مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

الخاصّ.

فكيف (١) كان ، ففي غير أمثال هذه الموارد لا إشكال في وجوب الجمع بين الدليلين بحمل العامّ الدالّ على وجوب إكرام العلماء ـ مثلا ـ على الخاصّ الحاكم بعدم وجوب إكرام زيد العالم ، ولعلّ السرّ في ذلك هو دوران الأمر بين الأخذ بأصالة الحقيقة التي هي من الأصول المعمولة في العامّ وبين طرح دليل اجتهادي دلّ على لزوم الأخذ بسند الخاصّ ؛ إذ المفروض أنّه لا كلام في كون الخاصّ أيضا حجّة شرعية يجب الأخذ به بإجماع (٢) ونحوه ، ولا ريب أنّ الأخذ بالدليل الاجتهادي لازم عند دوران الأمر بينه وبين الأصل ؛ لأنّ الشكّ المأخوذ في موضوع (٣) الأصل يرتفع بعد وجود الدليل الاجتهادي ، فإنّ الشكّ في شمول العامّ للخاصّ يرتفع بعد العلم بلزوم العمل بالخاصّ بواسطة الدليل ، لكن هذا إذا فرض دلالة الدليل على الخاصّ على وجه لا حاجة إلى إعمال أصالة الحقيقة في ذلك الدليل كأن يكون إجماعا أو نحو ذلك ، وأمّا إذا احتاج إلى إعمال أصالة الحقيقة في دليل الخاصّ على وجه لا يعلم بدخوله تحت العامّ الدالّ على الحجّية ، فالظاهر تعارض الأصلين في دليل الخاصّ وفي نفس العامّ إلاّ أنّ الأصل المعمول في دليل الخاصّ وحجّيته (٤) مزيل لغيره.

وأمّا في المطلق والمقيّد فالأمر أظهر ؛ لأنّ دلالة العامّ على الأفراد ربّما يعدّ أظهر من دلالة المطلق (٥) عليها ، لأنّها وضعية في العامّ على بعض الوجوه وعقلية في المطلق نظرا إلى أنّ إثبات الحكم للماهيّة التي هي مذكورة في مقام البيان يوجب حصول الامتثال بأيّ فرد منها ، فشمول المطلق للأفراد على وجه يكفي في الامتثال به بأيّ فرد كان إنّما هو بواسطة عدم البيان ، والمقيّد هو البيان بعد وروده ، فالمطلق كأنّه برزخ بين الأدلّة

__________________

(١) « ج » : وكيف.

(٢) « م » : بالإجماع.

(٣) « ج » : موضع.

(٤) « س ، د » : الحجّية.

(٥) « د » : المطلقة.

٥٤١

الاجتهادية والأصول العملية بواسطة استناد (١) الدلالة فيه إلى اللفظ والعقل معا ، فالعرف قاض بتقديم (٢) المقيّد ووروده على المطلق ، ومنه يستظهر اتّحاد التكليف فلا حاجة إلى اشتراط العلم بالاتّحاد في الحمل كما قدّمناه في مباحثه ، ومثل ما ذكر (٣) في لزوم الحمل والتقديم (٤) كلّ ما كان أحد الأمارتين أظهر في العرف من الآخر على وجه يكفي في الحمل ملاحظة نفسهما من غير حاجة إلى استشهاد من الخارج كما إذا ورد في قولهم عليهم‌السلام : « يجب غسل الجمعة » وقولهم (٥) : « لا ينبغي تركه » وقلنا بأنّ دلالة « يجب » على الوجوب أظهر من دلالة « لا ينبغي » على الاستحباب ، فإنّه لا إشكال في أنّ الظاهر يحمل على الأظهر ويحكم بأنّ المراد من « لا ينبغي » هو الوجوب كما يستفاد ذلك من القرائن اللفظية الصارفة ، فإنّ حمل « يرمي » على شيء لا ينافي الحيوان المفترس أيضا معقول إلاّ أنّه لمكان الأظهرية لا بدّ من ارتكاب التأويل في « الأسد » دون قولك : « يرمي ».

وبالجملة : فالمعيار في هذا القسم هو صلوح حمل أحد المتعارضين على الآخر بقرينة موجودة في نفسهما (٦) ، بل والتحقيق (٧) أنّ هذا القسم خارج عن الأخبار العلاجية ولا شكّ في وجوب الجمع ، ولم نعلم في ذلك مخالفا ؛ إذ لم نجد من أوّل الفقه إلى آخره من حكم بالتخيير بين العامّ والخاصّ بعد اعتقاد وجود الموضوع كما هو ظاهر (٨) ، ومن

__________________

(١) « ج » : إسناد.

(٢) « د » : بتقدّم.

(٣) « ج » : ذكرنا.

(٤) « د » : التقدّم.

(٥) « س » : + عليهم‌السلام.

(٦) « د » : نفسها.

(٧) « د » : ويتحقّق.

(٨) قال في مصباح الأصول ٣ : ٣٥٣ : وظهر بما ذكرنا أنّ ما ذكره صاحب الحدائق واحتمله صاحب الكفاية أخيرا من أنّه يعامل مع العامّ والخاصّ معاملة المتعارضين من الرجوع إلى المرجّحات ، وإلى التخيير مع فقدها ، ليس في محلّه ؛ إذ مع وجود الخاصّ يرتفع موضوع حجّية العامّ ، وبعد عدم كون العامّ حجّة لا معنى للتعارض بينه وبين الخاصّ ؛ لأنّ التعارض هو تنافي الحجّتين من حيث المدلول.

٥٤٢

المعلوم أيضا أنّ (١) الأخذ بالمرجّحات السندية كالموافقة للكتاب أو مخالفة العامّة ونحوهما ممّا (٢) لا وجه في مثل المقام ، وقد يظهر من بعضهم تقديم المطلق على المقيّد نظرا إلى كونه مخالفا لما عليه العامّة ، فإن تخيّل أنّه من الموارد التي يحكم بتقديم الظاهر على الأظهر لخصوصية خارجية كما في تقديم العامّ على الخاصّ فهو ، وإلاّ فهو سهو ظاهر كما لا يخفى ، ولا فرق فيما ذكرنا من لزوم الحمل بين القول بحجّية أصالة الحقيقة تعبّدا وبين القول بها من باب إطباق العقلاء (٣) على العمل بها ؛ لأنّ بناءهم على العمل بالخاصّ أيضا ؛ إذ الحكم بالأخذ بظاهر العامّ عندهم أيضا معلّق على عدم ورود الخاصّ والقرينة أو البيان ، ولا إشكال في ذلك أبدا.

