مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

وعادة ولعلّ الاستنجاء منه في العرف ، وأين ذلك من الشكّ في الأفعال المستقلّة التي لا يناط أحدهما (١) بالآخر أصلا؟ نعم لك القول بذلك فيما لو ادّعيت أنّ المستفاد من أخبار الباب أنّ بعد وجود ما يقتضي لشيء (٢) شرعا أو عقلا أو عادة وعدم مانع من ذلك إلاّ متابعة السهوي (٣) في الأوّل والسهو والنسيان في الأخيرين ، لا بدّ من الحكم بوجوده وصحّته والإمضاء عليه من جهة الظهور المستفاد من وجود المقتضي والشكّ في المانع وأنّى لك بهذا؟

وممّا ذكرنا يظهر (٤) ضعف اعتبار العاديّة النوعية وإن كان (٥) أقلّ فسادا من سابقها ، فإنّ الظاهر من المحلّ هو محلّ التكليف لا التكوين ، فالأسلم القول بأنّ قبل تجاوز محلّ الفعل شرعا يجب الأخذ بالقاعدة المزبورة وانقطاع الأصل بها ، وبعده فالأصل المذكور في محلّه ولا محلّ للمحلّ العاديّ بقسميه (٦) ، وقد عرفت أنّ محلّ الشيء شرعا إمّا بانقضاء زمانه لو كان موقّتا ، أو بسقوط التكليف عنه في غيره ، ثمّ إنّه هل يتوقّف صدق التجاوز على الدخول في الغير أو لا؟ الظاهر هو الثاني ، وعلى الأوّل فالمعتبر في الغير هو ما يترتّب عليه شرعا لا مطلقة ، فيحكم بالقاعدة القاطعة لأصالة عدم وقوع الفعل فيما إذا لم يدخل فيما يترتّب على المشكوك شرعا ، فلا يضرّ التنفّس (٧) ونحوه ممّا لا دخل له في المركّب ، فتدبّر.

[ لتنبيه ] الرابع

هل القاعدة المذكورة محكّمة فيما إذا شكّ في صحّة الاعتقاد السابق مطلقا أو فيما إذا لم يكن متذكّرا لموجب الاعتقاد ، أو ليست محكّمة فيها مطلقا؟ وجوه ، بل أقوال : يظهر

__________________

(١) كذا. والصواب ظاهرا : أحدها.

(٢) « م » : يقضي بشيء.

(٣) « ك » : السهو.

(٤) « ز » : + الوجه. والظاهر أنّه شطب عليها.

(٥) « ج ، م » : كانت.

(٦) « ز » : بقسيميه.

(٧) « م » : النفس.

٤٦١

الأوّل من بعض سادات مشايخ الأستاد دام عزّه (١) في المناهل (٢) ، والثاني من فيلسوف القوم في الكشف (٣) في ذيل الاستصحاب ، والحقّ على ما أفاده الأستاد المحقّق هو الثالث ، فلو اعتقدنا عدالة زيد أو وقوع فعل في الأمس وشككنا في اليوم في صحّة الاعتقاد السابق ، لا بدّ من البناء على الصحّة على الأوّل ، وفيما إذا لم يكن متذكّرا لدليل الاعتقاد دون ما إذا كان متذكّرا على الثاني ، ولا بدّ من الحكم بالفساد أخذا بأصالة العدم على الثالث.

وما يمكن الاستناد به للأوّلين في مورد (٤) وفاقهما وجهان : الأوّل : ما يظهر من الشيخ في ذيل الاستصحاب من ذهابه إلى جريان أخبار الاستصحاب في المقام ، فإنّ ظاهر قوله : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه » (٥) هو الأخذ بصحّة اليقين السابق والبناء عليه ، وكذا ما يستفاد من قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ أبدا » (٦) مطابق للرواية المذكورة في الدلالة على المطلوب ، وثانيهما : البناء على صحّة العمل الذي قد جاوز محلّه ولو كان الشكّ في الاعتقاد وصحّته.

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ دام عزّه.

(٢) لعلّه ورد في القسم غير المطبوع منه.

(٣) قال في كشف الغطاء ١ : ٢٠١ ، وفي ط الحجري : ٣٥ في بحث ٣٥ : ولو لم يبق علمه باليقين السابق مع علمه بأنّه كان عالما فلا يخلو : إمّا أن ينسى طريق علمه السابق ، أو يذكره ويتردّد في قابليته لإفادة العلم ، أو يعلم عدم قابليّته ، والأقوى جري الاستصحاب في القسمين الأوّلين خاصّة.

وأمّا ما وقع منه من العمل فيحكم بصحّته ما لم يعلم بعدم مقتضى علمه.

وقال أيضا في كشف الغطاء ٢ : ١٠٣ ، وفي ط الحجري : ١٠٢ : ولو سبق العلم بتقدّم شيء أو تأخّره ثمّ طرأ الشكّ ، غير متذكّر لسبب العلم بنى على علمه على إشكال ، وإن ذكر سببه ورأى أنّه غير قابل لترتّب العلم فلا بناء عليه ؛ لأنّ المراد بعدم نقض اليقين بالشكّ عدم النقض بالشكّ الطارئ بعده بقسميه ـ ما اقترن بسبب الاستدامة وغيره ـ دون الطارئ عليه ، والظاهر عدم الفرق في شكّ الصلاة والوضوء بين المنصوص عليه وبين غيره ؛ لظاهر الإطلاق.

(٤) « ز ، ك » : مواد.

(٥) تقدّم في ص ١٠٣.

(٦) تقدّم كرارا.

