مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

الأنظار الدقيقة ؛ لأنّ الوجه في ظهور الاستصحاب ليس على ما قيل إلاّ غلبة بقاء الموجودات الممكنات ، ولا ريب في أنّ هذه الغلبة غلبة جنسية لا تكاد تقابل (١) الغلبة الصنفية ، فإنّ الأغلب فيما يوجد في أيدي الناس في معاملاتهم وتقلّباتهم له المحتملة بين وجوه السلطنة وضروب الاستيلاء من الملكية والإجارة والوكالة والوديعة والعارية والعداوة المردّدة بينها أن يكون على وجه الملكية ، فالظنّ حاصل بانتقاض الحالة السابقة التي هي (٢) المناط في الاستصحاب.

ولو لا تقديم اليد على الاستصحاب لم يقم للمسلمين سوق ؛ إذ الأغلب سبق الأعيان الموجودة في الأيدي بالحالة السابقة المنافية (٣) لمقتضى اليد ، ولا فرق في ذلك بين قيام البيّنة على الحالة السابقة أو علمنا بخلاف مقتضى اليد ؛ لعدم التنافي (٤) بين مفاديهما ، فإنّ قضيّة البيّنة هي ملكية العين قبل اليد لغير صاحب اليد ، وقضيّة اليد هي الملكية حالة الاستيلاء ، ولا منافاة بينهما ؛ لإمكان الجمع بينهما ، إذ لا يعقل أن تكون (٥) الأمارة المنزّلة منزلة العلم أعلى شأنا من نفس العلم.

نعم ، لو أقرّ ذو اليد على أنّ الموجود في يده كان ملكا لغيره قبل حدوث يده لم يحكم بمقتضى اليد لا لأجل تقديم (٦) الاستصحاب على اليد ـ كما زعمه بعض مشايخنا المعاصرين على ما يظهر من كلامه في بعض فروع المسألة من قوله : من أنّ المتيقّن من أدلّة اليد هو فيما إذا لم يعارضها الاستصحاب فإنّ ذلك بمكان من البعد ـ بل من حيث إنّ الإقرار منضمّا إلى اليد دليل على دعوى انتقال الملك من المقرّ له إليه ، فعليه إقامة ما يثبت به الدعوى من بيّنة ونحوها ، وبذلك يظهر الفرق بين الإقرار والبيّنة ، فإنّ الإقرار من حيث إنّه فعله يدلّ بالالتزام على انتقاله منه إليه ، دون البيّنة فإنّه لا دلالة

__________________

(١) « ز ، ك » : لا يكاد يقاوم.

(٢) « ج ، م » : هو.

(٣) « ز ، ك » : النافية.

(٤) « م ، ك » : المنافي.

(٥) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يكون.

(٦) « ز ، ك » : تقدّم.

٤٤١

فيها على ذلك كما في صورة العلم ، فلو لم نقل باعتبار الاستصحاب كان الوجه (١) هو ما ذكرنا أيضا وذلك ظاهر.

وفي المقام إشكال آخر وهو أنّهم شكر الله مساعيهم (٢) لم يفرّقوا في موارد اليد والحكم بتقديمها على الاستصحاب بين ما هو موجود في الأيدي بحسب الظاهر المتعارف من الاستيلاء والسلطنة ، كاستيلاء الرجل على ملبوسه ومأكوله وداره وما يتقلّب به فيها من أثاث وفراش (٣) وغير ذلك من العقار والمنقول من خيل وأنعام ونحوها ، وبين ما ليس في اليد بحسب ما هو المتعارف فيها ، كالكنز المدفون في الدار المنقولة إلى الغير بسبب من الأسباب الشرعية ، وكالجوهرة المكنونة في جوف الدابّة والسمكة ، فإنّ اليد على الكنز وتلك الجوهرة إنّما هو بواسطة السلطنة على الدار والدابّة وليس للمالك (٤) عليها سلطنة ابتداء كما في غيرها ، فحكموا بتقديم اليد على الاستصحاب في أمثال المقام كما يظهر من حكمهم بوجوب تعريف المال المذكور للمالك المنتقل منه الملك إليه لو كان حيّا ولوارثه لو كان ميّتا مع عدم نهوض المناط في التقديم في هذا القسم ؛ لعدم ظهور في ذلك لا شخصا ولا نوعا.

اللهمّ إلاّ أنّ يقال : إنّ حكمة التشريع في اليد هي استفادة الظهور منها بكون (٥) ما في اليد ملكا لذيها ولا يجب الاطّراد في ذلك ، إلاّ أنّ هذا مجرّد ادّعاء لم يقم عليه دليل ولا وفت به بيّنة ، ولذلك لا يكون المقام خاليا عن الإشكال كما تشعر (٦) به عبارة المدارك (٧) وإن عاتبه بعض من تأخّر عنه (٨) في ذلك بما ليس في محلّه.

__________________

(١) « ز » : كما انّ الوجه.

(٢) « ز ، ك » : ـ شكر الله مساعيهم.

(٣) « ز ، ك » : من أساس ومتاع وفراش.

(٤) « ز ، ك » : ممالك.

(٥) « ك ، م » : يكون.

(٦) « ز ، ك » : يشعر.

(٧) المدارك ٥ : ٣٧٢.

(٨) غنائم الأيّام ٤ : ٣٠٠ ، انظر كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ١٤٣ ـ ١٤٤.

