مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

وأمّا الجهة التي لا تناط (١) بالجهة المشكوكة فلا سبيل إلى إحرازها بالأصل المذكور ، مثلا لو شكّ في صحّة الإيجاب في العقد فحمله على الصحيح لا ينافي عدم تعقّبه (٢) بالقبول ؛ لأنّ صحّة الإيجاب لا يناط بتعقّبه بالقبول.

نعم ، صحّة الإيجاب بمعنى وقوعه مؤثّرا في حصول مضمونه منوط بتعقّبه للقبول وهذه ممّا لم يقم عليها دليل ، ومن هنا ينقدح فساد ما قد توهّمه بعض الأواخر انتصارا للمشهور فيما إذا اختلف الراهن والمرتهن في وقوع البيع على العين المرهونة فيما إذا أذن المرتهن بذلك قبل الإذن وبعده ، فزعم أنّ الوجه في تقديم قول المرتهن هو أصالة صحّة البيع فإنّ صحة البيع معناها وقوعه على وجه يترتّب عليه آثاره الشرعية ، و (٣) أمّا وقوعه قبل الإذن أو بعد الإذن فمن الأمور العقلية التي لا مدخل للصحّة فيها (٤) ، ونظير ما لو تمسّك بأصالة الصحّة في الإذن فإنّ (٥) حمل الإذن على الصحيح لا يقضي (٦) بوقوع البيع بعد الإذن كما هو المطلوب ، ومن هنا نقول بتقديم قول منكر الإجارة والقبض في الفضولي والصرف والهبة مع جريان أصالة الصحّة في البيع والهبة كما لا يخفى.

ومنها : قد يظهر من بعض من لا دربة (٧) له إنكار جريان أصالة حمل الفعل على الصحيح فيما إذا كان الفاعل هو الغير ، وهو على إطلاقه من أسخف الاحتمالات ؛ لظهور أنّ مدارك الأصل إنّما هي تجري (٨) في فعل الغير فقط ، ولذلك أفردناه (٩) عن الأصل المتقدّم (١٠) في هداية مستقلّة.

__________________

(١) المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : لا يناط.

(٢) « ز ، ك » : « نقصه » وكذا كانت أوّلا في نسخة « م » ثمّ غيّرها بما في المتن.

(٣) « ز ، ك » : ـ و.

(٤) في النسخ : فيه.

(٥) « ز ، ك » : ـ فإنّ.

(٦) « م » : لا يقضي.

(٧) « ز ، ج » : درية ، « ك » : دراية.

(٨) في النسخ : يجري.

(٩) « ز ، ك » : أفردنا.

(١٠) « ز ، ك » : المقدّم.

٤٨١

نعم ، في المقام شيء يجب الالتفات إليه وهو أنّ الأفعال الصادرة عن الغير على وجوه متعدّدة : فتارة : لا يكون متعلقا لتكليف الحامل إلاّ على وجه عرضي فرضي ، كما لو باع شيئا وشكّ في صحّته وفساده ، وتارة : يكون متعلّقا لتكليفه فتارة : على وجه الوجوب الكفائي ، كما في دفن الأموات وكفنها والصلاة عليها والقضاء بين المسلمين ونحوها من الواجبات الكفائية المتعلّقة بجميع أرباب التكليف ، وأخرى : لا على وجه الوجوب الكفائي ، كما فيما (١) لو استناب أحدا ليعمل عنه عملا.

لا شكّ في جريان أصالة الصحّة في الأوّل وإن كان صحّة الفعل مؤدّيا إلى ما هو متعلّق بتكليف (٢) الحامل بالعرض ، كما لو نذر التصدّق بشاة مخصوصة باعها غيره ، فإنّ أصالة الصحّة في البيع المذكور يكفي في الحكم ببراءة ذمّته عن النذر فيما لو تصدّق بها كما أنّه لا ريب في كفاية أصالة الصحّة في الواجبات الكفائية ، ولذلك لا تراهم بعد علمهم بمباشرة واحد من أهل الكفّار بالفعل متفحّصين عن وجه الفعل وصحّته وفساده وليس ذلك إلاّ بواسطة الحمل على الصحّة.

وأمّا القسم الأخير فقد يظهر من جماعة اعتبار العدالة في النائب وعدم اكتفائهم بحمل فعله (٣) على الصحيح من حيث إنّه متعلّق بتكليفه وإن كان يحمل عليه من جهة تعلّقه بالفاعل ، مثلا لو استناب أحدا للحجّ الواجب عليه فأصالة الصحّة في فعل النائب يجدي في استحقاقه الأجرة ولا يجدي في الحكم ببراءة ذمّة المنوب عنه ، فاعتبروا في ذلك العدالة. وقد يشكل ذلك من حيث عدم ظهور الفرق بينه وبين القسم الثاني من الواجبات الكفائية ، ولعلّ الوجه في الفرق بينهما أنّ المطلوب في الواجب الكفائي هو وقوع الفعل صحيحا في الخارج فهو مركّب من أمرين : أحدهما : أصل وجود الفعل ، وثانيهما : كونه على وجه الصحّة ، وكلاهما محرزان ، أمّا الأوّل

__________________

(١) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : في.

(٢) « ج ، م » : لتكليف.

(٣) « ز ، ك » : فعلهم.

٤٨٢

فبالفرض ، وأمّا الثاني فبالأصل ، فلا وجه للقول بعدم الاكتفاء ، والمطلوب في أعمال النائب هو وقوع الفعل في الخارج صحيحا عن المنوب عنه ، فهو مركّب من أمور ثلاثة : أحدها : الأوّل ، وثانيها (١) : الثاني ، وثالثها : وقوعه عنه ، وغاية ما يستفاد من الأصل هو وقوعه صحيحا ، وأمّا وقوعه صحيحا عنه فلا يقضي (٢) أصالة الصحّة به فلا بدّ في إحراز ذلك (٣) من التماس وجه آخر كاخباره إذا كان ممّن يعتدّ بأخباره كما إذا كان عادلا ، كذا أفاد ولعمري إنّه (٤) قد أجاد فهو الجواد الذي لا يكبو.

