاج في الدلالة على العلاج في الصدور ؛ لأنّ العرف لا يتأمّلون في ذلك ولازمه تخصيص العامّ الأوّل بالخاصّ ، ثمّ تخصيص العامّ الثاني بالعامّ المخصّص ؛ لأنّه في نفس الأمر يكون المراد به الأخصّ ، وقد يحتمل القول باندراجه في الأخبار العلاجية لتباينهما ظاهرا ، كما أنّه قد يحتمل التفصيل بين ما كان الخاصّ دليلا لفظيا ، أو لبّيا فيحكم بالأوّل في الأوّل ، وبالثاني في الثاني ، إلاّ أنّ الأقوى هو ما عرفت.

هذا تمام الكلام في الصور الثلاثة المتفرّعة على ما إذا كان التعارض بين واحد من الأدلّة وبين الباقي.

وأمّا إذا كان التعارض بين الجميع (١) فالصور المفروضة فيما تقدّم جارية فيه أيضا ؛ إذ المعارضان منها (٢) بالنسبة إلى الثالث لا بدّ وأن يكونا على إحدى الصور ، مضافا إلى أنّ هذين المعارضين إمّا أن يكون أحدهما نصّا والآخر ظاهرا ، أو كلاهما ظاهرين ، فإنّ نصوصية كلّ واحد منهما بالنسبة إلى الآخر غير معقول.

الصورة الأولى : أن يكون المعارضان نصّين بالنسبة إلى الثالث مع ظهورهما في نفسهما أيضا ، كما في قوله : « أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق من العلماء ويستحب إكرام الأصوليين » فكلّ واحد من الأخيرين ينهض بتخصيص الأوّل ، ويعالج بينهما بما هو المعالجة لهما من الأخذ بالمرجّحات في الدلالة ، وإلاّ فالحكم بالإجمال.

الصورة الثانية : الأولى بحالها مع نصوصية أحد المتعارضين أيضا ، كما في قول القائل : « لا تكرم العلماء ، ويستحب إكرام الأصوليين ، ويجب إكرام الأصولي من أهل المشهد » فيحمل العامّ الأوّل على العامّ (٣) الثاني فيحكم بحرمة إكرام ما عدا الأصولي من العلماء ، وللعامّ الثاني على الخاصّ فيحكم بوجوب إكرام أصولي المشهد ، ولا

__________________

(١) هذا هو الوجه الثاني ، وتقدّم الأوّل منهما في ص ٥٦٧.

(٢) « ج ، د » : منهما.

(٣) « س » : ـ العام.

٥٧٣

يتفاوت الحال في ملاحظة الترتيب في هذين الصورتين كما لا يخفى.

الصورة الثالثة : أن يكون المعارضان ظاهرين بالنسبة إلى الثالث مع (١) ظهورهما أيضا ، فالنسبة بين الكلّ إمّا أن يكون التباين ، أو العموم من وجه ، أو في بعض الأوّل وفي الآخر الثاني ، فعلى الأوّل كما إذا ورد : « لا تكرم العلماء ، ويستحب إكرام العلماء ، ويباح إكرام العلماء (٢) » لأنّه من الرجوع إلى مرجّحات الصدور ، وعلى الأوّل (٣) كما إذا ورد : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، ويباح إكرام أهل البصرة » ففي مورد التعارض وهو العالم الفاسق البصري ، يحكم بالإجمال كما أنّه يحكم بالإجمال في العالم البصري ، والفاسق العالم ، والفاسق البصري ، وعلى الثالث كما إذا ورد : « أكرم العلماء ، ويباح إكرام العلماء ، ولا تكرم الفسّاق » فيعالج أوّلا بين المتباينين بالتخيير عند عدم المرجّح ، وعلى تقديره فيؤخذ به ، ثمّ يعالج بين الراجح أو المختار وبين الثالث.

الصورة الرابعة : الثالثة بحالها مع نصوصية أحدهما أيضا.

الصورة الخامسة والسادسة : أن يكون أحد المتعارضين نصّا والآخر ظاهرا بالنسبة إلى الثالث مع ظهورهما في نفسهما أو نصوصية أحدهما بالنسبة إلى الآخر أيضا ، والأمثلة (٤) كثيرة والحكم ظاهر ، والضابط في الكلّ هو تقديم الأظهر على الظاهر من غير ملاحظة الترتيب في حمل الظواهر على النصوص و (٥) تفصيل الأمثلة بذكرها يحتاج إلى زمان أوسع ممّا أحاط بنا من هذا الجزء من الزمان ، والله (٦) الموفّق وهو الهادي (٧).