٤٦٢

وكلاهما فاسدان لا ينبغي للمتأمّل التعويل عليهما ، أمّا الأوّل فقد عرفت (١) في بعض الهدايات (٢) السابقة فساد هذا التوهّم بما لا مزيد (٣) عليه إلاّ أنّه إلى الآن لم نكن عالمين بأنّ مثل هذا التوهّم ممّا يمكن من أمثال الشيخ الجليل ، بل إنّما أوردناه في قبال بعض أهل العصر وبعض من الطلبة ، ولكنّا بعد محتاجين إلى الإفصاح عن هذا المقصد على وجه لا يشكّ فيه أحد. فنقول : إنّ ملخّص ما ذكره يرجع إلى اعتبار الاستصحاب في الشكوك السارية ، وذلك ليس في محلّه ؛ لاختلاف مناط القاعدتين وموردهما ، فلا يمكن أن يكون اللفظ الواحد مفيدا لهما ، فإنّ ملاك الأمر في الشكوك السارية على مجرّد وصف اليقين والشكّ (٤) في صحّة ذلك اليقين ، فلا يلاحظ فيه وجود المتيقّن في السابق ، بل يكفي فيه حصول نفس اليقين وإن لم يكن مطابقا للواقع ، فلو فرض وجود المتيقّن في الواقع مع انتفاء وصف اليقين لم يكن من محلّ الشكوك السارية ؛ لانتفاء ما هو القوام فيه ، فمتعلّق الشكّ واليقين أمر واحد وهو الثبوت ، ومناط الحكم في الاستصحاب على ثبوت متيقّن في السابق والشكّ في وجوده في اللاحق ، فلا حاجة إلى وصف اليقين في الاستصحاب إلاّ من حيث إنّه مرآة عن وجود المتيقّن ، ولذلك لا يفرق بين اقتران وصفي الشكّ واليقين أو (٥) سبق أحدهما على الآخر ، فمتعلّق الشكّ واليقين فيه أمران ، فإنّ متعلّق الشكّ هو البقاء ، ومتعلّق اليقين هو الثبوت ، فإحدى القاعدتين تباين الأخرى ، فأخبار الاستصحاب لا يمكن أن تكون (٦) مسوقة لبيانهما (٧) فلا بدّ من حملها على إحداهما والمفروض دلالتها (٨) على الاستصحاب بتسليم من الخصم فتعيّن حملها عليه.

__________________

(١) انظر ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

(٢) « ز ، ك » : الدرايات.

(٣) « ز ، ك » : ممّا يزيد.

(٤) « ز ، ك » : ولو شكّ.

(٥) « ز ، ك » : « و » بدل « أو ».

(٦) في النسخ : يكون.

(٧) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : لبيانها.

(٨) « ز ، م » : دلالتهما وكذا في المورد الآتي.

٤٦٣

والقول بعدم دلالتها على الشكّ الساري وإن كان اللفظ لا يأبى عن ذلك لو لوحظ مجرّدا عن موارد (١) الروايات ، بل قد نبّهنا (٢) على ظهوره بعد امتناع إرادة المعنى الحقيقي من تلك الأخبار لامتناع التناقض بين الشكّ واليقين في الهداية الخوانسارية ، لكن قول الإمام عليه‌السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » (٣) من أقوى الشواهد على إرادة هذا المعنى دون ما هو المناط في الشكوك السارية.

نعم في الروايات التي احتجّ الأصحاب بها على الاستصحاب ما هو محتمل الوجهين كما أشرنا إليه عند (٤) الاحتجاج بها وهو رواية الخصال : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه » (٥) إلاّ أنّه قد يستظهر دلالتها على الاستصحاب أيضا نظرا إلى اتّحاد مساقها لما هو مساق أخبار الاستصحاب.

ولئن سلّمنا إمكان اجتماعهما في الإرادة من دليل واحد فالشكوك السارية ممّا لا عبرة بها ؛ لابتلائها بالمعارض دائما ، فإنّ اليقين بشيء لا محالة مسبوق بحالة سابقة على ذلك اليقين وهي مستصحبة حال الشكّ في صحّة اليقين ؛ إذ المفروض أنّ (٦) اليقين السابق مشكوك الصحّة فيؤول الأمر إلى ارتفاع تلك الحالة وبقائها ، الأصل يقضي (٧) بالثاني فلو اعتقدنا عدالة زيد بعد العلم بفسقه أو مع جهل حاله فلو شكّ في صحّة ذلك الاعتقاد لا بدّ من استصحاب الفسق (٨) أو حكم الجهل ، فإنّ توهّم سقوط الحالة السابقة بمثل اليقين المشكوك صحّته شطط من القول كما هو ظاهر ، فالقول بالصحّة كما هو قضيّة الاستصحاب (٩) الساري معارض بالقول بعدمها كما هو قضيّة الاستصحاب (١٠) الطارئ.

__________________

(١) « ك » : مورد.

(٢) نبّه في ص ١٣٠ ـ ١٣٢.

(٣) تقدّم في ص ٩٥.

(٤) « ز ، ك » : فعند.

(٥) تقدّم في ص ١٠٣.

(٦) « ز » : ـ أنّ.

(٧) « ج » : يقتضي.

(٨) « ك » : نفس الفسق.

(٩) « ج ، ز » : استصحاب.

(١٠) « ز ، ك » : استصحاب.

٤٦٤

وأمّا الثاني فعدم ظهور أخبار الشكّ بعد الفراغ فيما إذا شكّ في صحّة اليقين ظاهر ، فتأمّل في المقام فلعلّه لا يحتاج إلى زيادة تقرير وبيان والله الموفّق وهو الهادي (١).

__________________

(١) « ز ، ك » : والله الهادي.

٤٦٥
٤٦٦

هداية

[ في تعارض الاستصحاب مع أصالة الصحّة ]

في بيان الحال في تعارض الاستصحاب مع أصالة الصحّة ، وتحقيق الكلام في المقام (١) في مطلبين :

المطلب الأوّل (٢)

في بيان أصل مشروعيتها وأقسامها ، وتنقيح البحث في موارد :

الأوّل : في أنّ الأصل في الأعيان الموجودة في الخارج هل هو الصحّة أو الفساد؟ الذي يظهر من الشيخ الجليل العلم البارع (٣) في مقدّمات الكشف هو الأوّل ، بل ساق الحكم في ذلك إلى كلّ ممكن ، فقال : الأصل فيما خلق (٤) الله من الأعيان من عرض أو جوهر ـ حيوان أو غير حيوان ـ صحّته ، وكذا ما أوجده الإنسان البالغ العاقل من أقوال أو أفعال فيبنى فيها على وقوعها على نحو ما وضعت له وعلى وفق الطبيعة التي اتّحدت به من مسلم أو (٥) مؤمن أو مخالف أو كافر كتابي أو غير كتابي ، فيبنى أخباره ودعاويه على الصدق ، وأفعاله وعقوده وإيقاعاته على الصحّة حتّى يقوم شاهد على

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ في المقام.

