مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

عن استصحاب الحكم.

لا يقال : كما أنّه يمكن توارد الأدلّة الاجتهادية في مورد الاستصحاب فكذلك يمكن تعدّد الاستصحاب بجريانه (١) تارة : في موضوعه ، وأخرى : في نفسه.

لأنّا نقول : إنّ جريان الاستصحاب في موارد الأدلّة الاجتهادية بعد فرض انتفائها وفرض انتفاء الموضوع ينافي الاستصحاب ، فعلى الأوّل فرض الانتفاء محقّق للاستصحاب ، وعلى الثاني مناف له ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

وما ذكرنا ظاهر فيما إذا كان الشكّ في الحكم الشرعي مسبّبا عن الشكّ في الموضوع وجودا وعدما ، وأمّا إذا كان الشكّ في الحكم باعتبار أمر آخر كما في مثال الطلاق فنقول : إنّ استصحاب وجود زيد أيضا يكفي في استصحاب الحكم الشرعي المترتّب على الطلاق ؛ لأنّ الموضوع إنّما يلحقه أحكام عديدة ويكفي في لحوقها له فرض وجوده وإن توقّف فعليته على تحقّق المفروض ، والمقدّر أنّ الاستصحاب (٢) الجاري في نفس الموضوع معناه ترتيب (٣) أحكامه الشرعية ، فبعد استصحاب الموضوع وتحقّقه تعبّدا يحكم بترتّب جميع أحكامه من غير حاجة إلى استصحاب آخر.

وتوضيحه وتحقيقه : هو أنّه لا شكّ أنّ القضايا الشرعية ليست قضايا خارجية ، بل إنّما هي قضايا حقيقية يكفي في صدقها فرض تحقّق موضوعها ، كما يلاحظ ذلك في نجاسة الكلب مثلا ، وطهارة الماء ، فإنّ إثبات هذه المحمولات لموضوعاتها لا يتوقّف على وجودها في الخارج ، فزيد الموجود في الخارج من أحكامه ولواحقه حرمة زوجته (٤) على غيره ووجوب نفقتها عليه عند العلم بعدم الطلاق ، كما أنّ من أحكامه حرمة زوجته على الغير (٥) عند الشكّ في الطلاق ، فيكفي في لحوق هذا الحكم له وتعلّقه

__________________

(١) « ز » : لجريانه.

(٢) « ز » : استصحاب.

(٣) « ز ، ك » : ترتّب.

(٤) « م » : « زوجيته » وكذا في الموردين الآتيين.

(٥) « ز ، ك » : غيره.

٣٨١

به فرض وجوده ؛ إذ لا فرق بين الحكم الثابت للموضوع بين أن يكون الحكم مدلولا لدليل اجتهادي أو مفادا لأصل عملى إلاّ في الظاهرية والواقعية التي لا مدخل لها في المقام.

وبالجملة : فالذي يظهر من ملاحظة القضايا الشرعية أنّ الأحكام تلحق (١) الموضوعات على تقدير الوجود ، فزيد الموجود حكمه حرمة زوجته عند العلم بعدم الطلاق وعند الشكّ فيه ، وأمّا الشكّ في وجود زيد فلا مدخل لهذا الحكم فيه أبدا ، كما لو شككنا في ارتفاع نجاسة الكلب فإنّ استصحاب نجاسة الكلب لا يناط بوجود الكلب وإن كانت النجاسة متعلّقة بالكلب الموجود ، نعم يتوقّف فعلية هذا الحكم في الخارج على وجود الكلب ، فلو كان الشكّ في وجود الكلب يكفي استصحابه في ترتّب هذه الأحكام المترتّبة (٢) عليه ، فعند التحقيق يرتفع الشكّ الحاصل في الحكم من غير جهة الموضوع (٣) بفرض وجوده ، وتعلّق أحكامه به على هذا الفرض ، ويبقى الشكّ فيه من جهة بقاء الموضوع خاصّة ، وقد عرفت كفاية استصحاب الموضوع في رفع هذا الشكّ أيضا. هذا إذا كان الشكّ في الحكم الشرعي الذي يترتّب (٤) على نفس الموضوع من غير توسّط (٥) أمر عادي ، أو عقلي.

وأمّا الكلام فيما إذا كان الحكم الشرعي مترتّبا على الموضوع بالواسطة ، فالحقّ أيضا (٦) عدم الحاجة إلى استصحاب الموضوع ؛ لكفاية استصحاب نفس الواسطة ، حيث إنّها من الموضوعات أيضا ، مثلا لو شككنا في حرمة شيء مهلك بواسطة كونه ذا كيفية مائلة عن حدّ الاعتدال في إحدى الكيفيات الأربعة التي تحصل منها الأمزجة على ما يعبّر عنها بالسمّية مثلا ، فإنّه لا حاجة في إثبات الحرمة إلى استصحاب

__________________

(١) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يلحق.

(٢) « ز ، ك » : المتفرّعة.

(٣) « ز ، ك » : الموضوع ويبقى.

(٤) « ز » : ترتّب.

(٥) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : توسيط.

(٦) « ز ، ك » : ـ أيضا.

٣٨٢

السمّية التي يترتّب عليها الإهلاك ، ثمّ استصحاب الإهلاك ، ثمّ استصحاب الحرمة بإعمال استصحابات ثلاث ، بل يكفي في ذلك استصحاب المهلك ومعناه حرمة أكله على ما عرفته (١).

أمّا أوّلا : فلأنّ المهلك أيضا موضوع من الموضوعات ، واستصحابه غير محتاج إلى إحراز الموضوع فإنّه على ما هو موضوع لا موضوع له ، كما في الماهيّة المعرّاة عن الوجود والعدم فيما كانت موضوعا في استصحاب الوجود ، نعم لو فرض له حكم آخر فيحتاج إلى اعتبار موضوع آخر إلاّ أنّه لا مدخل له في المقام ، والسرّ في ذلك أنّ المهلكية كالسمّية من الأعراض الحالّة في محلّ واحد ؛ لامتناع قيام المعنى بالمعنى ، غاية الأمر أنّ السمّية واسطة في ثبوت الإهلاك في المحلّ فكما يمكن ملاحظة ذلك المحلّ منعوتا (٢) بالسمّية ومتّصفة بها واستصحابها ، فكذا يمكن ملاحظته متّصفة بالمهلكية ، وعلى هذا التقدير لا حاجة في استصحاب المهلك إلى استصحاب السمّ كما أنّه لا حاجة في استصحاب الحرمة إلى استصحاب المهلك ، بل يكفي فيه نفس استصحاب المهلك فإنّ معناه ترتيب (٣) أحكامه.