__________________

(١) « ج » : ومع.

(٢) كذا. والظاهر وقع هنا سقط ، لأنّه ما جاء حكم الأوّل وجاء تعليله.

(٣) كذا. والصواب ظاهرا : الثاني.

(٤) « ج » : « السابعة » بدل : « الأمثلة » وموضعه في « س » بياض.

(٥) « ج ، س ، م » : « في » بدل « و ».

(٦) « م » : « إنّه » بدل « الله ».

(٧) في « د » : بدل « والله ... » : وإنّه الموفّق والمعين.

٥٧٤

هداية

[ في المرجّحات الصدورية ]

بعد ما عرفت تحقيق القول في المرجّحات التي يتقوّى بها أحد الدليلين على الآخر دلالة لا بدّ من تحقيق الكلام في المرجّحات الصدورية ، وقبل الخوض في المطلب لا بدّ من أن يعلم أنّ الحكم برجحان أحد الدليلين على الآخر وإثبات الحكم الشرعي بأحدهما دون الآخر يحتاج إلى دليل ، وعند عدمه لا يجوز الحكم بالترجيح ؛ لأنّ عند عدم الترجيح فالحكم إمّا التخيير كما هو التحقيق ، أو التساقط والتوقف ، والمفروض إقامة البرهان من الطرفين على المذهبين ، فالأخذ بالترجيح على كلّ واحد من المذهبين بدون دليل ، يوجب طرح البرهان القائم على المذهبين بغير دليل ، وفساد ذلك أجلى من أن يبيّن.

وكيف كان ، فقد مرّت الإشارة منّا في الهدايات السابقة إلى أنّ المرجّحية كالحجّية تتوقّف على دلالة ، وعند عدمها يحكم بعدمها ؛ لأنّ الشكّ في ذلك يكفي في الحكم بعدمها ، فلا بدّ من الاقتصار على ما ثبت بدليل معتبر كونه مرجّحا مثل ما ورد في الأخبار العلاجية على تقدير انتهاضها عليها كما ستعرف ، إلى غير ذلك من وجوه الأدلّة الناهضة على الأخذ بوجوه التراجيح التي تعرف تفصيلها عن قريب إن شاء الله.

٥٧٥

ولنبدأ بذكر الأخبار الواردة في هذا المضمار تيمّنا ، فنقول : إنّها كثيرة جدّا ، بل تبلغ إلى نيّف وثلاثين على ما حكي (١) ، إلاّ أنّ أظهرها دلالة وأشهرها رواية مقبولة عمر بن حنظلة ، وتتلوها في بعض الوجوه مرفوعة زرارة المرويّة في (٢) غوالى اللآلى ، فالأنسب هو إيرادهما والاكتفاء بهما عن غيرهما.

فقد روى المشايخ الثلاثة ، بل الأربعة ـ لوجودها في الاحتجاج (٣) أيضا ـ هذه الرواية ، ففي الكافى : محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن عيسى عن صفوان [ بن يحيى ] عن داود بن حصين عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال عليه‌السلام : « من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذه (٤) سحتا وإن كان حقّا ثابتا له ؛ لأنّه أخذه (٥) بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به ، قال الله عزّ وجلّ : ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ )(٦) » قلت : فكيف يصنعان؟ قال عليه‌السلام : « ينظران إلى من كان

__________________

(١) قاله المحقّق القمي في القوانين ٢ : ٢٨٩ ، حيث قال : تنيف على ثلاثين وتقرب أربعين.

(٢) « د » : عن.

(٣) الكافى ١ : ٦٧ ـ ٦٨ ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠ ، و ٧ : ٤١٣ ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح ٥ إلى قوله : « حدّ الشرك بالله » ؛ الفقيه ٣ : ٨ ، باب الاتّفاق على عدلين في الحكومة ، ح ٣٢٣٣ ؛ التهذيب ٦ : ٢١٨ ، باب ٨٧ ، ح ٦ وص ٣٠١ ، باب ٩٢ ، ح ٥٢ ؛ الوسائل ١ : ٣٤ ، باب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ١٢ ، و ٢٧ : ١٣ ، باب ١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤ ، وص ١٠٦ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١ ، وص ١٣٦ ، باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ١ ؛ الاحتجاج ٢ : ٢٦٠ / ٢٣٢ ط أسوة.

(٤) في المصدر : يأخذ ، وفي باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور : فقال : من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذ سحتا.