٤٤٢

نعم ، هناك أخبار يدلّ على وجوب التعريف في بعضها صراحة كما في رواية الصرّة (١) الموجودة في جوف الأضحية يوم النحر ، وعناية في غيرها بدعوى اتّحاد المناط ونحوه ، والله الموفّق وهو (٢) الهادي.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٥٢ ، باب ٩ من كتاب اللقطة ، ح ١ و ٢.

(٢) « ز ، ك » : ـ الموفّق وهو.

٤٤٣
٤٤٤

هداية

[ في تعارض الاستصحاب مع قاعدة التجاوز ]

في بيان الحال في تعارض الاستصحاب مع الأصل المدلول عليه بجملة من الأخبار المعتبرة الآتية إن شاء الله المعبّر (١) عنه بأصالة وقوع الفعل عند الشكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ، وتحقيق الكلام فيه في مقامين :

المقام الأوّل

في أصل مشروعية الأصل المذكور ، فنقول : إنّما يدلّ على الأصل المذكور بعد منقول الإجماع على ما نقله الأستاد دام عزّه المستفيضة (٢) من الأخبار :

أحدها : الموثّق : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » (٣).

وثانيها : الخبر المنقول عن الصادق عليه‌السلام : « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فليس شكّك بشيء » (٤).

وثالثها : قوله عليه‌السلام أيضا : « كلّ شيء [ شكّ فيه ممّا ] قد جاوزه ودخل في غيره فليمض

__________________

(١) « ز ، ك » : المعبّرة.

(٢) « ز ، ك » : ـ المستفيضة.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٤٧٠ ، باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، ح ٢.

(٤) سيكرّره في الحديث السابع فلاحظ تخريجه هناك.

٤٤٥

عليه » (١).

ورابعها : صحيحة زرارة ففيها : « فإذا قمت من الوضوء وقد فرغت عنه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشكّك في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله عليك [ فيه وضوءه ] لا شيء عليك فيه » (٢).

وخامسها : رواية محمّد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام : رجل شكّ في الوضوء بعد ما فرغ عن الصلاة؟ قال عليه‌السلام : « مضى على صلاته ولا يعيد » (٣).

وسادسها : مضمرة بكير بن أعين قال : قلت له الرجل يشكّ بعد ما توضّأ (٤)؟ قال :

« هو حين ما يتوضّأ (٥) أذكر منه حين يشكّ » (٦).

وسابعها : صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : رجل شكّ في التكبير وقد قرء؟ قال عليه‌السلام : « يمضي » قلت : رجل شكّ في الركوع وقد سجد؟ قال عليه‌السلام : « يمضي » ثمّ قال عليه‌السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء » (٧).

وثامنها : الصحيح المشتمل على قوله عليه‌السلام : « وإن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (٨).

وتاسعها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد

__________________

(١) سيكرّره في الحديث الثامن فلاحظ تخريجه هناك.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٤٦٩ ، باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، ح ١.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٤٧٠ ، باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، ح ٥ ، وفيه : « يمضي ».

(٤) في المصدر : يتوضّأ.

(٥) في المصدر : حين يتوضّأ.

(٦) وسائل الشيعة ١ : ٤٧١ ، باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، ح ٧.

(٧) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ ، باب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ١.

(٨) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٨ ، باب ١٣ من أبواب الركوع ، ح ٤ ، و ٣٦٩ ، باب ١٥ من أبواب السجود ، ح ٤.

٤٤٦

مضى فامضه كما هو » (١).

وعاشرها : ما رواه في الوسائل عن قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل ركع وسجد ولم يدر هل كبّر أو قال شيئا في ركوعه وسجوده؟ هل يعتدّ بتلك الركعة والسجدة؟ قال عليه‌السلام : « إذا شكّ فليمض في صلاته » (٢).

فتلك عشرة كاملة إلى غيرها من الأخبار الواردة في هذا المضمار ، ولا كلام في استفادة ما ذكر (٣) منها ؛ لظهورها فيه ، وكثرة الأخبار والاعتبار عند الأصحاب تغنينا عن تجشّم تصحيح أسانيدها ، فلا يعتدّ بما قيل من ضعف في بعض رواتها (٤) أو إضمار في بعضها أو إرسال في آخر.

إنّما الكلام في أنّ هذه القاعدة هل بعمومها شاملة لما إذا شكّ في الشيء وجودا و (٥) صفة ، أو يختصّ بالوجود فقط وليست شاملة لما إذا شكّ في اعتبار كيفية زائدة على نفس الوجود في الشيء؟ فلو شكّ في نفس الوضوء ووجوده ، فلا إشكال في أنّ الأصل وقوعه بعد تجاوز محلّه على ما ستقف على تفاصيله. وأمّا لو شكّ في الوضوء لا في وجوده ، بل فيه بمعنى تعلّق الشكّ بما هو معتبر فيه من جزء أو شرط ونحوه ، فعلى الأوّل تدخل في القاعدة الشريفة المزبورة ، وعلى الثاني لا تدخل إلاّ أن يلاحظ ذلك الجزء بنفسه من غير تعلّق له بشيء آخر ، فيكون من موارد القاعدة الشريفة (٦).

فيه إشكال ، وتوضيح الكلام وتحقيق المقام هو أن يقال : إنّ هناك قاعدتين : إحداهما : أصالة وقوع الفعل عند الشكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ، والأخرى : أصالة حمل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٨ ، باب ٢٣ من أبواب الخلل في الصلاة ، ح ٣.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٩ ، باب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٩ ؛ قرب الإسناد :

١٩٨ ، ح ٧٥٥ ، وفي ط الحجري : ٩١.

(٣) « ز ، ك » : ذكرنا.