المطلب الثاني (٥)

في تعارضها مع الاستصحاب ، فنقول : لا إشكال في تقدّم (٦) أصالة الصحّة على استصحاب حكمي عدمي لا ينفكّ عنه دائما وهو استصحاب الفساد (٧) المعمول في كلّ المعاملات والعبادات وعدم وقوع العقد على وجه يترتّب (٨) عليه الأثر ، وإلاّ فلم يكن لجعل الأصل المذكور مورد (٩) كما قد عرفت ورود أصالة وقوع الفعل فيما تجاوز محلّه على أصالة عدم وقوعه ، ولا ينبغي الإشكال أيضا في تقدّم (١٠) أصالة الصحّة على استصحاب موضوعي لا ينفكّ عنه دائما أيضا وهو أصالة عدم وقوع هذا الفعل المخصوص المشكوك صحّته وفساده صحيحا ، ولا يعارضه أصالة عدم وقوعه فاسدا كما هو الشأن في جميع الأصول الخارجة في الأمور الحادثة ؛ لعدم ترتّب شيء على

__________________

(١) « ز ، ك » : الثاني.

(٢) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : فلا يقتضي.

(٣) « ز ، ك » : ـ ذلك ، وفي « ك » : إحرازه.

(٤) « ز ، ك » : ـ إنّه.

(٥) تقدّم الأوّل منهما في أوّل الهداية.

(٦) « ج » : تقديم.

(٧) في نسخة « ج » زيادة وهي : « لأنّ الأصل الموضوعي على الأوّل متعارضان ، كما إذا شكّ في وقوع العقد على الخلّ أو الخمر أو وقوعه في الإحلال والإحرام ونحو ذلك ، فكيف كان فهذا الأصل » وستأتي هذه الزيادة في سائر النسخ بعد قوله : « يتعارضان بخلاف الأوّل » الآتي بعد سطور.

(٨) « ز » : ترتّب.

(٩) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : موردا.

(١٠) « ج » : تقديم.

٤٨٣

أصالة عدم وقوعه فاسدا إلاّ على القول بالأصول المثبتة التي لا تعويل عليها عند التحقيق ، لأنّ القول بتقديم هذا الاستصحاب على أصالة الصحّة هدم لما أسّسناه من القول بالأصل المذكور ، واللازم ضروري الفساد ؛ لما عرفت من المفاسد لولاه.

وإنّما الكلام في تقديم أصالة الصحّة على استصحاب موضوعي ينفكّ عنه في بعض الأحيان ، وهو أصالة عدم وقوع الموضوع الذي يشكّ من جهته في صحّة العقد وفساده ، مثلا إذا شكّ في صحّة العقد بواسطة الشكّ في رؤية المبيع أو بواسطة الشكّ في القبض في الصرف أو في الهبة ، فالأصل عدم وقوع الرؤية وعدم القبض.

وأمّا وجه انفكاكه عنه أنّ الشكّ في الصحّة قد يكون بواسطة وقوع العقد على واحد من الحادثين ، وقد يكون بواسطة وجود أمر معلوم العدم في السابق ، أو انتفاء أمر معلوم الوجود في السابق ، فعلى الأخيرين يتعارضان بخلاف الأوّل ؛ لأنّ الأصل الموضوعي على الأوّل متعارضان ، كما إذا شكّ في وقوع العقد على الخلّ أو الخمر ، أو وقوعه في الإحلال أو الإحرام ونحو ذلك.

فكيف كان ، فهل الأصل المذكور مقدّم على الاستصحاب الموضوعي الذي ينفكّ عنه مع كونه مزيلا للشكّ في الصحّة والفساد ، أو لا؟ فيه إشكال نظرا إلى اختلاف كلمات الفحول في المقام وعدم مساعدة الأصول عليه أيضا ، فإنّ المحقّق في مقامه أنّ الأصول التي هي مزيلة للشكّ المأخوذ في موضوع الأصول الأخر مقدّمة عليها وقضيّة ذلك تقديم الاستصحاب الموضوعي عليه ، ومع ذلك فلا نرى للتقديم وجها وجيها.

ويظهر من العلاّمة (١) تقديم الاستصحاب عليه وتبعه في ذلك أوّل الشهيدين وثاني المحقّقين ، قال العلاّمة في كتاب الضمان من القواعد : ولا يصحّ من الصبيّ وإن أذن له الوليّ ، فإن (٢) اختلفا قدّم قول الضامن ؛ لأصالة براءة الذمّة وعدم البلوغ (٣). وذكر في

__________________

(١) من قوله : « تقديم الاستصحاب الموضوعي » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».

(٢) « ك » : ولو ، وفي « ز » : و.

(٣) قواعد الأحكام ٢ : ١٥٦.

٤٨٤

التذكرة : لو ادّعى المضمون له أنّ الضامن ضمن بعد البلوغ وقال الضامن : بل ضمنت لك قبله ، فإن عيّنا الضمان (١) وقتا وكان البلوغ (٢) غير محتمل فيه قدّم قول الصبيّ ، لحصول العلم بعدم البلوغ ولا يمين على الصبي لأنّها إنّما تثبت في المحتمل ، وإن كان الصغر غير محتمل قدّم قول المضمون له من غير يمين ؛ للعلم بصدقه ، فإن احتمل (٣) الأمران و (٤) لم يعيّنا له وقتا فالقول قول الضامن مع يمينه (٥).

فحكم العلاّمة بتقديم قول الصبيّ في هذه الصورة مع جريان أصالة الصحّة يكشف عن تقديمه أصالة عدم الصبيّ على أصالة الصحّة ، وقوله في القواعد : وليس لمدّعي الصحّة أصل يعوّل عليه ولا ظاهر يستند إليه ، صريح فيما ذكرنا. وصرّح الشهيد رحمه‌الله (٦) بمعارضة أصالة الصحّة لأصالة عدم الصبيّ وحكم بالرجوع إلى أصالة البراءة ، وقد عرفت أنّ المحقّق الثاني أيضا قد اختار مذهب مصنّفه في شرح العبارة ، ويظهر من الشهيد الثاني (٧) تقديم أصالة الصحّة على الاستصحاب في جملة من الموارد ، ولعلّه هو الأقرب.