(٢) سيأتي المطلب الثاني في ص ٤٨٣.

(٣) « ز ، ك » : ـ العلم البارع.

(٤) « ج ، م » : خلقه.

(٥) في المصدر : ـ أو.

٤٦٧

الخلاف إلاّ أن يكون على (١) مقابلته (٢) خصم. وقال أيضا : إنّ الأصل في جميع الكائنات من جمادات أو نباتات أو حيوانات أو عبادات أو عقود (٣) أو إيقاعات أو غيرها من إنشاءات أو إخبارات أن تكون (٤) على نحو ما غلبت عليه حقيقتها من التمام في الذات وعدم النقص في الصفات وعلى طور ما وضعت له مبانيها ، وعلى وجه يترتّب (٥) آثارها فيها على معانيها (٦) ، انتهى ما أفاده رحمه‌الله.

والتحقيق في المقام هو أن يقال : إنّ المراد بالأصل ليس هو الدليل لظهور عدم مناسبته لما نحن بصدده ، ولا القاعدة لعدم ما يقضي (٧) بإقعادها في الأدلّة الشرعية ، فالمراد به إمّا الاستصحاب ، وإمّا الظاهر.

أمّا (٨) الأوّل فليس على ذلك الاطّراد ، كما أفاده الشيخ المذكور فإنّ غاية ما يقضي به الصحّة فيما إذا كان الفساد طارئا على الطبيعة ، وأمّا إذا كان الفساد بواسطة عدم وصولها إلى حالة مطلوبة في الطبيعة فالأصل يقضي بعدم الصحّة ، مثلا الجنازة لها حدّ طبيعي مطلوب في ذلك الحدّ وقد يعرضه الفساد من الديدان ، فأصالة عدم الفساد رفع (٩) الفساد من الجهة الثانية لا الأولى كما هو ظاهر.

وأمّا الثاني فالظاهر أنّ المراد هو الظهور الناشئ من غلبة سلامة الممكنات وأعيان الموجودات ، وإلاّ فلو لاحظنا مطلق الطبائع ـ سواء الموجودة فيها والمعدومة ـ فغلبة السلامة ممنوعة ؛ لظهور أنّ الفاسد مفهوما أكثر من الصحيح ، لتوقّف الصحّة في كلّ موجود على قيود متكثّرة يفسد بانتفاء كلّ قيد منها ، فهذه الغلبة وإن كانت مسلّمة

__________________

(١) في المصدر : في.

(٢) « ز ، ك » : مقابلة.

(٣) « ز ، ك » : عقودات.

(٤) في النسخ : أن يكون.

(٥) في المصدر : + عليه.

(٦) كشف الغطاء ١ : ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، وفي ط الحجري ٣٥ في بحث ٣٦.

(٧) « ز ، ك » : تقتضي. « ج » يقتضي.

(٨) « م » : وأمّا.

(٩) « ج » : يرفع.

٤٦٨

غير قابلة للإنكار إلاّ أنّه لا دليل على اعتبارها فيا (١) ليتها كانت معتبرة مع أنّ هذه غلبة جنسية وقد تعارضها الغلبة الصنفية أو النوعية ، فليس المدار على الأخذ بهذه الغلبة ، سيّما في موضوعات الأحكام ، فأصالة الفساد محكّمة عند الشكّ في الصحّة في الأعيان فيما إذا تعلّقت بها العقود وإن كان الظاهر منهم تقديم قول مدّعي الصحّة فيما لو اختلف (٢) البيّعان في صحّة المبيع وفساده ، بل علّله غير واحد منهم (٣) بأنّ الأصل السلامة ، وهو على إطلاقه كما ترى.

الثاني : هل قضيّة الأصل في الأفعال هو حملها على الصحيح ، أو لا؟ فتارة : في فعل النفس فقد عرفت الكلام فيه (٤) في الهداية السابقة بما (٥) لا مزيد عليه ، وأخرى : في فعل الغير فنقول : الأصل بمعنى الظاهر المستند إلى الغلبة في وقوع (٦) الأفعال صحيحا فهو أمر ظاهر في الغاية وإنّما الكلام في صحّتها (٧) كما مرّ آنفا.

وأمّا الأصل بمعنى أصالة العدم فيمكن تقريره بوجه يطّرد في جميع الموارد وهو أن يقال : إنّ قضيّة التديّن بدين الإسلام هو وقوع جميع أفاعيل المسلمين على وجه صدع أحكامها الصادع المقدّس ، إلاّ أن يمنع من وقوعها على وجهها ومشتملة على ما هي معتبرة فيها من إحراز الشروط ورفع الموانع مانع من سهو أو نسيان أو إسهاء أو عصيان ، والأصل عدمه ، فالمقتضي للصحّة موجود بالفرض والمانع مفقود بالأصل.

وفيه : أوّلا : أنّ غاية ما يقضي به الإسلام هو الاعتقاد بالصحّة في الأفعال الجامعة لشرائطها لا إيقاعها على وجهها كما هو المقصود ؛ إذ (٨) لا يعتبر في الإسلام بعد الاعتقاد

__________________

(١) « ز ، ك » : « فيها » بدل « فيا ».

(٢) « ز ، ك » : اختلفت!

(٣) انظر : المبسوط ٢ : ١٣٣ ؛ المهذّب لابن البراج ١ : ٤٠١ ؛ الدروس ٣ : ١١٧ ؛ جواهر الكلام ٣٧ : ٢٢٩.

(٤) « ج ، م » : ـ فيه.

