مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

لأنّه حقيقة شكّ قبل تجاوز المحلّ ، وكذا الثاني ؛ لحكومة أصالة الوقوع على أصالة عدم الطهارة كما عرفت.

الرابع : أنّ الأخبار المذكورة تدلّ على تقدّم المزيل على المزال وذلك بوجهين : أحدهما : أنّ جملة من موارد هذه الأخبار من الاستصحاب (١) المزيل و (٢) قدّمه على الاستصحاب (٣) المزال معلّلا في ذلك بـ « أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ » ولولاه لزم اختصاص شيء بشيء مع تعليله بعلّة مشتركة بينه وبين غيره.

وتوضيح ذلك : أنّ خبر زرارة (٤) دلّ على كفاية استصحاب الطهارة عند الشكّ في عروض النوم ، وكذا خبره الآخر (٥) دلّ على كفاية استصحاب الطهارة في الثوب عند احتمال عروض النجاسة مع أنّ استصحاب الطهارة الوضوئية معارض باستصحاب بقاء الشغل بالصلاة ، وكذا استصحاب طهارة الثوب معارض باستصحاب الاشتغال فيما يشترط الدخول فيه بها مثلا ، فالموجود في هذه الموارد يقينان : أحدهما : في السبب ، والآخر : في المسبّب ، وشكّان كذلك ، والإمام مع ذلك حكم باستصحابي الطهارة في المقامين وعلّله بـ « أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ » فلو لا أنّ الشكّ في المسبّب كيفيته كان بمنزلة عدم الشكّ واليقين لم يصحّ التعليل المذكور ؛ لوجود (٦) العلّة بعينه في المسبّب أيضا ، ومعنى تنزيل اليقين والشكّ في المسبّب منزلة العدم هو عدم الأخذ بأحكام اليقين والشكّ فيه ، وهذا هو بعنيه هو الحكم بحكومة المزيل على المزال ، فيكون المزيل بمنزلة دليل اجتهادي في مورد المزال ؛ إذ بتحقّقه لم يبق له مورد ولا مجرى ؛ لأنّ ملاك الاستصحاب وهو الشكّ يكون (٧) ملغى في مورده وذلك ظاهر ، وقد

__________________

(١) في النسخ : استصحاب.

(٢) « ز ، ك » : ـ و.

(٣) في النسخ : استصحاب.

(٤) تقدّم في ص ٨٨.

(٥) تقدّم في ص ٩٥.

(٦) « ز ، ك » : بوجود.

(٧) « ز ، ك » : ـ يكون.

٥٠١

يتوهّم أنّ رواية القاساني (١) : « اليقين لا يدخله الشكّ » بعد (٢) قوله : « صم للرؤية وأفطر للرؤية » أيضا من الموارد المذكورة ، ولعلّها ممّا لا يساعدها الخصم ؛ لاحتمال القول بأنّ المستصحب فيها هو الحكم فيها (٣).

نعم ، بناء على ما حقّقنا من أنّ استصحاب الحكم لا يعقل بدون استصحاب الموضوع يتمّ ذلك بالنسبة إلى الأخذ باستصحاب الموضوع المزيل ، فلا يجري (٤) ذلك في مقام التعارض ؛ لأنّ استصحاب جواز الصوم ووجوبه في الشهرين غير معارض لاستصحاب الموضوع ، بل على ما زعمه غيرنا معاضد له ، ولا يمكن دفعه بالتفصيل السابق ؛ لأنّه وإن كان جاريا بالنسبة إلى الرواية الأولى ، لأنّ الشكّ في الاشتغال لم يكن موجودا حين تحقّق مجرى استصحاب الطهارة ، إلاّ أنّ الثانية إنّما هو سؤال عن صحّة الصلاة بعد الشكّ في الطهارة فمجرى الاستصحابين موجود فيها ، ومع ذلك فقد حكم الإمام باستصحاب الطهارة معلّلا بالعلّة المذكورة.

الثاني : أنّ قضيّة عموم أخبار الباب وإعمال أصالة الحقيقة فيها هو تقديم (٥) المزيل على المزال ؛ إذ على تقدير الأخذ بالمزيل لا يلزم تخصيص في قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » القائل بعدم جواز نقض كلّ يقين بالشكّ ، وعلى تقدير الأخذ بالمزال ولو في مورد التعارض لا بدّ من تخصيص العامّ الحاكم بعدم (٦) جواز نقض اليقين بالشكّ ، فيتوقّف على وجود دليل التخصيص و (٧) إذ ليس فليس.

وتوضيح ذلك : أنّ الظاهر من الأخبار بعد تسليم دلالتها على الاستصحاب هو وجوب البناء على المتيقّن بالأخذ بأحكامه وترتيب آثاره الشرعية عليه ، فلو شكّ في

__________________

(١) تقدّم في ص ١٠١.

(٢) كذا. والصواب : « قبل ».

(٣) « ج ، م » : فيهما.

(٤) « ج ، م » : ولا يجدي.

(٥) « م » : تقدّم.

(٦) « ج ، م » : لعدم.

(٧) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : ـ و.

٥٠٢

طهارة ماء بعد العلم بها في السابق يجب بحكم الاستصحاب من القول بترتيب (١) جميع ما كان يترتّب عليه حال العلم في غير ما يكون العلم موضوعا له من الآثار الشرعية كجواز شربه وصحّة الوضوء منه وطهارة ملاقيه وتطهّر (٢) ما يغتسل منه إلى غير ذلك من الآثار الشرعية المترتّبة عليه.