وتحقيق المقام يحتاج إلى تمهيد فنقول : لا إشكال في لزوم الأخذ بأصالة الصحّة فيما إذا كان الشكّ في الصحّة وعدمها (٨) مستندا إلى الشكّ في وقوع العقد على أحد الحادثين لتساقط الأصل من الجانبين ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصالة الصحّة على تقدير تأخيرها عنه أيضا ، وأمّا إذا كان الشكّ مسبّبا عن الشكّ في وجود أمر غير معلوم كما في الشكّ في الصحة الناشئة عن الشكّ في الرؤية فلا بدّ من ملاحظة أنّ الثابت بأصالة

__________________

(١) في المصدر : للضمان.

(٢) المثبت من المصدر وهامش « ك » ، وفي سائر النسخ : الضمان.

(٣) « ز ، ك » : وإن احتمل.

(٤) في المصدر : أو.

(٥) تذكرة الفقهاء ٢ : ٨٧ ( الطبعة الحجرية ).

(٦) نقله عن حواشيه في جامع المقاصد ٥ : ٣١٥.

(٧) انظر مسالك الأفهام ٣ : ٢٦٨.

(٨) « ز » : قدمها.

٤٨٥

الصحّة ما ذا فهل هو مجرّد وصف الصحّة بدون الموصوف فيحكم بترتيب (١) آثار الوصف فقط دون الموصوف ، أو وصف الصحّة في موصوف بقدر احتياجه (٢) إليه فيحكم بثبوت الموصوف على وجه يتحمّل إثبات الوصف والصحّة ، أو يحكم بثبوت الموصوف على جميع وجوهه وعناوينه فيترتّب عليه جميع الآثار المترتّبة على ذلك الموضوع كما إذا ثبت الموضوع بالاستصحاب ، فلو قلنا بأنّ الثابت بالأصل هو الوصف فقط فلا إشكال في ورود الأصل الموضوعي على أصالة الصحّة ؛ لأنّ المزيل مقدّم على المزال كيف ما كان ، ولو (٣) قلنا بأحد الأخيرين فالتحقيق هو تقديم أصالة الصحّة على الأصل الموضوعي من باب الحكومة ، فإنّ السيرة القائمة على الأخذ بأصالة الصحّة تكشف عن أنّ مورد الشكّ المعتبر في الاستصحاب ليس فيما يجري فيه أصالة الصحّة ، وليس الاستصحاب حينئذ مزيلا ؛ لأنّ الثابت بأصالة الصحّة هو نفس الرؤية لا الصحّة المتفرّعة عليها ليكون استصحاب عدم الرؤية كافيا في إثبات عدم الصحّة فـ [ ـقضيّة ] عدم وقوع الرؤية وأصالة وقوعها كما هو مفاد الأصلين تعارضهما ، وقضيّة حكومة أصالة الصحّة على أصالة العدم تقدّمها عليها ، وإن أبيت عن الحكومة فلا شكّ في أنّ الظهور في أصالة الصحّة أخصّ من الظهور في الاستصحاب كما في تعارض الغلبة النوعية والصنفية.

ثمّ لا يخفى أنّ التحقيق هو إثبات وصف الصحّة في موصوف لا على جميع عناوينه ، فلا يحكم بوجود الرؤية فيما لو (٤) شكّ فيها مطلقا أخذا بأصالة الصحّة ؛ إذ لم يقم عليه دليل ، بل الثابت بالدليل هو إثبات الرؤية على وجه يكفي في قيام الوصف به شرعا ، كما عرفت نظيره في أصالة وقوع الفعل فيما جاوز محلّه فإنّه لا يحكم بوقوعه مطلقا

__________________

(١) « ز » : بترتّب.

(٢) « ز ، ك » : احتياجها.

(٣) « ز ، ك » : فلو.

(٤) « ج ، م » : ـ لو.

٤٨٦

على جميع وجوهه وعناوينه ، فلو فرضنا أنّ (١) الرؤية ممّا يترتّب عليه أحكام أخر كما لو نذر على تقديرها شيئا لا يحكم بوجوبه كما لا يخفى ، وقد يظهر منهم الحكم بوقوعه مطلقا وليس في محلّه فإنّ أصالة عدم الرؤية محكّمة فيه ، فبالحقيقة يؤخذ بأصالة الصحّة في إثبات الرؤية لأجل إثبات الصحّة ، ويؤخذ بأصالة العدم لإثبات سائر الأحكام ، وذلك ظاهر فيجمع بينهما على الوجه المذكور.

نعم ، فيما إذا كان الشكّ في الصحّة باعتبار الشكّ في وقوع العقد على أحد الحادثين كما لو باع شيئا واختلفا في أنّه الخمر أو الخلّ ، قد يظهر (٢) من غير واحد منهم وقوع العقد على الخلّ دون الخمر مع أنّ الاقتصار على ثبوت الصحّة لا يقتضي (٣) تعيين (٤) الموصوف كما لا يخفى ، فتدبّر في المقام فإنّه في غاية الإعضال (٥) ونهاية الإشكال والله الموفّق وهو (٦) الهادي.

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ أنّ.

(٢) « ز ، ك » : وقد يظهر.

(٣) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : لا يقضي.

(٤) « ز ، ك » : تعيّن.

(٥) « ز » : الاعتضال.

(٦) « ز ، ك » : ـ هو.

٤٨٧
٤٨٨

هداية

في تعارض الاستصحابين

وقد تصدّى بعضهم (١) في المقام بإيراد أقسام التعارض فيهما على حسب اختلاف الوجوه المتصوّرة فيه ، فقسّمهما (٢) موردا إلى ما تعارضا في مورد واحد كاستصحابي (٣) الطهارة والحدث مع العلم بهما فيما إذا شكّ في السبق واللحوق ، أو في موردين كاستصحاب طهارة الماء الواقع فيه الصيد واستصحاب عدم زهوق روحه مثلا.

ومستصحبا إلى الوجوديين أو العدميين أو مختلفين ، إمّا حكميين أو موضوعيين أو مختلفين.