(٥) « ز » : ممّا.

(٦) « ج ، م » : غلبة وقوع.

(٧) « ج ، م » : حجّيتها.

(٨) « ز ، ك » : أو.

٤٦٩

شيء ، وثانيا : أنّ للإنسان أيضا قوّة تقضي (١) بعدم وقوع الفعل على وجهها خلاف ما يقضي به (٢) الإسلام من قوّتيه الغضبية والشهوية ، وثالثا : أنّ الإسلام غاية ما يقضي به هو عدم صدور الفاسد عنه مع علمه بالحكم ، وأمّا الجهل فلا يقضي (٣) الإسلام بعدمه ، اللهمّ إلاّ على ما يراه ابن الجنيد من أنّ الأصل في المسلم العدالة إلاّ أن يكون معلوم الفسق. فكيف كان فالأصل على الوجه المذكور ممّا لا وجه له.

وقد يستند في إثبات هذه القاعدة إلى الأدلّة الأربعة :

أمّا الكتاب العزيز : فقوله تعالى : ( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ )(٤) وجه الدلالة أنّ النهي عن حصول الظنّ لكونه خارجا عن مقدرة (٥) المكلّف غير معقول ، فلا بدّ من أن يراد به النهي عن ترتيب (٦) أثر الإثم فيما فعله الفاعل ، وقوله تعالى : ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً )(٧) فإنّ المستفاد من بعض الروايات (٨) أنّ المراد القول في أفعالهم بحملها على الحسن دون الحمل على القبيح ، وبعد ذلك فدلالته ظاهرة على المطلوب ، بل وهو أوضح من الآية الأولى ؛ لاحتمال أن يقال : إنّ (٩) عدم ترتيب أحكام الإثم والنهي عنه لا يلازم ترتيب آثار الحسن على الفعل كما هو المقصود.

وأمّا السنّة : فكثيرة : منها : قول الأمير عليه‌السلام : « ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يغلبك منه ، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت سوء وأنت تجد له في الخير محملا » (١٠) وقول

__________________

(١) « ز ، ك » : يقضي وفي « ج » : تقتضي.

(٢) « ز ، ك » : ـ به.

(٣) « م » : فلا يقتضي.

(٤) الحجرات : ١٢.

(٥) « ك » : قدرة.

(٦) « ز ، ك » : ترتّب.

(٧) البقرة : ٨٣.

(٨) انظر الوسائل ١٦ : ٣٤٠ ـ ٣٤١ ، باب وجوب نصيحة المسلمين وحسن القول فيهم حتّى يتبيّن غيره ، من أبواب فعل المعروف : ح ٢ و ٣ ؛ بحار الأنوار ٧١ : ٣٤٠ ـ ٣٤١ ، باب ٢٠ ، ح ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٩) « ز ، ك » : ـ إنّ.

(١٠) الوسائل ١٢ : ٣٠٢ ، باب ١٦١ من أبواب أحكام العشرة ، ح ٣ ؛ بحار الأنوار ٧٢ : ١٩٦ و ١٩٩ ، ـ باب ٦٢ ، ح ١١ و ٢١. وأورد هذه الروايات سردا النراقي في عوائد الأيّام : ٢٢٢ وما بعدها ، عائدة ٢٣ في بيان قاعدة أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحّة.

٤٧٠

الصادق عليه‌السلام لمحمّد بن فضيل : « يا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولا وقال : لم أقله فصدّقه (١) وكذّبهم » (٢) ودلالتهما ظاهرة ، سيّما الأخير كما يشعر بذلك حكمه تكذيب السمع والبصر مع أنّهما من أظهر الحواسّ الظاهرة ، وقوله عليه‌السلام في رواية اليماني في عداد حقّ المؤمن على المؤمن « أن لا يتّهمه (٣) فلو اتّهمه انماث الإيمان في قلبه (٤) كما ينماث الملح في الماء » (٥) ومثله رواية أبي المأمون الحارثي واليماني (٦) أيضا بتغيير ما فيهما ، وقوله عليه‌السلام في رواية عمر بن يزيد : « من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما ، ومن عامل أخاه بمثل ما عامل به الناس فهو بريء عمّا ينتحل » (٧) وقوله عليه‌السلام في رواية أبي حمزة : « ولا يقبل الله من مؤمن وهو مضمر من (٨) أخيه المؤمن سوء » (٩) وقوله : « ملعون ملعون من اتّهم أخاه المؤمن » (١٠) إلى غير ذلك من الروايات.

وهي مع كثرتها ممّا لا يغني ولا يجدي ؛ لعدم دلالتها على المقصود في وجه ، لأنّ المراد هو إثبات قاعدة تقضي بحمل الأفعال على الصحيح فيما إذا دار الأمر بينه وبين الفاسد ، والصحّة والفساد غير ملازمين للحسن والقبح.

__________________

(١) في المصدر : قسامة وقال لك قولا فصدّقه.

(٢) الوسائل ١٢ : ٢٩٥ ، باب ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ، ح ٤.

(٣) « ج ، ز ، م » : ـ أن لا يتّهمه.

(٤) المثبت من « ك » وهو موافق للمصدر ، وفي سائر النسخ : ـ في قلبه.

(٥) الوسائل ١٢ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ، باب ١٢٢ من أبواب أحكام العشرة : ح ٨.

(٦) الوسائل ١٢ : ٢٠٧ ، باب ١٢٢ من أبواب أحكام العشرة ، ح ١٠ ، و ١٢ : ٣٠٢ ، باب ١٦١ من أبواب أحكام العشرة ، ح ١.

(٧) الوسائل ١٢ : ٣٠٢ ، باب ١٦١ من أبواب أحكام العشرة ، ح ٢.

(٨) في المصدر : على.

(٩) الوسائل ١٢ : ٢٩٩ ، باب ١٥٩ من أبواب أحكام العشرة ، ح ٢.

(١٠) الوسائل ١٢ : ٢٣١ ، باب ١٣٠ من أبواب أحكام العشرة ، ح ٥.