فإن قلنا بأنّ المحكّم (٣) فيما إذا غسلنا الثوب بمستصحب الطهارة هو استصحاب طهارة الماء ، فلا يلزم تخصيص في عموم قوله : « لا تنقض » لأنّ الاستصحاب في طرف المزال (٤) مرتفع موضوعا ، لأنّ الشكّ فيه بمنزلة عدم الشكّ ، لأنّه كالعلم حينئذ.

فإن قلنا بأنّ اللازم هو الأخذ باستصحاب نجاسة الثوب ، فيلزم تخصيص قوله : « لا تنقض » لأنّه يقين على هذا التقدير يجوز نقضه بالشكّ ؛ لأنّ معنى عدم جواز النقض في المورد المذكور هو الحكم بطهارة الثوب وعند عدمه فالنقض ظاهر كما لا يخفى.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحكم بنجاسة الثوب يؤثّر في نجاسة الماء فلا يلزم التخصيص (٥) ، بل هو أيضا من التخصيص الموضوعي.

وفساده لا يكاد يخفى على أوائل العقول (٦) ؛ لأنّ طهارة الثوب من الأحكام الشرعية لطهارة (٧) الماء وليس نجاسة الماء من الأحكام الشرعية المترتّبة على نجاسة الثوب ، إلاّ (٨) أن يفرض ورود النجاسة عليه مع كونه قليلا فينعكس القضيّة فيه ؛ لأنّ استصحاب النجاسة هو المزيل حينئذ.

__________________

(١) « ز » : بترتّب.

(٢) « ك » : تطهير.

(٣) « ز ، ك » : الحكم.

(٤) المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : المزيل.

(٥) « ز ، ك » : تخصيص.

(٦) « ك » : « وفساده على أوائل العقول غير خفيّ » وقوله : « غير خفيّ » أو « لا يكاد يخفى » سقط من « ز ».

(٧) « ز » : بطهارة.

(٨) « ز ، ك » : ـ إلاّ.

٥٠٣

فإن قلت : لا شكّ أنّ الشكّ واليقين في طرف الأصل المزال من أفراد الشكّ واليقين حقيقة على ما يشهد به الوجدان الصحيح ، وغاية ما ذكر من الوجه إنّما هو أنّ الأخذ بالشكّ واليقين في طرف المزيل يوجب خروج الشكّ الموجود في طرف المزال عن كونه شكّا ؛ لتنزيله شرعا بمنزلة اليقين ، بخلاف الأخذ بالشكّ واليقين في طرف المزال ؛ لأنّه لا يوجب خروج المأخوذ في المزيل عن كونه شكّا فيلزم التخصيص ، وذلك باطل ؛ إذ لا فرق بين أن يكون دخول أحد الفردين في العامّ موجبا لخروج الآخر حكما كما إذا كان العامّ شاملا للشكّ المعتبر في المزيل ، أو يكون دخول أحدهما موجبا لخروج الآخر موضوعا كما إذا كان العامّ شاملا للشكّ المأخوذ في المزال ، والوجه في ذلك أنّ الخروج الموضوعي في العامّ لا يلاحظ إلاّ بعد وجوب العمل بالفرد الذي يوجب دخوله خروج الآخر موضوعا ، وشمول العامّ لأفراده في إرادة اللافظ سابق على وجوب الأخذ بالفرد الذي يوجب خروج الآخر موضوعا ؛ لأنّ نسبة العامّ إلى أفراده متساوية ، ففي مقام الإرادة لا سبق فيها ولا لحوق ، فكيف يتأتّى القول بأنّ الأخذ بالمزيل يوجب التخصيص دون الأخذ بالمزال؟ فإنّه لا فرق بينهما في كونهما موجبين للتخصيص في مقام إرادة الأفراد من العامّ.

نعم ، هو كذلك في مقام العمل كما عرفت ، والتخصيص إنّما يلاحظ بالنسبة إلى إرادة (١) الفرد المخصّص وعدمه من العامّ وعدمها لا بالنسبة إلى وجوب العمل وذلك ظاهر ، وإذ قد ثبت أنّ العامّ متساوية النسبة بالنسبة إلى الفردين فيصير مجملا فيهما ، فلا بدّ من الحكم بالتساقط.

قلت : الذي يقتضيه التحقيق هو القول بتقدّم (٢) المزيل على المزال لا التساقط ؛ لأنّ الشكّ المأخوذ في المزيل ليس من أفراد العامّ في إرادة اللافظ والمولى ؛ إذ لا إشكال في

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ إرادة.

(٢) « ج ، ك » : بتقديم.

٥٠٤

دخول الشكّ في المزيل في العامّ وإرادة المولى من العامّ هذا (١) الفرد هو بعينه عدم دخول الشكّ المعتبر في المزال في الإرادة ، فإنّ وجوب العمل إنّما هو فرع دخوله تحت الإرادة ، بل التحقيق أنّه لا فرق بين دخوله تحت الإرادة في العامّ وبين وجوب العمل كما لا يخفى.