وباعتبار وجه التعارض إلى ما كان التعارض بينهما بالذات كاستصحابي الطهارة والحدث ، أو بواسطة التضادّ بين لازميهما كما في استصحابي (٤) الطهارة والاشتغال إذ لا تعارض بينهما إلاّ (٥) بملاحظة أنّ لازم الأوّل عدم المؤاخذة ولازم الثاني العقاب ، أو بواسطة أمر خارج من علم إجمالي كما في الشبهة المحصورة ، أو إجماع كما في استصحاب طهارة الماء إذا انضمّ إليه ماء نجس مجموعهما كرّ واحد.

وباعتبار الشكّ المأخوذ فيهما إلى ما يكون أحد الشكّين دائرا مدار الآخر وجودا

__________________

(١) ضوابط الأصول : ٤٤٠.

(٢) « ز ، ك » : فقسمتها.

(٣) المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : كاستصحاب.

(٤) « ز ، ك » : استصحاب.

(٥) « م » : ـ إلاّ.

٤٨٩

وعدما متولّدا منه مسبّبا عنه كما في استصحاب الاشتغال عند الشكّ في الطهارة ، وإلى ما لا يكون أحد الشكّين مسبّبا عن الآخر كما في استصحابي الطهارة والحدث.

وقد توهّم بعضهم (١) : أنّه قد يكون كلّ من الشكّين مسبّبا عن الآخر ومثّله باستصحابي عدم التخصيص في العامّين من وجه في مورد التعارض ، فإنّ الشكّ في تخصيص كلّ منهما مسبّب عن الشكّ في تخصيص الآخر.

وليس بسديد ؛ لعدم معقولية العلّة (٢) من الطرفين فإنّه دور ظاهر ، وأمّا ما أورده من التمثيل فواضح السقوط ؛ لأنّ الشكّ إنّما هو من أمر خارج ثالث وهو عدم البيان (٣) ، ويشعر بذلك انتفاؤهما عنده فإنّ علّة ارتفاعهما عدمها (٤) علّة حدوثهما كما هو ظاهر.

والحقّ أنّ التقسيمات المذكورة (٥) ممّا لا يجدي شيئا فيما نحن بصدده إلاّ التقسيم الأخير ، وأمّا باقي الأقسام فلا يختلف الحكم باختلافها (٦) ، فلا فائدة في تطويل البحث بإيراد كلّ منها (٧) في مقام كما صنعه المتصدّي.

وإذا عرفت ذلك فنقول : إذا كان الأصلان المتعارضان ممّا يترتّب على كلّ منهما شيء لا يترتّب على الآخر ، فإن كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر فالحكم هو تقديم (٨) الاستصحاب الذي في مورد الشكّ السببي على الاستصحاب في الشكّ المسبّبي ، وإن لم يكن أحدهما مسبّبا عن الآخر فالحكم هو التساقط لا التخيير ولا الترجيح فالمرجع (٩) إلى أصل آخر ، وإذا لم يكن الأصلان ممّا يترتّب على (١٠) كلّ منهما أثر فالمحكّم هو الأصل الذي يترتّب عليه الأثر ، ومن هنا يظهر الوجه فيما أفتوا به جملة من أنّ الخيّاط لو قطع الثوب قباء فقال المالك بقطعة قميصا ، فالقول قول

__________________

(١) مناهج الأحكام : ٢٤٨.

(٢) « ج » : الغلبة؟

(٣) « ج ، م » : النسيان.

(٤) « ج » : عدمهما.

(٥) « ز ، ك » : التقسيم المذكور.

(٦) « ز » : باختلافهما.

(٧) « ز » : منهما.

(٨) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : تقدّم.

(٩) « ز » : فالمرجّح؟

(١٠) « ج ، ز » : ـ على.

٤٩٠

المالك ؛ لأصالة عدم الإذن في القطع في القباء ، ولا تعارضها (١) أصالة عدم الإذن في القميص ؛ إذ لا أثر في المعارض إلاّ على وجه لا تعويل عليه من القول بإثبات الأصل أحكاما عاديّة أو عقلية ، وسيظهر لك الوجه في ذلك عن قريب.

قلنا : في المقام دعويان : إحداهما : تقديم الأصل في مورد الشكّ السببي على الأصل في مورد الشكّ المسبّبي ، وثانيتهما (٢) ـ (٣) : تساقط الأصلين (٤) فيما عدا ذلك على أيّ وجه فرض من الأقسام المذكورة.

أمّا الأولى : فتارة : يقع الكلام من حيث إنّ الاستصحاب من الأمارات الظنّية ، وأخرى : من حيث كونه حكما تعبّديا ، أمّا على الأوّل فلا إشكال في تقديم السببي المزيل على المسبّبي المزال ؛ ضرورة أنّ الظنّ بالسبب يلازم الظنّ بالمسبّب والمفروض قيام الأمارة الظنّية على وجود السبب فلا يعقل (٥) الانفكاك.

وتوضيح ذلك : أنّ المسبّب من الأحكام المترتّبة على السبب ومن الأمور اللازمة له والمفروض حصول الظنّ بالملزوم لوجود أمارته ، فالمسبّب (٦) لا يخلو إمّا أن يكون مظنونا ، أو مشكوكا ، أو مظنون العدم ، لا سبيل (٧) إلى الأخيرين ، أمّا الأوّل منهما فظاهر البطلان ؛ لأنّ الظنّ بالعلّة علّة تامّة للظنّ بالمعلول ولا يمكن التخلّف ، وأمّا الثاني فلأنّ الظنّ بالعدم في جانب المعلول والمسبّب لا يعقل إلاّ بعد ارتفاع الشكّ عن (٨) العلّة والسبب ، فالأمارة الظنّية القائمة في جانب المعلول لا بدّ من قيامها في الحقيقة في جانب العلّة على خلاف مقتضى الاستصحاب كأن تكون (٩) حاكمة بانتقاض الحالة

__________________

(١) « ج » : لا تعارضهما.

(٢) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ثانيهما.

(٣) سيأتي الكلام عنها في ص ٥٠٧.

(٤) بناء على التعبّد ، وأمّا بناء على الظنّ فظاهرهم الاختلاف في ذلك ، فحكموا بالتساقط في الأغلب ، كما سيأتي في ص ٥٠٧.