(٤) في هامش « م » : فإنّه قد يناقش في وثاقة بكير.

(٥) « ك » : أو.

(٦) « ز ، ك » : المذكورة.

٤٤٧

فعل المسلم على الصحّة وستعرف تفصيل الكلام في الأخيرة ـ إن شاء الله ـ في محلّها (١) ، ولا إشكال في شمول تلك القاعدة للموارد التي يشكّ فيها في غير الوجود على تقدير التسرية من فعل الغير إلى فعل النفس كما ستطّلع عليها ، وإنّما الإشكال في شمول القاعدة التي نحن بصددها لهذه الموارد ، ووجه الإشكال أنّ الظرفية المستفادة من كلمة « في » في قوله : « فيه » في الأخبار المذكورة تارة : يراد بها الظرفية المتداولة عندهم في قولهم : « شكّ في شيء » يعني شكّ في أصل وجوده وعدمه ، فكلمة « في » صلة مبيّنة (٢) لما وقع في (٣) محلّ الشكّ ولما هو مشكوك ، كما في اللام الداخلة على المراد المبيّنة (٤) لأنّ ما دخلته هو المراد. وتارة (٥) : يراد بها الظرفية التي ليست من هذا القبيل ، فالشكّ (٦) في شيء معناه الشكّ في أثنائه لا في نفسه ووجوده.

ولا ريب أنّ المعنيين مختلفان (٧) ولا جامع بينهما ، فإن أريد من قوله : « فيه » المعنى الأوّل كما هو الظاهر من قولهم : « شكّ فيه » فلا ريب في عدم اشتمال القاعدة المزبورة لهذه الموارد إلاّ أن يرجع الشكّ إلى نفس ذلك الشيء الذي شكّ باعتباره في أثناء المشكوك فيه كما عرفت وإن كانت هذه الموارد مشمولة لقاعدة حمل الفعل على الصحّة على تقدير التسرية.

وإن أريد من قوله : « فيه » المعنى الثاني فيلزم خروج الموارد التي شكّ في نفس العمل وإن شملت الموارد التي حصل في العمل شكّ مع بعده عن مساق الرواية ، مضافا إلى لزوم تخصيص مورد الخبر ، فإنّ الشكّ في أجزاء الوضوء حين الاشتغال به ممّا يعتدّ به ولا بدّ من الأخذ بأصالة العدم فيها.

__________________

(١) وهو في الهداية الآتية.

(٢) « ك » : مبنيّة ( ظ ) وفي « ج » : مثبتة.

(٣) « ج ، م » : ـ في.

(٤) « ك » : المبنية ( ظ ) وفي « ج » : المثبتة ( ظ ).

(٥) في النسخ : فتارة.

(٦) « ج » : فانّ الشكّ.

(٧) « ج » مختلفين.

٤٤٨

وإن أريد من قوله : « فيه » كلاهما يلزم إرادة المعنيين من لفظ واحد مع ما قرّر في (١) محلّه من شناعة (٢) مثله ، اللهمّ إلاّ أن يتمسّك بذيل ما يجمع بين المعنيين من القدر المشترك وهو بعيد في الغاية.

فالأولى إرجاع الشكوك الأثنائية إلى الشكوك الوجودية بملاحظة وجود نفس الجزء أو الشرط وإيجاد الكيفية التي باعتبارها حصل الشكّ في العمل المشتمل عليها كما لا يخفى.

المقام الثاني

في تعارض الاستصحاب مع هذه القاعدة ، فنقول : الحقّ حكومة هذه القاعدة على الاستصحاب أيضا ؛ لمكان تعرّض أخبارها لفظا لأخبار الاستصحاب على ما عرفت في غيرها من الموارد ، وإن أبيت عن ذلك فلا إشكال في تقدّمها على الاستصحاب ؛ لمكان أخصّية هذه الأخبار عن أخبار الاستصحاب ، كما في أخبار البناء على الأكثر عند الشكّ في عدد الركعات ، على أنّ الإمام عليه‌السلام إنّما قدّم تلك القاعدة في مواردها على الاستصحاب ، ولو لم يكن هذه القاعدة مقدّمة عليه لم يتحقّق لها مورد أصلا ؛ لاستحالة انفكاكه عنها في شيء من مواردها ، وذلك أمر ظاهر لا سترة عليه.

وينبغي التنبيه على أمور :

[ لتنبيه ] الأوّل

هل المستفاد من هذه الأخبار هو الحكم بوجود المشكوك فيه ليترتّب مطلقا (٣) عليه جميع ما يترتّب على وجوده واقعا من الآثار الشرعية كما في الاستصحاب

__________________

(١) « ج ، ز » ونسخة بدل في « م » : من.

(٢) « ك » : امتناع.

(٣) « ز ، ك » : ـ مطلقا.

٤٤٩

الوجودي ، أو وقوعه من الحيثية التي وقع الشكّ باعتبارها فقط لا الحكم بوجوده مطلقا فلا يترتّب عليه إلاّ الآثار الشرعية التي تلحق المشكوك بالحيثية (١) التي يصدق باعتبارها التجاوز عن محلّ المشكوك؟ وجهان ، بل يمكن أن يقال قولان :

يظهر من فيلسوف القوم الشيخ الجليل كاشف الغطاء في مقدّمات الكشف (٢) القول بالوجود.

والحقّ على ما يقتضيه القواعد الراجعة إلى استفادة الأحكام من الأدلّة هو الثاني على ما أفاده الأستاد أنار الله برهانه (٣).