وبالجملة فنحن نقول : إنّ خروج الشكّ المعتبر في المزال في إرادة المولى واللافظ بواسطة دخول الشكّ المعتبر في المزيل ودخوله قطعي (٢) ، ففي الحقيقة لا يتحقّق مجرى الاستصحاب المسبّبي بواسطة انتفاء الشكّ فإنّه هو الملاك في أمر الاستصحاب ، فالتعارض في المقام صوري صرف ؛ لانتفاء المعارض في الواقع.

فإن قلت : قد سبق ـ في بعض مباحث الظنّ في الاعتراض على من زعم أنّ نتيجة الانسداد بعد إخراج القياس هو الظنّ الذي لم يقم قاطع على عدم اعتباره ، ورام بذلك (٣) القول بعدم (٤) حجّية الشهرة ونحوها لقيام (٥) الظنّ على عدم حجّيتها مستندا في ذلك بأنّ دخول المانع تحت الدليل يوجب التخصيص ، بخلاف الممنوع فإنّ دخوله يوجب تخصيص حكم العقل بغير المانع ـ أنّ مفاد الظنّ الممنوع أيضا هو خروج المانع عن الدليل موضوعا ، غاية الأمر أنّ المانع يدلّ على خروج الممنوع مطابقة والمانع (٦) يدلّ على خروجه التزاما ، فدخول كلّ واحد منهما دليل قطعي على خروج الآخر ، وبمثله نقول في الاستصحابين ؛ لعدم الفرق بينهما في وجه.

قلت : قد أشرنا سابقا بدفع ذلك ، ونزيدك توضيحا بالفرق بين المقامين ، ففيما إذا كان الحكم من الأحكام العقلية يوجب العمل بالظنّ بعد الانسداد على القول به ، لا

__________________

(١) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : هو.

(٢) « ز » : في قطعي ، « ك » : فيه قطعي.

(٣) « ز ، ك » : ذلك.

(٤) « ز ، ك » : بعد.

(٥) « ز ، ك » : بقيام.

(٦) كذا. والصواب : الممنوع. وقوله : خروجه ، أي خروج المانع.

٥٠٥

ضير في ذلك ؛ لأنّ دخول المانع يوجب خروج الممنوع مطابقة ، ودخول الممنوع يوجب خروج المانع التزاما ، فعدم كلّ منهما من الأحكام المترتّبة على وجود الآخر ، بخلاف الاستصحابين في المقام فإنّ ارتفاع كلّ واحد من الشكّين ليس من الأحكام المترتّبة على الآخر ؛ لأنّ الأخذ بالاستصحاب (١) المزيل وإن كان يوجب ارتفاع الشكّ في المزال ولكنّ الأخذ بالاستصحاب (٢) المزال لا يوجب ارتفاع الشكّ في المزيل ؛ لأنّ نجاسة الماء ليس من الأحكام المترتّبة على نجاسة الثوب.

فإن قلت : إنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كان المتعارضان حكمهما مستفادا من دليلين ليكون أحدهما حاكما على الآخر ، وأمّا إذا كان حكمهما مستفادا من دليل واحد فكيف يتأتّى القول بحكومة دليل واحد في بعض موارده عليه في بعض آخر؟

قلت : ولا ضير في ذلك بوجه ؛ لأنّ العامّ الأفرادي ينحلّ إلى أدلّة متعدّدة حسب تعدّد أفراده ، فيكون لكلّ واحد من أفراد الشكّ دليل على حدّه فيكون حاكما على دليل آخر في شكّ آخر وذلك ظاهر في الغاية.

وبالجملة : فالإنصاف ممّن جانب الاعتساف يقضي (٣) بورود المزيل على المزال وحكومته عليه ، فإنّ كلّ من راجع وجدانه يجد من نفسه فيما إذا أراد بيان (٤) حكم الشكّين المتولّد أحدهما عن الآخر أنّ الشكّ المتولّد ليس داخلا تحت إرادته ؛ لجعله كعدم الشكّ بواسطة دخول السبب في إرادته ، فتأمّل في المقام فإنّه حقيق به (٥).

ومن هنا ينقدح أنّ ما سلكه محقّق القوانين (٦) ـ من الجمع بين الأصلين فيحكم في المثال المذكور بنجاسة الثوب وطهارة الماء والأرض المنشور عليه الثوب ـ ممّا لا

__________________

(١) في النسخ : باستصحاب.

(٢) في النسخ : باستصحاب.

(٣) « ج » : « يقتضي » وكذا في المورد الآتي.

(٤) « ز » : فيما إذ أراد بين ، « ك » : فيما دار الأمر بين.

(٥) « ز ، ك » : ـ في المقام فإنّه حقيق به.

(٦) القوانين ٢ : ٧٦ ـ ٧٧.

٥٠٦

يقضي به قانون ، وتوضيح ذلك أنّ الجمع غير معقول ؛ لأنّ استصحاب طهارة الماء إن كان مؤثّرا في طهارة الثوب المنشور على الأرض ـ مثلا ـ فهو المدّعى ، وإلاّ فإن أريد من استصحاب الطهارة ترتيب الأحكام التي توافق (١) الطهارة في الحالة السابقة فهي بعينها موارد للأصل ، وإن أريد ترتيب الأحكام (٢) التي تخالفها (٣) في الحالة السابقة فهي بعينها مجار للأصل بخلافها ، فلم يبق للأصل المذكور مورد حتّى يقال : يجمع (٤) بين الأصلين كما أوضحنا فيما تقدّم ، فراجعه متأمّلا.

