مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

هداية

[ في حكومة الأمارات على الاستصحاب ]

في بيان الحال في معارضة الاستصحاب مع الأدلّة الاجتهادية ولا بأس ببيان المراد من الأدلّة الاجتهادية ، فنقول : إنّ مقتضى ما اصطلح عليه الأستاد الأكبر المحقّق البهبهاني في تعليقاته على المعالم نظرا إلى حدّي الاجتهاد والفقه من حيث اعتبار الظنّ في الأوّل والعلم في الثاني ، هو أنّ كلّ دليل يكشف عن الحكم الواقعي فهو دليل اجتهادي ؛ إذ (١) به يحصل مرتبة الاجتهاد للعالم ، سواء كان من الأدلّة العملية أو الأدلّة (٢) الظنّية كأخبار الآحاد ونحوها ، وكلّ دليل يعلم منه الحكم الفعلي في الواقعة الحاضرة عند الفقيه المتحيّر الشاكّ فهو دليل غير اجتهادي ، وقد اشتهر هذا القسم من الدليل بالدليل الفقاهتي (٣) ؛ إذ به يحصل الفقاهة للعالم وبهذا الاعتبار يصير فقيها يعني ما (٤) يحصل به الفقاهة في قبال الأوّل فإنّه يحصل به الاجتهاد.

قال المحقّق المذكور في التعليقة المذكورة ـ بعد تضعيفه لإرادة الظنّ من العلم في تعريف الفقه ـ : والحقّ أنّ المراد من العلم هو اليقين ؛ لأنّ الفقه هو العلم دون الظنّ ، لأنّ الظنّ هو الاجتهاد كما ظهر وإن كان الاجتهاد لا بدّ فيه من اليقين باعتباره شرعا ،

__________________

(١) « ز ، ك » : « و » بدل : « إذ ».

(٢) « ز ، ك » : ـ الأدلّة.

(٣) « ز » : بالدليل الفقاهي ، « ج ، م » : بدليل الفقاهة.

(٤) « ز ، ك » : ـ ما.

٤٠١

فاعتقاد الفقيه بالنظر إلى حكم الله الواقعي اجتهاد ؛ لأنّه ظانّ به ، وبالنظر إلى (١) حكم الله الظاهري فقه وعلم ؛ لأنّه عالم به ، كما أنّ له أسامي أخر أيضا مثل أنّه قاض بالنظر إلى أنّه يرفع المخاصمة بين المترافعين إليه بالخصومة ، وحاكم الشرع بالنظر إلى مثل ضبط مال (٢) الأيتام والمجانين والغيّب ، وغير ذلك من الأسامي كما بيّناه في الفوائد (٣) ولكلّ اسم من تلك الأسامي أحكام مخالفة لأحكام الاسم الآخر ومباينة له ؛ لأنّ الفقيه عمله (٤) بالأدلّة الخمسة ولا يجوز للفقيه تقليده وبعد الموت يموت قوله ، بخلاف القاضي فإنّ حكمه باق إلى يوم القيامة وماض على الفقهاء وغيرهم ، وعمله بالشهادة والحلف ونحو ذلك ، قال رحمه‌الله : فتعيّن كون المراد من العلم المعنى الحقيقي ولا محيص عنه قطعا ؛ لما عرفت وستعرف من المفاسد في جعل المراد منه الظنّ أو ما يشمله (٥) ، انتهى.

وصريح ما أفاده هو ما ذكرنا من أنّ الدليل على قسمين : قسم : يحصل (٦) منه الاجتهاد وهو ما يحكي عن حكم الله الواقعي الثابت في نفس الأمر ، وليس للشكّ في موضوعه مدخل في وجه وإن كان محلّ الاستدلال هو مقام الشكّ وعدم العلم كما هو ظاهر لا سترة عليه ، والآخر : ما يحصل منه الفقاهة (٧) التي هو العلم بالأحكام الشرعية ، فلا بدّ إمّا من حمل الأحكام على الأحكام الظاهرية باستعمالها فيها أو بتقيّدها بها (٨) ، وإمّا من تقدير مضاف للأحكام يكون متعلّقا للعلم كوجوب العمل ، وهو الأولى ؛ لأنّ الظرف حينئذ لا بدّ أن يكون متعلّقا بالأحكام دون العلم ، وعلى تقدير التقييد (٩) فيها أو الاستعمال لا يصحّ ؛ إذ الأحكام الظاهرية لا تكون (١٠) مستفادة من الأدلّة كما لا يخفى.

__________________

(١) « ج ، م » : ـ إلى.

(٢) « ز ، ك » : أموال.

(٣) الفوائد الحائرية : ٤٩٩ ، فائدة ٣٣.

(٤) « ز ، ك » : علمه.

(٥) حاشية المعالم ( مخطوط ) : ٨٠ / أ.

(٦) « ج ، م » : ما يحصل.

(٧) « ز ، ك » : الفقاهية.

(٨) في النسخ : به.

(٩) « م » : التقيّد.

(١٠) « ج ، م » : لا يكون.

٤٠٢

ولا يرد عليه ما زعمه بعض الأجلّة (١) تبعا لبعضهم من أنّ التصرّف في الأحكام يغني عن ذلك والكلام فيما كان العلم باقيا على معناه المعهود من غير تصرّف فيه ؛ إذ تعلّق العلم بشيء خاصّ لا يوجب التصرّف فيه كما هو ظاهر.

فالعلم بوجوب العمل بالأحكام الواقعية التي هي مستنبطة من الأدلّة التفصيلية هو الفقه ، وليس العلم بوجوب العمل بتلك الأحكام وإن كانت واقعية إلاّ العلم بالحكم الظاهري ، فما يدلّ على هذا الحكم الفعلي وهو وجوب الأخذ بالظنّ ـ مثلا ـ من حيث إنّه مشكوك الاعتبار هو دليل الفقاهة كالأدلّة (٢) الدالّة على اعتبار الأدلّة الظنّية من الإجماع ، والكتاب والسنّة القطعيين ، وأدلّة الأصول من البراءة والاحتياط والاستصحاب والتخيير ، فإنّها هي التي يحصل (٣) منها العلم بوجوب العمل ، ولعلّه إنّما أخذه من قول العلاّمة من أنّ الظنّ في طريق الحكم لا فيه نفسه ، وظنّية الطريق لا ينافي قطعية الحكم ، فالحكم المستفاد من الخبر حكم واقعي ، و (٤) وجوب الأخذ بمفاد الخبر حكم ظاهري ، ونفس الخبر دليل الاجتهاد ، والإجماع على اعتبار الخبر دليل الفقاهة.