٤٧١

وغاية ما يسلّم من دلالة الآيتين والأخبار المذكورة أنّه لا بدّ من عدم حمل الأفعال على القبيح (١) لا حملها على الصحيح ، نعم لو كان كلّ قبيح فاسدا وكلّ صحيح حسنا كان الاستناد إلى مثل هذه الروايات والآيات في محلّه ، ولعلّ الملازمة أغلبية في العبادات ، وأمّا المعاملات فتباين المعنيين فيها غير خفيّ ، مضافا إلى أنّ الآية الثانية ظاهرها ملاحظة اللين في المعاشرة ، فإنّها بظاهرها نهي عن الغضاضة والغلاظة ، وقضيّة قول الأمير هو الحمل على الأحسن (٢) ، فلو تردّد الأمر بين القول بوقوع صلاة زيد في الدار أو في المسجد لا بدّ من القول بوقوعها فيه دون الدار ، والإجماع على خلافه ، فلا بدّ من تأويله بخلع معنى التفضيل عن اسمه (٣) ، فلا يزيد على سائر الأخبار المذكورة ، وقول الصادق عليه‌السلام لابن فضيل لا يدلّ على أزيد ممّا ذكرنا مع ما قد يستشكل فيه من أنّ تكذيب خمسين قسامة لتصديق (٤) واحد ممّا لا يعلم الوجه فيه ، إلاّ أنّه مدفوع بأنّ التكذيب في نفس الخبر لا غبار عليه لصدق (٥) الأوّل بملاحظة المخبر ، وكذب الثاني بملاحظة الخبر ، ولا تعارض.

على أنّ هذه الأخبار معارضة بجملة أخرى تدلّ على خلاف ذلك ، ففيها : « لا تثق بأخيك كلّ الثقة فإنّ سرعة (٦) الاسترسال لا (٧) تستقال » (٨).

وأمّا الإجماع : فهو ثابت نقلا وتحصيلا على ما هو الظاهر ، ويكشف عنه (٩) ملاحظة فتاوى الفقهاء في موارد جمّة من تقديم قول مدّعي الصحّة في موارد التداعي على

__________________

(١) « ز ، ك » : + « و » وشطب عليها في « ك ».

(٢) « ز ، ك » : الحسن.

(٣) شطب عليها في « ك » وكتب « أحسنه ».

(٤) « ز ، ك » : فصدق.

(٥) « ج » : فصدق.

(٦) في كثير من المصادر : « صرعة » وفي بعضها كما في المتن.

(٧) « ج ، ز ، م » : « من »! وما في المتن ورد في بعض المصادر وفي بعضها الآخر : « لن ».

(٨) الوسائل ١٢ : ١٤٦ و ١٤٧ ، باب ١٠٢ من أبواب أحكام العشرة ، ح ١ و ٤ ، وورد الحديث في كثير من الكتب الخاصّة والعامّة.

(٩) « ز ، ك » : « عن » بدل « عنه ».

٤٧٢

مدّعي الفساد ، وغير ذلك ممّا لا يمكن اختفاؤه على من سلك سبيل الفقه ولو لحظة (١) ، مع اعتضاده بالسيرة القاطعة المستمرّة المتّبعة فإنّ بناء العمل خلفا عن سلف على حمل الأفعال الصادرة عن العباد ـ عبادة ومعاملة على أنحائها المختلفة وأقسامها ـ على الصحيح ، ويكفيك ملاحظة الأعمال الصادرة عنهم في مقامات متفاوتة كما لا يخفى (٢).

وأمّا العقل : فدلالته على هذا الأصل الشريف أظهر من أن ينكر وأوضح من أن يحرّر ؛ إذ (٣) لولاه لاختلّ النظام وينهدم ما عليه القوام فلا يتأتّى التصرّف في الأموال ولا التمتّع منها ولا تقوم (٤) جماعة للمسلمين ولا سوق ، بل لا يمكن المعاش في البلدان (٥) وشواهق الجبال والبرايا ، وذلك أمر ظاهر جدّا ، إلاّ أن يناقش في ذلك بأنّ بعد إعمال الأصول المقرّرة في الشريعة من الاستصحاب المعتبر في الموضوعات واليد والإقرار (٦) ونحوها لا نسلّم لزوم الاختلال على تقدير الإهمال ، ومع ذلك فالإنصاف ممّن جانب الاعتساف قاض باللزوم كما هو ظاهر جدّا.

وبالجملة : فالعمدة في إثبات هذا الأصل هو الإجماع والسيرة والوجه العقلي.

الثالث : قد عرفت (٧) أنّ الشيخ الجليل البارع صرّح بأنّ (٨) الأصل في الأقوال الصحّة (٩) ، وتحقيق القول فيه أنّ القول يلاحظ من وجوه : فتارة : من حيث إنّه فعل من الأفعال مع قطع النظر عن الدلالة ، وأخرى : من حيث إنّه دالّ على المعنى الموضوع تحقيقا أو تقديرا ، وتارة : من حيث مطابقة النسبة المأخوذة فيه للواقع وعدمها.

لا إشكال في لزوم حمله على الصحيح فيما لو دار بينه وبين الفاسد من حيث إنّه

__________________

(١) « ك » : ولاحظه.

(٢) في هامش « م » ـ ولم يتحقّق لي موضعه ـ : لادّائه إلى سوء الحال والمنايا ، فيجب لتقرأه.

(٣) « ك » : « و » بدل « إذ ».

(٤) « ج ، م » : يقوم.

(٥) « ز ، ك » : معاش البلدان.

(٦) زاد هنا في هامش « م » : وقاعدة الطهارة.

(٧) عرفت في ص ٤٦٧.

(٨) « ج » : « بجريان » بدل « بأنّ ».

(٩) « ج ، ز ، م » : ـ الصحّة.

٤٧٣

تحريك للأعضاء على وجه يوجد به الصوت المعتمد على بعض المخارج بعد ما عرفت من لزوم الحمل في مطلق الأفعال ؛ لأنّه منه.