وأمّا الثانية (٥) : وهي أنّه متى لم يكن الشكّ في الاستصحابين أحدهما مسبّبا عن الآخر ـ سواء كان الشكّان مستندين (٦) إلى أمر ثالث واحد أو إلى أمرين ـ فالحكم هو التساقط دون الترجيح والتخيير إذا كان الاستصحاب من باب التعبّد ، وإذا كان من باب الظنّ فظاهرهم الاختلاف في ذلك ، فالكلام تارة : يقع فيما إذا كان الاستصحاب حجّة (٧) من باب الظنّ ، وتارة : فيما إذا كان حجّة تعبّدية.

أمّا على الأوّل : فلا كلام في تقديم المفيد للظنّ الشخصي وطرح الآخر على تقدير اعتبار الظنّ الشخصي فيه ؛ إذ الاستصحاب الخالي عن الظنّ ليس حجّة حينئذ ، كما إذا تعارض الشهرتان مع انتفاء الظنّ من واحدة منهما ، وكذا لا كلام (٨) في تقديم المفيد له فيما لو قلنا باعتباره من باب الظنّ النوعي ؛ لأنّ المأخوذ فيه أن لا يكون عدمه مظنونا ، وبعد وجود الظنّ في طرف يصير عدم الآخر مظنونا لا محالة ، وأمّا لو لم يفد أحدهما ظنّا فهل يحكم بالتخيير بينهما أو بالترجيح أو التساقط؟ التحقيق أنّه لا بدّ من ملاحظة بناء العقلاء في ذلك فإنّه هو المأخذ في اعتبار الظنّ النوعي في الاستصحاب ،

__________________

(١) في النسخ : يوافق.

(٢) « م » : بترتيب الأحكام الأحكام.

(٣) « ج ، م » : يخالفها.

(٤) « ز ، ك » : بجمع.

(٥) أي الدعوى الثانية ، وتقدّمت الأولى منهما في ص ٤٩١.

(٦) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : مستندا.

(٧) « ز ، ك » : ـ حجّة.

(٨) « ك » : وكذا الكلام.

٥٠٧

ولعلّ بناءهم على الترجيح في أمثاله لإمكان حصوله على هذا التقدير ، إلاّ أنّه لم يظهر منهم ذلك في موارد التعارض فحكموا بالتساقط في الأغلب ، فكن على بصيرة من ذلك (١).

وأمّا على الثاني : فلأنّ الوجوه المحتملة في المقام أربعة : إمّا الجمع ، وإمّا الطرح ، وإمّا الترجيح ، وإمّا التخيير ، أمّا الجمع فالمفروض عدم إمكانه ، وأمّا الترجيح والتخيير فلا دليل عليهما ، فتعيّن (٢) الثاني وهو طرحهما بتساقطهما والرجوع إلى أصل ثالث مؤخّر عنهما في المرتبة ، أمّا الترجيح فلأنّ المرجّح لأحد الأصلين إمّا أن يكون أحد الأدلّة الاجتهادية ، أو واحد من الأصول العملية ، ولا يصلح (٣) شيء منهما لذلك.

أمّا الأوّل : فإن كان حجّيته ثابتة معلومة في الشريعة فمع (٤) موافقته لأحد الأصلين لا مورد لكلّ واحد منهما ، مخالفا كان أو لا ؛ لاعتبار الشكّ والجهل المرتفع بالدليل في موضوع (٥) الأصل ، فلا يتعقّل التعارض بينهما حتّى يتوقّف تقديم أحدهما على الآخر على أخذ الدليل مرجّحا له وذلك ظاهر.

وإن لم يكن معلوم الاعتبار كأن لم يقم دليل على حجّيته كالشهرة الظنّية أو الأولوية ـ مثلا ـ فلا يتعقّل الترجيح به أيضا ، أمّا أوّلا : فلأنّ تقديم أحد الأصلين بما لم يقم دليل على اعتباره إنّما هو طرح للأصل المعلوم ، بيان ذلك أنّ مفروض المقام عدم اعتبار مثل الظنّ الحاصل من الأولوية ، ومعنى ذلك على ما قدّمنا في مباحث الظنّ هو حرمة طرح الأصول القطعية الثابتة في الشريعة في قبال الظنّ ، فأصالة عدم ثبوت الترجيح بهذا الظنّ على تقدير الأخذ به يكون مطروحا مع أنّه أصل قطعي ثابت بالدليل.

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ من ذلك.

(٢) « ج ، م » : فيعيّن.

(٣) « ز » : ولا يصحّ.

(٤) « ز ، ك » : مع.

(٥) « ز ، ك » : موضع.