وأمّا ثانيا : أنّه على تقدير استصحاب السمّية فإن أريد إثبات الحرمة باستصحابها فغير سديد ؛ لكونه من الأصول المثبتة ، وإن أريد إثبات المهلكية وترتّبها على السمّية ، ثمّ استصحاب الحرمة فغير مفيد ؛ لعدم ترتّب الإهلاك على السمّية المستصحبة ، لأنّه من الآثار العاديّة أو العقلية ولا يترتّب على المستصحب ، وعلى القول باعتبار الأصل المثبت فيكفي في إثبات الحرمة استصحاب السمّية ، ولا حاجة إلى إحراز الإهلاك بالاستصحاب ؛ لترتّب الحرمة على السمّية حينئذ (٤).

__________________

(١) « ج ، م » : عرفت.

(٢) « ز ، ك » : متقوّما.

(٣) « ز ، ك » : ترتّب.

(٤) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : ـ حينئذ.

٣٨٣

وأمّا الثاني : فلأنّه (١) بعد تسليم الحاجة إلى استصحاب الموضوع نقول : لا شكّ في أنّ الوجه في احتياج استصحاب الحكم إلى إحراز الموضوع على ما مرّ إنّما هو امتناع قيام العرض بلا جوهر أو انتقاله إلى محلّ آخر ، فمن جملة الأحكام العقلية المترتّبة على بقاء الموضوع جواز استصحاب عرضه الحالّ فيه وحكمه القائم به ، ولا شكّ أيضا أنّ إثبات الموضوع بالاستصحاب لا يجعل الموضوع موجودا واقعيا فلا يترتّب عليه ما هو من لوازمه عقلا ، فجواز استصحاب الحكم لا يترتّب على استصحاب الموضوع كائنا ما كان.

لا يقال : ما ذكرت جار بعينه في استصحاب الموضوع ؛ لأنّ ما هو المحلّ للعرض إنّما هو الموضوع المعلوم بحسب الواقع ، والمفروض أنّه (٢) حال الشكّ وعدم العلم به لا يعلم وجوده فكيف يمكن الحكم بترتّب الأحكام العرضية على ما لا نعلم وجوده؟ وبالجملة فترتّب الأحكام وكون الموضوع محلاّ للعرض القائم به ليس من الأحكام الشرعية ، بل ذلك من لوازم الموضوع الواقعي عقلا ، فباستصحابه (٣) لا يمكن الحكم بترتّب (٤) آثاره عليه.

لأنّا نقول : فرق ظاهر بين المقامين ، فإنّ الأحكام الشرعية أمور جعلية متعلّقة بأفعال المكلّفين بحسب اختلافاتها ، فربّما يصير الفعل المتعلّق بموضوع خارجي واقعي موردا لواحد منها كحرمة شرب الخمر ووطي الأجنبية ، وقد يصير الفعل المتعلّق بمشكوك الموضوع أيضا موردا لذلك الحكم ، كما فيما إذا شككنا في حلّية الخمر لاحتمال انقلابه خلاّ ، وكما إذا احتملنا وقوع العقد المحلّل على الأجنبية من الوكيل مثلا ، فالموضوع الواقعي يتعلّق به حكم ويتعلّق بالمشكوك أيضا ذلك الحكم ، ولا ضير فيه ؛ لحلول العرض إذا في المشكوك ، غاية الأمر أنّ الحكم المتعلّق بالموضوع الواقعي

__________________

(١) « ج ، م » : فلأنّ.

(٢) « ز ، ك » : ـ أنّه.

(٣) « ز ، ك » : واستصحابه.

(٤) « م » : الحكم ترتيب.

٣٨٤

واقعي والمتعلّق بالموضوع المشكوك ظاهري ، بخلاف جواز استصحاب حكم المتعلّق بالموضوع فإنّه من الأحكام العقلية التي لا تشوبها (١) الشرعية في وجه ، كذا أفاد سلّمه الله تعالى.

إلاّ أنّ ذلك لعلّه ينافي ما تقدّم من البرهان على لزوم بقاء الموضوع ؛ ضرورة اقتضائه الحكم بثبوت شخص العرض الموجود في المحلّ ولا يتأتّى (٢) ذلك فيما كان المستصحب نفس الموضوع كما عرفت ، فإنّ الحكم الثابت للموضوع الواقعي ولو بحسب شخصه يغاير الحكم المتعلّق بالموضوع المشكوك بواسطة قوله : « لا تنقض » بل وفيما كان المستصحب هو الحكم الشرعي المتعلّق به ؛ ضرورة أنّ الحكم الثابت في زمان الشكّ بواسطة أدلّة الاستصحاب يغاير الحكم الواقعي شخصا ، فتأمّل.

وكيف كان ، فلا وجه للقول بإحراز الموضوع بالاستصحاب ، بل ولا بشيء آخر ممّا هو في عرض الاستصحاب من الأصول العملية لو فرض ، وذلك بخلاف البيّنة وما يماثلها من الطرق الواقعية ؛ إذ بها يثبت نفس الموضوع كما إذا كان معلوما فيحتاج في إثبات الحكم إلى الاستصحاب ؛ إذ لا دخل للبيّنة بعد إقامتها على ثبوت موضوع في الحكم المتعلّق به ، هذا إذا كان الاستصحاب جاريا في الموضوع كما في القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة المذكورة وهو ما كان الشكّ في الموضوع مسبّبا عن الشكّ في الأمور الخارجية.