(٥) « م » : فلا يقل.

(٦) « ز ، ك » : كالمسبّب.

(٧) « ز ، ك » : ولا سبيل.

(٨) « ز ، ك » : من.

(٩) في النسخ : يكون.

٤٩١

السابقة في جانب العلّة والمفروض خلافه ، وبالجملة فالظنّ كالعلم والشكّ في المعلول (١) مانع للظنّ والعلم والشكّ في العلّة ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب.

فإن قلت : إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ فيما لو كان المستصحب ملتفتا إلى مجرى الاستصحاب في السبب أوّلا ؛ إذ لو فرض التفاته إلى مجرى الاستصحاب في المسبّب يجري فيه الاستصحاب ، فتنعكس (٢) القضيّة ؛ إذ كما أنّ الظنّ بالعلّة يوجب الظنّ بالمعلول كذا الظنّ بالمعلول يوجب الظنّ بالعلّة ، فلا يمكن القول بتقديم الاستصحاب (٣) السببي ؛ لانتفاء ما هو الملاك في الاستصحاب من لزوم كون المورد مشكوكا ، ولئن سلّمنا عدم حصول الظنّ من المسبّب بوجود السبب فلا أقلّ من القول بعدم حصول الظنّ من الطرفين ، كما إذا فرضنا قيام البيّنة على الطرفين فإنّه لا يكاد يحصل الظنّ عند تعارض الأمارتين في طرفي العلّة والمعلول ؛ لأنّ ما يوجب الظنّ بالعلّة بعينه قائم (٤) في طرف المعلول فيكافئان فلا يحصل الظنّ بشيء منهما.

قلت : وهذه غفلة واضحة ؛ لأنّ المفروض أنّ الشكّ في المسبّب ناش عن الشكّ في السبب ، فيمتنع (٥) الالتفات إليه من دون التفات إلى الشكّ في السبب ، وبعد الالتفات إليه مع الحالة السابقة فيتحقّق ملاك الاستصحاب فيه وبتحقّقه يرتفع الملاك في المسبّب ، وما ذكره المعترض مبنيّ على أن يكون الشكّ في المسبّب في عرض الشكّ في السبب ، فإنّه لا ملازمة بين الشكّين على تقديره فيمكن الالتفات إلى أحدهما دون الآخر.

وأمّا حديث الانعكاس فواه جدّا ؛ إذ لم يذهب وهم إلى أنّ الأخذ باستصحاب (٦) المسبّب يوجب انتقاض الحالة السابقة في السبب ، غاية ما يمكن أن يتوهّم (٧) هو الأخذ

__________________

(١) « ز ، ك » : بالمعلول.

(٢) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : فينعكس.

(٣) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : استصحاب.

(٤) « ز ، ك » : في العلّة بعينه موجود.

(٥) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : فيمنع.

(٦) « ز ، ك » : بالاستصحاب.

(٧) « ز ، ك » : أن يقال.

٤٩٢

بالحالة السابقة في السبب في غير ما يترتّب عليها بالنسبة إلى المسبّب أخذا بالاستصحاب في المسبّب أيضا ، والسرّ فيه أنّ دليل الإنّ إنّما يتمّ فيما إذا لم يكن دليل على انتفاء العلّة ؛ إذ لو فرض وجود الدليل على ارتفاع العلّة فوجود الدليل على بقاء المعلول ممّا لا يجدي شيئا ، لكونه شأنا من شئونه وطورا من أطواره.

اللهمّ إلاّ أن يكون مفاد الدليل الدالّ على وجود المعلول هو ثبوت العلّة فإنّهما حينئذ يتعارضان.

ومن هنا ينقدح أنّ ما ذكره من تعارض الأمارتين في طرفي المعلول والعلّة كالبيّنتين ، ممّا (١) لم يقع في محلّه أيضا أمّا أوّلا فلأنّ قيام البيّنة على المعلول مع أنّ المفروض نشو الشكّ فيه من الشكّ في العلّة من غير تعرّض لوجوده (٢) في مفاد البيّنة غير معقول. وأمّا ثانيا : فلأنّ وجود إحدى البيّنتين لا يناط بوجود الأخرى (٣) ، فيمكن قيامها على طرفي الخلاف ، بخلاف الاستصحابين ؛ لأنّ ملاك الأمر فيه على الحالة السابقة وهي في المعلول تابع لها في العلّة ، فلا يمكن انتهاضها أمارة في المعلول بوجه ، فظهر (٤) فساد ما توهّمه من عدم الظنّ في الطرفين ؛ لمكان التعارض بين الأمارتين كما لا يخفى.

فإن قيل : إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ فيما إذا قلنا بالاستصحاب من حيث إفادته الظنّ في خصوص الموارد لامتناع قيام الظنّ على المعلول بعد فرض قيامه على العلّة ، وأمّا إذا (٥) كان اعتباره من باب إفادته الظنّ نوعا فلا مانع من الأخذ بأحكام المسبّب نظرا إلى الأمارة القائمة (٦) عليه بحسب الشرع.

قلنا : وهذه أيضا غفلة صريحة ؛ إذ الأمارة في طرف العلّة لو كانت مفيدة للظنّ

__________________

(١) « ز ، ك » : ما.

(٢) « ج ، م » : لوجودها.

(٣) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : الآخر.

(٤) « ز ، ك » : يظهر.

(٥) « ز ، ك » : إن.

(٦) « ز ، ك » : أمارة قائمة.

٤٩٣

الشخصي فلا مجال لاعتبار الاستصحاب في طرف المعلول ؛ لأنّ الظنّ بالعلّة يلازم الظنّ بالمعلول والمأخوذ في مورد الاستصحاب عدم كونه مظنونا ، وإن لم تكن (١) مفيدة للظنّ ففي جانب المعلول لا نسلّم وجود الأمارة النوعية ، فإنّ المدّعى هو أنّ صنف الحالة السابقة في المعلول فيما إذا كانت العلّة مسبوقة بالحالة السابقة لا يفيد الظنّ ، ومجرّد أنّ الحالة السابقة في كلّي الموجودات يفيد الظنّ لا يجدي في المقام بعد معارضته بخصوص المورد (٢) صنفا أو نوعا.

وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام جماعة من الفحول كالمحقّق والعلاّمة وأضرابهما مع ذهابهم إلى حجّية الاستصحاب من باب الظنّ حيث إنّهم لا يرون تقديم المزيل على المزال ، فالمحقّق (٣) حكم بتعارض استصحاب الطهارة باستصحاب اشتغال الذمّة (٤) بالصلاة ، والعلاّمة (٥) حكم ـ في مسألة الصيد المرميّ في الهواء الواقع في الماء مع الشكّ في استناد موته إلى الرمي ـ بنجاسة الصيد وعدم جواز أكله وطهارة الماء ، فيا للعجب منهم فإنّ القول بحرمة الأكل وانقطاع أصالة الحلّ بالموت وطهارة الماء من العجائب ؛ إذ ترتيب (٦) بعض الأحكام المترتّبة على أصالة عدم التذكية من الحكم بحرمة الأكل دون بعض آخر من الحكم بنجاسة الماء الملاقي له مع اشتراكهما في جريان الأصل فيهما ترجيح بلا مرجّح ، وسيأتي لذلك زيادة تحقيق.

ولنعم ما صنعه صاحب الحدائق في المقام مع سلوكه في أمثاله مسلكا وعرا ، فهو حقيق بمن لم ينهج كالعلاّمة منهجا عسرا حيث قال في مقام تعداد المياه (٧) المشتبه ـ بعد ما فرض مثل ما فرضه العلاّمة من الصيد ، وبعد ما ذكر أدلّة الطرفين ـ : والذي يظهر

__________________

(١) في النسخ : لم يكن.

(٢) « ج » : الموارد.

(٣) انظر المعتبر ١ : ٣٢ ؛ مختصر النافع : ٢١.

(٤) « ز ، ك » : بتعارض الطهارة باشتغال الذمّة.

(٥) تحرير الأحكام ١ : ٥٥ ، وفي ط الحجري : ٦ ، انظر أيضا منتهى المطلب ١ : ٢٩ ، ط الحجري.

(٦) « ز ، ك » : ترتّب.

(٧) « ز ، ك » : الماء.

٤٩٤

لي أنّ كلام الجميع غير خال عن الإجمال ، بل الاختلال ؛ إذ لا يخفى أنّ ثبوت النجاسة للماء وعدمها إنّما نشأت (١) من الصيد والحكم بطهارته أو نجاسته ، فالواجب أوّلا : بيان الحكم فيه بالطهارة أو النجاسة ، ولا ريب أنّ مقتضى عدم التذكية عندهم كما يكون (٢) موجبة للتحريم كذلك يكون (٣) موجبة للنجاسة كما صرّحوا [ به ] في جملة من المواضع ، منها الجلد (٤) ومنها اللحم المطروحان (٥) حيث حكموا بالتحريم والنجاسة بناء على الأصل المشار إليه ، وحينئذ فكما يكون العلم بعدم التذكية موجبا للتحريم والنجاسة كذلك حال الاشتباه وعدم العلم موجب لهما ، ولا ريب أنّ الصيد في الصورة المفروضة ممّا اشتبه فيه الحال بالتذكية وعدمها ، والتمسّك بأصالة عدم التذكية يوجب الحكم بتحريمه ونجاسته ، ومتى تثبت (٦) نجاسته فوقوعه في الماء القليل موجب لتنجيسه عند القائل بها بالملاقاة (٧) والنجاسة لا تختصّ (٨) بالترتّب على العلم بعدم التذكية خاصّة الذي هو الموت حتف الأنف حتى يتمّ لهم أنّ النجاسة هنا مشكوك فيها لاحتمال التذكية ، بل كلّ (٩) ما يترتّب على ذلك يترتّب (١٠) على الشكّ أيضا كما عرفت ، فإنّه لمّا كان كلّ من حلّ الصيد وطهارته مترتّبا على العلم بالتذكية كان انتفاؤهما بانتفاء ذلك تحقيقا للسببية ، وعدم العلم بالتذكية كما عرفت أعمّ من العلم بالعدم.

وبالجملة : فنجاسة الماء وطهارته في الصورة المزبورة (١١) دائرة مدار طهارة الصيد ونجاسته وقد عرفت أنّ عدم العلم بالتذكية كما يكون سببا في التحريم يكون سببا في

__________________

(١) في المصدر : نشأ.

(٢) في المصدر : تكون.

(٣) في المصدر : تكون.

(٤) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : أكله.

(٥) في المصدر : المواضع منها مسألة اللحم والجلد المطروحين.

(٦) « ز ، ك » : ثبت.

(٧) في المصدر : القائل بنجاسة القليل بالملاقاة.

(٨) في النسخ : لا يختصّ.

(٩) « ز ، ك » : كان.

(١٠) في المصدر : بل كما تترتّب على ذلك تترتّب.

(١١) « ز ، ك » : ـ في الصورة المزبورة.

٤٩٥

النجاسة ، وحينئذ فقول المستدلّ : إنّ الشكّ في استناد الموت إلى الجرح أو الماء يقتضي الشكّ (١) ، مسلّم لو كانت النجاسة مترتّبة على الموت حتف الأنف خاصّة كما ذكروه ، وأمّا إذا قلنا بترتّبها أيضا على الشكّ في التذكية وعدم العلم بها فلا ، وحينئذ (٢) فالظاهر هو القول بالنجاسة (٣) ، انتهى ما أفاده بلّغه الله مراده (٤). وهو جيّد جدّا وإن قصر بيانه عن إفادة السرّ في ذلك كما لا يخفى على من لاحظ ما ذكره بعد ما ذكرنا ، هذا تمام الكلام فيما إذا قلنا بالاستصحاب ظنّا.

وأمّا على الثاني (٥) : فالحقّ أيضا تقديم الاستصحاب (٦) المزيل على المزال خلافا لما يظهر من محقّق القوانين (٧) وإن كان خلافه غير مختصّ بما إذا كان الاستصحاب حجّة تعبّدية كما هو المفروض. وبالجملة : فالذي يراه في أمثال المقام هو الحكم بالجمع بين مقتضى الأصلين ، فيؤخذ في مورد التعارض بالأصل في المزال ، وفي غيره بالأصل في المزيل كما يحكمون بالتفكيك في موارد جمّة في الأحكام الشرعية كما هو ظاهر.