نعم ، قد استشكل بعضهم في المقام بأنّه (٤) كيف يعقل حمل العامّ على الخاصّ مع اختلاف المتكلّم بهما؟ فإنّ كلام أحد لا يصحّ أن يجعل قرينة على كلام غيره.

وهو في غاية السخافة ؛ لأنّ ذلك مسلّم في غير أمناء الشرع ، وأمّا في كلمات الأئمّة والمعصومين عليهم‌السلام فالحقّ هو ذلك فإنّهم عليهم‌السلام بمنزلة متكلّم واحد ، ولكنّ الكلام في كيفية ذلك ؛ إذ لا يخلو إمّا أن يكون الخاصّ الوارد في كلام الصادق عليه‌السلام قرينة للعامّ الوارد في الكتاب أو كلام النبي (٥) ، أو كاشفا عن القرينة ، وعلى التقديرين لا وجه له ، أمّا على الأوّل فلاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فإنّ قبل زمان الصادق (٦) كان الواقعة محتاجا إليها أيضا ، وأمّا على الثاني فلأنّ المعلوم عندنا أنّ عمل السابقين لم يكن على وجه الخصوصية حتّى يصحّ القول بأنّ الخاصّ كاشف عن القرينة المقترنة للعامّ ، وذلك ظاهر في الغاية عند ملاحظة أحوال السلف وأحكام الشريعة.

__________________

(١) « د » : ـ « أنّ » ، وسقط من قوله : « ومن المعلوم » إلى « كما لا يخفى » من نسخة « ج ».

(٢) « س » : ـ ممّا.

(٣) « م » : العلماء.

(٤) « د ، س » : بأن.

(٥) « س » : + صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٦) « س » : + عليه‌السلام.

٥٤٣

فإن قلت : يحتمل أن يكون المراد بالعامّ الوارد في الصدر الأوّل هو العموم الواقعي ، ويكون ورود الخاصّ في العصر المتأخّر ناسخا له أو كاشفا عن كونه منسوخا بناء على الخلاف في جواز النسخ بعد انقطاع زمن الوحي وعدمه.

قلنا : ذلك وإن كان في محلّه إلاّ أنّه بعيد جدّا فإنّ موارد ذلك لا يعدّ من التخصيص الأزماني في شيء والظاهر أنّها (١) من موارد التخصيص الأفرادي ، وإليه يؤذن كلماتهم في مقامات مختلفة.

ويمكن الجواب عنه بأنّ العامّ قبل ورود التخصيص يحتمل أن يكون الحكم به من الأحكام الظاهرية ، والحكم الواقعي هو الخاصّ ، وإنّما أخّره الشارع الصادع لمصلحة اقتضت ذلك نظرا إلى لزوم التوسعة على المسلمين في أوّل الأمر تأليفا لقلوبهم ، فإنّ الشريعة استقرّت تدريجا ولم يتبيّن (٢) جميع الأحكام في أوّل الأمر كما يظهر من ملاحظة الأحكام الشرعية فإنّ الأغلب إنّما استفدناه (٣) من الأخبار الصادقية والباقرية عليهما‌السلام والصلاة وليس ذلك من الإغراء بالجهل نظير من لم يطّلع على الخاصّ بعد وروده ؛ إذ هو حكم ظاهري لغير المطّلع على الخاصّ ، وهذه الشبهة بجوابها ممّا أفادها الوحيد البهبهاني في رسالته (٤) المعمولة في الجمع بين الدليلين (٥) على ما حكاها (٦) الأستاد دام عزّه.

قلت : وهو بعيد أيضا غاية البعد ؛ إذ الالتزام بأنّ تلك الأحكام الكثيرة أحكام ظاهرية أيضا ممّا لا يقبلها مستقيم الذهن (٧) بل لا يكاد يعقل ؛ للقطع بأنّ عدم بيان بعض الأحكام المتعلّقة بالشكّ أو (٨) المناسك ونحوها إنّما هو بواسطة عدم السؤال عنها ، نعم يمكن القول بأنّ بعض الموارد يحتمل أن يكون من هذا القبيل كما يحتمل أن يكون

__________________

(١) « د » : انّهما.

(٢) « س » : لم يبيّن.

(٣) « س ، م » : استفدناها. « ج » : استفيدها.

(٤) « د » : الرسالة.

(٥) انظر الرسائل الأصولية : ٤٦٥ ـ ٤٧١.

(٦) « د » : حكاه.

(٧) « د » : المستقيم في الذهن.

(٨) « د » : و.

٥٤٤

من قبيل النسخ في بعض آخر ومن قبيل الكشف عن القرينة في بعض آخر. وكيف (١) كان فما أفاده لم يكن حاسما لمادّة الشبهة ، فتأمّل.

وأمّا الثالثة (٢) : وهي التي يحتاج الجمع فيها إلى شاهدين ، فكما (٣) إذا كان الدليلان متباينين بحيث لا يكفي في رفع التناقض والتعارض بينهما التصرّف في أحدهما فقط ، كما إذا ورد أكرم زيدا ، ولا تكرم زيدا مع عدم إمكان حمل الأمر على التهديد ـ مثلا ـ فإنّ إخراج أحدهما عن الظاهر لا يكفي في رفع التعارض ؛ لتناقض ظاهر الآخر للمعنى المأوّل (٤) في الآخر أيضا ، فإنّ حمل الأمر على الاستحباب ينافي ظهور النهي في التحريم ، وهكذا (٥) في نظائر المثال المذكور.

وهل يجب الجمع بإخراج كلّ واحد من الدليلين ، أو لا بدّ من الأخذ بالترجيح فيما إذا وجد ، والتخيير (٦) عند عدمه؟ ظاهر العبارة المنقولة عن غوالى اللآلى (٧) هو وجوب الجمع ، فإنّ عبارته بإطلاقها تدلّ على المقام وإن احتملت المعنى الذي ذكرناه آنفا في العامّ والخاصّ كما لا يخفى على من أعطاه حقّ النظر ، والتحقيق هو عدم وجوب الجمع ، بل لا بدّ من الأخذ بالمرجّح عند وجوده ، والحكم بالتخيير بين الدليلين عند عدمه ، وذلك لوجهين :

الأوّل : أنّ بناء العرف في أوامرهم في أمثال المقام على الأخذ بالترجيح والتخيير دون الجمع بطرح الظاهرين والأخذ بمعنى ثالث (٨) ، فإنّهم إذا ورد عليهم نظير المقام لا يتأمّلون في أخذ المرجّح ثمّ التخيير فيعاملون في الظاهرين معاملة الصريحين (٩) وإنّما

__________________

(١) « د » : فكيف.