وأمّا في القسمين الأخيرين فقد عرفت عدم جريان الاستصحاب أصلا إلاّ إذا كان الشكّ في اندراج فرد تحت كلّي ، كما إذا شكّ في اندراج من يشكّ في صلاته (٣) أربع مرّات في كلّي كثير الشكّ بعد ما كان شكّه عشر مرات مثلا ، فإنّ جريان الاستصحاب فيه وعدمه موكول إلى ما سبق في بيان استصحاب القدر المشترك ، وأمّا فيما عدا ذلك

__________________

(١) المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : لا يشوبها.

(٢) « ز ، ك » : ينافي.

(٣) « ج » : صباح صلاته.

٣٨٥

فالاستصحاب في خصوص الموضوع لا مجرى له ؛ لعدم العلم به في السابق ، واستصحاب القدر المشترك والأمر المردّد بين الأمرين ممّا لا يجدي في ترتيب (١) أحكام أحد طرفي الترديد.

وتوضيحه : أنّه إذا كان الشكّ فيه (٢) من جهة الاشتباه في الموضوع المستنبط أو الاشتباه في الأدلّة الشرعية ، فالمستصحب إن أراد استصحاب الموضوع الخاصّ في محلّ الشكّ فلا علم به في السابق ، وإن أراد استصحاب مطلق الموضوع فاعتباره موقوف على اعتبار الأصول المثبتة التي لا تعويل عليها عندنا ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

ثمّ إنّه إن ميّز المورد فلا كلام ، وإلاّ فلا بدّ من إزالة الشكّ في الأقسام المذكورة ، ففيما إذا كان الشكّ فيه باعتبار الخارج فلا بدّ من ملاحظة الواقع بفتح عين (٣) البصر أو البصيرة أو نحو ذلك ، ففي صورتي البقاء والارتفاع واقعا لا إشكال لجريان (٤) الاستصحاب على الأوّل ، وعدمه في الثاني ، وعلى تقدير الاشتباه أيضا فالوجه استصحاب نفس الموضوع على ما عرفت ، وسيجيء (٥) ـ إن شاء الله ـ عدم الحاجة إلى (٦) الفحص في استصحاب الموضوعات ، وفيما إذا كان الشكّ في اللغة لا بدّ من الرجوع إلى ما يزيل الشكّ كالعرف واللغة على حسب تميّز ما قد يشتبه من الألفاظ ، فإن تعيّن الموضوع فهو ، وإلاّ فليس من مجاري الاستصحاب ، وفيما إذا كان الشكّ في الموضوع من جهة الاشتباه في الدليل الشرعي فيمكن تمييز (٧) الموضوع بوجوه ـ والمراد بالموضوع في المقام هو ما صحّ حمل المستصحب عليه بوجه من الوجوه نظير

__________________

(١) « ز ، ك » : ترتّب.

(٢) « ز ، ك » : ـ فيه.

(٣) « ز ، ك » : العين.

(٤) « ج ، م » : بجريان.

(٥) سيجيء في ص ٥١٣ ـ ٥١٤.

(٦) « ز ، ك » : في.

(٧) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : تميّز.

٣٨٦

الموضوع في المنطوق والمفهوم (١) لا خصوص المسند إليه والمبتدأ والموضوع في القضيّة الحملية ، فيتعدّد (٢) الموضوع في قضيّة واحدة مثلا يجب عليك الصلاة وقت الزوال ، فالوجوب هو المستصحب ، والباقي هو الموضوع على اختلاف الموارد ـ :

الأوّل : أن يكون المعيار في التميّز هو التدقيق فيقال : باعتبار كلّ ما يحتمل مدخليته في الموضوع من وصف أو حال أو زمان أو مكان أو شرط أو إضافة ونحوها ، فلو أحرزنا جميع ما يحتمل اعتباره في الموضوع يمكن إجراء الاستصحاب وإلاّ فلا (٣) ، سواء كان الموضوع محرزا في الأنظار العرفية أو في الأدلّة الشرعية ولو بنحو من العناية فيها ، أو لم يكن ، من غير فرق بين أن يكون الشيء ممّا يحتمل مدخليته في أصل ثبوت الحكم أو في استدامته.

فعلى هذا المعيار تنقسم (٤) موارد الاستصحاب على أقسام : فتارة : لا مجرى له مطلقا كما إذا شكّ في اعتبار وصف لا يرجع إلى الزمان في الموضوع ، وأخرى : يجري الاستصحاب قطعا كما (٥) إذا كان الشكّ في الرافع (٦) ، سواء كان في وجوده أو في رافعيته لما قد تقرّر في الهداية الأخبارية (٧) من أنّ الشكّ في الرافع إنّما هو بعد إحراز الموضوع على ما مرّ تفصيل الكلام فيه ، ومرّة : يفصّل بين ما كان المعتبر في الموضوع ولو احتمالا زمانا على وجه الظرفية كما في استصحاب الخيار على بعض الوجوه ، وبين ما كان على وجه القيدية (٨) كما في استصحاب الأحكام الطلبية كالوجوب فإنّه ممّا يمكن أن يكون الزمان قيدا له على ما مرّ (٩).

الثاني : أن يكون المعيار في التميّز هو الرجوع إلى ما هو الموضوع عند العرف ، فكلّ

__________________

(١) « ج ، م » : المفهوم والمنطوق.

(٢) « ج ، ز » : فتعدّد.

(٣) « ز ، ك » : فلا يمكن.

(٤) « ز ، ك » : ينقسم.

(٥) فوقها في « م » : نسخة : ممّا.

(٦) « م » : الواقع.

(٧) تقدّم في ص ١٩٣.

(٨) « ز ، ك » : التقيدية.

(٩) انظر ص ١٢٣.

٣٨٧

ما يعتبر في موضوع الحكم عرفا لا بدّ من إحرازه ، ثمّ يجري الاستصحاب على منواله ، سواء كان موافقا لما اعتبره العقل موضوعا على الوجه الذي مرّت (١) الإشارة إليه أم مخالفا ، من غير فرق بين موافقته لعنوان (٢) الدليل ومخالفته له ، فلو كان المعتبر في الدليل هو الماء المتغيّر مع عدم اعتبار التغيّر (٣) في الموضوع العرفي فالمتّجه هو العرف في ذلك ، فلا يفرق فيه الأدلّة اللفظية وغيرها كالإجماع ونحوه ، وقضيّة اعتبار هذا المعيار جريان الاستصحاب في الموارد المتقدّمة في أغلبها ؛ ضرورة اتّساع دائرة الاستصحاب على هذا التقدير جدّا ، ومنه استصحاب نجاسة الكلب بعد صيرورته جمادا بالموت ولو لم يعلم نجاسة الميتة ، كاستصحاب بقاء العلقة الزوجية بعد موت أحد الزوجين ، إلى غير ذلك.