ثمّ إنّه إن أقيم (٥) دليل على اعتبار هذا الظنّ الحاصل من الخبر مثلا ، وإلاّ فلا بدّ من الرجوع إلى عدم الحجّية وقاعدة العدم فهو حكم ظاهري في المسألة الأصولية ، أو (٦) إلى البراءة أو إحدى أخواتها من الأصول في المسألة الفرعية وهو حكم ظاهري في المسألة الفرعية ، ويمكن أن يكون دليل واحد دليل الاجتهاد بالنسبة إلى مرتبة كما في الأدلّة (٧) الدالّة على حجّية الخبر في المسألة الأصولية ، ودليل الفقاهة بالنسبة إلى مرتبة أخرى كما فيها بالنسبة إلى المسألة الفرعية.

__________________

(١) انظر الفصول : ٧ و ٣٩١.

(٢) « م » : كأدلّة.

(٣) المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : تحصل.

(٤) « ج ، م » : ـ و.

(٥) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : إنّه أقيم.

(٦) « ج ، م » : و.

(٧) « ج » : أدلّة.

٤٠٣

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الأحكام الظاهرية والواقعية أيضا متدرّجة (١) من حيث إنّ أدلّة الفقاهة (٢) وأدلّة الاجتهاد (٣) متدرّجة (٤) ، فكلّ (٥) مترتبة منها واقعي بالنسبة إلى المرتبة المؤخّرة عنها ، وظاهري بالنسبة إلى المرتبة المقدّمة عليها ، فخبر الواحد إذا له جهتان : إحداهما : كشفه عن الحكم الواقعي ، وثانيتهما (٦) : اعتباره وعدم الاعتناء باحتمال خلافه ، فهو من الجهة الأولى دليل اجتهادي وموضوع لحكم ظاهري هو وجوب الأخذ به ، ومن الثانية حكم ظاهري في المسألة الفرعية وحكم واقعي في المسألة الأصولية ، والدليل الدالّ على اعتباره دليل الفقاهة على الأوّل ، ودليل الاجتهاد على الثاني ، فيتداخل الأقسام بذواتها وإن كانت متميّزة بحيثياتها.

هذا ما يستفاد ممّا أفاده المحقّق المذكور ، إلاّ أنّه بعد لا يخلو عن مناقشة وإن كانت راجعة إلى الاصطلاح في بعض الوجوه ، فإنّ الموروث من قدماء أرباب الصناعة وأصحاب الفنّ هو الحكم بتقديم أدلّة الاجتهاد مطلقا على أدلّة الأحكام الظاهرية ، ولا يصحّ ذلك بإطلاقه على ما أفاده ؛ إذ لا بدّ حينئذ من ملاحظة الأدلّة الدالّة على الأحكام الظاهرية ، فإن كانت من الأصول العملية كالاستصحاب وأخواتها فيحكم فيها بالتقديم ، وإن كانت غيرها كالإجماع والسنّة ونحوها فلا بدّ من المعارضة على ما قرّر في التراجيح ، على أنّه لم يعهد إطلاق دليل الفقاهة على مثل الإجماع ونحوه فإنّ المعهود منها هي الأصول العملية الكلّية المستعملة في الأحكام ، أو الجزئية المقرّرة فيها وفي موضوعاتها مثلا ، مضافا إلى أنّ ما قرّره في تعريف الفقه ممّا لا يخلو عن نظر ، فتدبّر.

وكيف (٧) كان ، فالأنسب بما نحن بصدده من بيان معارضات الاستصحاب هو أن

__________________

(١) « ز ، م » : مندرجة.

(٢) « ز ، ك » : الفقاهية.

(٣) « ك » : الاجتهادية.

(٤) « ز » : مندرجة.

(٥) « ج » : بكلّ « ز ، ك » : لكلّ.

(٦) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : ثانيهما.

(٧) « ز ، ك » : فكيف.

٤٠٤

يقال : إنّ الدليل الاجتهادي هو ما يدلّ على الحكم الواقعي من غير ملاحظة الشكّ في موضوعه ، وما يدلّ على حكم الواقعة (١) من حيث كونها مجهول الحكم كأن يكون مبنيّا (٢) لحكم الشكّ فهو دليل عملي مثل الأصول الأربعة الكلّية والأصول الجزئية كالقرعة وأشباهها ، وأمّا الأخبار الآحاد فليست مبنيّة (٣) لحكم الواقعة باعتبار الشكّ ، وكذا ما يدلّ على اعتبارها أيضا فإنّ الأدلّة الدالّة عليه إنّما تدلّ على اعتبارها من حيث إنّها طرق إلى الواقع وحكايات عنه وكواشف منه (٤) ، وستعرف لذلك زيادة تحقيق.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ المراد بالأدلّة الاجتهادية هو ما عدا الأصول العملية ممّا يكشف عن حكم الواقعة المشكوكة لا من حيث إنّها مشكوكة ، ولا ضير في ذلك أن يكون قطعيا أو ظنّيا أو تعبّديا صرفا ، وفيما ذكرنا أيضا يختلف المراد ، مثلا إنّ الحكم الواقعي في الشكّ في التكليف هو البراءة ، فلو تخلّف عنها المجتهد وحكم بالاحتياط كما عن الأخباريين فهو في حقّه حكم ظاهري ، ولو تردّد في ذلك الحكم فلا بدّ له من الرجوع إلى أصل آخر مقرّر فيما شكّ في كونه من موارد البراءة والاحتياط ، وهو أيضا قد يصير مجهولا إلى الانتهاء إلى حدّ لا يعقل فيه الخطأ كالعلم ، فإنّه ليس وراء عبّادان قرية.

ولا بأس بتوضيح المقال بالمثال ، فيقال : إنّ الدليل الدالّ (٥) على حرمة العصير من حيث هو عصير وموضوع واقعي دليل اجتهادي ، وهذه الحرمة المستفادة منه حكم واقعي ، ففي صورة القطع بذلك فلا إشكال ، وكذا في صورة الظنّ فإنّ الدليل الدالّ على اعتباره لا يدلّ عليه من حيث إنّه مجهول الحكم ، وأمّا لو جهلنا بذلك الحكم الواقعي

__________________

(١) « م » : واقعة.

(٢) « ز » : مبيّنا.

(٣) « ج ، م » : فليس مبنيا ، « ز » : مبيّنة.

(٤) « ج ، م » : طريق إلى الواقع وحاكي عنه وكاشف منه.

(٥) « ز ، ك » : ـ الدالّ.

٤٠٥

فإن (١) وصلنا إلى ما هو حكم (٢) الشاكّ من الأخذ بالبراءة ـ مثلا ـ فهو ، ويكون إذا ذلك الحكم حكما ظاهريا ، وذلك الدليل أصلا وقد يعبّر عنه بالواقعي الثانوي ، وإلاّ فالمرجع ما هو مقرّر بعد ذلك فذلك الحكم ظاهري ثانوي ، وذلك الدليل أصل ثانوي ، إلى أن ينتهي (٣) في المرتبة الرابعة أو الثالثة إلى ما لا يعقل الشكّ فيه كأحد (٤) القضايا البديهية.