(٢) سيوافيك الكلام عن المرتبة الثانية في ص ٥٤٨.

(٣) « ج » : وكما.

(٤) « م » : الأوّل.

(٥) « ج » : وكذا.

(٦) « م » : وجدوا التخيير؟

(٧) تقدّم عنه في ص ٥٣٩.

(٨) « ج » : بالمعنى ثالثا.

(٩) المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : تصريحين.

٥٤٥

يهتمّون في صرف السند ، وذلك ظاهر لمن لاحظ الأوامر العرفية ، ولعلّ السرّ في ذلك هو أنّ صرف الظاهرين عن ظاهرهما يتوقّف على وجود قرينة صارفة لهما ، فعند انتفائها لا يعقل الحكم بصرف الظاهر عن ظاهره ؛ لانتفاء ما يقضي بذلك ، ولا يصلح لذلك في المقام شيء عدا ما قد يتوهّم من أنّ الأخذ بدليل السند والحكم بصدوره قاض برفع الظهور وارتكاب التأويل في الظاهر ، وهو ليس بسديد ؛ لأنّ مجرّد الحكم بالصدور لا يقضي بكون الصادر قرينة صارفة لشيء آخر ، إذ كون الشيء قرينة من الأمور التي مرجعها إلى أظهرية مفادها عن مفاد ما فرض كونها قرينة له والمفروض أنّ الحكم بالصدور ليس كذلك.

وتوضيح المقام : أنّ مفاد أدلّة التصديق بالخبر هو الحكم بصدوره (١) عن الإمام ومطابقة الحكاية للمحكيّ عنها (٢) وواقعية هذه الحكاية ، وأمّا وجوب الأخذ بظاهره ـ سواء كان ظهوره مستندا إلى نفس اللفظ أو إلى قرينة صارفة ـ فلا دلالة في أدلّة تصديق (٣) الخبر عليها بوجه ، بل الوجه في ذلك هو الأخذ بالطرق العرفية في تشخيص المرادات في الألفاظ من إعمال أصالة الحقيقة والأخذ بمفاد القرينة الصارفة في الاستعمالات المجازية لمكان أظهرية القرينة من ظهور الوضع بالنسبة إلى الحقيقة ، فالصرف إنّما هو من لوازم نفس الظهور ، فلو لم نقل أنّ الأخذ بظهور الدليلين قرينة على طرح أحد الصدورين فلا مجال للقول بالعكس ؛ لانتفاء ما يقضي (٤) بذلك ، وأمّا ما (٥) قد عرفت في المرتبة الأولى من الحكم بتقديم ظهور الخاصّ على العامّ لدوران الأمر بين طرح السند في الخاصّ والدلالة في العامّ ، فلا ينافي ما في المقام ؛ للفرق الظاهر بين المقامين من صلاحية الخاصّ للصرف دون المقام لعدم الارتباط بينهما.

__________________

(١) « ج » : بصدورها.

(٢) كذا. والأولى : عنه.

(٣) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : التصديق.

(٤) « ج ، د » : يقتضي.

(٥) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ـ ما.

٥٤٦

وبالجملة : إنّ التصرّف في الدلالة في المتباينين ممّا لا يقضي به دليل ، وأمّا طرح أحدهما تخييرا والأخذ بالآخر فهو ممّا يقضي به العرف في أمثال المقام بعد العلم ببقاء المصلحة عند دوران الأمر بين المتعارضين.

فإن قلت : إذا فرضنا رواية ظاهرة في معنى غير واقع أو غير ممكن فاللازم صرفها عن ظاهرها وحملها على معنى واقع ممكن قريب من معناها الحقيقي ، كما ينادي بذلك قولهم : إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات ، ولا فرق في ذلك بين رواية واحدة أو روايتين ، فلا بدّ من حمل الخبرين المتعارضين على معنى لا منافاة بينهما جمعا بينهما ودفعا للتعارض.

قلت : القاضي بالفرق بين الرواية الواحدة وما نحن بصدده هو العرف ، فإنّ البناء في الواحدة على الحمل دون المقام.

أقول : ولعلّ الوجه في ذلك أنّ الامتناع في الرواية الواحدة بعد الحكم بالصدور قاض بالتأويل ، فيصير قرينة عقلية على وجوب الحمل ، بخلاف المقام لإمكان رفع الامتناع بالتخيير فإنّه إعمال في الجملة ، فهو بمنزلة التأويل في الرواية الواحدة ، فالطرح في المقامين بعد التأويل ، فتأمّل.

فإن قلت : إذا علمنا بصدور الخبرين من (١) الإمام عليه‌السلام كأن سمعنا منه شفاها فلا بدّ من صرف الدلالة قطعا ، وبعد ما فرضنا من قيام الأخبار الظنّية مقام العلم من حيث وجوب التصديق بها والأخذ بها فيجري فيها ما يجري في الأخبار العلمية (٢) ، وقضيّة ذلك هو التصرّف في الدلالتين (٣) والحكم بسلامة السندين.

قلت : نعم ولكنّه يجب أن يعلم أنّ صرف الدلالة في القطعيين وعدم التعرّض للسند فيهما بالتخيير إنّما هو من آثار نفس القطع واقعة ، وتنزيل (٤) الظنّ منزلة القطع لا يقضي

__________________

(١) « م » : عن.

(٢) « م ، د » : العملية.

(٣) « د ، س » : الدليلين.

(٤) « د » : ينزّل. « ج » : وترتّب.

٥٤٧

إلاّ بما يمكن ترتّبه من آثار القطع عليه ، والآثار الواقعية (١) غير ممكن اللحوق بشيء آخر كما لا يخفى. وبعبارة أخرى : القطع بالصدور في المتناقضين يصلح قرينة لصرف الظاهر فيهما بواسطة خاصّية في نفس القطع بخلاف ما يقوم مقامه من التنزيلات التعبّدية.