ويظهر الثمرة في ترتيب غير الآثار المترتّبة على تلك الحيثية من الأحكام اللاحقة لمطلق الوجود ، كما إذا شكّ في الوضوء بعد الفراغ من الظهر ، فعلى الأوّل يصحّ الدخول في العصر لوجود الطهارة الشرعية التي يجوز معها الدخول في جميع ما هو مشروط بها شرعا ، وعلى الثاني يجب الاقتصار بالظهر فقط ولا يجوز الاكتفاء به لصلاة العصر ؛ لأنّ الوضوء إنّما تجاوز محلّه بالنسبة إلى الظهر فقط دون العصر ، فلا بدّ من تحصيل الطهارة للعصر شرعا.

وتحقيق المقام يتوقّف على تمهيد مقدّمة وهي أنّه لا يكاد يخفى على أحد أنّ الحكم بوجود الشيء المشكوك مع العلم بكونه مشكوكا ممّا لا يعقل ، فلا بدّ من تنزيل الكلام الدالّ على ذلك على وجه لا ينافي حكم العقل بفساد ذلك كما في غيره من المواضع التي لا بدّ صرف الكلام الوارد فيها إلى خلاف ما يظهر منه صونا لكلام الحكيم عن (٤) أمثال هذه (٥) المحاذير على ما عرفت في جملة من التنزيلات الشرعية وتعبّديات الشارع

__________________

(١) « ز ، ك » : فالحيثية.

(٢) انظر كشف الغطاء ١ : ٢٠١ وفي ط الحجري : ٣٥ في البحث السادس والثلاثين.

(٣) « ز ، ك » : ـ أنار الله برهانه.

(٤) « ج ، م » : من.

(٥) « ج ، م » : ـ هذه.

٤٥٠

كما في الاستصحاب أيضا كذلك ، ولا يخفى أيضا أنّ بعد ما بنينا على صرف الكلام عن ظاهره بارتكاب تقدير (١) فيه من قبيل الدلالة الاقتضائية ، فذلك ليس أمرا منضبطا كأن يكون على طور واحد وطرز فارد لا يمكن التخلّص عنه ، بل إنّما هو على حسب ما يظهر للمنزّل من مصالح التنزيل ومفاسده ، فربّما يحكم بوجود شيء مشكوك تنزيلا له منزلة الموجود على وجه الإطلاق لمصلحة دعته إلى التنزيل المذكور على الوجه المذكور ، وربّما يحكم بوجود شيء لا على وجه الإطلاق ، بل يحكم بوجوده معنونا بعنوان خاصّ ، فعلى الأوّل يجوز ترتيب آثار ذلك الشيء عليه حال الشكّ على وجه الإطلاق ، وعلى الثاني لا بدّ من الاقتصار على الأحكام الشرعية المترتّبة على ذلك العنوان فقط.

ومن (٢) ذلك يجيء التفكيك بين اللوازم والملزومات العقلية ، بل الشرعية أيضا ، كما فيما لو أقرّ واحد بأبوّته لزيد وأنكرها زيد ، فإنّه يحكم بلوازم الأبوّة للمقرّ ولا يجب أن يقيم زيد بلوازم البنوّة ، فيعطى ميراث الأب ولا يؤخذ من (٣) ورثته (٤) ميراثه ، وأمثال هذه التفكيكات (٥) في الشريعة غير عزيز ، وإنّما المائز بين القسمين الرجوع إلى عنوان الدليل ، فإن استفدنا منه الحكم بوجود الشيء مطلقا كما في الاستصحاب فما يترتّب عليه هي (٦) الأحكام الشرعية المترتّبة على ذلك بجميع عناوينه ، وإن استفدنا منه حكمه (٧) بوجوده بعنوان خاصّ فلا يجوز التعدّي إلى حكم ذلك الشيء بغير العنوان الذي باعتباره حكم بوجوده ، بل لا بدّ من الاقتصار عليه ؛ لعدم ما يقضي (٨) بذلك من دليل عقلي أو نقلي ، والأصل يقضي (٩) بعدمه.

__________________

(١) « ز ، ك » : تقييد.

(٢) المثبت من « م » وفي النسخ : فمن.

(٣) « ج » : « قسم » بدل : « من ».

(٤) « ج ، م » : ورثه.

(٥) « ج ، م » : أمثال التكليفات.

(٦) « ج ، م » : هو.

(٧) « ز ، ك » : حكمه منه.

(٨) « ج » : يقتضي ، « ز ، ك » : يفضي.

(٩) « ج » : يقتضي.

٤٥١

وإذ قد تمهّد هذا (١) فنقول : إنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (٢) إنّما هو تنزيل للمشكوك فيه منزلة الموجود لكن على عنوان مخصوص (٣) باعتبار قيد المجاوزة عن المحلّ.

نعم ، لو كان الحكم بوجود الشيء المشكوك من غير أن يكون مقيّدا بهذا القيد كان الحكم بوجوده مطلقا على إطلاقه في محلّه ؛ لعدم ما ينافي ذلك بعد وجود ما يقضي (٤) به ، وأمّا بعد التقييد (٥) فلا ، فالوضوء إنّما هو شيء قد شكّ فيه ، ولكن باعتبار أنّه معنون بعنوان الوجوب (٦) الغيري لصلاة الظهر قد جاوز محلّه ؛ لأنّ محلّ الشرط (٧) هو مقارنته مع المشروط والمفروض انقضاء المشروط ، ولكن باعتبار أنّه مقدّمة للعصر ممّا لم يتجاوز محلّه ، نعم لو بنينا على المحلّ العرفي ففيما لو شكّ قبل الشروع في الصلاة مطلقا في الوضوء ، فيحكم بوجوده ويصحّ معه الدخول في الصلاتين ؛ لإحراز القيد الأخير في المشكوك المحكوم بالوجود شرعا.