٥٠٨

نعم ، لو كان حصول الظنّ في أحد الطرفين موهنا للآخر كان القول بتقديم الموافق في محلّه ؛ لأنّه حينئذ دليل قطعي بلا معارض ، أمّا كونه دليلا فلأنّ الظنّ الموافق له ليس بدليل فهو المعتمد ، وأمّا كونه بلا معارض فلأنّ سقوط الآخر بواسطة الظنّ ليس من الأحكام الشرعية له ، بل هو حينئذ من الأحكام العقلية المترتّبة على موضوع الظنّ الحاصل قهرا ، إلاّ أنّ ذلك لا يجدي فيما فرضنا من حجّية الأصل تعبّدا ؛ لأنّ مخالفة الظنّ لا يسقطه عن الاعتبار.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الترجيح لا يحصل بالأمارة الظنّية عند تعارض الأصلين ؛ لأنّ المدار في الأمارة على الواقع ، والمناط في الأصل على التعبّد في مقام الظاهر ، فلا ارتباط بينهما ومن المعلوم أنّ الترجيح يمتنع فيما إذا لم يكن بين المتعارض والمرجّح مناسبة ذاتية كأن يكونا من سنخ واحد.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا قامت الشهرة على وجوب شيء ودلّ الاستصحاب أيضا على وجوبه معارضا باستصحاب آخر يقتضي (١) عدم وجوبه مثلا ، فمفاد الشهرة هو (٢) وجوب ذلك الشيء في الواقع ، ومفاد الاستصحاب هو وجوبه من حيث إنّ المكلّف شاكّ بالواقع غير عالم به ، وتقوية الأصل هو أن يدلّ الدليل على أنّ ما يفيده الأصل هو كذلك في مقام الظاهر لا أنّ الحكم هو كذلك بحسب الواقع ، فإنّ الأصل هو علاج عملي ظاهرا ، ومن الظاهر عدم تقوية ذلك في مقام العمل كما لا يخفى ، فالترجيح لا يحصل إلاّ بعد أن يكون المرجّح مفيدا لشيء يطابق ما هو المناط (٣) في دليلية المتعارض ، ومن هنا تراهم لا يحكمون بترجيح الوجوه الظنّية فيما إذا تعارضت البيّنتان ، وذلك ظاهر. ومن هنا ينقدح أيضا أنّ الأمارة الظنّية لو كانت حجّة شرعية مع قطع النظر عمّا ذكرنا أيضا لا تصلح (٤) لترجيح أحد الأصلين المتعارضين.

__________________

(١) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : يقضي.

(٢) « ز ، ك » : ـ هو.

(٣) « ز ، ك » : مناط.

(٤) في النسخ : لا يصلح.

٥٠٩

وأمّا الثاني : فلأنّ ذلك الأصل إمّا أن يكون مقدّما عليه لكونه مزيلا له ، أو مؤخّرا عنه لكونه مزالا (١) بالنسبة إليه ، أو يكون في عرضه ، ولا وجه للترجيح به على الوجوه :

أمّا على الأوّل : لأنّ الأصل المزيل على تقدير جريانه فهو بمنزلة الدليل الاجتهادي ، فلا مورد لشيء من الأصلين كما في صورة الدليل الاجتهادي ، مثلا لو شكّ المكلّف في بقاء طهارته من جهة شكّه في حدوث الناقض فلو فرضنا أنّ استصحاب الطهارة ليس مزيلا لاستصحاب الأمر بالصلاة وقلنا بتعارضهما ، فلا يمكن تقديم استصحاب الطهارة لأصالة عدم الناقض ، إذ على تقدير جريانها لا مورد لشيء من الأصلين ، أمّا الأصل المزال فعدم جريانه ظاهر ، وأمّا الأصل الآخر وإن لم يكن الشكّ فيه مسبّبا عن الشكّ في المزيل إلاّ أنّ بعد ما فرضنا من أنّه علم في مورد المزال فهو دليل اجتهادي بالنسبة إليه أيضا.

وأمّا على الثاني : فلما عرفت أيضا من عدم إمكان اجتماع المزيل والمزال في مرتبة واحدة ، فلو فرضنا وجود أصل مزال فهو في الحقيقة ليس مرجّحا ، بل هو المرجع بعد سقوط الأصلين كما في الأدلّة الاجتهادية ، فإنّ معنى الترجيح هو تقوية أحد المتعارضين ، وذلك لا يتحقق إلاّ إذا (٢) أمكن اجتماعهما ، والمفروض أنّ النسبة بينهما هو نسبة الأصل والدليل فمتى وجد الدليل ارتفع الأصل ، فالأصل هو الحكم الظاهري بالنسبة إلى الأصلين المذكورين ، فتأمّل.

وأمّا على الثالث : فلما ستعرف تفصيله في مباحث التعادل من أنّ كثرة الأصول ليست (٣) من المرجّحات ، والوجه فيه إجمالا أنّ دليل الترجيح إمّا العقل أو النقل ، ولا يقضي (٤) به شيء منهما ، والأوّل انتفاؤه ظاهر ؛ لأنّ المناط في كونه دليلا هو التعبّد ولا

__________________

(١) « ج » : مزيلا.

(٢) « ج » : فيما إذا.

(٣) « ج » : ليس.

(٤) « ج » : لا يقتضي.