الثاني : أنّ الجمع بين الدليلين على الوجه المذكور ينافي أخبار التخيير ، فإنّ الحكم بانحصار مورد التخيير في الأخبار بما إذا لم يكن الجمع بينهما ممكنا بوجه من الوجوه كأن يكون المعاني المجازية فيهما معلومة (٢) الانتفاء و (٣) غير محتمل الإرادة (٤) خلاف الظاهر ؛ إذ على تقدير وجود مثل هذا المورد فهو في غاية القلّة لا ينبغي أن يحمل هذه الأخبار مع كثرتها واشتهارها وتعاضدها على مثل هذا المورد النادر الذي يكاد أن لا يوجد منها عين ولا أثر ، إذ ما من (٥) لفظ إلاّ ويحتمل معان (٦) مجازية عديدة فكيف يصحّ حملها عليه؟ فإنّ إطلاقها قاض بذلك ومع عدم مساعدة العرف على الحمل كما في العامّ والخاصّ فاللازم (٧) هو الأخذ بالإطلاق ، على أنّ مورد السؤال في بعضها في الأمر والنهي وهو يكشف عمّا ذكرنا.

بقي الكلام في المرتبة الثانية (٨) وهي ما يكفي في رفع التعارض صرف أحد المتعارضين عن ظاهره فقط فيحتاج إلى شاهد ، كما تعارض العامّين (٩) من (١٠) وجه (١١) كما في قولنا : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق » وما ورد منهم عليهم‌السلام من قولهم : « اغسل ثوبك

__________________

(١) « ج ، س » : الواقعة.

(٢) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : معلوم.

(٣) « د » : أو.

(٤) « ج » : للإرادة.

(٥) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ـ من.

(٦) « ج » : لمعان.

(٧) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : اللازم.

(٨) قدّم المرتبة الثالثة في ص ٥٤٥.

(٩) كذا. والصواب ظاهرا : العامّان.

(١٠) المثبت من هامش « د » وفي النسخ : في.

(١١) « س » : في وجه به.

٥٤٨

من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) وقولهم : « لا بأس بخرء الطير » (٢) وفي حكمه ما إذا تعارض ظاهران لا يكون بينهما (٣) ترجيح في نفس الظهور على وجه يكفي في التأويل صرف أحدهما ، كما إذا قيل : « لا ينبغي ترك غسل الجمعة واغتسل للجمعة » على القول بعدم أظهرية الأمر في الوجوب من دلالة قولنا : « لا ينبغي الترك » في الاستحباب فإنّه حينئذ يكفي في رفع التنافي حمل الأمر على الاستحباب أو حمل « لا ينبغي » على الوجوب.

وكيف كان ، فهل يجب الجمع بين الأدلّة بطرح الظهورين للإجمال نظرا إلى انتهاض كلّ منهما صارفا لظهور الآخر ، أو يجب التخيير نظرا إلى إطلاق ما دلّ على التخيير عند التعارض ، أو يفصّل بين العامّين من وجه ـ ففي (٤) مورد التعارض يتوقّف ويرجع إلى ما يقتضيه الأصل أو غير ذلك كما إذا لم يكن ذلك ـ وبين ما هو في حكمه فيجب الأخذ بأخبار التخيير؟ وجوه : قد يقال بالأوّل نظرا إلى صلاحية كلّ واحد من الظهورين لصرف ظهور الآخر ، فيحكم في مورد التعارض بالإجمال كما يقضي بذلك ملاحظة العرف في المقام وفي نظائره ، فإنّ (٥) بعد وجود ما يصلح لأن يكون قرينة من الطرفين لا مفرّ من ذلك إذا لم يكن بينهما ترجيح ، وأمّا عند الترجيح فمن المعلوم هو الأخذ بما فيه الترجيح ، كما إذا كان التخصيص في أحدهما بالمورد ، أو كان أحدهما أقلّ (٦) أفرادا من الآخر ، أو نحو ذلك ، فيلحق بالعامّ والخاصّ المطلقين من حمل العامّ

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ ، باب ٨ من أبواب النجاسات ، ح ٢. وتقدّم في ص ٣٩٧ وسيأتي في ص ٥٥٤ و ٦٤٦.

(٢) انظر الفقيه ١ : ٧١ ، باب ما ينجس الثوب ، ح ١٦٤ ؛ مستدرك الوسائل ٢ : ٥٦٠ ، باب ٦ من أبواب النجاسات والأواني ، ح ٢ و ٤. وسيأتي في ص ٦٤٦.

(٣) « م » : منهما.

(٤) « ج » : وهي.

(٥) شطب عليها في نسخة « د » وكتب فوقها : « فإنّه ».

(٦) « س » : أقوى.

٥٤٩

على الخاصّ ، والسرّ في ذلك أنّ العرف متى ما لم ينزّلوا الظاهر منزلة النصّ في المتعارضين لا يلتفتون إلى صرف السند وطرحه ، وتنزيل الظاهر منزلة النصّ إنّما هو بواسطة عدم قرينة يوجب (١) الصرف وعدم صلاحية شيء لذلك كما في المتباينين ، وأمّا إذا وجد عندهم ما يصلح لذلك فإن كان معيّنا (٢) في أحد الظاهرين كما في العامّ والخاصّ وما يقرب منه من المطلق والمقيّد والظاهر والأظهر والعامّين من وجه فيما إذا كان شمول أحدهما لمحلّ التعارض أظهر من الآخر بوجه من الوجوه ، فمن الواضح تقديمه على غيره في جميع الأقسام ، وقد عرفت الوجه في ذلك كلّه فيما (٣) تقدّم.

ويزيدك توضيحا في المقام أنّه متى فرض أحد المتعارضين أظهر من الآخر وجب تقديمه ؛ لدوران الأمر بين الأخذ بدليل عملي وهو أصالة الحقيقة (٤) في العامّ وبين الدليل الاجتهادي أو (٥) ما هو بمنزلته في حكومته على الأصل المعمول في الظاهر.

وبيان ذلك : أنّ دليل الأظهر إمّا أن يكون مختصّا به نصّا فيه كأن يكون إجماعا مثلا ، أو لا ، فعلى الأوّل فلا إشكال في تقديم الأظهر على الظاهر ، فإنّ الإجماع الدالّ على حجّية الأظهر ووجوب الأخذ به رافع للشكّ في مورد أصالة الحقيقة للقطع بالتخصيص عند وجود ما يصلح له مع القطع باعتباره. وأمّا على الثاني فلأنّ العامّ الدالّ (٦) على حجّية الخاصّ كما في آية النبأ ـ مثلا ـ إعمال الأصل فيه مزيل لإعمال الأصل في العامّ الذي تعارض الخاصّ ؛ لأنّ الشكّ في تخصيص المعارض ناش من الشكّ في شمول دليل الحجّية للخاصّ ، وبعد إعمال الأصل في دليل الخاصّ نقطع باعتباره فيحصل القطع بالتخصيص.