وإذ قد عرفت المراد من الدليل الاجتهادي فنقول : إذا وقع التعارض بين الاستصحاب والأدلّة الاجتهادية فتارة : يقع الكلام فيما إذا كان مبنى الاستصحاب على الظنّ ، وأخرى : فيما كان مبناه الأخبار.

فعلى الأوّل لا إشكال في تقديم الأدلّة على الاستصحاب فيما لو كانت مفيدة للقطع ؛ لارتفاع موضوع الاستصحاب بالقطع حقيقة وواقعا ، فلا يعقل الاستصحاب.

وأمّا فيما لم تكن (٥) مفيدة للقطع فإن قلنا باعتبار الاستصحاب من حيث الظنّ ولو نوعا ، كما استظهرناه من مذاق القدماء من القوم (٦) ، فلا شكّ أيضا في تقديم الأدلّة الاجتهادية على الاستصحاب ؛ لأنّ المدرك فيه هو بناء العقلاء وليس بناؤهم على الأخذ بالحالة السابقة في قبال الدليل القاضي بارتفاعها ، ولعلّ السرّ في ذلك عدم بقاء استعداده لإفادة الظنّ ، ويكون ملحقا بأخبار المجانين ـ مثلا ـ في عدم استعداده لإفادة الظنّ النوعي ، فليس عدم إفادته الظنّ من حيث وجود المعارض والمصادمة كما في تعارض الأخبار مثلا ؛ لأنّ المنساق من كلمات بعضهم على ما نبّهنا عليه فيما تقدّم (٧) أنّ عدم الظنّ على الخلاف وعدم الدليل مأخوذ في ماهيّة الاستصحاب ، ويزيد ذلك وضوحا فيما لو انتفى الظنّ من غير جهة المعارضة بواسطة الموهنات (٨) الأخر.

__________________

(١) « ج ، م » : وإن.

(٢) « م » : ـ حكم.

(٣) « ج ، م » : ينهى.

(٤) « ز ، ك » : كأخذ.

(٥) في النسخ : لم يكن.

(٦) « ج ، م » : ـ من القوم.

(٧) انظر ص ٧٨.

(٨) « ز ، ك » : الأمارات.

٤٠٦

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنّما يثمر في ارتفاع الظنّ الشخصي ، وأمّا الظنّ النوعي فلا معنى لارتفاع استعداده ، ويمكن أن يقال : إنّ الوجه في ذلك أنّ بناء العقلاء على ذلك إنّما هو في مقام التحيّر ، وبعد وجود الدليل فلا حيرة لهم فليس بناؤهم على الأخذ بالحالة السابقة.

وكيف كان ، فالذي يسهّل الخطب في المقام هو اتّفاق القائلين (١) بالاستصحاب من الأصحاب وغيرهم على العمل بالدليل وطرح الحالة السابقة في قباله ، ولم يعهد منهم الخلاف في ذلك من وجه عدا ما يظهر من المحقّق القمي حيث إنّه ـ بعد ما نقل عن بعض المتأخّرين (٢) عدم معارضة الاستصحاب بدليل ـ قال : إن أراد من الدليل ما ثبت رجحانه على معارضه فلا اختصاص لهذا الشرط بالاستصحاب فإنّه سار في الكلّ.

وإن أراد من الدليل ما يقابل الأصل ، ففيه : أنّ الإجماع على ذلك إن سلّم في أصل البراءة وأصل العدم فهو في الاستصحاب ممنوع ، ألا ترى أنّ جمهور المتأخّرين قالوا :

إنّ مال المفقود في حكم ماله حتّى يحصل العلم العاديّ بموته استصحابا للحالة السابقة مع ما ورد من الأخبار المعتبرة بالفحص أربع سنين ثمّ التقسيم بين الورثة ، فكيف يدّعى الإجماع على ذلك؟

وإن أراد أنّ الاستصحاب من حيث هو لا يعارض الدليل القطعي (٣) كما أنّ العامّ والمفهوم من حيث إنّهما كذلك لا يعارضان الخاصّ والمنطوق ، فله وجه إلاّ أنّه لا ينافي تقديمه على الدليل بواسطة الخارج كما فيهما أيضا.

ثمّ أردف ذلك باحتمال أخذ الظنّ في تعريف الاستصحاب كأن يكون الحكم مظنون البقاء فحكم بانتفاء الاستصحاب وحقيقته عند وجود الدليل ، فلا يعقل الاشتراط ، وعلى تقدير عدم اعتباره في ماهيّة (٤) ورود (٥) الأمر بين اعتباره من جهة الظنّ

__________________

(١) « ج ، م » : العاملين.

(٢) هو الفاضل التوني في الوافية : ٢٠٨.

(٣) في المصدر : النطقي.

(٤) « ز ، ك » : اعتباره من جهة.

(٥) « ج » : مردّد.

٤٠٧

ومن جهة (١) الأخبار فأورد على الاشتراط على الأوّل بمثل ما أورده أوّلا من عدم الاختصاص بالاستصحاب لتبدّل الظنّ وهما بعد ورود الدليل ، وعلى الثاني في غير ما إذا كان الدليل قطعيا بأنّ المرجع إلى تعارض الدليلين حينئذ أيضا ، فلا وجه للاختصاص (٢) ، هذه (٣) خلاصة ما أفاده في القوانين إلاّ أنّه لم نقف على وجه.

أمّا أوّلا : فنختار من الترديدات ثانيها (٤) ، و (٥) منع الإجماع ممّا لا يصغى إليه بعد ظهوره بالتتبّع في مطاوي كلماتهم ، وأمّا حديث المفقود فممّا لا مساس له بالمقصود ؛ لأنّ القائلين (٦) بالاستصحاب على ما يظهر منهم في الفقه إنّما تمسّكوا به من جهة ضعف تلك الأخبار عندهم على ما صرّح به المحقّق في الشرائع (٧).