لا يقال : إنّ الوضوء الواحد حقيقة يكفي عن جملة من الصلوات ، وبعد ما فرضنا من أنّ صلاة الظهر إنّما وقعت على طهارة ووضوء فلا بدّ من الحكم بجواز الدخول في العصر أيضا ، وإلاّ فيلزم أن لا يكون الظهر واقعا على طهارة وقد قال الشارع : « لا صلاة إلاّ بطهور » (٨) وبالجملة : فالطهارة أمر مقدّمي ويكفي في وجود المقدّمة وترتيب ذويها (٩) عليها ترتيب واحد منها والمفروض تحقّقه بالنسبة إلى صلاة الظهر التي هي

__________________

(١) « ج ، م » : هذه.

(٢) تقدّم في ص ٤٤٦.

(٣) « ز ، ك » : مخصّص.

(٤) « ج » : يقتضي ، « ز » : يفضي.

(٥) « ز » : التقيّد.

(٦) « ج » : وجوب.

(٧) « ج » : الشروط.

(٨) وسائل الشيعة ١ : ٣١٥ ، باب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، ح ١ ، و ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ، باب ١ من أبواب الوضوء ، ح ١ ، و ٣٦٩ ، باب ٢ من أبواب الوضوء ، ح ٣ ، و ٣٧٢ ، باب ٤ من أبواب الوضوء ، ح ١ ، وج ٢ : ٢٠٣ ، باب ١٤ من أبواب الجنابة ، ح ٢. وتقدّم في ص ١٦٥.

(٩) « ز ، ك » : ذيها.

٤٥٢

واحدة منها.

لأنّا نقول : حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ، فإنّ وجود المقدّمة حقيقة وواقعا يكفي في ترتيب ذويها (١) عليها من غير إعادة (٢) لها وتكرار فيها (٣) ، وأمّا وجودها التنزيلي فلا بدّ من الاقتصار على قدر التنزيل شرعا ، وأمّا حديث الطهور (٤) فواه جدّا ؛ لكونه طهارة شرعية على حسب التنزيل كما في الاستصحاب ، فهذه القاعدة أيضا محكّمة على قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » على نحو تحكيم الاستصحاب عليه إلاّ أنّه لا بدّ من مراعاة مقدار التنزيل في كلّ واحد منهما.

وما ذكرنا من مراعاة العنوان المنزّل ومقدار التنزيل ليس بذلك البعيد ، فإنّ كثيرا ما يوجد أمثاله (٥) في الأحكام الشرعية ، فإنّ للشيء قد يكون وجوها مختلفة وعناوين متعدّدة يستتبع كلّ واحد منها أحكاما متفاوتة كما عرفت في الوضوء ، وكذلك في الغسل فإنّه من حيث إنّه حركة وسكون له أحكام ومن حيث إنّه تصرّف في مال الغير له أحكام أخر ، فلو شكّ في الغسل بعد التجاوز عن محلّه يحكم بوجوده من حيث إنّه شرط شيء (٦) لا يجوز الدخول فيه بدونه مثلا ، ولا يثبت بذلك جميع عناوينه ، فلا يجب على الشاكّ في الغسل بعد البناء على وجوده دفع الأجرة إلى صاحب الحمّام مثلا ، وذلك أمر ظاهر بعد ظهور تعقّل التفكيك بين الأمور المتضايفة في الشريعة والعناوين المتلازمة كما في الأقارير والدعاوي ونحوها ممّا لا حدّ له ولا حصر (٧) فيه ، وبعد دلالة الدليل على الوجه المذكور فإنّ قضيّة القواعد المعمولة في استخراج المطالب من الألفاظ الواردة في بيانها هو الأخذ بجميع ما يظهر من القيود في

__________________

(١) « ز ، ك » : ذيها.

(٢) « ز ، ك » : إفادة.

(٣) « ز ، ك » : منها.

(٤) « ز ، ك » : الظهر.

(٥) « ز ، ك » : مثاله.

(٦) « ز ، ك » : ـ شيء.

(٧) « ز ، ك » : لا ينحصر.

٤٥٣

الدليل عند استفادة المطلوب منه ، وقد عرفت أنّ مضمون هذه الأخبار مع جميع القيود الملحوظة فيه من صدق الشيء والشكّ فيه والتجاوز عن محلّه لا يصدق على الشيء المشكوك فيه بجميع عناوينه وتمام حيثياته ؛ لعدم صدق المضمون على الوضوء في الملاحظة المذكورة ، لانتفاء القيد (١) الأخير ، فيختلف عن أحكام يترتّب (٢) على عنوان غير مشتمل على هذا القيد وقد مرّ مرارا بأنّه لا غرو في ذلك.

و (٣) من ذلك ما لو نذر قراءة سورة معيّنة كسورة يس ـ مثلا ـ في الصلاة ، فإنّ التجاوز من محلّ السورة إنّما يجدي في الحكم بقراءة مطلق السورة لا السورة الخاصّة ؛ لعدم ثبوت هذا (٤) العنوان بالأصل.

ونظيره في غير المقام ما (٥) لو ثبت اشتغال ذمّة واحد لآخر بإقامة شاهد على استراقه منه شيئا وإتمامه باليمين ، فإنّه يحكم بمجرّد الاشتغال دون عنوان السرقة فلا يجوز قطع يده ، بخلاف ما لو ثبت بشاهدين فإنّ عنوان السرقة يثبت بذلك فيترتّب عليه أحكامها.