فإن قلت : كما أنّ آية النبأ تدلّ على حجّية الخاصّ كذلك تدلّ على حجّيته ، فأصالة

__________________

(١) كذا في النسخ ولعلّ الأنسب : توجب.

(٢) « م » : مغنيا.

(٣) « س » : كما.

(٤) المثبت من « س » وفي سائر النسخ : + وما.

(٥) « ج ، س » : إذ.

(٦) « س » : ـ الدالّ.

٥٥٠

الحقيقة في دليل الحجّية متعارضة ، فإنّ إعمال الأصل في دليل الحجّية بالنسبة إلى الخاصّ يوجب تخصيصه (١) بالنسبة إلى العامّ في مورد التخصيص ، وإعمال الأصل فيه بالنسبة إلى مورد التخصيص في العامّ يوجب تخصيصه بالنسبة إلى الخاصّ ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر.

قلت : نعم ولكن إعمال الأصل بالنسبة إلى الخاصّ أولى ؛ لأنّ بعد ما فرض من شمول العامّ الدالّ على الحجّية للخاصّ لا يبقى لأصالة الحقيقة فيه بالنسبة إلى مورد التخصيص محلّ فكأنّه خارج عن الإرادة في أوّل الأمر ، بخلاف ما إذا أخذنا (٢) بالأصل في دليل الحجّية بالنسبة إلى مورد التخصيص فيلزم تخصيصه بالنسبة إلى الخاصّ من غير مخصّص يقضي (٣) بذلك ؛ لأنّ شموله لمورد (٤) التخصيص لا ينهض قرينة على خروج الخاصّ مثل ما عرفت في استصحابي (٥) المزيل والمزال ، ومرجع ذلك كلّه إلى نفس الظهور كما لا يخفى.

هذا إذا كان ما يصلح للصرف معيّنا في أحد المتعارضين ، وأمّا إذا كان ذلك موجودا فيهما كما في العامّين من وجه وما في حكمه فيقضي كلّ واحد منهما بالصرف ، ومع عدم المرجّح لا مجال لإنكار الإجمال ، وما ذكرنا كما يكفي في رفع توهّم الأخذ بأحدهما تعيينا (٦) في مقام التعارض كذلك يكفي في رفع توهّم التخيير بينهما أيضا ؛ لأنّ مورد التخيير فيما إذا كان الدلالة مفروغا عنها كأن كانت غير محتملة التأويل بحسب الأوضاع والقرائن العرفية واللغوية ، وأمّا عند احتمال التأويل لوجود ما يصلح للصرف فليس من مورد التخيير بوجه.

وتحقيق ذلك : أنّ لكلّ واحد من العامّين من وجه سندا ودلالة ، والدليل قد دلّ على لزوم الأخذ بالسند فيهما وفي دلالتهما ، فالأمر دائر بين طرح دليل السند فعلا

__________________

(١) « ج » : الحقيقة.

(٢) « د » : أخذ. « ج ، س » : أخذها.

(٣) « ج ، م » : تقضي.

(٤) « ج » : كمورد.

(٥) « س » : استصحاب.

(٦) « ج ، د » : تعيّنا.

٥٥١

والحكم بالتخيير وبين طرح دليل الدلالة والحكم بالإجمال ، والثاني أولى ؛ لما قد عرفت من أنّه (١) بمنزلة الدليل الاجتهادي ، ونظير ذلك في الرواية الواحدة إذا لم يمكن حملها على مدلولها الحقيقي مع تعدّد وجوه المجاز وتساويها (٢) في القرب إلى الحقيقة. والفرق بين المقام والمتباينين حيث حكمنا فيهما بالتخيير دون المقام هو أنّ وجه التصرّف فيهما منحصر في التصرّف في السند ؛ لعدم إمكان التصرّف الدلالتي فيهما ، لانتفاء ما يقضي به من القرينة الصارفة ، بخلاف المقام فإنّ وجه التصرّف في الدلالة ممكن (٣) أيضا مع الأولوية فكأنّ السند فيهما مفروض الصدور والتنافي إنّما هو بين الدلالتين ، فيحكم (٤) بالإجمال فيتوقّف في الحكم ويرجع في العمل إلى أصل عملي مطابق لأحدهما ، وعلى تقدير انتفائه فإن استفدنا منهما نفي الثالث فلا بدّ من التخيير العقلي بين الاحتمالين وإلاّ فالمرجع أصل (٥) ثالث.

ويمكن الاستناد (٦) للوجه الثاني بإطلاق أدلّة التخيير عند التعارض بعد انقطاع اليد عمّا يصلح مرجّحا لأحدهما ، وربّما يمكن دعوى مساعدة العرف على ذلك أيضا ، إلاّ أنّه لا يخلو عن إشكال فإنّ موارد التميز مختفية (٧) غالبا فإنّها سهل عسر (٨) كما لا يخفى ، ومنه يظهر وجه التفصيل بعد ما عرفت وجه الأوّل أيضا ولعلّه الأقرب أيضا ، فإنّ مساعدة العرف على التخيير فيما هو بمنزلة العامّين من وجه لا يخلو من (٩) قوّة ، وأمّا فيهما فالتخيير بعيد في الغاية ، سيّما بعد ملاحظة أنّ التخيير في العامّين من وجه يوجب التفكيك في السند ، فإنّ في غير مورد التعارض لا وجه للتخيير فلا بدّ من الحكم بصدورهما في غيره وترتيب (١٠) آثار الصدور ، وفي محلّ التعارض لا بدّ من طرح

__________________

(١) « ج » : أنّ السند. « س » : كونه.

(٢) « م » : تساويهما.

(٣) « د » : يمكن.

(٤) « س » : للحكم.

(٥) « د » : أمر.

(٦) « م » : الاستثناء.

(٧) « ج ، د » : مخفية.

(٨) « د » : عسير.

(٩) « د » : عن.

(١٠) « ج » : ترتّب.

٥٥٢

أحدهما ، وهذا وإن كان غير عزيز في الأحكام الشرعية الظاهرية إلاّ أنّ الالتزام به في الأوامر العرفية مستهجن في النهاية ومستبعد في الغاية ، وذلك بخلاف ما في حكم العامّين من وجه فإنّه لا استبعاد في التخيير بينهما ، مضافا إلى أنّ صلاحية الصرف في العامّين (١) في كلّ واحد منهما بالنسبة إلى الآخر لعلّها أقوى من الصلاحية في غيرهما ، فتدبّر.