الثالث : أن يكون المرجع عند الشكّ في الموضوع إلى ظواهر الخطابات الشرعية ولا ينافي ذلك ما تقدّم من كون المقسم (٤) هو ما كان الشكّ في الموضوع من جهة الشكّ في الأدلّة الشرعية ، فإنّ المراد هو أنّه قد يحتمل أن يكون المأخوذ في العنوان الشرعي على وجه يحتمل أن يكون قيدا في الموضوع ، وأن يكون مجرّد العنوانية والمرآتية من غير مدخلية له فيه ؛ لاحتمال أن يكون هو القدر المتيقّن ، فيؤخذ بما هو الظاهر فيها من اعتبار العنوان قيدا أو عنوانا فقط من غير ملاحظة العرف في انتزاعهم الموضوع والدقّة مخالفا أو موافقا ، واللازم على هذا التقدير عدم إحراز الموضوع في الأدلّة اللبّية ، فإن أقيم دليل على العرف فهو المرجع فيها ، وإلاّ فالمناط هو الدقّة ، وبدونها لا استصحاب ، فلو كان الدليل مشتملا على عنوان كما إذا ورد الماء المتغيّر نجس ونحوه ممّا ظاهره اعتبار الوصف (٥) العنواني فعند ارتفاعه لا استصحاب ، بخلاف ما إذا كان

__________________

(١) « ج ، م » : مرّ.

(٢) « ز ، ك » : بعنوان.

(٣) « ج » : التغيير.

(٤) « م ، ك » : القسم.

(٥) « ز ، ك » : مما هو ظاهر في اعتبار الوصف.

٣٨٨

الوصف المأخوذ في الدليل ظرفا للمحمول كما إذا ورد الماء نجس إذا تغيّر.

لا يقال : بعد ما كان ظاهر الدليل هو القيدية (١) فالمتّجه هو الأخذ به وطرح ما ينتزعه (٢) العرف من الموضوع ؛ ضرورة اعتبار الظواهر على وجه الإطلاق ، ومعه لا يتمشّى المعيار الأوّل أيضا ، فالوجه هو القول باختصاص المعيار إلى (٣) هذا.

لأنّا نقول : إنّ ظهور الدليل ليس على وجه ينافي حكم العرف بأعمّية الموضوع ، فيبنون في انتزاع الموضوع على تصرّف في الدليل بدعوى فهم المرآتية دون العنوانية ، أو بدعوى أنّه القدر المتيقّن ـ مثلا ـ على وجه من وجوه التمحّل (٤) والاعتساف ، فلا ضير في المعيارين الأوّلين أيضا ، كذا أفيد ، وللنظر فيه مجال واسع.

وكيف كان ، فالعمدة في المقام هو الترجيح بين هذه الوجوه المذكورة في التميّز ، قال الأستاد دام مجده العالي (٥) وأوضح الوجوه المذكورة أوسطها ، فلا عبرة بالتدقيق العقلي ولا بالدليل الشرعي ، فيجري الاستصحاب في جملة من الموارد التي بنينا الأمر فيها على ملاحظة الموضوع.

إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ الميزان العرفي كغيره من الأمور الراجعة إليهم ممّا لا ضبط فيه (٦) فربّما يزعمون تبدّل الموضوع كما في انقلاب العلقة حيوانا ولا يحكمون بذلك فيما يساويه في الانقلاب ، بل ولا يبعد أن يكون أوضح تبدّلا ، كما في استحالة الكلب ملحا أو العصير خلاّ ، وكما في استصحاب وجوب تقليد المجتهد بعد موته ، واستصحاب بقاء العلقة بين الزوجين فلا يبالون بالنظر واللمس (٧) مع انقلاب الموضوع وتبدّله على وجه القطع والجزم ، فيعتقدون أنّ القضايا التي وردت في بيان أحكام هذه الموضوعات إنّما

__________________

(١) « ز ، ك » : التقيدية.

(٢) « ج ، م » : ينزعه.

(٣) « ز ، ك » : ـ إلى.

(٤) « ز ، ك » : المحلّ.

(٥) « ز ، ك » : دام علاه.

(٦) « ز ، ك » : فيهم.

(٧) « ز ، ك » : الحسّ.

٣٨٩

هي مشروطة عامّة يبتني الحكم فيها على كون الموضوع متّصفا بالوصف العنواني من غير أخذه فيه ، ومنه استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره حيث تراهم يشيرون (١) إلى الماء فيقولون : إنّ هذا الماء كان نجسا وشكّ في بقائها والأصل بقاؤها مع أنّ من الظاهر أنّ هذا الماء لم يكن نجسا بل بوصف التغيّر (٢) ، فما كان معلوم النجاسة قد ارتفع والموجود غير معلوم النجاسة ، ومثله استصحاب نجاسة العذرة إذا استحالت ترابا ، والخشب المتنجّس إذا صار رمادا أو فحما مثلا.

وذلك ممّا يعرف من ديدنهم في الأمور (٣) المتعلّقة بهم عادة وغيرها أيضا ، وسواء في ذلك على ما عرفت وجود دليل لفظي أو لبّي على أصل الحكم ، لكن بعد تصرّف منهم في عنوان الدليل فيتخيّلون أنّ الموضوع في الكلب ليس خصوص الصورة (٤) النوعية التي بها يتميّز عن غيره من أنواع الحيوان ، ولا مطلق الجسم ، فلو انقلب حجرا لا يحكمون بذلك ، كما لو انقلب الخمر ـ مثلا ـ هرّة لا يعلمون بالاستصحاب ، بل يأخذون ما هو أعمّ من الصورة النوعية وما هو أخصّ من مطلق الجسم نظير تصرّفهم في الدليل الدالّ على نجاسة ملاقي النجس ، فإنّ الدقّة العقلية لا يقضي (٥) بالفرق بين ورود النجاسة على الماء أو ورودها عليه في صدق الملاقاة ، إلاّ أنّهم يفرّقون في ذلك زعما منهم أنّ النجاسة كباقي الأوصاف الحالّة في الجسم المتعدّية إلى غيره بالملاقاة ، كالحموضة ونحوها فإنّ ورودها يؤثّر في حموضة المورود (٦) دون أن يكون الماء واردا على الحموضة.