(٥) « ج » وبعض نسخ الرسائل ٣ : ٥٧ : أخذ وفي المصدر في باب كراهية الارتفاع : حقّه ثابتا ؛ لأنّه أخذ.

(٦) النساء : ٦٠.

٥٧٦

منكم ممّن قد روى أحاديثنا (١) ونظر في حلالنا وفي حرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا (٢) به حكما فإنّي جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله (٣) منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ والرادّ علينا رادّ (٤) على الله وهو على حدّ الشرك بالله » قلت : فإن كان كلّ واحد (٥) اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا ناظرين (٦) في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما حكم (٧) به الآخر » قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال عليه‌السلام : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما [ به ] المجمع عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم » قلت : فإن كان الخبران عنهما (٨) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : « ينظر [ فما ] وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة » قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال : « يؤخذ (٩) ما خالف العامّة ففيه الرشاد » قلت :

__________________

(١) في المصدر : حديثنا.

(٢) في المصدر في باب كراهية الارتفاع : فارضوا.

(٣) في « ج » والرسائل : فلم يقبل.

(٤) في المصدر : الرادّ.

(٥) في المصدر : رجل.

(٦) في المصدر : الناظرين.

(٧) في المصدر : يحكم.

(٨) في المصدر : عنكما.

(٩) في المصدر : ـ يؤخذ.

٥٧٧

جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال : « ينظر إلى ما هو أميل إليه (١) حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر » قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال : « إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ».

والكلام في هذه الرواية تارة : يقع في السند ، وأخرى : في الدلالة.

أمّا الأوّل : فنقول : لا إشكال في اعتبار سند هذه الرواية ، ولذلك اشتهرت بالمقبولة ، ولعلّ تسميتها بها ليس بواسطة كونها معمولا بها عندهم ، بل لأنّ هذه الرواية لا تندرج في أحد أقسام الحديث ؛ لاختلاف الأصحاب في بعض رواتها على وجه لا يدخل في واحد منها اصطلاحا ، إلاّ أنّه يظهر منهم الاعتماد عليها ، فتأمّل.

وكيف كان ، فرواة هذه الرواية ممّن عدا داود وعمر بن حنظلة كلّهم موثّقة فإنّ محمّد بن يحيى العطّار ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب من أعاظم الأصحاب كمحمّد بن عيسى وصفوان ممّا قيل (٢) في حقّه : لا يروي إلاّ عن ثقة كالبزنطي مع أنّه من أصحاب الإجماع ، وأمّا داود فقد قال الشيخ (٣) وابن عقدة : إنّه واقفي ، ووثّقه النجاشي (٤) ، فتصحيح الفاضل التوني (٥) للرواية مبنيّ على ترجيح قول النجاشي لكونه أضبط ، وقد يقال بأنّ أضبطية النجاشي يعارضه صراحة كلام الشيخ في الحكم بوقفه ،

__________________

(١) في المصدر : ما هم إليه أميل.

(٢) قاله الشيخ في عدّة الأصول ١ : ١٥٢ ، حيث قال : وإذا كان أحد الراويين مسندا والآخر مرسلا نظر في حال المرسل فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره ، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عمّن يوثق به وبين ما أسنده غيرهم ، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم.

(٣) رجال الطوسى ٣٤٩ / ٥.

(٤) رجال النجاشى ١٥٩ / ٤٢١.

(٥) الوافية : ٣٢٧.

٥٧٨

فإنّ التوثيق ظاهر في الإمامية بخلاف كلام الشيخ ، وعلى ذلك يبنى في الردّ على من زعم أنّ صراحة كلام الشيخ تنهض قرينة لصرف كلام النجاشي عن ظاهره ، وفساده غير خفيّ على أحد ؛ إذ لا معنى لصرف كلام متكلّم عن كلام متكلّم آخر.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مرجع كلام الشيخ إلى العلم بكونه واقفيا ، ومرجع كلام النجاشي إلى عدم العلم ، فلا تعارض بينهما كما لا تعارض بين مطلق المعدّل والجارح ، وهو كما ترى.

وأمّا عمر بن حنظلة فقد قيل : إنّه ممّن لم يصرّح فيه أهل الرجال بمدح ولا قدح إلاّ أنّ المحكيّ عن الشهيد الثاني في حاشية الخلاصة (١) أنّه حقّق توثيقه في مقام آخر ، وقد حكم بوهن التوثيق المذكور ابنه صاحب المعالم فيما حكى عنه : بأنّي رأيت بخطّ والدي أنّ الوجه في توثيقه ما رواه الشيخ في التهذيب عن يزيد بن خليفة في باب المواقيت عن الصادق عليه‌السلام ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت ، فقال عليه‌السلام : « إذا لا يكذب علينا » ولا دلالة فيه على التوثيق (٢).