هذا هو تمام الكلام في المراتب الثلاثة المتقدّمة ولكنّه مقصور في الأدلّة الناهضة في الأحكام ، وأمّا الجمع بين الأمارات القائمة على الموضوعات الخارجية كما إذا تعارضت البيّنتان فلوجوب الجمع بينهما بالحكم بالتنصيف ونحوه ، وعدمه محلّ آخر يطلب منه (٢) تفصيله.

وأمّا إجماله فنقول : إذا تعارض الأمارتان في حقّ من حقوق الناس فهل يحكم بالتساقط والرجوع إلى أمارة أخرى ، أو يجمع بينهما حيث ما يمكن الجمع بينهما؟ فإذا شهد عندك عدلان بأنّ الملك الفلاني لزيد وشهد آخران بأنّ المشهود عليه لعمرو فهل يحكم بالتنصيف بينهما ، أو لا؟ الظاهر هو الأوّل ، بل عليه جماعة من الفحول (٣) فإنّ فيه إعمالا للأمارتين وتصديقا للبيّنتين في الجملة ، بخلاف القول بالتساقط ؛ إذ لا تصديق فيه أصلا مع أنّه من الأمور الواجبة ، والأخذ بأحدهما بالكلّية تضييع لحقّ الآخر بالكلّية ، ولعلّه يساعده العرف أيضا.

ومن هنا يظهر أنّ الجمع في المقام غير الجمع في الأدلّة ؛ إذ كما عرفت أنّ الجمع هناك عبارة عن صرف أحد الظاهرين بقرينة ظهور الآخر ، بل المراد بالجمع هو التنصيف.

وربّما يقال : إنّ الجمع بهذا الوجه يوجب المخالفة القطعية بالنسبة إلى غير من له الحقّ ، بخلاف الحكم لأحدهما فإنّه يوجب المخالفة الاحتمالية ؛ إذ كما يحتمل أن يكون

__________________

(١) « م » : عامّين.

(٢) « د » : من.

(٣) كالشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٨٤ ، قاعدة ٩٧.

٥٥٣

لغير من له الحقّ يحتمل أن يكون له (١).

وفيه : أنّ التنصيف كما يوجب المخالفة القطعية يوجب الموافقة القطعية فالأمر دائر بين تحصيل الموافقة الاحتمالية في الكلّ وإن استلزم مخالفة احتمالية كذلك ، أو تحصيل الموافقة القطعية في البعض وإن استلزم المخالفة القطعية كذلك ، ولا يبعد ترجيح الأخير على الأوّل في كلّ ما للبعض أثر أيضا كما في حقوق الناس ، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في الجمع بين الدليلين على اختلاف أقسامه ، وقد عرفت أنّ الجمع فيما يجب الجمع إنّما هو موافق للقواعد ، وفيما لا يجب لا دليل على الجمع من الخارج أيضا ، وأمّا موارد التخيير فحيثما لا يمكن الجمع مع الانقطاع عن المرجّحات الصدورية.

وربّما يظهر من بعضهم (٢) في بعض موارد التعارض في العامّين من وجه كقوله :

« اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » وقوله : « لا بأس بخرء الطير » (٣) إعمال المرجّحات الصدورية ، وقال بالتخيير فيهما بعد الانقطاع إلاّ فيما قام الإجماع (٤) على عدم التخيير.

وضعفه ظاهر فإنّ عدم الحكم بالتخيير في موارد تعارض العامّين من وجه ليس مخالفا للقواعد حتّى يحتاج في دفعه إلى دليل خارجي من إجماع ونحوه ، بل لا محلّ للتخيير فيهما كما هو ظاهر ممّا مرّ.

وممّا قرّرنا يظهر أيضا فيما إذا تعارض جهة الصدور في الخاصّ والعامّ ، وهكذا باقي الأقسام ، والله الموفّق وهو الهادي.

__________________

(١) « س » : له الحقّ.

(٢) قال النراقي في عوائد الأيّام : ٣٤٩ ، عائدة ٤٠ : إذا تعارض العامّان من وجه يرجع إلى الترجيح إن كان ، وإلاّ فيحكم بالتخيير إن أمكن ، وإلاّ فيرجع إلى الأصل السابق عليهما. انظر الرياض ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ ، وفي ط الحجري ١ : ٨٣.

(٣) تقدّما في ص ٥٤٨.

(٤) « د » : دليل الإجماع.

٥٥٤

هداية

[ في المرجّحات الدلالية ] (١)

في بيان الوجوه التي يقع الترجيح بها وهي أربعة : الأوّل : الترجيح من حيث الصدور كتقديم ما رواه الأعدل أو الأورع على غيره.

الثاني : الترجيح من حيث جهة الصدور فيحكم بتقديم ما لا يحتمل إلاّ الفتوى على ما يحتمل التقيّة.

الثالث : الترجيح من حيث المتن فيقدّم ما هو متنه أفصح على غيره نظرا إلى أنّ احتمال صدوره أقرب من الآخر ، فيرجع إذا إلى الوجه الأوّل.

الرابع : الترجيح من حيث الدلالة كالحكم بتقديم الأظهر على الظاهر.

وبعد ما عرفت من رجوع الثالث إلى الأوّل فالضابط أنّ وجوه الترجيح يختلف باختلاف وجوه التعارض ، وهو قد يكون في السند ، وقد يكون في وجه الصدور ، وقد يكون في الدلالة ، فإنّ ما هو المناط في دليلية الأدلّة اللفظية هو إحراز هذه الجهات في الدليل كما مرّ غير مرّة.

أمّا الكلام في المرجّحات التي بها يترجّح أحد الدليلين على الآخر دلالة ، فتحقيقه أنّ يقال : إنّ الكبرى في ذلك مفروغ عنها وهو الحكم بتقديم الأظهر في أيّ مرتبة كانت على الظاهر كذلك ، بعد ما هو المعهود من أنّ مناط الدلالة في الألفاظ على

__________________

(١) سيستدرك هذه الهداية بهداية أخرى في ص ٦٤٣.