ومن هنا يعلم وجه اختلاف كلمات العلماء في موارد الاستحالة ، فهذا هو المحقّق قد يحكم (٧) باستصحاب نجاسة الخنزير الواقع في المملحة حيث حكم في المعتبر (٨) بعدم

__________________

(١) « ج ، م » : فيشيرون.

(٢) « ج » : التغيير.

(٣) « ج ، م » : أمور.

(٤) « ج ، م » : الصورية.

(٥) « ج ، ك » : لا يقتضي.

(٦) « ز ، ك » : المورد.

(٧) « ز ، ك » : المحقّق في الحكم.

(٨) المعتبر ١ : ٤٥١.

٣٩٠

طهارته بالاستحالة وأسند الخلاف إلى أبي حنيفة معرضا عنه محتجّا على ما (١) صار إليه بأنّ النجاسة قائمة بالأعيان ولا تزول بتغيّر (٢) الأوصاف والأحوال وقد يتردّد (٣) في نجاسة الخشب المتنجّس إذا استحال رمادا أو دخانا. وكذا العلاّمة في القواعد (٤) إنّما (٥) اقتفى أثر المحقّق في الإسناد المذكور والاحتجاج أيضا ، إلاّ أنّه أسند القول بعدم الطهارة إلى أكثر أهل العلم ، وصريح كلام غيرهما أنّ الاستحالة من المطهّرات.

وبالجملة : فاضطراب كلماتهم (٦) على ما يظهر من مطاويها ممّا لا ينكر ، فلعلّه يجمعها ما قلنا من اختلاف الأمور العرفية في الأغلب ولا كلام فيه ، وإنّما المهمّ إثبات الكبرى من وجوب الأخذ بهذا المعيار ، فإنّ الصغرى ظاهرة لا تخفى (٧) على أحد ، وما يشعر بذلك قولهم بأنّ الاستحالة من المطهّرات ، فإنّ معنى كون الشيء مطهّر الشيء هو بقاء ذلك الشيء وإزالة نجاسته بذلك المطهّر كما يظهر من كون الماء مطهّرا ، وتوضحه ملاحظة ما احتجّ به العلاّمة في النهاية (٨) من أولوية الحكم بالطهارة بعد الاستحالة في المتنجّس ، وتبعه في ذلك صاحب المعالم (٩) فحكم بأنّ الخشب المتنجّس إذا طهّر بالماء فبالإحراق أولى ، ويزيد توضيحا أنّهم ممّن عدا كاشف اللثام (١٠) وجماعة ممّن حذوا حذوه (١١) لم يفرّقوا بين النجس والمتنجّس في الحكم بالطهارة في الاستحالة ، ولو لا

__________________

(١) « ز ، ك » : لما.

(٢) « ج ، م » : بتغيير.

(٣) تردّد في الشرائع ٤ : ٧٥٤ ط الشيرازي.

(٤) قواعد الأحكام ١ : ١٩٥ ، وليس فيه إسناد القول بعدم الطهارة إلى أكثر أهل العلم ، بل قاله في المنتهى ٣ : ٢٨٧ وفي ط الحجرية ١ : ١٧٩.

(٥) « ز ، ك » : ـ إنّما.

(٦) « ك » : كلامهم.

(٧) في النسخ : لا يخفى.

(٨) نهاية الإحكام ١ : ٢٩١ ، في المطلب الرابع في أنواع المطهّرات.

(٩) معالم الدين ( قسم الفقه ) ٢ : ٧٧٦ في مسألة مطهرية النار لما يستحيل بها رمادا.

(١٠) كشف اللثام ١ : ٤٦٢ وفي ط الحجرية ١ : ٥٧.

(١١) « ز ، ك » : حذى حذوه ، « ج » : حذوه أحذوه.

٣٩١

أنّ الموضوع عندهم هو الأمر العرفي الباقي في التحويلات مع شدّتها لم يصحّ ذلك منهم في وجه ؛ لعدم الأولوية بعد اختلاف الموضوع ، ولكان التفصيل بين النجس والمتنجّس في محلّ من القبول كما صنعه الفاضل ، إلاّ أنّ عدم تفرقة الأصحاب بينهما يكفي في الردّ على الفاضل في التفصيل.

مضافا إلى استفادة عدم الفرق بينهما من بعض الأخبار ، ففي الخبر عن الجصّ : يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ويجصّص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب عليه‌السلام بخطّه الشريف : « أنّ النار والماء قد طهّراه » (١) حيث إنّ الراوي لم يفصّل بين العذرة التي هي من النجاسات وعظام الموتى التي هي من المتنجّسات ، ولم يفصّل الإمام عليه‌السلام بينهما أيضا فحكم بما حكم وإن كان نفس الحكم ممّا لم يعمل به الأصحاب ؛ إذ لا ضير في ذلك ، لجواز الاستناد إلى الرواية في الجهة التي لم يظهر منهم خلافها.

وبالجملة : فالصغرى ممّا لا كلام فيها ، وأمّا الكبرى فيدلّ عليها (٢) أمران :

الأوّل ـ وهو العمدة ـ : صدق اتّحاد القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة في نظر العرف المأمورين بعدم نقض اليقين إلاّ باليقين المخاطبين بقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ أبدا » فإنّ صدق النقض المنهيّ عنه في تلك الأخبار على تقدير عدم العمل بالاستصحاب في الموارد التي تعدّ (٣) عندهم من بقاء الموضوع ظاهر (٤) ؛ ضرورة تنزيل الخطابات الشرعية على الأفهام العرفية لا على التدقيقات الفلسفية (٥) على ما هو ظاهر ، إذ لا شكّ في أنّ المخاطب بهذه الروايات أهل العرف من العوامّ وغيرهم ، فإذا لا يخلو إمّا أن يكون ما يفهمونه من صدق النقض في أمثال المقامات التي لا مسرح

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٥٢٧ ، باب ٨١ من أبواب النجاسات ، ح ١ ، و ٥ : ٣٥٨ ، باب ١٠ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ١ ؛ بحار الأنوار ٧٧ : ١٥٢.