على أنّ بعد التسليم عن ذلك أنّ الكلام في المقام إنّما هو في تقديم الأدلّة الاجتهادية على الاستصحاب بمعنى أنّه لو قام دليل على ارتفاع الحالة السابقة فهل يؤخذ بالاستصحاب ويحكم بحسبه بوجودها وترتيب آثارها عليها ، أو لا بدّ من الأخذ بمفاد ذلك الدليل والحكم بارتفاع الحالة السابقة وعدم ترتيب الآثار عليها ، بل ترتيب آثار العدم عليها كما هو ظاهر؟ مثلا لو قامت (٨) البيّنة على موت زيد المشكوك موته فإن قلنا بأنّ من شرط العمل بالحالة السابقة عدم العلم بارتفاعها في الزمان اللاحق ، فلا يجب إنفاق زوجته من ماله ، بل يؤخذ بأحكام موته من عدم تورّثه من مال مورّثه وتقسيم أمواله بين الورثة ونحوها. وإن قلنا بعدم الاشتراط ، فيقع التعارض ؛ لأنّ قضيّة الاستصحاب هو الأخذ بالحالة السابقة ، والبيّنة تقضي (٩) بارتفاعها.

__________________

(١) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : وصحّة.

(٢) القوانين ٢ : ٧٥ ـ ٧٦ وفي ط : ص ٢٧٧.

(٣) المثبت من « ك » في سائر النسخ : هذا.

(٤) « ز » : ثانيهما.

(٥) « م » : « إذ » بدل « و ».

(٦) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : العاملين.

(٧) الشرائع ٤ : ٨٤٦ ط الشيرازي.

(٨) « ز ، ك » : قام.

(٩) « ج » : يقتضي.

٤٠٨

وأمّا لو قام دليل على أنّ حكم المشكوك المسبوق بالحالة السابقة مطلقا أو في خصوص مورد ـ مثلا ـ هو كذا بخلاف ما هو المستفاد من دليل الاستصحاب ، فلا شكّ في وقوع التعارض بين أدلّة الاستصحاب وبينه ، كما في الشكّ في عدد الركعات فإنّ قوله : « فابن على الأكثر » في مقام الشكّ ممّا يقضي (١) بعدم الأخذ بالحالة السابقة وترتيب آثار الوجود على المشكوك المسبوق بالحالة السابقة العدمية ، والأخبار الواردة في تقسيم مال المفقود من هذا القبيل ، ولا تعارض بينها (٢) وبين الاستصحاب بمعنى أنّ (٣) المستفاد منها أنّ المفقود الذي لا يعلم (٤) وجوده وعدمه بعد الفحص عنه (٥) أربع سنين يقسّم ماله بين ورثته كما أنّه تعتدّ زوجته ، ثمّ تحل للازدواج (٦) بعد أن لم تصبر مثلا ، فهذه قاعدة خاصّة وأصل خاصّ وارد في مقام حكم الشيء المشكوك كنفس الاستصحاب ، ولا ريب في تقدّمه عليه على تقدير اعتبار الأخبار الدالّة عليه كما عرفت في تقديم (٧) أخبار الشكّ في عدد الركعات عليه كما لا يخفى ، وليس مفادها أنّ الحالة السابقة التي هي مناط الاستصحاب قد ارتفعت وإن كانت مشاركة في الحكم بعدم الأخذ بالآثار المترتّبة على الحالة السابقة مع الدليل القاضي بارتفاع الحالة السابقة ، ولعلّ ذلك هو الوجه في الاختلاط بينهما (٨).

وبالجملة : فالمقصود هو القول بعدم الأخذ بالحالة السابقة فيما لو قام دليل على ارتفاعها (٩) لا (١٠) القول بعدم ما يقضي (١١) بخلاف ما يقضي به الاستصحاب في مقام عدم

__________________

(١) « ج » : يقتضي.

(٢) « ز ، م » : « بينهما » ، ثمّ استدرك في نسخة « م » ما بين السطور « وبين الاستصحاب ».

(٣) « ز ، ك » : « بل » بدل « أنّ » وكان في نسخة « م » : « أن بل » ثم شطب على « بل ».

(٤) « م » : لا نعلم.

(٥) « ز » : فيه ، « ك » : في.

(٦) « ج ، م » : للأزواج.

(٧) « م » : تقدّم.

(٨) « ج » : بينها.

(٩) « م » : ارتفاعهما؟

(١٠) « ز ، ك » : ـ لا.

(١١) « ج » : « يقتضي » وكذا في المورد الآتي.

٤٠٩

العلم بالحالة السابقة ، غاية ما يمكن أن يقال : هو أنّ الأحكام المعمولة في الأدلّة اللفظية من تقديم (١) الخاصّ على العامّ ونحوه ، ممّا يجب مراعاتها في المقام أيضا فلا وجه لتقديم أخبار الاستصحاب على مثل هذه الأخبار الخاصّة المبنيّة (٢) لحكم الشكّ ، فيجاب عنه بالقضيّة المعروفة من أنّ العامّ مع عمومه ربّما يقدّم على الخاصّ لأمور خارجية عنهما وذلك ظاهر جدّا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره من الترديد بين أخذ الظنّ في تعريف الاستصحاب ممّا ليس في محلّه ؛ لعدم اعتبار الظنّ في واحد من التعاريف على ما سمعت الكلام فيها ، نعم يظهر من العضدي (٣) أنّ الاستصحاب هو الاستدلال المعهود ، وعلى تقدير تعقّله فليس استصحابا كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره في ثاني شقّي هذا (٤) الترديد من عدم الاختصاص بالاستصحاب بعد تبدّل الظنّ المعتبر (٥) فيه وهما ، ليس على ما ينبغي ؛ لأنّ اطّراد ذلك وجه للاختصاص ، وإلاّ فلا وجه للقول بالتبدّل على الإطلاق فلعلّه لم يتبدّل في مورد.

وأمّا رابعا : فلأنّ المستفاد من مقالته أخيرا هو وقوع التعارض بين أخبار الاستصحاب وبين الأدلّة الاجتهادية ، وسيأتي بعيد (٦) ذلك عدم استقامة أمثال هذه الكلمات على ما هو مذاقنا في الاستصحاب.

هذا تمام الكلام فيما لو قلنا بالاستصحاب من جهة الظنّ النوعي ، ومحصّله : أنّ الاستصحاب مثل الغلبة يزول استعداده للظنّ بعد وجود الدليل ، فإنّ إلحاق المشكوك بالأعمّ الأغلب إنّما هو فيما كان الفرد المشكوك ممّا تساوى طرفاه لو لا إلحاقه بالأعمّ ،

__________________

(١) « ز ، ك » : تقدّم.

(٢) « ز » : المبيّنة.

(٣) شرح مختصر المنتهى : ٤٥٣ وتقدّم عنه في ص ١١.

(٤) « ج » : ـ هذا.

(٥) « ز ، ك » : المعتدّ.

(٦) « ز ، ك » : بعد.

٤١٠

وبعد قيام الدليل على تفرّده من الأفراد الأخر لا يبقى موضوع المفروض في الغلبة كما هو ظاهر ، والعمدة هو الإجماع المدّعى في كلام جماعة (١) المؤيّد بعدم ظهور الخلاف بين العاملين بالاستصحاب على ما عرفت.