٥٥٥

الظهور والأخذ بأصالة الحقيقة ما لم يوجد ما يصلح لأن يكون قرينة صارفة للظهور في طرف الأصل ، وأمّا بعد وجود ما يصلح لذلك فالمعهود من طريقة أهل اللسان التي هي المرجع في باب الألفاظ وكشف القناع عن وجوه المرادات هو الأخذ بذلك ، ولا غائلة في ذلك بوجه ، إنّما الكلام في تميّز موارده وتشخيص الصغريات ، وهو في غاية الإشكال ؛ إذ ما من أمر يرجع فيه إلى العرف إلاّ وفيه أمور خفيّة لا يكاد يطمئنّ الناظر في إلحاقها بأحد الطرفين ، فيلحق بالمجملات لمكان التردّد فيها ، ومع ذلك فقد تكلّفوا لبيان هذه الموارد تفصيلا وعقدوا لذلك بابا سمّوه بباب تعارض الأحوال من وجوه التصرّف في أحد الظاهرين على وجه يندفع به التعارض بينهما ، وهي أمور خمسة : النسخ ، والإضمار ، والمجاز ، والتخصيص ، والتقييد ، فإنّ تعارض الدليلين بحسب الدلالة يرجع إلى تعارض أحد هذه الوجوه بعضها مع بعض.

ثمّ إنّ التعارض قد يقع بين نوع واحد منها كتعارض التخصيص بمثله والمجاز كذلك كالتقييد والإضمار مثلا ، وقد يكون بين أفراد نوعين منها وهو قد يكون ثنائيا ، وقد يكون ثلاثيا ، وقد يكون رباعيا ، وقد يكون خماسيا.

ونحن نتعرّض لأحكام التعارض الثنائي ويعلم أحكام البواقي منها ، فنقول : إن كان التعارض بين نوعين منها فإذا وقع التعارض بين النسخ وغيره ، فالظاهر تأخّر النسخ عن غيره ؛ لأنّ الغالب هو عدم النسخ حتّى بالنسبة إلى الإضمار أيضا ، إلاّ أنّه قد يمكن أن يكون في خصوص مورد يحكم فيه بتقديم النسخ على غيره مطلقا لخصوصية في نفس ذلك المقام لا تتعدّاه ؛ لما عرفت من أنّ (١) المعيار هو الظهور العرفي.

وإذا وقع التعارض بين المجاز والتخصيص فالمعروف بينهم تقديم الثاني ؛ لأنّ العرف يساعد على التقديم في الغالب للغلبة ، ولست أقول : إنّ التخصيص بالنسبة إلى سائر أنواع المجازات المعمولة في الحقائق أغلب ، ولأنّ أغلب العمومات مخصّصة كما يظهر

__________________

(١) المثبت من « د » وفي سائر النسخ : ـ أنّ.

٥٥٦

من بعضهم (١) لفساد الأوّل قطعا والحكم بتقديم التخصيص فيما لو دار الأمر بينه وبين المجاز ولو في كلمة أخرى ، بل أقول : إنّ ارتكاب التخصيص في العامّ أكثر من ارتكاب سائر أنواع المجاز في الحقائق. وبعبارة واضحة : إنّ إرادة غير زيد من العلماء ونحوه أكثر من إرادة الرجل الشجاع من الأسد ، فلو دار الأمر بين ارتكاب نوع من المجاز في العامّ أو في غيره وبين التخصيص فيحكم بالثاني ، وهذه الغلبة مسلّمة في الواقع وتصير منشأ للظهور العرفي.

وإذا تعارض التخصيص والتقييد فالمعروف بينهم (٢) تقديم الثاني ، وتحقيق المقام إنّما يظهر بعد ما هو التحقيق في مسألة (٣) الإطلاق والتقييد ولا بأس بإشارة إجمالية إليها تتميما للمطلب.

فنقول : الذي وقفنا عليه في تضاعيف كلماتهم أنّ الإطلاق والتقييد إنّما يعتبران على وجوه :

فتارة : يعتبر الإطلاق من حيث ملاحظة الأحوال على وجه لا يعدّ الأحوال المختلفة المقارنة (٤) للمطلق من أفراده كما في إطلاق الأمر بالنسبة إلى الحالات التي يقع المأمور والمأمور به فيها ، فإنّ تلك الحالات لا يعقل أن تكون (٥) من أفراد الطلب ولكن يعتبر إطلاق الأمر وتقييده بالنسبة إليها ، مثلا يحكم بإطلاق الطلب ويؤخذ فيما شكّ في تقييده بوقوع حادثة وعدمه مع ظهور أنّ الصادر من الآمر من (٦) الإرادة الجازمة التي كشف عنها باستعمال الأمر فيها أمر واحد شخصي يمتنع فرض صدقه على كثيرين. اللهمّ إلاّ أن يكون تلك التقييدات راجعة إلى المطلوب فيمكن أن يكون الطبيعة المطلوبة تختلف أفرادها بواسطة احتفاف (٧) تلك الحالات بها وانضمامها إليها ،

__________________

(١) انظر مشكاة المصابيح : ٢٧٩.

(٢) « د ، م » : منهم.

(٣) « ج ، م » : مثله.

(٤) « ج » : المقاربة. « د » : المتقاربة.

(٥) في النسخ : يكون.

(٦) « س » : ـ من.

(٧) « ج » : اختلاف.

٥٥٧

إلاّ أنّ ذلك لعلّه ممّا لا يساعده كلماتهم وإن كان مطابقا لما حقّقناه في مباحث المتقدّمة ، وإن شئت التفصيل فراجعها.

وتارة : يعتبر الإطلاق من حيث ملاحظة التعيّنات المتبادلة والتشخّصات (١) المتعاقبة ، كما يلاحظ في إطلاق الفرد المنتشر والنكرة (٢) بالنسبة إلى خصوصيات أفراد (٣) الطبيعة التي قيّدت بالفردية المحتملة على وجه لا يضرّ في ذلك اختلاف التعيّنات الطارئة عليها.

وتارة : يعتبر الإطلاق بالنسبة إلى الطبيعة المرسلة التي ليست في نفسها إلاّ نفسها محذوفا عنها جميع ما عداها.

والفرق بين هذين الوجهين ظاهر ؛ إذ هما بعد اشتراكهما (٤) في أنّ الإطلاق فيهما ملحوظ بالنسبة إلى الأفراد ضرورة أنّ الرقبة إنّما (٥) يلاحظ إطلاقها بالنسبة إلى المؤمنة والكافرة ، وكذا قولك : « جاء (٦) رجل » إنّما يلاحظ إطلاق الرجل بالنسبة إلى زيد وعمرو ، إنّما يمتاز الأوّل عن الثاني بأنّ إطلاقه للأفراد بدلي ، بخلاف الثاني فإنّه شمولي لا بمعنى العموم الأصولي ، بل بمعنى الإحاطة دفعة واحدة وذلك ظاهر.

ووجه اختلاف هذين الوجهين للوجه الأوّل أيضا ظاهر لا يكاد يخفى.