٥١٠

يتقوّى جهة التعبّد به بزيادة الأصول (١) ، نعم لو كان المناط هو الواقع كما في الأخبار صحّ الترجيح (٢) بالكثرة ففيما هو المناط لا تزيد (٣) الكثرة شيئا ، وأمّا الثاني فلأنّ غاية ما يمكن الأخذ به (٤) في المقام هو أنّ طرح الأصلين يوجب إخراج فردين من العامّ الدالّ على حجّية الأصل المفروض ، بخلاف ما إذا قلنا بتقديم هذين الأصلين على الأصل فإنّه يلازم تخصيص واحد ، ولا شكّ أنّ ارتكاب أقلّ التخصيص في العامّ أولى ، فأصالة العموم في قوله : « لا تنقض » حاكم بطرح (٥) الأصل الواحد وأخذ الأصول المتعدّدة. وفساده ظاهر ؛ لأنّ العامّ إنّما ينهض (٦) حجّة فيما إذا شكّ في قلّة التخصيص وكثرته إذا كان الأمر دائرا بين الأقلّ والأكثر على وجه يكون خروج الأقلّ أمرا متّفقا عليه وإنّما كان الشكّ في الزائد ، دون ما إذا كان الشكّ في خروج فردين مباينين للفرد الآخر على أن لا يكون الأقلّ داخلا في الأكثر ، فإنّ التحقيق أنّ العامّ في المقام يبقى بالنسبة إليهما مجملا ؛ إذ لا فرق في نظر العقل بين خروج زيد وبكر من عموم « أكرم العلماء » أو خروج عمرو.

وبالجملة : فالظاهر أنّ كثرة الأصول لا تنهض مرجّحة ، فلا بدّ من التساقط والرجوع إلى أصل آخر مؤخّر عنهما كأصالة البراءة أو الاحتياط وغيرهما من الأصول المعمولة في الأحكام والموضوعات.

وأمّا بطلان التخيير عند تعارض الأصلين فلأنّ الحاكم بالتخيير إمّا أن يكون هو العقل أو النقل ، أمّا الأخير فانتفاؤه ظاهر في الأصلين ؛ لاختصاص أخبار التخيير بالأخبار المتعارضة ، ودعوى جريان فحواها في المقام واهية ، وأمّا العقل فلا يحكم بالتخيير إلاّ إذا كان المتعارضان حال المعارضة حجّتين بمعنى أن يكون كلّ واحد منهما

__________________

(١) « ز ، ك » : الأصل.

(٢) « ز ، ك » : يرجع إلى الترجيح.

(٣) « ز ، ك » : لا يزيد.

(٤) « ز ، ك » : ـ به.

(٥) « م » : يطرح.

(٦) « ج ، ز » : تنهض.

٥١١

مشتملا على ما هو مناط الحجّية والأصلان في المقام ليسا كذلك ، أمّا أنّ التخيير لا يكون إلاّ فيما كان الدليلان باقيين على ما هو مناط الحجّية فلأنّه لولاه لا يحكم العقل بالالتزام بأحدهما ؛ لقصر حكم العقل به (١) فيما إذا كان المتعارضان من قبيل تزاحم الحقوق التي يجب على المكلّف تحصيلهما إلاّ أنّه عدم قدرته لهما يوجب سقوط فعلية الطلب لكلّ منهما تعيّنا ، فيجب (٢) أحدهما تخييرا كما ستعرفه (٣) بعيد ذلك في مباحث التعادل والتراجيح ، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا داعي للعقل على التخيير ، فإنّه ينقلب الشبهة بدوية فيصير مورد البراءة فيحكم بالتساقط ؛ لأنّ الأمر دائر بين الدليل وما ليس بدليل ولا حكم للعقل فيه ، وأمّا أنّ الأصلين ليسا كذلك فلأنّ العلم الإجمالي بانتقاض أحد الأصلين في مورد التعارض يوجب انتفاء ما هو المناط في الاعتبار في أحد الأصلين ، فلا يحكم العقل بالتخيير فيهما ، مثلا إذا تعارض استصحاب الطهارة في الماء المتمّم باستصحاب النجاسة (٤) في المتمّم نعلم إجمالا إمّا بطهارة الوارد والمورود أو بنجاستهما ، فإحدى (٥) الحالتين السابقتين منتقضة لا محالة ، وبعد العلم الإجمالي بارتفاع ما هو المناط في حجّية أحد الأصلين لا يبقى حكم التخيير فيهما بوجه ، وذلك نظير ما لو قلنا بأنّ خبر العادل حجّة ، فجاءنا خبران متعارضان ، علمنا إجمالا بأنّ أحدهما خبر الفاسق ، فارتفع ما هو المناط في الاعتبار في أحدهما ، وبعد ذلك فلا وجه للحكم بالتخيير بينهما وذلك ظاهر لا سترة فيه ، ولعلّ ذلك هو المشهور بينهم ؛ إذ لم نجد من حكم بالتخيير بين الأصلين بعد التعارض وإن كان يوهم بعض كلماتهم الترجيح بكثرة الأصول كما يشاهد في مباحث الألفاظ.

قلت : ولعلّه مبنيّ على أنّ الأصل حجّة من جهة الظنّ ، ولا يبعد دعوى الترجيح على تقديره كما لا يخفى.

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ به.

(٢) « ز ، ك » : ويجب.

(٣) « ز ، ك » : ستعرف.

(٤) « م » : الطهارة.

(٥) « م » : فأحد.

٥١٢

هداية

نافعة في جميع ما تقدّم

قد عرفت أنّ بعض المتأخّرين (١) ذكر للاستصحاب شروطا : أحدها : بقاء الموضوع ، وثانيها : عدم المعارض ، وثالثها : الفحص عن المعارض ، وقد عرفت أيضا أنّ الشرطين الأوّلين ليسا من الأمور الخارجة عن (٢) الاستصحاب المشروطة حجّيته بها ، بل لا يتعقّل الاستصحاب بدون الموضوع كما لا يتعقّل مع وجود الدليل المعارض ، فهما (٣) حقيقة شرطان (٤) لجريان الاستصحاب.