وأمّا لو قلنا بالاستصحاب من جهة الظنّ الشخصي فمع قطع النظر عن عمل القائل به قضيّة القاعدة هو القول بدوران الأمر مدار الظنّ ، فعلى فرض وجود الظنّ في طرف الاستصحاب لا معني للقول بتقديم (٢) غيره عليه مع وجود ما هو المناط في الاعتبار على ما هو مقتضى الإنصاف إلاّ أنّه لم يعهد منهم ذلك في وجه ، فيبنى طرح الظنّ الاستصحابي في قبال الأدلّة الاجتهادية على دعوى الإجماع على ذلك ، وعلى تقديره فيشكل الأمر في استفادة اعتبار مثل ذلك من الدليل ، فليتدبّر فيه فإنّه ممّا لا يكاد يتمّ في وجه.

وأمّا على الثاني (٣) : فلا إشكال في ورود الدليل الاجتهادي على الاستصحاب فيما لو كان مفيدا للقطع ؛ لأنّ الممنوع في تلك الأخبار نقض اليقين بالشكّ وليس المقام منه ؛ إذ المفروض حصول اليقين على ارتفاع الحالة السابقة ، وصريح بعضها هو جواز نقضه بيقين آخر مثله ، بل الأمر به من حيث وقوع الفعل المطلوب في حيّز الخبر من قوله : « لكنّه ينقضه » ومثل ذلك نسمّيه بالورود ، وتحقيقه أن يكون الدليل على وجه بتحقّقه يرتفع محلّ الآخر وينتفي موضوعه.

وأمّا فيما لو كان الدليل الدالّ على ارتفاع الحالة السابقة ظنّيا فقد يقال (٤) : إنّه يقدّم على الاستصحاب من قبيل تقديم (٥) الأدلّة القطعية ؛ لانتهاء الظنّ إليه ، فعند الدقّة الناقض لليقين ليس إلاّ اليقين ، إلاّ أنّه كلام خال عن التحقيق ؛ لأنّ المناط في الورود

__________________

(١) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : جملة.

(٢) « ج ، م » : تقدّم.

(٣) أي فيما كان مبناه الأخبار.

(٤) « ز ، ك » : قال. والقائل به بعض الأعيان كما سيأتي في ص ٤١٨.

(٥) « ز ، ك » : تقدّم.

٤١١

هو ارتفاع موضوع الدليل حقيقة ولا يتحقّق ذلك إلاّ بعد تحقّق اليقين الواقعي الوجداني ، ومن المعلوم أنّ اليقين باعتبار شيء يغاير كون ذلك الشيء يقينا ، فالورود موضوع واقعي متفرّع على موضوع واقعي ، وجعل الشيء بمنزلة اليقين لا يترتّب عليه ما هو من لوازم حقيقة اليقين واقعا كارتفاع الشكّ مثلا ، فالتحقيق أنّه ليس من الورود ، بل هو من جهة التحكيم ، وتوضيحه يحتاج إلى تمهيد مقدّمتين :

الأولى : في أنحاء التصرّفات الواقعة في الأدلّة ولو بحسب ما يظهر منها صورة (١) ، فتارة : يكون بالورود على نحو ما عرفت آنفا ، وربّما يكون بينه وبين التخصّص (٢) فرق من أنّ التخصّص (٣) قد يكون أعمّ من الورود فإنّه على ما عرفت لا بدّ من أن يكون الوارد رافعا لموضوع المورود (٤) فينتفي ما هو المناط بعد وجود ذلك الدليل ، بخلاف التخصّص (٥) فإنّه قد يحتمل أن يكون فيما لا ارتباط بين الحكمين أيضا ، فإنّ وجوب إكرام زيد لا ارتباط له بوجوب (٦) إهانة عمرو مثلا ، ولا يبعد أن يقال بالتخصّص (٧) في ذلك ، فتأمّل.

وأخرى : يكون على وجه التخصيص ولازمه بقاء الموضوع وإخراج الحكم ، كما في قولنا : أكرم العلماء ، ولا تكرم زيدا العالم مثلا.

وأخرى : يكون على وجه الصرف عن الظاهر مطلقا كما في قرائن المجاز ، وذلك على وجهين : فتارة : يكون الصارف بمدلوله اللفظي ناظرا إلى الدليل الأوّل ، كما في قولنا : رأيت أسدا (٨) ، وقولنا : أعني الرجل الشجاع مثلا ، وأخرى : لا يكون الصارف كذلك ولكنّ العقل بعد ملاحظة ذلك الصارف وظهوره في مقام الصارفية يحكم بأنّ

__________________

(١) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ظهوره.

(٢) « ج » : « التخصيص ».

(٣) « ج ، ز » : « التخصيص ».

(٤) « ج » : الورود.

(٥) « ج ، ز » : « التخصيص ».

(٦) « ج ، م » : لوجوب.

(٧) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : بالتخصيص.

(٨) « ك » : أسدا يرمي.

٤١٢

ظهوره حاكم على ظهور اللفظ في معناه الحقيقي كما في العامّ والخاصّ أيضا ، فإنّ العقل بعد ما يلاحظ من التناقض بين العامّ والخاصّ ـ ضرورة رجوعهما إلى سالبة كلّية وموجبة جزئية أو موجبة كلّية وسالبة جزئية ـ يحتمل عنده ورود ظهور الخاصّ على العامّ بحمله عليه أو التصرّف في الخاصّ بحمل أمره أو نهيه على وجه لا ينافي ظهور العامّ ، وهكذا في القرينة فإنّ من المحتمل ورود ظهور « يرمي » على ظهور المعنى الحقيقي ابتداء ، مثل احتمال ورود ظهور المعنى الحقيقي على ظهور القرينة كأن يحمل على معنى لا ينافي المعنى الحقيقي ، ثمّ (١) بعد ملاحظة التعارض والتناقض يساعد على تقديم (٢) ظهور الخاصّ والقرينة في الأغلب على الآخر ، فيحكم بحمل العامّ على الخاصّ ، والحقيقة على المجاز ، ففي هذين القسمين ليس الخاصّ والقرينة ناظرين (٣) إلى خلافهما بمدلوليهما ؛ لما عرفت من عدم الارتباط بينهما ، ولهذا قد تراهم يلتزمون بورود العامّ على الخاصّ أيضا ، وقد لا يحكمون بمقتضى القرينة الصارفة أيضا ، بخلاف ما إذا كان أحد المتعارضين ولو في الصورة ناظرا إلى الآخر بمدلوله اللفظي كأن يكون مبيّنا له مفسّرا له كاشفا للمراد عنه ، ولازمه عدم المعارضة وعدم التناقض ؛ ضرورة انتفاء التعارض بين المفسّر والمفسّر ، والبيان والمبيّن ، كيف وهو ناظر إلى ما هو المراد منه وإن كان لا يخلو عن ارتكاب شيء أيضا إلاّ أنّ الفرق بينهما واضح ظاهر غير خفيّ على أحد ، وذلك بحسب الواقع قد يكون عين التخصيص وإن لم يكن منه ظاهرا بواسطة اختلاف وجوه الكلام كما إذا كان المفسّر خاصّا بحسب المفهوم ، وقد يكون غيره كما إذا كان المفسّر مساويا للمفسّر ، وإن جوّزنا التفسير بالأعمّ فمخالفته مع التخصيص أظهر ، ومنه يظهر أنّ ملاحظة النسبة بين المفسّر والمفسّر ليس في محلّه ؛ إذ بعد كونه بيانا فلا يعقل ملاحظة النسبة ، لاختصاصها بالمتعارضين والمفروض انتفاؤه