(٢) « م » : عليه.

(٣) « ز ، ك » : يعدّ.

(٤) « ز ، ك » : ظاهر ، بل.

(٥) « ج » : الفلسفة.

٣٩٢

للنقض العقلي فيها مرادا للحكيم المخاطب لهم (١) أو لا ، لا سبيل إلى الثاني فإنّه على ما يساعد عليه صحيح الاعتبار وصريح بعض الأخبار أجلّ من أن يخاطب قوما ويريد خلاف ما يفهمونه ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب.

الثاني : أنّه لو لم يكن مرجع الموضوع في الاستصحاب هو العرف على وجوه اختلاف موارده لزم أن يكون أمر الاستصحاب موكولا إلى مسألة عقلية تصدّى لها (٢) بعض أهل المعقول من تجدّد الأمثال في (٣) الأعراض والأكوان وثبوت الحركة الجوهرية على ما بنى عليها (٤) بعض أفاضل محقّقيهم (٥) ؛ ضرورة امتناع البقاء على أحد التقادير مع لزوم العلم بإمكان البقاء في الزمان الثاني في موارد الاستصحاب ، وبطلان اللازم ممّا لا يكاد يخفى (٦) ؛ لعدم مصرّح بذلك منهم ولا مشعر به ، بل ويمكن القول بأنّ القائلين بهذه الأقوال لا مناص لهم من العمل بالاستصحاب ، وذلك أمر ظاهر ويكفيك ملاحظة موارد كلمات العلماء (٧) في خصوص بعض الموارد ، فلعلّه يمكن دعوى الاتّفاق على الأخذ بالاستصحاب فيها كالكرّية واستصحاب الليل والنهار وجري الأنهار ، فإنّها من المتّفق عليها بين الأصولية والأخبارية ، ولو لا البناء على بقاء الموضوع العرفي لما صحّ تلك الاستصحابات (٨) على ما عرفت الوجه فيها مرارا (٩).

وممّا يكشف حجاب الريب عن ذلك تتبّع كلمات (١٠) أصحابنا الفقهاء في الفروع الفقيهة فإنّهم قد أفتوا فيما إذا كانت العين المرهونة عصيرا فانقلب خمرا بوجوب الردّ مع الفكّ ؛ لعدم ما يتقوّم به الرهان من الأموال في نظر الشارع ، فلو انقلب بعد ذلك

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ لهم.

(٢) « ز » : بها.

(٣) « ز ، ك » : « و ».

(٤) « ز ، ك » : عليه.

(٥) هو الملاّ صدرا الشيرازي. انظر ص ٣٥٢.

(٦) « م » : يحصى.

(٧) « ز ، ك » : كلماتهم.

(٨) « ز ، ك » : ذلك في الاستصحابات ، « ج » : ذلك الاستصحاب.

(٩) انظر ص ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(١٠) « ز ، ك » : ـ كلمات.

٣٩٣

خلاّ قالوا بعود المالية والملكية والرهنية استصحابا لها مع وضوح أنّ بعد الانقلاب قد ارتفع الملكية والرهنية التابعة لها قطعا ، وهذه الملكية جديدة لم تكن محلاّ للرهنية ، ولو لا أنّ المرجع في الاستصحاب هو حكم العرف ببقاء الموضوع لما صحّ ذلك في وجه ، إلاّ أنّهم يزعمون بقاء الاختصاص الإجمالي في المنقلب خمرا ولهذا يحكمون بوجوب الردّ إلى الراهن ؛ لإمكان العلاج ، فالموضوع عندهم ليس خصوص الصورة النوعية المتقوّمة بالعصير ، بل الأمر المردّد بينه وبين مطلق الجسم وهو باق في الحالتين ، ومنه حكمهم بوجوب ردّ الخمر المنقلب من العصير على الغاصب فيما إذا غصبه عصيرا فانقلب خمرا ، ومع ذلك فعليه الضمان للقيمة ؛ لأنّه بمنزلة التلف كما في عوض الحيلولة ، ومنه حكمهم ببقاء الإطلاق في الماء إذا أريق فيه شيء (١) من الجلاب وغيره من المضاف أو استصحاب الإضافة في العكس ، فإنّ عدم بقاء الموضوع في هذه الموارد دقّة ممّا لا يدانيه شوب الإنكار مع ظهور إطباقهم على اشتراط بقاء الموضوع ، فلا مسرح لنا إلاّ القول بأنّ بقاء الموضوع في العرف على وجه يعدّ عرفا باقيا كاف في الاستصحاب.

وأمثال هذه الأمور في كلماتهم ممّا لا مجال لإنكارها ، ولكن لا بدّ من التفرقة بين المقامات فتراهم (٢) لا يعلمون بالاستصحاب في بعض الموارد ويأخذون به في نظيره على ما نبّهنا عليه ، ويمكن أن يكون ذلك بواسطة اختلاف المحمولات فإنّ القضايا العرفية تختلف (٣) من هذه الجهة أيضا ، كما هو مشاهد من ملاحظة قولنا : الإنسان ماش ، وقولنا : الحيوان كاتب ، وقولنا : الإنسان ضاحك ، فإنّ المستفاد من الأوّل عموم الموضوع بعموم (٤) المحمول ، واختصاصه في الثاني ، وتساويه في الثالث ، ولعمري تشخيص الموارد العرفية في غاية الإشكال ونهاية الإعضال وليس أمرا مطّردا

__________________

(١) « ج » : شيئا.

(٢) « م » : فيراهم.

(٣) في النسخ : يختلف.

(٤) « ج ، م » : لعموم.

٣٩٤

يؤخذ (١) به في جميع المراتب المشكوكة ، فليتأمّل في المقام فإنّه من مزال الأقدام.