ولا مناص ممّا ذكرنا إلاّ بدعوى أنّ المستفاد من الأخبار هو الحكم بوجود المشكوك فيه مطلقا ، وعدم الاعتناء بأمثال هذه النكات والدقائق في استنباط الأحكام من الأدلّة واستخراج المطالب من الألفاظ (٦) الواردة في مقامها ولعلّها خارجة عن طريق العلم والاستدلال ، فإنّ الأحكام العرفية مع كمال سهولتها فهي في عين الصعوبة ، فليس كلّ ما يكون حاله إليهم سهلا فإنّه صعب مستصعب ، فتدبّر.

__________________

(١) في النسخ : قيد.

(٢) « م » : ترتّب.

(٣) « ز ، ك » : ـ و.

(٤) « ز ، ك » : هذه.

(٥) « ز ، ك » : ـ ما.

(٦) « ز » : ألفاظ.

٤٥٤

[ لتنبيه ] الثاني

لا إشكال في شمول هذه القاعدة وجريانها فيما إذا (١) شكّ في وجود شيء يحتمل تركه نسيانا بعد التجاوز عن محلّه ، كما لو شكّ في الوضوء بعد الدخول في الصلاة باحتمال ترك الوضوء نسيانا ؛ لظهور الأخبار المذكورة في هذه الصورة ولا ينبغي الارتياب فيه ، كما أنّه لا إشكال في عدم شمولها وجريانها فيما لو شكّ في صحّة أصل العمل مع العلم بالكيفية (٢) التي وقع العمل عليها وحضور صورة العمل عند الشاكّ ، كما إذا علمنا بكيفية أداء « الضاد » في قوله : ( وَلَا الضَّالِّينَ ) وشككنا في كون القراءة المتكيّفة بالكيفية المخصوصة مبرئة أو لا ، والوجه في ذلك أيضا ظاهر ؛ لعدم ظهور الأخبار في مثل هذه الصورة ، ويمكن استظهار عدم الشمول من عدم كون المورد (٣) في هذه الأخبار من هذا القبيل ، مضافا إلى أنّ تجاوز المحلّ ممّا لا دخل له في هذا الشكّ ؛ لكونه شكّا في الحكم الشرعي أو ما هو بمنزلة ذلك كما لا يخفى ، لوجود الشكّ قبل العمل وبعده أيضا.

وهل تجري (٤) فيما إذا شكّ في العمل بغير النسيان كالعصيان ـ مثلا ـ وما إذا شكّ في العمل لا من عذر ، كما إذا شكّ في وصول الماء حال التوضّؤ بالبشرة لاحتمال وجود مانع كالخاتم ـ مثلا ـ أو لا؟ وجهان : من الأخذ بعموم بعض الأخبار المتقدّمة ؛ لكونه شكّا بعد التجاوز فلا بدّ من الإمضاء فيه وعدم الاعتداد به ، ومن ظهورها في مورد النسيان فقط.

ولعلّ الثاني أقرب نظرا إلى قوله عليه‌السلام في مضمرة بكير بن أعين : « هو حين ما يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (٥) والتقريب من وجهين :

__________________

(١) « ز ، ك » : لو.

(٢) في النسخ : بكيفية.

(٣) « ز ، ك » : المراد.

(٤) « ز ، ك » : يجري.

(٥) تقدّم في ص ٤٤٦.

٤٥٥

أحدهما : أنّ قوله عليه‌السلام : « هو حين ما يتوضّأ » إلخ إنّما هو وارد في مقام الجواب ؛ لكونه علّة له كما في قوله :

« فانّ المسك بعض دم الغزال »(١)

كما لا يخفى على العارف بصناعة الكلام ، والعلّة لا بدّ من أن تكون (٢) مطّردة جامعة لتمام مواردها وجميع مواضعها ، كما أنّه لا بدّ من أن تكون (٣) منعكسة غير شاملة لما لا يوجد فيه تلك العلّة ، كما يظهر من قولك : « الخمر حرام ؛ لأنّه مسكر فإنّ بعموم (٤) العلّة كما يمكن استكشاف حرمة المسكر في غير الخمر كذا يمكن استكشاف عدم حرمة الخمر الغير المسكر مثلا ، فمفهوم التعليل يخصّص العمومات الدالّة على الإمضاء مطلقا.

وثانيهما : انصراف الشكّ الواقع في السؤال إلى الشكّ في صورة النسيان كما استظهره الإمام عليه‌السلام فأجابه بما يلائمه من الأذكرية (٥) مع تركه الاستفصال بين صور الشكّ في سؤال السائل كما هو ظاهر ، وفهم الإمام إنّما هو إمام الأفهام ، وهو كذلك واقعا ؛ لما عرفت من ظهور الشكّ الواقع في هذه الأخبار في الشكّ النسياني جميعا.

وذلك ممّا لا ريب فيه إلاّ أنّ العموم أيضا بحاله (٦) لو قطع عن هذين الوجهين. نعم يمكن الاستناد إلى ظهور حال المسلم فيما لو شكّ في العصيان كما ستقف عليه إن شاء الله ، ولا مدخل للمقام له ؛ للفرق الواضح بينهما كما ستعرف فإنّ النسبة هي العموم من وجه.

__________________

(١) البيت للمتنبّي في مدح سيف الدولة كما في ديوانه : ٢٢٤ وتقدّم أيضا في ص ٩٣ وصدره :

فان تفق الأنام وأنت منهم

(٢) في النسخ : يكون.