__________________

(١) « ز ، ك » : « و » بدل : « ثمّ ».

(٢) « ز ، ك » : تقدّم.

(٣) هذا هو الصواب ، وفي « ج ، م » : ناظران. وفي « ز ، ك » : ناظرا.

٤١٣

على وجه يقضي (١) بذلك.

ثمّ إنّ البيان قد يختلف وضوحا وخفاء ، فأوضح البيانات ما قد يوجد في كلمات اللغويين والمترجمين من بيان معنى اللفظ في تلك اللغة أو في لغة أخرى ، وأخفى من ذلك ما قد عرفت من تفسير الأسد بالرجل الشجاع ، وأخفى من ذلك قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(٢) وآيتي الاستباق (٣) والمسارعة (٤) على تقدير دلالتها (٥) على المطالب المستدلّ بها عليها ، فإنّها بيانات للأحكام الثابتة في الدين بأجمعها ، فكأنّ (٦) مفادها أنّ المجعول (٧) في (٨) الدين هو ما لا حرج فيه ، وأنّ المراد بتلك الأوامر الواردة في الشريعة والمقصود منها الفورية مثلا ، فلا مجال للتعارض على ما زعمه المحقّق القمي ؛ إذ (٩) من المعلوم أنّ البيان ليس منافيا للمبيّن ، وأخفى من ذلك ما تسمعه في حكومة الأدلّة الاجتهادية على الأصول العملية ، ومن جملة علامات البيان أنّه لو قطع النظر عن ورود المبيّن كان البيان لغوا صرفا ، كما يظهر من ملاحظة قولنا : أعني الرجل الشجاع ، لو لم يكن كلاما برأسه ، أو (١٠) قولنا : ما أردت الأسد الحقيقي ، بل أردت الرجل الشجاع ، إذا (١١) لم يكونا مسبوقين بقولنا : رأيت أسدا مثلا ، ومن كواشفه أيضا أنّ حمل البيان على وجه لا يكون بيانا ممّا يعدّ في العرف من إخراج الكلام عمّا سيق إليه بالمرّة ، بخلاف التخصيص فإنّ حمل الأمر فيه على الاستحباب أو تصرّف آخر فيه على وجه لا ينافي عموم العامّ ، ليس بهذه المثابة من القبح كما لا يخفى على من

__________________

(١) « ج » : يقتضي.

(٢) الحج : ٧٨.

(٣) قوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) البقرة : ١٤٨ ؛ المائدة ٤٨.

(٤) قوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) آل عمران : ١٣٣.

(٥) « ز ، ك » : دلالتهما.

(٦) « ز ، ك » : لكان.

(٧) « ز » : المجمعون ، « ك » : المجموع.

(٨) « م » : « من » ، « ز » : « فمن ».

(٩) « ج » : « و » بدل : « إذ ».

(١٠) « ز ، ك » : إذ.

(١١) « ك » : إذ ، وكذا غيّرت بـ « إذ » في نسخة « ز ».

٤١٤

ألقى السمع وهو سديد السليقة ومستقيم الطبيعة.

الثانية : قد عرفت في بعض ما قدّمناه من مباحث الظنّ أنّ معنى جعل الشيء طريقا فيما يحتاج إلى الجعل ـ كالظنّ وما يشاركه في اشتماله على احتمال عدم المطابقة للواقع ممّا يكون أصل مفاده مع قطع النظر عن حجّيته (١) كاشفا عن الواقع حاكيا له ناظرا إلى ما في نفس الأمر مطابقا للواقع بحسب أصل مفاده وإن احتمل الخلاف أيضا عقلا (٢) ولو احتمالا مساويا ـ ليس ما قد يظهر من بعض الأفاضل أنّ ذلك الشيء يكون من الأسباب الشرعية كالزوال ـ مثلا ـ للصلاة حتّى يكون معنى اعتبار البيّنة أو خبر الواحد أنّه إذا أقيمت البيّنة على كذا يجب كذا ، وإذا ورد خبر مدلوله كذا يجب الأخذ به مثلا ، كما في غيرها من الأسباب الشرعية التي هي معرّفات للأحكام.

بل التحقيق أنّ معناه جعلها مرآة عن الواقع وطريقا إليها تنزيلا لما ليس من العلم منزلة العلم ، فيترتّب عليه الآثار التي تترتّب (٣) على المعلوم ممّا كان العلم طريقا إليها ، تنزيلا لاحتمال الكذب المتطرّق في البيّنة منزلة العدم ، فلا بدّ من طرح الأحكام الشرعية المترتّبة على الاحتمال والشكّ ، والأخذ بالأحكام التي تلحق (٤) المعلوم ممّا يكون العلم طريقا إليها ، ويجب الأخذ بقوله وتصديقه والاعتراف بمطابقته للواقع والإذعان بحقّية خبره والاعتقاد بصدق كلامه وعدم الاعتناء (٥) باحتمال الكذب وعدم المطابقة في كلامه ، وحيث إنّ الأمر بالتصديق والاعتقاد بالمطابقة بعد وجود الشكّ (٦) وجدانا ممّا لا يعقل فلا جرم يؤول المعنى إلى إلغاء أحكام الشكّ (٧) ، فتقع الأدلّة الدالّة على الحجّية في تلك الأمارات مفسّرة للشكّ الواقع في أدلّة الأصول ، وهذا هو المراد

__________________

(١) « ز ، ك » : صحّته.

(٢) « ز ، ك » : فعلا.

(٣) في النسخ : يترتّب.

(٤) « ز ، ك » : يلحق.

(٥) « ز ، ك » : الاعتداد.

(٦) « ز ، ك » : شكّ.

(٧) « ز ، ك » : الأحكام المترتّبة على الشكّ.