بقي في المقام شيء وهو أنّه قد اشتهر في الألسنة ، بل قد يظهر من ثاني الشهيدين (٢) الإصرار عليه أنّ الأحكام تتبع الأسماء وهو بظاهره لعلّه ينافي الرجوع في التميّز إلى العرف ، فإنّهم على ما عرفت لا يبالون باختلاف الاسم في إجراء الأحكام الثابتة للعنوانات ، فربّما يحكمون بالحكم مع القطع بعدم صدق الاسم كما في مسألة الاستحالة ، فإنّ أكثر أهل العلم على ما نسبه إليهم العلاّمة (٣) على عدم حصول الطهارة فيلحقه حكم النجاسة مع عدم لحوقه الاسم ، إلاّ أنّه قد يظهر من بعضهم القدح فيه بالقطع بأنّ مجرّد اختلاف اللفظ لا يصير منشأ لاختلاف الحكم ، فلو سمّي الكلب إنسانا لم يطهّر إجماعا ، فدوران الأحكام مدار الأسماء ممّا لا معنى له ، وهو وإن أصاب في المطلب لظهور عدم كون القضيّة المعروفة (٤) آية أو رواية أو مجمعا عليها ويكفيك في دفعها (٥) إسناد العلاّمة القول بخلافها إلى أكثر أهل العلم ، ولكنّه قد أخطأ في الطريق على ما نبّه (٦) عليه العلاّمة الطباطبائي في المصابيح ؛ إذ ليس المراد منها أنّ الأحكام تتبع الألفاظ ، بل المراد بتبعيتها للأسماء هو تبعيتها للمسمّيات (٧) ، أي الأمور الواقعية التي يستكشف عنها بتلك الألفاظ ، ومن هنا يظهر الوجه في قولهم : الأحكام تتبع الأسماء دون الألفاظ ، فإنّ فيه إيماء إلى أنّ المناط على الأسماء من حيث كونها آلات (٨) لتعرّف المسمّيات.

وكيف كان ، فيمكن القول بعدم التنافي بينهما أيضا من وجهين :

__________________

(١) « ج ، م » : نأخذ.

(٢) الروضة البهية فى شرح اللمعة الدمشقية ١ : ٢٨٥ ، و ٢ : ٢٢ ؛ مسالك الأفهام ١ : ١٢٢ ؛ روض الجنان ١ : ٤٣٦ ، وفي ط الحجري : ١٦٣.

(٣) تقدّم عنه في ص ٣٩١.

(٤) « ج » : المفروضة.

(٥) « ز ، ك » : وضعها.

(٦) « ز ، ك » : ـ نبّه.

(٧) « ج ، م » : للأسماء يعني المسمّيات.

(٨) « ج ، م » : آلة.

٣٩٥

الأوّل : أنّ العرف إنّما يفهمون المراد من الأسماء الواردة في مقام التعرّف لتلك المسمّيات ما هو أعمّ ممّا يفهم منه في غير المقام (١) ، فإنّ محصّل ما ذكرنا في ذلك يرجع إلى عدم اقتصار العرف في أمر الموضوع على ما هو المستفاد من ظواهر الأدلّة ولكن لا على وجه لا يكون متعلّقا بموضوع ولو بحسب اقتراحهم ، فإنّ ذلك ممّا لا مناص منه كما هو ظاهر ، فالمراد من القضيّة هذه على ما ذكرنا هو (٢) تبعية (٣) الأحكام لموضوعاتها المستكشف عنها بتلك الأسامي ولو بحسب ما يقترحون في ذلك الاستكشاف.

الثاني : أنّ المراد من هذه القضيّة يحتمل أن يكون الحكم الجزئي الشخصي المتعلّق بموضوع خاصّ يتبع اسم هذا الموضوع ، وذلك لا ينافي تعلّق حكم مماثل للحكم الأوّل بما هو أعمّ للمسمّى.

إلاّ أنّ الإنصاف عدم استقامة الوجهين كما هو غير خفيّ على من لاحظها ، فالحقّ هو أنّ هذه القضيّة تنافي (٤) إحالة أمر الموضوع إلى العرف ، كذا أفاد الأستاد أديمت إفاداته (٥).

قلت : وذلك وإن لم يكن محذورا لما عرفت من منافاتها لما نقلنا من العلاّمة من أنّ أكثر أهل العلم على عدم الاعتداد بالاستحالة المغيّرة (٦) للأسماء ، إلاّ أنّ الخروج عمّا هو ظاهر الدليل (٧) في تعلّق الأحكام بالموضوعات والأخذ بمثل هذه الاقتراحات من جعل الموضوع تارة شيئا خاصّا ، وأخرى عامّا ، ممّا لا يكاد يخفى بطلانه ، سيّما بالنسبة إلى الأحكام المجمع عليها التي لا يدلّ عليها دليل لفظي يستكشف منه الموضوع.

فالذي يقوّى في النظر أنّ أوضح الوجوه المذكورة في تميّز (٨) الموضوع هو الرجوع

__________________

(١) « ج ، م » : أعمّ من المفهوم منه في غير المفروض.

(٢) « م » : ـ هو.

(٣) « ج ، م » : بتبعية.

(٤) في النسخ : ينافي.

(٥) « ز ، ك » : مدّ ظلّه.

(٦) « ج ، م » : المعتبرة.

(٧) « ز ، ك » : الخروج عن ظاهر ما هو الدليل.

(٨) « ج » : تمييز.