وأمّا الفحص فهو عند التحقيق شرط للحجّية ؛ لإمكان تعقّله بدون الفحص ، نعم لا يجوز العمل به قبل الفحص (٥) فهو شرط للحجّية كما ذكره لكن لا مطلقا ، بل بالنسبة إلى الشبهات الحكمية فيما إذا قلنا بالاستصحاب فيها ، وفي الشبهات الموضوعية التي (٦) لا يتعدّى العمل بالأصل فيها إلى العمل بالأحكام الكلّية الشرعية كاستصحاب عدالة الراوي ، فإنّه حينئذ لا بدّ من الفحص أيضا ، وأمّا الشبهات الموضوعية فيما عدا ما عرفت فالحقّ عدم وجوب الفحص فيها عند إعمال الأصل فيها إجماعا ، بل كاد أن

__________________

(١) عرفت في « هداية تقوّم الاستصحاب ببقاء الموضوع » ص ٣٧٥.

(٢) « ز ، ك » : من.

(٣) « م » : العارض لهما.

(٤) في النسخ : شرط.

(٥) « م » : ـ قبل الفحص.

(٦) « ز ، ك » : الذي.

٥١٣

يكون من الضروريات التي لا يخفى على أوائل العقول من الأطفال والمخدّرات في الحجال ، وما يتراءى منهم الحكم بوجوب الفحص في الموضوع كما عن الشيخ (١) من حرمة الأكل في ليلة رمضان إذا اعتمد الأكل على استصحاب بقاء الليل في أكله من غير فحص ، فهو على خلاف القاعدة ، فالمفتي بها مطالب بالدليل وإن أقام عليها برهان ، وإلاّ فلا نعرف لها وجها ، وقد نبّهنا على مثل ذلك في البراءة حيث أفتوا بوجوب الفحص فيما إذا شكّ في حصول الاستطاعة في الحجّ (٢).

وكيف كان ، فهذه قاعدة محكّمة لا يكاد يمكن الخروج عنها إلاّ بدليل متين وسلطان مبين (٣) ، والأصل في ذلك بعد الإجماع المذكور إطلاقات أخبار الباب من عدم جواز نقض اليقين إلاّ (٤) باليقين ، خرج ما خرج من التقييد بالفحص في موارد الأصول المعمولة في الأحكام [ و ] بقي الباقي تحت العامّ ، والمدّعي للتقييد لا بدّ له من إقامة ما يفيد ذلك ؛ وإذ (٥) ليس فليس ، وقد مرّ في الهداية الحاوية للبداية والنهاية عند ذكر الأخبار ما هو صريح في عدم اعتبار الفحص فراجعها (٦) ، ولا فرق في ذلك بين الأصول والأدلّة المعمولة في الموضوعات الخارجية من البيّنة والسوق وأصالة الصحّة واليد ونحوها ، والوجه في الكلّ ما عرفت من الإطلاقات والعمومات المثبتة لاعتبار هذه الأصول إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ عدم الفحص فيها مقصور على ما إذا شكّ في وجود دليل به ينتقض الحالة السابقة ، وأمّا إذا شكّ في وجود المعارض الوارد عليه كاحتمال أصل مزيل للأصل المعمول في الموضوع فلا وجه للاتّكال على الأصل بدون الفحص ، فإنّ ما يدلّ على وجوب الفحص في الأحكام يدلّ على وجوبه في المقام أيضا ، ولا فرق في ذلك بين المجتهد والمقلّد فإنّ لكلّ واحد منهما يجوز العمل بالأصل قبل الفحص

__________________

(١) النهاية : ١٥٥.

(٢) نبّه عليه في ج ٣ ، ص ٥٩٠.

(٣) « ز ، ك » : بدليل مبين.

(٤) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : ـ إلاّ.

(٥) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : ـ و.

(٦) مرّ في ص ٩٨.

٥١٤

بالنسبة إلى ما ينتقض به الحالة السابقة ، ولا يجوز العمل به قبل الفحص بالنسبة إلى المعارض.

ومن هنا قد يشكل الأمر في عمل المقلّد العامّي الذي لا يعرف مورد الأخذ بالاستصحاب فيه به ، فإنّ المجتهد لا بدّ له من أن يعرّفه بموارده ولا يفتي له بالأخذ بالحالة السابقة مطلقا ، فعليه أن يسأل خصوصيات الموارد من المجتهد ، وعليه أن يفتي له بخصوصيات الموارد ، فالمجتهد يعيّن مورد المزيل والمزال ويفتي بمقتضاه ، ولا يمكن دفع احتمال المعارض بالأصل بتقريب أنّ المقتضي للعمل بالأصل في مورد تحقّقه موجود ، والشكّ إنّما هو في وجود ما يمنعنا عن العمل به من المعارض ، والمانع مدفوع بالأصل ، وبعد وجود المقتضي فلا بدّ من الأخذ به ؛ لأنّ عدم المعارض كما عرفت فيما سبق (١) مفصّلا بمنزلة جزء المقتضي للاستصحاب ، فبدونه لا مجرى له (٢) كما مرّ ، فالواجب على المجتهد والمقلّد في العمل بالأصل هو ما قلنا من تعريفه له خصوصيات الموارد لئلاّ يقع العامل به في المهالك ، فتدبّر.