ويدلّ على ما ذكرنا من تقديم المزيل وجوه من الأدلّة :

الأوّل : الإجماع القطعي ، وتقريره هو أنّا نعلم بالحدس الصائب أنّه يمكن تصوير (٨) صور فرضية (٩) لو سئل عنها عن كلّ قرع سمعه حديث العلم لم يمكنهم الجواب (١٠) عنها (١١) إلاّ على وجه يقدّم فيه المزيل (١٢) على المزال ، ويكشف عن ذلك ملاحظة بعض الفروض والصور ، فإنّ استصحاب العدالة يجدي في جواز الاقتداء بمن اتّصف بها وحرمة

__________________

(١) في المصدر : الشكّ في عروض النجاسة.

(٢) المثبت من « ك » وهو موافق للمصدر ، وفي سائر النسخ : فحينئذ.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٥٢٧ ـ ٥٢٨.

(٤) « ز ، ك » : ـ بلّغه الله مراده.

(٥) أي على كون الاستصحاب حكما تعبّديا ، وتقدّم الكلام بناء على الظنّ في ص ٤٩١.

(٦) « ز » : استصحاب.

(٧) القوانين ٢ : ٧٦ وسيأتي عنه أيضا.

(٨) « ز ، ك » : ممكن تصوّر.

(٩) « ج ، ك » : فرضه.

(١٠) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الجواز.

(١١) « م » : ـ عنها.

(١٢) « ز ، ك » : وجه تقديم المزيل.

٤٩٦

المطلّقة التي طلّقت بمحضر منه وقبول شهادته والإيصاء به واستنابته وتوكيله فيما كانت مشروطة بها مع أنّ الأصل في جميع ذلك عدم ترتّبها كما لا يخفى ، واستصحاب طهارة (١) الماء يجدي في جواز الغسل به والتطهير به وشربه وتعمير المسجد به ونحو ذلك من الأمور المخالفة للأصل ، واستصحاب طهارة الأرض يجدي في جواز السجود عليه والتيمّم به (٢) ، واستصحاب نجاسة العصير يجدي في حرمة أكله ونجاسة ملاقيه من الأجسام ، واستصحاب حياة الزوج يجدي في وجوب نفقتها على الزوج وحرمة تزويجها وعدم جواز تقسيم ماله إلى غير ذلك من الأحكام ، ومنها استصحاب عدم التذكية لحرمة اللحم ونجاسة الجلد وعدم جواز البيع وعدم جواز الاستصباح بالشحم (٣) إلى غير ذلك من الأمور المترتّبة عليها من الأحكام المخالفة للأصول في طرف هذه الأحكام ، ولقد أفتوا جميعا بذلك في بعض هذه الموارد ونحن نعلم بعدم الفرق بينهما بوجه.

وقد يقرّر الإجماع بأنّ الاستصحاب (٤) المزيل دائما يكون من استصحاب الموضوع واستصحاب المزال من الحكم ، وقد ادّعى الشيخ عليّ في تعليقاته على الروضة (٥) الإجماع على تقديم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي.

وبعد ما عرفت من التقرير فنحن في غنى عن تجشّم إثبات الصغرى في هذه الحجّة مع وضوح تطرّق المنع إليها ، فتدبّر.

الثاني : السيرة المستمرّة في جميع الأعصار والأمصار بين العاملين بالاستصحاب في أمور معادهم أو معاشهم في عباداتهم ومعاملاتهم مع عدم انفكاك ذلك عن

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ طهارة.

(٢) « م » : ـ به.

(٣) « ج ، ز » : الشحم.

(٤) في النسخ : استصحاب.

(٥) كما عنه في ضوابط الأصول : ٤٤٣ ، ثمّ قال : والإجماع الذي نقله وإن لم يكن دليلا في المسألة الأصولية لكن يكفي مرجّحا لأحد المتعارضين.

٤٩٧

استصحاب وجودي أو عدمي مسبّب (١) الشكّ فيه عن الشكّ في مجرى الاستصحاب الذي يعوّلون عليه ، وإن شئت التوضيح فلاحظ نفسك هل تجد فيه انتظارا للعمل بأحكام الطهارة فيما إذا حكمت شرعا بطهارة شيء؟

الثالث : أنّه لو لا ذلك لاختلّ النظام وفسد الأمر على الخواصّ والعوامّ فإنّ ذلك في معنى عدم حجّية الاستصحاب ؛ إذ الأحكام المترتّبة على المستصحب لا يخلو من أن تكون (٢) مسبوقة بالحالة السابقة الموافقة للمستصحب ، أو تكون مخالفة لها ، أو لا يعلم ذلك ، فعلى الأوّل فلا حاجة إلى استصحاب ذلك الموضوع في استصحابه عند من يزعم (٣) المذكور لكفاية استصحابه (٤) وإن كان عندنا غير معقول لما عرفت من فساده في الهداية الموضوعية فراجعها (٥) ، ولا يصحّ ترتّبها (٦) على الأخيرين لمعارضة الاستصحاب في أوّلهما وقاعدة العدم في ثانيهما للاستصحاب الأوّل ، وذلك ظاهر لمن ألقى السمع وهو شهيد ، فشناعة (٧) القول بعدم التقديم ممّا لا يخفى على أحد ، ولعمري كيف مال إليه ذلك المحقّق النحرير مع أنّه بمكان من الضعف والسقوط على ما شاهدت فيما قدّمناه من التقرير.

ولا مدفع لذلك إلاّ بالتفصيل بين الموارد كأن يقال : إنّه إذا تحقّق مجرى المزيل قبل تحقّق (٨) مجرى المزال فلا شبهة في تقديم المزيل على المزال وإجراء جميع ما يترتّب على المستصحب عليه ؛ لعدم (٩) المانع عن الترتيب فعلا ، بل وجود الدليل الشرعي عليه كما

__________________

(١) « ك » : سبب.