(٣) في النسخ : يكون.

(٤) « ك » : من عموم ، « ز » : فانّ العموم.

(٥) « ز ، ك » : الأذكر.

(٦) « ز ، ك » : بحالة.

٤٥٦

[ لتنبيه ] الثالث

لا إشكال في اعتبار هذه القاعدة الشريفة ؛ لكونها متلقّاة عن معدن الوحي ومهبط التنزيل ولا يخفى شرافتها على أحد ، بل وأقول : لا خفاء في كونها أتقن من القاعدة التي نحن بصددها من قاعدة الاستصحاب ، وإنّما الشأن في بيان المراد من المحلّ الذي اعتبر التجاوز عنه فيما هو المناط في هذه القاعدة ، فهل يتحقّق بمجرّد الفراغ عن الشيء ، أو يعتبر مع ذلك الدخول في شيء غيره؟ وعلى الثاني فهل يكتفى فيه بمجرّد المغايرة ولو مثل تحريك اليد والتنفّس (١) ونحوهما ، أو لا بدّ من الدخول فيما هو من أجزاء المركّب ، أو شيء آخر مستقلّ؟

فنقول : قد عرفت أنّ الشكّ تارة : يتعلّق بما هو معتبر في شيء شرطا أو شطرا ، وأخرى : يتعلّق بنفس الشيء ، فعلى الأوّل لا إشكال في ظهور المراد من المحلّ في الأجزاء ، فإنّ محلّ كلّ جزء هو بعد الجزء الذي اعتبره الشارع قبله وقبل كلّ جزء اعتبره بعده ، كما في قولك : ( نَسْتَعِينُ ) بعد قولك : ( إِيَّاكَ ) وقبل قولك : ( اهْدِنَا ) وهكذا بالنسبة إلى كلّ جزء يفرض ، سواء كان آية مستقلّة أو كلمة ونحوها.

نعم ، لو شكّ في أجزاء الكلمات كما فيما إذا شكّ في نون ( نَسْتَعِينُ ) أو في لين ( وَلَا الضَّالِّينَ ) فالتجاوز عن محلّها إنّما يصدق فيما إذا احتاج التكرار في المشكوك إلى تكرار في الأجزاء الأخر ، فإنّ إعادة لين لا يمكن إلاّ بإعادة ( وَلَا الضَّالِّينَ ) لعدم استفادة شيء ممّا هو المقصود من لين فقط أو النون فقط ، ولا فرق في ذلك بين الدخول في شيء آخر وبين عدمه ، سواء كان ذلك الشيء من الواجبات النفسية أو الغيرية أو المندوبات أو المباحات ؛ لعدم مدخلية شيء (٢) منها (٣) في ذلك.

وأمّا الشرائط فيحتمل أن يقال : إنّ محلّها قبل الدخول في المشروط ؛ لكونها أمورا (٤)

__________________

(١) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : النفس.

(٢) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : في شيء.

(٣) « ز » : منهما.

(٤) « ز ، ك » : أمور.

٤٥٧

خارجة عن حقيقة المشروط ينبغي تحصيلها قبل الدخول في المشروط.

ويحتمل أن يقال : إنّ الشرط لا بدّ من أن يكون مقارنا مع المشروط ، ففيما (١) لو شكّ في أثناء العمل في الشرط لم يكن ممّا تجاوز محلّه ولا بدّ من الإتيان به (٢) بالنسبة إلى الأجزاء الباقية ، فلو شكّ في طهارة يده ـ وكان تطهيرها ممكنا على وجه لا يفوته الترتيب في المأمور به المشروط بالطهارة فطهّرها ـ صحّ العمل ، نعم لو لم يتمكّن من إيجاد الشرط ولو بواسطة فقد شرط آخر لو حاول إيجاده كفوات الموالات ـ مثلا ـ يحتم القول ببطلان العمل ولا ضير فيه.

ويحتمل أن يقال بالتفصيل بين الشرائط ، فإنّ منها ما هو شرط للأفعال الواقعة في العمل كما في الطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، ومنها ما هو شرط للأفعال والأكوان أيضا كما في الستر والاستقبال مثلا ، ففي الأوّل يقال بعدم التجاوز ، وفي الثاني بالتجاوز ، والوجه في ذلك صدق الأخبار وعدمه في المقامين ، فلا قاطع لأصالة عدم الوقوع (٣) على تقدير عدم الصدق وعلى تقدير الصدق فالقاطع موجود.

ولعلّ هذا التفصيل هو الأوجه إلاّ أنّه قد يستفاد من رواية عليّ بن جعفر المرويّة في قرب الإسناد عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام ما ينافي هذا التفصيل ، قال : سألته عن رجل يكون على وضوء ويشكّ على وضوء هو أم لا؟ قال : « إذا ذكر وهو في صلاته انصرف وأعادها ، وإن ذكره وقد فرغ من صلاته أجزأ ذلك » (٤) فإنّ حكم الإمام عليه‌السلام بالانصراف والإعادة في الصورة (٥) المفروضة ينبئ عن بقاء محلّ الشرط في الأثناء مطلقا ؛ لأنّ الوضوء من شروط الأفعال ، ومع ذلك فالتفصيل أقرب كما يساعده

__________________

(١) « ز ، ك » : فيما.

(٢) « ج » : له.

(٣) « ز ، ك » : الواقع.

(٤) قرب الإسناد ١٧٧ / ٦٥١ وفي ط الحجري : ٨٣ ؛ وسائل الشيعة ١ : ٤٧٣ ، باب ٤٤ من أبواب الوضوء ، ح ٢ ، وفيهما : « انصرف وتوضّأ وأعادها ، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلك ».