وإذ قد عرفت هذه الوجوه فاعلم أنّهم اختلفوا في أنّ تقييد المطلق هل هو (٧) يوجب مجازا في المطلق ، أو لا؟ على أقوال ثالثها ما جنح (٨) إليها بعض المتأخّرين (٩)

__________________

(١) « د » : التعيينات ... التشخيصات.

(٢) سقط قوله « من حيث » إلى هنا من نسخة « س ».

(٣) « س » : ـ خصوصيات أفراد.

(٤) « ج » : التزامهما.

(٥) « ج » : « فيهما » بدل : « إنّما ».

(٦) المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : وجاء.

(٧) « س » : ـ هو.

(٨) « د ، م » : احتجّ.

(٩) نسبه أيضا إلى بعض الأواخر في مشكاة المصابيح : ٣١٥. انظر بحث المطلق والمقيّد من مطارح الأنظار ٢ : ٢٤٩ ، وفي هامشه نسبه إلى صاحب ضوابط الأصول : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٥٥٨

ـ على ما حكي ـ التفصيل بين ما قيّد بمقيّد متّصل بالمطلق كقولك : « رجل مؤمن ورقبة مؤمنة » وبين ما قيّد بمنفصل كما إذا كان المقيّد عقلا أو إجماعا مثلا ، ولم يظهر منهم الفرق بين وجوه المطلق من الاعتبارات المتقدّمة.

وكيف كان فالحقّ أنّ التقييد ليس مجازا مطلقا ، سواء كان متّصلا أو لا ، وسواء في ذلك وجوه الإطلاق.

أمّا بالنسبة إلى الوجه الأوّل : فذلك أظهر من أن يخفى على أوائل العقول ، فإنّ المجاز عبارة عن الكلمة المستعملة في خلاف ما وضعت له ، وهل ترى قولنا : « اضرب رجلا » يفترق قولنا (١) : « اضرب رجلا في الدار أو قائما أو ضربا شديدا » إلى غير ذلك من وجوه متعلّقات الفعل كأن يكون اضرب باعتبار ما يدلّ على الطلب من الصيغة مستعملا (٢) في خلاف ما وضعت له من الطلب ، ولو كان الأمر على ما ذكر لأدّى إلى أن يكون اللفظ مستعملا في مجازات متعدّدة عند تعدّد وجوه (٣) التقييد على وجه الإحاطة بها ، ومستعملا في معنى مجازي وحقيقي إذا (٤) اعتبر التقييد بالنسبة إلى (٥) بعض الوجوه القابلة (٦) له.

والإنصاف أنّه لم يظهر من المشهور القائلين بالمجازية ذهابهم إلى ذلك أيضا ، نعم ربّما يظهر من بعضهم (٧) المجازية بالنسبة إلى التقييد (٨) بالشرط حيث يحكمون بأنّ الأمر حقيقة في الطلب المطلق مجاز في الطلب المشروط ، وفيه ـ بعد أنّ التفكيك بين أقسام التقييد ممّا لا يقضي به دليل ـ : أنّ الطلب المشروط ليس خارجا عن حقيقة الطلب على ما هو المحقّق في مقامه ، فلا وجه للقول بأنّ اللفظ الموضوع بإزاء الطلب إنّما يصير مجازا إن استعمل لأن يكشف الطالب عن هذا القسم من الطلب على تقدير القول

__________________

(١) « د » : قولنا يفرق. « ج » : يفترق عن قولنا.

(٢) « م ، س » : مستعملة.

(٣) « س » : وجود.

(٤) المثبت من « س » وفي سائر النسخ : إذ.

(٥) « ج » : « على » بدل : « بالنسبة إلى ».

(٦) « ج » : المقابلة.

(٧) انظر كفاية الأصول : ١٠٠.

(٨) « د ، م » : التقيّد.

٥٥٩

باختلافه للطلب المطلق ، وكيف كان ففساد هذه الدعوى في إطلاق الهيئة والصيغة ظاهر.

وأمّا بالنسبة إلى الوجه الثاني : فمرجع النزاع فيه إلى تعيين مدلول النكرة من حيث إنّ المعتبر فيها التجرّد عن أمور بها تتعيّن تلك الخصوصيات التي مدلولها مردّد بينها على ما يراه البعض من جزئية مدلولها ، أو التجرّد عنها وعن الخصوصيات أيضا على ما يظهر من مقالة المشهور من كونها كلّيا ، أو لا يعتبر في مدلولها التجرّد ، بل مدلولها مأخوذ لا بشرط شيء من الأمور المعيّنة أو نفس التشخّصات على اختلاف القولين ، فلعلّ القائل بالمجازية إنّما زعم أنّ مدلولها مأخوذ بشرط أن لا يكون معه قيد ، فإذا انضمّ إليه القيد (١) يجب تجريده عن قيد التجرّد ليصحّ التقييد (٢) فيصير مجازا ، ولكنّ التحقيق خلافه كما يساعد بذلك العرف ؛ إذ لا استنكار (٣) في التقييد عندهم أبدا ، فلو استعمل النكرة مرادا بها فرد خاصّ إذا لم يكن الخصوصية مقصودة باللفظ على أن يكون اللفظ مرآة وكاشفا عن المركّب لم يكن مجازا وإن كان اللفظ مستعملا في الفرد الغير المعيّن من حيث تعيّنه (٤) بذلك المعيّن المدلول عليه بلفظ آخر ، وأمّا إذا كانت الخصوصية مدلولا عليها بلفظ النكرة فلا ينبغي الارتياب في كونها مجازا ، إلاّ أنّ ذلك خلاف المفروض فإنّ الكلام في عنوان التقييد وخروجه عنه ظاهر.

وأمّا بالنسبة إلى الوجه الثالث : فالأمر أيضا ظاهر ؛ لأنّ الحقّ على ما يشهد به العرف أنّ اسم الجنس موضوع للطبيعة المهملة السارية في حدّ ذاتها في جميع الأفراد والخصوصيات على وجه لا يذبّ عنها شيء منها في هذه المرتبة وهي موجودة في جميعها ، فإنّ الفرد عين الماهيّة الخارجية وإذا تحصّلت في الذهن تصير ماهيّة مطلقة ، فتارة : يلاحظ مأخوذا معها شيء آخر ، وتارة : لا يلاحظ معها شيء آخر ، فقد يجرّد

__________________

(١) « م » : إليها. « د » : هذا القيد.

(٢) « د » : التقيّد.

(٣) « د » : لا إشكال.

(٤) « د » : نفسه.

٥٦٠