٤١٥

بالتنزيل كما في غيره من التنزيلات الشرعية ، مثلا فيما لو لم يكن هذا الاحتمال منزّلا منزلة العدم كان له أحكام منها الأخذ بالبراءة فيما لو كان الشكّ في نفس التكليف ، والأخذ بالاحتياط فيما لو كان الشكّ في المكلّف به بعد العلم بثبوت التكليف ، والأخذ بالاستصحاب فيما لو (١) كان للمشكوك حالة سابقة مثلا ، والأخذ بالتخيير في موارد الحيرة ، كما عرفت تفصيل الكلام فيها بما لا مزيد عليه وكان ثبوت هذه الأحكام للشكّ أمرا قطعيا على وجه كان الحكم بعدم حجّية أمارة مشكوكة مستندة إلى لزوم طرح هذه الأحكام من غير دليل شرعي كما عرفت مرارا ، فإذا حكم الشارع بتنزيل هذا الاحتمال منزلة العدم وجعل ذلك الشيء كما إذا كان معلوما ، كان معناه أنّه يجوز (٢) طرح الأحكام الثابتة لهذا (٣) الاحتمال شرعا وترتيب آثار الشيء إذا لم يتطرّق إليه احتمال ، ففي مورد البراءة لا يجوز الأخذ بالبراءة ، وفي مورد الاحتياط لا يجب الأخذ بالاحتياط ، وفي مورد الاستصحاب لا مناص من الأخذ بما يدلّ على ارتفاع الحالة السابقة والأخذ بأحكام الواقع ، وكذا الكلام في التخيير لأوله حقيقة إلى البراءة.

نعم ، لمّا كانت واقعية تلك الأمارة وطريقيتها (٤) بواسطة حكم الشارع وتنزيله لها منزلة الواقع لا جرم كانت الأحكام المترتّبة على الواقع هي الأحكام التي تكون بجعل الشارع دون الأحكام العقلية التي لا دخل للشارع في مقام التكليف والشارعية فيها وإن لم تكن (٥) خارجة عن قدرته في مقام التكوين كما في غيره من التنزيلات الشرعية على ما عرفت وجه الكلام فيها في بعض الهدايات السابقة.

ومن هنا يظهر الوجه في أنّ حسن الاحتياط ليس ممّا يرتفع بعد دلالة دليل اجتهادي ظنّي على ثبوت حكم مخالف للاحتياط ؛ لأنّ ذلك إنّما كان من آثار عدم

__________________

(١) « ج ، ز » : ـ لو.

(٢) « ز » : لم يجوز.

(٣) « ج » : بهذا.

(٤) « ج ، م » : طريقتها.

(٥) المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : لم يكن.

٤١٦

إحراز الواقع في نفسه مع قطع النظر عن (١) الشرع أيضا ، فلم يكن ذلك بوضع الشارع حتّى يرتفع برفعه ، فلو قامت البيّنة على تعيين جهة القبلة بين الجهات المحتملة فغاية ما يستفاد منها هو رفع الوجوب الناشئ من عدم البيان بعد ثبوت التكليف ، وأمّا حسنه فهو من (٢) آثار حقيقة الشكّ وعدم العلم عقلا ، والعقل قاض به إحرازا للواقع المطلوب ، فهو ثابت حقيقة ، نعم لو تبدّل الشكّ علما ارتفع الحسن أيضا بارتفاع محلّه كما هو ظاهر.

وبالجملة (٣) : فجعل الشيء علما غير العلم واقعا ، فأحكام العلم واقعا غير مترتّب على ما ليس بعلم واقعا.

فإن قلت : لازم ما ذكرت عدم ارتفاع وجوب الاحتياط أيضا ، فإنّ وجوبه أيضا من الأحكام العقلية فإنّ العقل خوفا من وقوع النفس في الضرر المحتمل يحكم بوجوب الاحتياط كما عرفت في موارده ، بل اللازم عدم ارتفاع البراءة أيضا فإنّها أيضا حكم عقلي فلا يرتفع كما في حسن الاحتياط.

قلت : كم من فرق بينهما ، فإنّ حكم العقل بوجوب الاحتياط إنّما هو بواسطة عدم البيان على وجه تؤمن (٤) النفس من وقوعها في الضرر ، و (٥) بعد وجود الدليل والبيان المعتبر يرتفع موضوع الحكم ، بخلاف الحسن فإنّه يحكم به (٦) العقل من حيث عدم وصوله إلى الواقع ، وبعد إقامة الدليل المعتبر هو موجود أيضا ؛ إذ المفروض عدم كونه واقعا في الواقع فيلحقه حكمه واقعا. وبمثله نقول في البراءة كما سيجيء له زيادة تحقيق إن شاء الله.

__________________

(١) « ز ، ك » : من.

(٢) « ز ، ك » : « فمن » بدل : « فهو من ».

(٣) « ج ، م » : فبالجملة.

(٤) في النسخ : يؤمن.

(٥) « ز ، ك » : ـ و.

(٦) « ز ، ك » : ـ به.

٤١٧

وإذ قد تمهدت (١) هاتين المقدّمتين فنقول : إنّ نسبة الأدلّة الاجتهادية إلى الأصول العملية نسبة المفسّر إلى المفسّر ، والمبيّن إلى المبيّن ؛ لأنّك قد عرفت أنّ معنى اعتبارها هو إلغاء أحكام الاحتمال التي هي بعينها مفاد الأصول العملية التي منها الاستصحاب ، فإنّ قوله : « لا تنقض » معناه ترتيب أحكام المتيقّن على المشكوك حال الشكّ ، ومفاد قوله : « إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم » (٢) أو آية النبأ هو أنّ المراد والمقصود من الشكّ هو غير الشكّ في الموارد التي يوجد فيها الخبر أو البيّنة (٣) ، فالبيان في هذه الموارد ممّا يشبه التخصيص معنى ؛ لكون المبيّن خاصّا إلاّ أنّه ليس من التخصيص ظاهرا (٤) ؛ لما عرفت من اختلاف وجوه الكلام ، فإنّ قولك : أردت الإنسان ، بعد الأمر بإكرام الحيوان ليس من التخصيص ظاهرا ؛ لعدم تعرّض المخصّص بلفظه لمفاد العامّ كما عرفت في المقدّمة الأولى (٥) وإن كان في معناه ، ولهذا لا يناقضه إلاّ أنّه كما عرفت من أخفى أفراد البيان.