لا يقال : إنّ البيّنة المعمولة في الشبهات الموضوعية أيضا يمكن تعارضها (٣) ببيّنة (٤) أخرى ، ومع ذلك لا يجب الفحص عنها.

لأنّا نقول : الفرق واضح ؛ لأنّ المعارض في البيّنة لا يلزم أن يكون موجودة (٥) مع البيّنة الأخرى والاستصحاب في المقام موجود دائما كما لا يخفى ، وأمّا وجوب الفحص في الأحكام أو ما ينتهي إليها كالموضوعات المستنبطة ونحوها فدليله واضح ؛ إذ هو بعد الإجماع عليه يوجب عدمه رفع الأحكام الواقعية والمخالفة القطعية على وجه ربّما يعدّ من الخروج من الدين ، وينهض بذلك جميع أدلّة وجوب التفقّه كقوله : ( فَسْئَلُوا

__________________

(١) سبق في ص ٣٩٩.

(٢) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : ـ له.

(٣) « م » : تعارضهما.

(٤) « ج ، م » : بيّنة.

(٥) كذا في النسخ ولعلّ الصواب « موجودا ».

٥١٥

أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(١) وقوله : « هلاّ سألوا ، هلاّ يمّموه ، قاتلهم الله » (٢) إلى (٣) غير ذلك من الوجوه التي قدّمنا (٤) ذكرها في مباحث البراءة ، ويؤيّده الأدلّة (٥) الآمرة بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مضافا إلى أنّ العمل بالأصل قبل الفحص في الأحكام غير معقول ؛ للعلم الإجمالي بانتقاض جملة كثيرة من موارد هذه الأصول ، ومع ذلك فلا مجرى للأصل.

فإن قلت : إنّ بعد تسليم العلم الإجمالي في مورد الأصل لا معنى للقول به أصلا ؛ لأنّ غاية ما يتصوّر هو القول بوجوب الفحص وهو لا يجدي في دفع الاحتمال (٦) ، لأنّ المعلوم الإجمالي بين أطراف الشبهة بعد الفحص أيضا لا يكون محرزا ، إذ به لا يعلم إلاّ ما هو موجود من الأدلّة في هذه الطرق المعمولة عندهم ، وأمّا الموارد الأخر المنقوضة التي لا سبيل إلى العلم بها بهذه الطرق فهي باقية على اشتباهها في موارد الأصل ، ومع ذلك فكيف يصحّ الاستناد إلى الأصل؟

قلت : هذه شبهة ربّما تورد على القول بوجوب الفحص في العمومات لأجل العلم بالتخصيص فيها ، وقد دفعناها في مقامه بالمنع من العلم بوجود المخصّص زائدا على ما يستبان من الأدلّة ، فإحراز عدم التخصيص في هذه الأدلّة المعمولة يوجب الاعتماد على العموم ، وبمثله نقول في المقام فإنّ موارد انتقاض الأصل في غير ما يستفاد من هذه الأدلّة الاجتهادية في محلّ من المنع ، وغاية ما يبقى في المقام بعد ارتفاع العلم بإحراز المعلوم بالإجمال في المشتبهات هو احتمال وجود الناقض ، وقضيّته لا تزيد (٧)

__________________

(١) النحل : ٤٣ ؛ الأنبياء : ٧.

(٢) وسائل الشيعة ٣ : ٣٤٦ ، باب ٥ من أبواب التيمّم ، ح ١ ـ ٣ و ٦.

(٣) « ز ، ك » : « و » بدل : « إلى ».

(٤) تقدّم في ج ٣ ، ص ٥٨٤.

(٥) « ز ، ك » : الآية.

(٦) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : ـ الاحتمال.

(٧) « ز ، ك » : لا يزيد.

٥١٦

على حسن الاحتياط في العمل بالأصل ، وهو ممّا لا يكاد ينكره أحد فإنّه سبيل النجاة نجانا الله تبارك وتعالى وإيّاكم عن التورّط في الشبهات ووفّقنا للفوز بأعلى الدرجات ، وهذا (١) آخر ما أفاده الأستاد (٢) المحقّق النحرير ونظمناه في سلك التحرير مستعينا في ذلك من العليم القدير ، فالحمد لله على ما أنعمنا به من نعمه الظاهرة والآية الباهرة والصلاة على خير خلقه وأفضل رسله محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم القيامة (٣). وقد فرغ عن تحريره وتنميقه العبد الآثم أقلّ الطلبة والحاجّ في شهر ذي قعدة ١٢٦٤ (٤).

__________________

(١) « ز ، ك » : هذه.

(٢) « ز ، ك » : « الأستاد سلّمه الله » وبذلك انتهت نسختي « ز ، ك » ونهاية نسخة « ك » : ولقد تمّت كتابة هذه الأجزاء في شهر محرّم الحرام في السامرّاء المنوّرة على مشرّفها آلاف من السلام والتحيّة ، سنة ١٢٩٧.

(٣) هنا نهاية نسخة « ج ».

(٤) هنا نهاية نسخة « م » وبعدها : وقد فرغت من تسويده يوم الأربعاء ثامن وعشرين من شهر محرّم الحرام سنة ١٢٨٠.

٥١٧
٥١٨

[ التعادل والترجيح ]

٥١٩
٥٢٠