٣٩٦

إلى عناوين الأدلّة بعد أنّ الواضح هو أسدّية المعيار التدقيقي والأخذ بالموضوع التحقيقي ، وذلك لا ينافي عدم اقتصارهم في بعض المقامات على ما هو المستفاد من ظاهر الدليل الوارد في مقام الحكم ؛ لإناطة الحكم إلى ما هو أعمّ من المستفاد من الظاهر ، وليس ذلك على وجه الاقتراح كما هو في المعيار العرفي كذلك ، بل قد يكون ذلك بواسطة فهم العرف إلقاء (١) بعض الخصوصيات في الحكم كما هو كذلك في قولهم : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (٢) إلى غير ذلك من الموارد ، فالأخذ بذلك الأمر الأعمّ ليس أخذا بما هو خارج عن مدلول اللفظ الوارد في مقام بيان الحكم ، فإنّ مداليل الألفاظ معتبرة مطلقا ، سواء كانت على وجه المطابقة أو الالتزام كما في الدلالات الإيمائية والاقتضائية ، وهذا الأمر العامّ وإن لم يكن من مدلول اللفظ مطابقة إلاّ أنّ اللفظ يدلّ عليه ولو بوجه من الإيماء والإشارة التزاما ، إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ ما ذكرنا يختلف غاية الاختلاف باختلاف الأحكام والمحمولات ، فإنّ بعض هذه الأحكام على وجه لا يستفاد من الدليل إلاّ اختصاصه بما هو المستفاد من الدليل مطابقة وليس له مدلول التزامي ، والبعض الآخر يستفاد ذلك منه (٣) أيضا ، مثلا الملكية المترتّبة على الكلب الواقع في المملحة مستصحبة قطعا ولكنّ النجاسة يمكن الاختلاف فيها على ما عرفت (٤).

وبالجملة : فالرجوع إلى عناوين الأدلّة في تشخيص الموضوع في الاستصحاب على ما يصل إلى النظر أقوى الوجوه ، وعلى ذلك فما نقلنا (٥) عن الفاضل في الفرق بين النجس والمتنجّس في محلّه ، ولا يرد عليه النقض بمثل الماء المتنجّس إذا استحال بولا

__________________

(١) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : إبقاء.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٠٥ ، باب ٨ من أبواب النجاسات ، ح ٢ و ٣. وسيأتي في ص ٥٤٨ و ٥٥٤ و ٦٤٧.

(٣) « ز ، ك » : منه ذلك.

(٤) « ز ، ك » : عرفته.

(٥) نقله في ص ٣٩١.

٣٩٧

في جوف الحيوان المأكول اللحم أو استحال (١) فاكهة ، أو الحشيش النجس (٢) إذا استحال طيبا لما عرفت من أنّ التعدّي عن عنوان الدليل الوارد في مقام بيان الحكم بحذف الخصوصيات وإسقاط ما يحتمل أن يصير وجها للاختلاف ، موقوف على مساعدة العرف في ذلك العنوان ، فحيثما لم يساعده كما في أمثال المقام فلا ضير فيه ، وأمّا إذا لم يكن هناك دليل مشتمل على عنوان من موضوعات الأحكام الشرعية كما إذا كان الدليل إجماعا فإن كان المورد من الموارد التي يظهر (٣) صدق النقض على تقدير عدم الاستصحاب فاللازم هو الأخذ بالاستصحاب ، وإلاّ فالمرجع إلى غيره من الأصول ، فليتأمّل في المقام فإنّه بعد في غاية الإبهام (٤) ، والله الموفّق وهو المعين (٥).

__________________

(١) « م » : استحالة.

(٢) « ز ، ك » : المتنجّس.

(٣) في « ج » زيادة : « عدم » وشطب عليها في نسخة « م ».

(٤) « ج ، م » : الإيهام.

(٥) « ز ، ك » : والله هو الموفّق والمعين والهادي.

٣٩٨

هداية

[ في عدم جريان الاستصحاب مع وجود المعارض ]

و (١) لا بدّ في جريان الاستصحاب عدم (٢) ابتلائه بالمعارض ، وقد يظهر من جملة ـ كما مرّ (٣) في السابق ـ عدّه في جملة (٤) شروط العمل به واعتباره ، وليس في محلّه ، فإنّ التحقيق أنّ الاستصحاب لا مجرى له عند وجود المعارض ، سواء كان من الأدلّة الاجتهادية أو من الأصول العملية ولو كان المعارض استصحابا آخر أيضا.

وتوضيح ذلك : أنّ عدم الاعتداد بالدليل تارة : يكون بواسطة عدم ما يقضي (٥) باعتباره (٦) ، أو بانتفاء موضوعه ، وأخرى : يكون بواسطة وجود المانع منه ، ففيما إذا لم يكن المقتضي للعمل موجودا لا يصحّ استناد الطرح إلى وجود المانع ، والاستصحاب في مقام المعارضة من هذا القبيل وليس من قبيل معارضته أخبار الآحاد بعضها ببعض ، فإنّ من المعلوم وجود المصلحة الداعية إلى جعلها طريقا حال المعارضة ، فيكون الأخذ بأحدهما من قبيل تزاحم الحقوق كما في إنجاء الغريق وإنقاذ الحريق ، بخلاف الاستصحاب فإنّه في موارد التعارض بما (٧) يمكن المكافئة معه ليس كذلك إلاّ أن

__________________

(١) « ج ، م » : وممّا.

(٢) « ز ، ك » : من عدم.

(٣) « ج ، م » : ـ مرّ.

(٤) « ز ، ك » : ـ جملة.

(٥) « ج » : يقتضي.

(٦) « ك ، م » : باعتبارها.

(٧) « ز ، ك » : لما.

٣٩٩

يكون مبنيّا على الظنّ الشخصي فإنّه يدور مدار الظنّ وإن لم نعلم بالتزام القائل به بهذا ، وستعرف الوجه في ذلك عند كيفية أنحاء التعارض الواقع بين الاستصحاب وبين غيره من أنحاء الأدلّة.

وكيف كان ، فالمخالف للاستصحاب قد يكون من الأدلّة الاجتهادية ، وقد يكون ممّا هو من سنخه من الأصول العملية ، سواء كانت في عرضه من استصحاب أو مقدّمة عليه أو مؤخّرة عنه كأصالة البراءة والاحتياط وأصالة الصحّة والقرعة واليد ونحوها ممّا ستقف (١) على تفاصيلها ، فلنذكر كلّ واحد منها في هداية على حدّها (٢) توضيحا للمقام وتفصيلا لما هو المقصود من الكلام لئلاّ (٣) يقع الخلط بينها (٤).

__________________

(١) « م » : سيقف.

(٢) « ز ، ك » : حدّتها.

(٣) « ز ، ك » : المرام.

(٤) « ز ، ك » : ـ لئلاّ يقع الخطل بينها.

٤٠٠