ولذا قد التبس الأمر في ذلك على بعض الأعيان فزعم أنّ بعد ورود الأدلّة الاجتهادية يرتفع موضوع الاستصحاب حقيقة (٦) ، وغفل عن وجود الشكّ الواقعي حسّا (٧) في موارد الاستصحاب ، فلا يتحقّق الورود ، فإنّ المتبادر من الأخبار هو اتّحاد مورد اليقين والشكّ والمفروض أنّ متعلّق الشكّ هو الحكم الواقعي ، ولا يجدي في رفع ذلك اليقين بالحكم الظاهري ، فإنّ اليقين بشيء غير اليقين باعتبار شيء فيه ، والموجب للورود هو الأوّل دون الثاني ، ولا ملازمة بينهما (٨) كما أشرنا إليه سابقا أيضا (٩).

وكذلك قد اختفى الأمر على بعض الأفاضل فزعم أنّ موارد الأدلّة الاجتهادية

__________________

(١) « ز ، ك » : عرفت.

(٢) سيأتي في ص ٤٧٤.

(٣) « ز ، ك » : البيّنة أو الخبر.

(٤) « ز ، ك » : في الظاهر.

(٥) قوله : « لعدم تعرّض ... » إلى هنا ورد في « ز ، ك » بعد قوله : « أو الخبر » فيما تقدّم.

(٦) « ز » : قطعا حقيقة ، « ك » : حقيقة قطعا.

(٧) كتب فوقها في نسخة « م » : حتّى ما.

(٨) « ز ، ك » : « هاهنا » بدل : « بينهما ».

(٩) أشار في ص ٤١١ ـ ٤١٢.

٤١٨

بواسطة أدلّة اعتبارها مخصّصة ـ بالفتح ـ عن عموم قوله : « لا تنقض » وهذه الدعوى وإن كانت أقرب من الأولى إلاّ أنّه غير جار على التحقيق أيضا ؛ لمكان الفرق الواضح (١) بين الحكومة والتفسير وبين التخصيص ، ومنشأ التحكيم فيما نحن بصدده هو ما مهّدناه في المقدّمة الثانية من أنّ معنى اعتبار الدليل الاجتهادي ليس ما يظهر من صاحب المعالم (٢) أنّه من الأسباب الشرعية المحضة ، بل معناه ما عرفت من أنّ البيّنة من حيث إنّها حاكية عن مدلولها صادقة شرعا لا بدّ من طرح الأصول في قبالها والأخذ باحتمال الواقع وطرح احتمال خلافه وعدم الاعتناء بالشكّ ، ولهذا يكون لكلّ واحد من الأدلّة الاجتهادية جهتان : جهة موضوعية بها (٣) صارت (٤) حجّة شرعية ، وجهة طريقية لأجلها حكم الشارع باعتبارها (٥) شرعا ، فهي إذا برزخ بين الأسباب الصرفة والطرق الصرفة كالعلم مثلا ، فلو لاحظنا قوله : « لا تنقض اليقين » وقوله : « اعمل بالبيّنة » مثلا وتحقّقنا مفادهما نعلم بأنّ الثاني بيان للأوّل ، فكأنّ الثاني يفسّر (٦) الشكّ المعتبر في موضوع الاستصحاب وليس من التخصيص في شيء ، وممّا يدلّ على ذلك هو ما عرفته في المقدّمة الأولى من أنّ علامة البيان هو كونه لغوا لو فرض عدم المبيّن كما يظهر من (٧) أدلّة العسر والحرج وآيتي المسارعة (٨) والاستباق (٩) ، فإنّها (١٠) على تقدير أن لا يكون في الدين أمر أو نهي تقع لغوا صرفا ، بل يكون (١١) أضحوكة محضة (١٢)

__________________

(١) « ز ، ك » : الواقع.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) « ز ، ك » : ـ بها.

(٤) المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : صار.

(٥) « ج ، م » : باعتباره.

(٦) المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : تفسير.

(٧) « ج ، م » : في.

(٨) قوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) آل عمران : ١٣٣.

(٩) قوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) البقرة : ١٤٨ ؛ المائدة : ٤٨.

(١٠) « م » : فإنّهما.

(١١) « ز ، ك » : « حتّى أنّه » بدل : « بل يكون ».

(١٢) « ج » : محضا.

٤١٩

كما لا يخفى ، بخلاف التخصيص كما في قوله : لا تكرم زيدا العالم ، فإنّه كما يصحّ بعد ورود العامّ كذا يصحّ على تقدير انتفاء العامّ رأسا ، وذلك ظاهر في الأدلّة الاجتهادية ؛ إذ بعد ما عرفت من أنّ معنى عدم اعتبارها هو الاعتناء بالشكّ والأخذ بأحكامه بحسب اختلاف الموارد ، ومعنى اعتبارها هو إلغاء تلك الأحكام ، لا ينبغي الارتياب في لغوية اعتبار الأدلّة الاجتهادية لو لم تكن (١) تلك الأحكام ثابتة للشكّ.

وبعبارة أخرى : لو لم تكن هذه الأحكام ثابتة لموارد الشكّ لم يكن لإلغائها ـ كما هو مفاد اعتبار الأدلّة الاجتهادية ـ معنى ، بل كان لغوا صرفا.

ثمّ لا فرق في ذلك بين التقديم والتأخير ؛ إذ الجمع بين الأدلّة لا يفرق فيه ذلك كما في العموم والخصوص أيضا ، نعم لو كان معنى اعتبارها كونها أسبابا شرعية كان القول بالتخصيص في محلّه.

ومن هنا ينقدح فساد مقالة من زعم أنّ بين الدليل الدالّ على البيّنة وبين الاستصحاب عموم من وجه ، حيث إنّ الأوّل يعمّ الموارد التي تؤخذ (٢) فيها الحالة (٣) السابقة وغيرها ، والثاني أعمّ من موارد البيّنة وغيرها ، فلا بدّ من الأخذ بالمرجّحات.

إذ بعد ما تحقّق من كون تلك الأدلّة محكّمة على الأدلّة التي بها يثبت أحكام الشكّ فلا معنى لملاحظة النسبة ، إذ المفسّر وإن كان عامّا مقدّم على المفسّر ، والوجه فيه هو أنّ بعد فرض التفسير فهو عند العرف أظهر ، فلا بدّ من الأخذ به ، على أنّ العموم في المقام ممنوع ، فإنّ دليل البيّنة حاكم على مطلق أحكام الشكّ التي منها الاستصحاب ، ومنشأ الخيال المذكور هو ملاحظته بالنسبة إلى خصوص دليل الاستصحاب ، ونظير ذلك ما مرّ مرارا من أنّ أدلّة نفي العسر والحرج إنّما يلاحظ بالنسبة إلى جميع الأحكام

__________________

(١) « ج ، م » : « لم يكن » وكذا في المورد الآتي.

(٢) « ك » : يؤخذ ، « ج » : يوجد ، وفي نسخة « م » كان تمام حروفها مهملا.

(٣) « ز ، ك » : بالحالة.

٤٢٠