وهو ممّا لا يصغى إليه ، أمّا أوّلا : فلأنّ الحكم بتوثيقه أوّلا كاف من الشهيد رحمه‌الله فلعلّ توثيقه لم يكن مستندا إلى هذه الرواية لاحتمال تأخّره عمّا كتبه. وأمّا ثانيا : فلأنّ دلالة الرواية على التوثيق ظاهرة ؛ لأنّ عدم الكذب في حيال ذاته لا يصلح أن يكون مترتّبا على الإتيان بالوقت ، كما أنّه يترتّب الدخول في الجنّة على الإسلام في قولك ـ بعد ما قيل : أسلمت ـ : إذا تدخل الجنة ، فلا بدّ أن يكون قوله : « إذا لا يكذب علينا »

__________________

(١) لم أجده في حاشية الخلاصة ونقل عن الرعاية : ١٣١ ابنه وغيره في المنتقى كما سيأتي.

(٢) منتقى الجمان ١ : ١٩ ، وفيه ناقش في سند الحديث لا في دلالته.

وأمّا حديث الوقت فقد ورد في : التهذيب ٢ : ٢٠ و ٣١ ، باب ٤ ، ح ٧ و ٤٦ ؛ الاستبصار ١ : ٢٦٠ ، باب ١٤٨ ، ح ٧ وص ٢٦٧ ، باب ١٤٩ ، ح ٢٦ ؛ الكافى ٣ : ٢٧٥ ، باب وقت الظهر والعصر ، ح ١ ، وص ٢٧٩ ، باب وقت المغرب والعشاء الآخرة ، ح ٦ ؛ الوسائل ٤ : ١٣٣ و ١٥٦ ، باب ٥ و ١٠ من أبواب المواقيت ، ح ٦ و ١ ، و ٢٧ : ٨٥ ، باب ٨ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٠.

٥٧٩

علّة لأمر محذوف ، والظاهر هو ما له مدخل في عدم الكذب كالوثاقة ونحوها.

وبالجملة : فهذه الرواية لا تنقص من توثيق بعض علماء الرجال في الدلالة على الوثاقة ، فتأمّل.

وأمّا الثاني : فقد أورد عليها (١) بوجوه : الأوّل : بأنّه أخصّ من المدّعى ؛ لاختصاص مورده بحكم القاضي في القضاء في الموضوعات كالدين والإرث ونحوهما (٢).

الثاني : أنّ الترجيح بالشهرة بعد تساويهما في العدالة يستلزم الأخذ بالأعدل وإن خالف المشهور ، وفساده ظاهر ؛ ضرورة استقرار عملهم على الأخذ بالضعاف المطابق للمشهور وطرح الصحاح في قباله وإن بلغ في الصحّة ما بلغ.

الثالث : أنّ الأخذ بظاهر الرواية يوجب جواز تعدّد الحاكمين في واقعة واحدة ، وهذا ممّا لا يكاد الالتزام به.

والجواب أمّا عن الأوّل : فبمنع (٣) الاختصاص كما يشعر بذلك احتجاجهم بالرواية في القضاء والرواية والفتوى ، فإنّ العامّ لا يخصّص بالمورد.

وعن الثاني : فبما نبّهنا عليه في بعض مباحث الظنّ (٤) من أنّ المراد بالشهرة هي (٥) الشهرة في الرواية دون الفتوى أو الأعمّ منهما ، ولا إجماع على وجوب تقديم الرواية المشهورة في النقل على الرواية التي رواها (٦) الأعدل.

وعن الثالث بأنّها محمول على ما هو المعهود من استحباب مشاورة العلماء في الحكم كما هو المذكور في آداب القضاء.

وقد يورد أيضا بوجوه ضعيفة أخر على الرواية وليس بشيء.

والتحقيق في الإيراد عليها أمور : منها : أنّه قد اعتبر فيها في مقام الترجيح اجتماع

__________________

(١) « د » : عليه.

(٢) « س ، م » : نحوه.

(٣) « د » : فيمتنع.

(٤) انظر ج ٣ ، ص ١١٧ ـ ١١٨ ، وسيأتي الكلام عن الشهرة أيضا ص ٦٠٧.

(٥) « س » : هل.

(٦) المثبت من « م » وفي « د » : راوينا.

٥٨٠