كما أنّه لا ريب في لزوم الحمل على الصحيح فيما لو شكّ في القول من الجهة الثانية بمعنى أنّه لو شكّ أنّ القول الصادر من فلان هل هو صادر منه تعزيرا (١) ، أو (٢) استهزاء ، أو هو صادر منه إظهارا لما يكشف عنه ذلك القول؟ فاللازم حمله على الثاني ؛ لكونه هو الغالب في المحاورات ولولاه لا نسدّ باب المحاورة وانفتح طريق المكابرة.

وأمّا الكلام من الجهة الثالثة فتحقيقه أن يقال : لا كلام في قول غير المسلم ، وأمّا المسلم مطلقا فلا دليل على حمل قوله على الواقع وترتيب آثار المطابقة عليه ، أمّا (٣) الأدلّة المتقدّمة فالآيتان والأخبار منها قاضية بعدم حملها على الكذب المخبري وهو أعمّ من صدق الخبر كما هو المطلوب ، والإجماع فقده في محلّ الخلاف ظاهر ، والعقل غير قاض بذلك بعد (٤) اعتبار قول ذي اليد والإقرار في الملك والطهارة والنجاسة ، أمّا (٥) الأدلّة التي يتوهّم نهوضها في المقام فمنها قوله تعالى : ( يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ )(٦) وقوله عليه‌السلام : « إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم » (٧) وقوله في حقوق المؤمن : « أن لا يكذّبه » (٨) وقوله : « المؤمن وحده حجّة » (٩) ولا دلالة في شيء منها على المطلوب ؛ لظهورها جميعا سوى الأخير في لزوم التصديق المخبري وعدم تكذيبهم بإنشائهم قولا

__________________

(١) « ك » : تعييرا.

(٢) « ز ، ك » : و.

(٣) « ز ، ك » : وأمّا.

(٤) « ج » : لعدم.

(٥) « ج » : وأمّا.

(٦) التوبة : ٦١.

(٧) وسائل الشيعة ١٩ : ٨٣ ، باب ٦ من كتاب الوديعة ، ح ١ ، وفيه : « المؤمنون » بدل : « المسلمون ». وتقدّم في ص ٤١٨.

(٨) وسائل الشيعة ١٢ : ٢٠٧ ، باب ١٢٢ من أبواب أحكام العشرة ، ح ١٠ ؛ مستدرك الوسائل ٩ : ٤٥٦ ، باب ١٠٥ من أبواب أحكام العشرة ، ح ١٦.

(٩) وسائل الشيعة ٨ : ٢٩٧ ، باب ٤ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ٥.

٤٧٤

مخالفا للواقع عملا (١) في اعتقادهم ، وأمّا صدق نفس الخبر ممّا لا رائحة فيها وقد أشبعنا الكلام في ذلك في مباحث الظنّ (٢) ، وأمّا الرواية الأخيرة فهي مجملة في غاية الإجمال فكيف يكون المؤمن الواحد حجّة في أفعاله وأقواله؟ ولا إشكال في ذلك وإنّما الإشكال في أنّ الأصل في خبر العادل هو القبول خرج ما خرج من الشهادة ، فلا يكفي فيها إلاّ عادلان ، أو عدم القبول ، ويثمر ذلك في الوكالة والنيابة ونحوها وقد ذكرنا (٣) ذلك مفصّلا في محلّه في مباحث الظنّ فراجعه متأمّلا مغتنما ، والله الموفّق الهادي إلى طريق السداد وسبيل الرشاد (٤).

الرابع : هل يحمل الاعتقاد على الصحّة ، أو لا؟ و (٥) الحقّ هو الأوّل من حيث نفس الاعتقاد ، فلا يترتّب عليه الآثار (٦) المترتّبة على فساد نفس الاعتقاد ، فيحكم (٧) بأنّ اعتقاده (٨) حاصل من الوجوه التي ينبغي تحصيل الاعتقاد (٩) منها دون الوجوه التي لا يجوز تحصيله منها ، وأمّا صحّته على وجه يتسرّى إلى صحّة المعتقد فلا دليل عليه.

ثمّ إنّ ما ذكرنا في الأفعال ـ من لزوم حملها على الصحيح فيما لو دار بينه وبين الفاسد نظرا إلى اختلال نظام المعاش ـ إنّما هو قضيّة إجمالية ولا بدّ في تفصيلها من التنبيه على أمور :

منها : هل الأصل المذكور ممّا يتساوى فيه العالم والجاهل بالأحكام الشرعية أو لا؟ فنقول : إنّ الصور المتصوّرة في المقام عديدة : فتارة : نعلم بأنّ الفاعل عالم بالأحكام

__________________

(١) « ج ، م » : عمدا.

(٢) لم يتقدّم ؛ لأنّ نسخ المطارح كانت ناقصة في ذلك المبحث.

(٣) « ز ، ك » : ذكر.

(٤) « ز ، ك » : والله الهادي.

(٥) كذا. والأنسب بدون « و ».

(٦) « ز » : آثار.

(٧) « ز ، ك » : والحكم.

(٨) « ز ، م » : بأنّ اعتقاد ، ثمّ غيّر في « م » ظاهرا بـ « أنّه اعتقاد ».

(٩) « ز ، ك » : تحصيلها للاعتقاد.

٤٧٥

الشرعية عبادة كانت أو معاملة ، ولا ينبغي الارتياب في لزوم حمل فعله على الصحيح ولا سيّما إذا لم يكن ممّن لا يبالي بالأحكام الشرعية ، وأمّا إذا كان منهم كما يرى في بعض الظلمة والفسقة من علمهم بوجوه الصحّة وضروب الفساد فالظاهر نهوض الأدلّة السابقة من السيرة وغيرها على الحمل وذلك ظاهر.

وأخرى : لا نعلم أنّه عالم أو جاهل ، سواء كان ممّن يبالي بالأحكام الشرعية أو لم يكن ، أو لم نعلم بأنّه من أيّ القسمين ، والظاهر أنّ هذه الصورة أيضا بصورها (١) ممّا لا إشكال فيها ، فيجب الحمل على الصحيح للأدلّة السابقة.