(٥) « ز ، ك » : الصلاة.

٤٥٨

الاعتبار الصحيح بعد ظهور اعتبار تجاوز المحلّ وعدمه في أسباب هذه الشروط وهي الأفعال كما لا يخفى ، والرواية المذكورة معمولة في موردها لا ينبغي التسرية منها إلى مورد آخر ، لكونها قضيّة في (١) واقعة ، وعلى الثاني ففيما إذا تعلّق الشكّ بنفس الشيء مستقلاّ كما إذا شكّ في الاستنجاء أو الغسل أو الوضوء أو التيمّم فهل المدار في محالّها هو المحلّ المعتبر لها شرعا ـ فلو كان موقّتا بانقضاء وقته ، وبسقوط التكليف في غير الموقّت ـ أو المناط على محلّ وقوع هذه الأفعال عادة ، سواء يوافق محلّها الشرعي أو (٢) لا زيادة ونقصانا؟ وعلى الثاني فهل المعتبر هي العادة النوعية التي عليها مدار معاش أبناء النوع ، أو العادة الشخصية التي اعتادها الشاكّ خاصّة كمن اعتاد الاستبراء بعد البول أو الوضوء بعد إيجاد أسبابه؟ وجوه :

يظهر من العلاّمة وجماعة من متابعيه ومنهم الشهيد في شرح الألفية وكاشف الغطاء في الكشف (٣) اعتبار العادة الشخصية حيث حكموا بصحّة الغسل فيما لو شكّ في غسل الشقّ الأيسر إن كان من عادة المغتسل إتمام العمل مع بقاء محلّ الغسل شرعا لعدم وجوب الموالاة فيه ، وعلّله بظنّ الكمال بعد الانتقال عن العمل من دون افتقار إلى تدارك فعل المشكوك ، وحكم بالفساد من دون العادة المذكورة.

ولا يذهب عليك أنّ ذلك لأجل تقديم الظاهر على الأصل عندهم كما قد يتوهّم ، فإنّ ذلك في موارد معدودة كما في عدد ركعات الصلاة على ما قيل ، بل الاستناد (٤) إلى الظهور (٥) في مثل المقام على ما يستفاد من التعليل المذكور في الروايات السابقة وهو

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ في.

(٢) ك : أم.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٢١٢ ، وفي ط الحجري ١ : ٢٢ ؛ قواعد الأحكام ١ : ٢٠٦ ؛ المقاصد العلية في شرح رسالة الألفية : ١٢٣ ، وفي ط الحجري : ٧٣ ؛ كشف الغطاء ٢ : ١٠٨ ، وفي ط الحجري : ١٠٣ ( البحث الثاني ) قال : « وذو العادة يقوّى في النظر عدم الالتفات إلى شكّه مع ضبط العادة ؛ لأنّه في ذلك الحال أذكر ».

(٤) « ز » : الإسناد.

(٥) « ز ، ك » : الطهور.

٤٥٩

قوله : « فإنّه حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (١) ولا ضير في ذلك ؛ لأنّ عمومه معوّل (٢) عليه وإن كان مورده خاصّا ، فلا فرق بين أن يكون العمل مربوطا بعمل آخر كما في الأجزاء ، أو (٣) مستقلاّ كما في الاستبراء بعد تجاوز محلّ التخلّي.

ولعلّ البناء على العادة الشخصية مناف لما عرفت من التفصيل بين شرط الأكوان والأفعال ؛ لوضوح وجود العلّة في القسمين ولكنّ الإنصاف على ما أفاده الأستاد أدام الله أيّام إفادته (٤) أنّ البناء على العادة (٥) الشخصية في غاية الإشكال ، فإنّ دعوى تنزيل الأخبار عليها والقول بأنّ المراد بمحلّ الشيء هو المحلّ الذي من عادة الفاعل إيقاع ذلك الشيء فيه ، لا يساعدها نقل ولا عقل بعد ظهور أنّ المراد بالمحلّ المأخوذ في أخبار الباب هو محلّه التكليفي دون محلّه التكويني ، ولعلّ العلاّمة أيضا لا يلتزم بذلك في نظير المقام فإنّهم حكموا بوجوب التوضّؤ على من كان من عادته ذلك أوّل الوقت فيما لو شكّ في وقت العصر في ذلك في وقته.

والقول بأنّ ذلك من جهة النصوص القاضية به (٦) ، مدفوع : بأنّ نظر الأخبار الآمرة بذلك أيضا إلى عدم تجاوز المحلّ فتدلّ على المقصود ، وحملها على الحكم التعبّدي ممّا يأباه مساقها.

وأمّا التعليل المذكور فشموله للأعمال المستقلّة مشكل ، فإنّ ظاهره هو البناء على الوقوع حال التجاوز فيما إذا علم الدخول في العمل ، وتذكّر الاشتغال (٧) به وهو إنّما يكون فيما إذا كان المشكوك جزء كالشكّ في جزء من الوضوء بعد الفراغ ، وغاية ما يتعسّف في الإلحاق به هو ما إذا كان الشيء المشكوك كالجزء للعمل السابق عرفا

__________________

(١) تقدّم في ص ٤٤٦.

(٢) « ك » : معمول.

(٣) « ك » : أم.

(٤) « ز ، ك » : دام ظلّه العالي.

(٥) « ز ، م » : العادية.

(٦) « ز ، ك » : ـ به.

(٧) « ز ، ك » : الاستعمال.

٤٦٠