(٢) في النسخ : يكون. وكذا في المورد الآتي.

(٣) « ج » : زعم وفي « ك » : يوهم ، وفي « م » : الزعم ، وجعل ما بين « من » و « الزعم » علامة استدراك ولكن لم يكتبه.

(٤) « ز ، ك » : « لكفايته » بدل : « لكفاية استصحابه ».

(٥) انظر ص ٣٨٠.

(٦) « ك » : ترتيبها.

(٧) « ز ، ك » : يشهد بشناعة.

(٨) « ز ، ك » : « فهل يتحقّق » بدل : « قبل تحقّق » وفي « م » : « قيل » بدل : « قبل ».

(٩) « ز ، ك » : « بعده » بدل : « لعدم ».

٤٩٨

لو فرضنا الشكّ في طهارة الماء مع الحالة السابقة ، ثمّ استصحبنا (١) الطهارة من غير التفات إلى الشكّ في نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء ، فإنّ الحكم بطهارة الماء شرعا يلازمه طهارة الثوب المغسول به شرعا ، وحيث إنّه لا التفات إلى مجرى الاستصحاب في المزال لعدم الالتفات بالشكّ في النجاسة فلا تحقّق لمجراه مع تحقّق مجرى المزيل وعدم المعارض ، والشكّ بعد الحكم الاستصحابي في المزيل لا يجدي شيئا ؛ لأنّه محكوم بالطهارة شرعا ، والإجماع والسيرة واختلال النظام كلّها مسلّمة في هذا المورد (٢).

وأمّا إذا تحقّق مجرى الأصلين دفعة واحدة كما إذا كان الشكّ في نجاسة الثوب مقارنة مع الشكّ في طهارة الماء كما في مسألة الصيد والثوب المنشور على الأرض المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، فلا دليل على تقديم الأصل المزيل لا الإجماع كما هو واضح ، ولا السيرة ؛ لعدم ثبوتها في محلّ الفرض ، ولا يختلّ النظام بذلك ، بل الحقّ هو الأخذ بالأصل في المزال ؛ لأنّه الدليل شرعا ، وأمّا (٣) الأصل المزيل فلا يجدي في ذلك الحكم ؛ لأنّه إنّما هو في المقام فرضي ، إذ لو لم يكن الأصل المزال جاريا كان الأخذ به محكّما والدليل الفرضي لا يفيد حكما.

وليس ما ذكر من التفصيل بعيدا عن مذاق الشريعة فإنّ التفصيل بين الالتفات بالشكّ وعدمه (٤) في جريان الأصل وعدمه ليس مختصّا بما نحن بصدده ، فإنّه نقول بمثله في بعض موارد أصالة الصحّة أيضا ، كما إذا شكّ قبل الصلاة في الوضوء فذهل (٥) عن الشكّ هذا فصلّى من غير تجديد للطهارة ، ثمّ ذكر الشكّ بعد الصلاة ، فإنّه لا يجدي التمسّك بقاعدة الشكّ بعد الفراغ في الحكم بصحّة الصلاة ؛ لأنّ استصحاب الحدث

__________________

(١) « ج ، م » : استصحبا.

(٢) « ك » : هذه الموارد.

(٣) « ز ، ك » : « لا » بدل : « أمّا ».

(٤) « ز ، ك » : « يجديه » بدل : « وعدمه ».

(٥) « ز ، ك » : فذاهل.

٤٩٩

محكّم عليه ، وأمّا إذا شكّ بعد الصلاة فهي من موارد أصالة الوقوع والشكّ بعد الفراغ فلا يجدي فيه التمسّك باستصحاب الحدث نظرا إلى أنّ الشكّ هذا لو كان قبل الصلاة كان مجرى للاستصحاب ؛ لأنّه دليل فرضي صرف وهو لا يفيد حكما كما أنّه لا يجوز التمسّك بأصالة الوقوع (١) في الصورة الأولى ، لأنّه ليس شكّا بعد الفراغ ، بل هو تذكّر للشكّ قبل العمل وذلك ظاهر.

وبالجملة : فهذا (٢) التفصيل يدفع (٣) الشناعة الواردة على أصحاب القول بعدم تحكيم المزيل على المزال ، وهذا غاية ما يمكن الانتصار لهم ، ومع ذلك ففساده أجلى من أن يكاد يخفى على من له دربة (٤) ، فإنّ الاستصحاب غير محتاج إلى الشكّ الفعلي ، بل الشكّ الفرضي كاف في جريانه كما عرفت في الهداية السبزوارية ، فإنّ استصحاب الطهارة عند عروض المذي كما يفتي به المجتهد لا يتوقّف على فعلية الشكّ في انتقاض الطهارة بالمذي ، وممّا يضحك الثكلى في المقام هو أنّه لو فرض عدم الالتفات إلى الشكّ في نجاسة ثوب بعد استصحاب طهارة الماء والالتفات إلى نجاسة ثوب آخر فلا بدّ من الحكم بطهارة الأوّل ونجاسة الثاني مع وحدة الماء ولا سيّما مع وحدة النجاسة إلاّ أنّ الالتزام بمثله في الأحكام الظاهرية غير عزيز ، فتدبّر.

وكيف (٥) كان ، الظاهر عدم الفرق في تقديم الأصل المزيل على المزال فيما إذا فرض تحقّق الشكّ في مجرى المزال كما إذا التفت الشخص إلى الشكّ أوّلا ؛ لأنّ البناء على الأخذ بالمزيل مطلقا سواء كان ملتفتا أو لم يكن ، وأمّا ما ذكرناه من عدم الأخذ بأصالة الوقوع فيما إذا ذهل عن الشكّ قبل العمل وعدم جريان أصالة بقاء الحدث فيما إذا شكّ بعد العمل ، فممّا لا دخل له بالمقام ؛ لأنّ الأوّل ليس موردا لأصالة الوقوع ،

__________________

(١) سقط قوله : « والشكّ بعد الفراغ ... » إلى هنا من « ز ، ك ».

(٢) « م » : فبهذا.

(٣) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يندفع.

(٤) « ج ، ز » : درية.

(٥) « ز ، ك » : فكيف.

٥٠٠