ومرّة : نعلم بأنّه جاهل بالأحكام الشرعية ، كما إذا اختلف المتعاقدان في وقوع العقد في الإحرام أو في الإحلال مع العلم بجهلهما بالحكم الشرعي من عدم الصحّة في الإحرام ، فهل يحكم بوقوعه صحيحا ، أو لا؟ وجهان : يظهر من سيّد المدارك (٢) الثاني (٣) ، والظاهر هو الأوّل ؛ لقيام السيرة على الحمل ، ولعلّها ليس بمحلّ لا يقبل إنكارها (٤) ، فتدبّر.

وتارة : يعلم بوقوع الفعل من المسلم على وجه الفساد الظاهري ، كما إذا باع أحد أطراف الشبهة المحصورة ، فهل يجب الحمل على الصحيح بالقول بأنّ الواقع هو كون المبيع هو الفرد الجائز نقله وانتقاله ـ مثلا ـ من باب البخت والاتّفاق ، أو لا؟ الظاهر هو الثاني ، لعدم ما يدلّ على ذلك في خصوص الفرض وهو ظاهر لا سترة عليه.

ومنها : هل يجري أصالة الصحّة في كلّ ما يتعلّق بالعقد شرطا كان أو جزء ، ركنا كان أو غيره ، أو يختصّ بغير الأركان؟ وجهان : يستفاد من ثاني المحقّقين (٥) الثاني ، فلا محلّ عنده لأصالة الصحّة ما لم يكن أركان العقد محرزا. نعم لو شكّ في الصحّة وعدمها

__________________

(١) « ز ، ك » : تصورها.

(٢) مدارك الأحكام ٧ : ٣١٥.

(٣) « ز ، ك » : ـ الثاني.

(٤) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : إنكاره.

(٥) جامع المقاصد ٧ : ٣١١.

٤٧٦

بواسطة عدم إحراز شرط كالقبض في الصرف أو من جهة وجود مانع ، فلا بأس في الاستناد إلى الأصل المذكور.

والظاهر هو الأوّل ؛ لانتهاض الوجوه المتقدّمة في المقام من غير فرق بين الأجزاء والأركان وغيرها ، ولعلّ الوجه فيما ذهب إليه هو أنّ دليل الحمل عنده ليس إلاّ عموم قوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) تحكيما له في الشبهة المصداقية ، فعلى هذا لا بدّ من إحراز ما به يصدق العقد على المشكوك من الأركان ، وأمّا بدونه فلا يصدق أنّه عقد فلا يشمله عموم ( أَوْفُوا ).

وبعبارة أخرى : إنّ الشكّ إذا كان في وجود المقتضي فلا تنهض (٢) الآية الشريفة دليلا على الصحّة في العقد فإنّها (٣) مقيّد بالقيود التي اعتبرها الشارع في صحّتها ، فلا يصحّ التمسّك بالآية ما لم يحرز المقتضي للصحّة وهو الذي يعبّر عنه بالأركان ، وأمّا إذا أحرز المقتضي وكان الشكّ في ثبوت شرط أو رفع مانع فيصحّ التمسّك بالآية في رفع (٤) الشكّ.

وفي كلّ من التفصيل والمبنى نظر ، أمّا المبنى فلأنّ التمسّك بالعامّ المخصّص بمجمل (٥) في الشبهة المصداقية محلّ منع ؛ إذ وجوب الوفاء بالعقد مخصّص لا محالة ، والمفروض وقوع الشكّ في أنّ المورد الخاصّ من الأفراد التي لم يصادفها (٦) التخصيص أو لا ، فكيف يتأتّى الاستناد إلى (٧) العامّ في مثل المقام.

وأمّا أصل التفصيل فلأنّ قضيّة ما ذكره التفصيل بين ما هو من أجزاء المقتضي جزء كان أو شرطا ، وبين المانع ؛ إذ (٨) الشروط قد يلاحظ في كلمات الشارع على وجه

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : لا ينهض.

(٣) في النسخ : فإنّه.

(٤) « ج » : دفع.

(٥) « ك » : بالمجمل.

(٦) « ز ، ك » : لم يصادقها.

(٧) « ز ، ك » : في.

(٨) « ك » : « و » بدل : « إذ ».

٤٧٧

يحتمل أن يكون من أجزاء المقتضي.

نعم ، على تقدير اختصاص ذلك بالموانع يصحّ ما ذكره ، مع أنّ أصالة عدم المانع أيضا (١) تجدي هذه الجدوى كما لا يخفى ، ولعلّه لذلك قد عدل عن المقالة المذكورة إلى جريان الأصل في الشروط أيضا في مقام (٢) ، فإنّها تظهر منه عند شرح قول العلاّمة في كتاب الضمان : ولا يصحّ من الصبيّ وإن أذن له الولي ، فلو اختلفا قدّم قول الضامن ؛ لأصالة براءة ذمّته (٣) ، وليس لمدّعي الأهلية أصل يستند إليه ولا ظاهر يرجع إليه. فإنّه (٤) أفاد في توجيه كلام العلاّمة ما ذكرنا من التفصيل (٥) ـ (٦) ، وصرّح بذلك في موضع آخر في كتاب الإجارة أيضا (٧) وقال ـ فيما إذا قال البائع : بعتك وأنا صبيّ ـ بتقديم قول مدّعي الصحّة واندفاع أصالة عدم البلوغ بهذا الأصل (٨) ، فتدبّر.

ومنها : إذا اتّحدت الصحّة عند الفاعل والحامل ، أو كانت الصحّة عند الفاعل أخصّ ، فلا إشكال في الحمل على الصحيح عند دوران الأمر بينه وبين الفاسد ، والوجه فيه ظاهر سيّما على الأخصّية.

وأمّا إذا كانت الصحّة عند الفاعل مباينة للصحّة عند الحامل كما إذا رأى الفاعل أنّ الأخرس طلاقه بالإشارة ـ مثلا ـ ولا يقع بالكتابة ، ورأى الآخر أنّ الأخرس طلاقه بالكتابة ولا يقع بالإشارة ، فهل يحمل الفعل على الصحيح عند العامل ، أو عند الحامل؟ وجهان : أظهرهما الحمل على الصحيح عند الفاعل ؛ إذ ربّما يعدّ ذلك من الحمل على الفاسد ولو عند العامل ، بل قد يكون عند العامل حمله على ما هو عند

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ أيضا.

(٢) « ز ، ك » : ـ في مقام.

(٣) المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : « ذمّتها ».

(٤) « ز ، ك » : لأنّه.

(٥) « ز ، ك » : التفاصيل.

(٦) جامع المقاصد ٥ : ٣١٥.

(٧) جامع المقاصد ٧ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ و ٣١١ ، و ٨ : ١٧٥ ( كتاب القراض ).

(٨) جامع المقاصد ٤ : ٤٥٢.

٤٧٨

الحامل معصية (١) كما لا يخفى ، فيشمله أدلّة النهي عن الحمل على الفساد.

وأمّا إذا كانت الصحّة عند الحامل أخصّ من الصحّة عند العامل والفاعل عكس الصورة الأولى ، فعند العلم بوقوعه على وجه يوافق مذهب الحامل فلا إشكال أيضا في الحمل ، وأمّا مع عدم العلم بالمخالفة والمباينة فيصير مثل ما إذا تباينت (٢) الصحّتان رأسا ، فلا بدّ من الحمل على الصحيح عند العامل ؛ لأنّ الحمل (٣) على ما هو الصحيح عند الحامل إنّما هو حمل على الفاسد ، وهل يحكم بترتيب الآثار بالنسبة إلى غير العامل عند العلم بوقوعه على وجه المخالفة والمباينة ، أو لا؟ وجهان ، فلو حكم أحدهما بصحّة المعاطاة ـ مثلا ـ وحكم الآخر بالفساد مع علمه بوقوع المعاطاة من الحاكم بالصحّة ، فعلى الأوّل يجوز التصرّف في المبيع المزبور من غير الفاعل ، وعلى الثاني لا يجوز ، والكلام في هذه المسألة خارج عمّا نحن بصدده ، فإنّ الموضوع (٤) المفروض ممّا علم فيه وجه الفعل والمعتبر في أصالة الصحّة عدم العلم بوجه الفعل كأن يكون مردّدا بين وجهي الصحيح والفاسد.

وتحقيق المقام مذكور في محلّه وملخّصه : أنّ مدرك الحكم المذكور إذا كان من المدارك التي يتعاطونها أرباب الاستنباط وأصحاب الاجتهاد من الأخبار والكتاب والعقل والإجماع (٥) ، فإن كان الفعل المذكور من قبيل العبادات فلا يحكم بالصحّة فلا يصحّ استنابة من يرى عدم وجوب السورة مع العلم بعدم قراءتها للصلاة ولا يصحّ الايتمام به ، وكذا إذا كان من الأحكام فلا يحلّ أكل الذبيحة التي يرى بعضهم حلّيتها عند فري الودجين مثلا ، وأمّا إذا كان (٦) الفعل معاملة كما إذا باع أحدهما بالفارسية أو

__________________

(١) « ج » : بمعصية.

(٢) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : تبانت.

(٣) « ز ، ك » : ـ لأنّ الحمل.

(٤) في النسخ : موضوع.

(٥) « ز ، ك » : الإجماع والعقل.

(٦) من قوله : « من الأحكام فلا يحلّ » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».

٤٧٩

بالمعاطاة فالذي قوّيناه (١) في محلّه هو إمضاء هذه المعاملة بترتيب (٢) آثار الملك عليها ، والوجه في الفرق بينهما مذكور في محلّه ، وأمّا إذا كان المدرك أمرا باطلا فلا عبرة به قطعا.

ومنها : هل الأصل المذكور يعمّ المسلم بأقسامه من المؤمن والمخالف والكافر أيضا ، أو يختصّ (٣) بالمسلم (٤) مطلقا ، أو يخصّ (٥) المؤمن فقط؟ وجوه : أقواها الأوّل ؛ لقيام السيرة المستمرّة على حمل أفعال المخالفين والكفّار على الصحيح فيرتّبون (٦) عليها آثارها المطلوبة منها من النقل والانتقال وإن كان ظاهر العنوان مخالفا لما ذكرنا كظاهر قول الأمير عليه‌السلام : « ضع » (٧) لانتفاء الاخوة بين المؤمن والمخالف والكافر. ولك أن تقول : إنّ ترتيب (٨) الآثار على تلك الأفعال ليس بواسطة حمل أفعالهم على الصحيح فيما لو دار بينه وبين الفاسد ، بل بواسطة وجوب إلزامهم على أمر ألزموا (٩) به أنفسهم كما هو مفاد النصّ ، فيجوز التصرّف في المتعارضين في عقودهم وإن كان باطلا عندنا كما في ثمن الخمر ، ولا تحلّ (١٠) لنا نساؤهم إلى غير ذلك من الآثار ما لم تكن (١١) متجاوزة عنهم إلينا ، وأمّا مع التجاوز كما في معاملتهم بشيء معاملة الطهارة أو النجاسة فلا يحمل على الصحّة كما لا يخفى.

ومنها : أنّ أصالة الصحّة لا تقضي (١٢) إلاّ بإثبات (١٣) الصحّة من الجهة المشكوكة ،

__________________

(١) « ز ، ك » : قرّبناه.

(٢) « ز ، ك » : بترتّب.

(٣) « ز ، ك » : « يخصّ ».

(٤) « ك » : المسلم.

(٥) « ج ، م » : يختصّ.

(٦) المثبت من « ز » وفي سائر النسخ : فيترتّبون.

(٧) تقدّم في ص ٤٧٠.

(٨) « ز » : ترتّب.

(٩) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ما لو لزموا.

(١٠) في النسخ : ولا يحلّ.

(١١) المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : لم يكن.

(١٢) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : لا تقتضي.

(١٣) « ك » : إثبات.

٤٨٠