مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

الشارع كشف عنها ، كما استظهرنا ذلك عن اعتراض بعض المخالفين بعدم الاختيار على المفروض وجواب أصحابنا كالمحقّق الطوسي وشيخنا البهائي عنه بأنّ ترك القبيح لصارف لا ينافي الاختيار.

ثمّ إنّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين (١) القول بذاتية الصفات المستتبعة للأحكام من الحسن والقبح وبين القول باختلافها بالوجوه والاعتبار ؛ إذ على الأخير أيضا يمكن القول بجريان الاستصحاب ، بل وهذا محلّ جريانه ؛ لأنّ القول بالذاتية ينافي الاختلاف ، فيجب بقاء الأحكام وليس من الاستصحاب في شيء.

فما يظهر من محقّق القوانين ـ في مقام الردّ على من ذهب إلى أنّ عدم العلم بالناسخ كاف في استصحابه ـ من أنّه مبنيّ على القول بكون حسن الأشياء ذاتيا وهو ممنوع ، بل التحقيق أنّه بالوجوه والاعتبار (٢) لكن إعمال الاستصحاب لا يمكن إلاّ مع قابلية المحلّ كما سيجيء.

ممّا لا يكاد يخفى (٣) وجوه النظر فيه ، أمّا أوّلا : فلما عرفت من أنّه على القول بالذاتية لا مسرح للاستصحاب ، وأمّا ثانيا : فلأنّ القول بالاعتبار لا ينافي بقاء الحكم المتفرّع عليه لإمكان عدم تغيّره (٤) ، وإلاّ فكيف يعقل الاستصحاب فيما إذا شكّ في النسخ في شريعة واحدة؟ وأمّا ثالثا : فلأنّ إحراز القابلية لا ينافي القول بالوجوه والاعتبار كما يظهر من مساق كلامه ، وعلى تقديره فهو مشترك الورود بين الشريعة الواحدة والشريعتين ، فتدبّر.

وقد يورد على الاستصحاب المذكور على ما يوجد في بعض كلمات بعض الأجلّة بأنّه ممّا لا يعتنى به ؛ ضرورة أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن استصحابه في

__________________

(١) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : وبين.

(٢) القوانين ١ : ٤٩٥.

(٣) « م » : يحصى.

(٤) « ج ، م » : تغييره.

٣٦١

حقّ آخرين (١) ، لتغاير الموضوع فإنّ ما ثبت في حقّهم على تقدير الاتّحاد وعدم الاختلاف فهو (٢) مثله لا نفسه ، ولهذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة في حقّ الحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين بالإجماع والأخبار الدالّة على الشركة لا بالاستصحاب (٣) ، انتهى.

وهو بمكان من الوهن : أمّا أوّلا : فلأنّ من المسلّم عنده جريان الاستصحاب في الشريعة الواحدة مع وضوح اتّحاد الوجه فيهما فما هو الجواب هو الجواب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مفروض الكلام على ما عرفت آنفا عدم اختلاف الموضوع باختلاف المكلّفين ؛ لثبوت الحكم لنوع المكلّف من حيث هو مكلّف ، ضرورة اتّحاد الموضوع على المفروض ، فلا يزيد استصحاب حكم جماعة لجماعة (٤) أخرى ، وعلى التنزّل فلا بدّ من ملاحظة حال الواجد للشريعتين واستصحابه في حقّه وإتمام الدعوى في الغير بالإجماع المركّب ، ومن هنا يظهر أنّ ما استشهد به من إثبات الحكم لجماعة أخرى وتسريته في حقّ الغير يحتاج إلى أدلّة الاشتراك ، ممّا لا يصغى إليه فيما نحن فيه ؛ لعدم الاحتياج إليها بعد الاستصحاب وإنّما الحاجة إليها فيما إذا كانت الأحكام مختصّة بجماعة من الأمّة بحسب الأدلّة الدالّة عليها كخطابات الشفاه (٥) فإنّها على التحقيق ممّا لا يعقل شمولها للغير فيصير مختصّة بالمشافهين الحاضرين مجلس الخطاب والوحي.

قلت : ولك أن تقول : بعدم الحاجة إلى أدلّة الشركة في خطاب الشفاه أيضا إلاّ من حيث كشفه عن الحكم المدلول عليه بالخطاب تارة ، وبها أخرى كما لا يخفى ، فتدبّر.

وبالجملة : فهذه الوجوه الضعيفة ممّا لا ينهض بدفع الاستصحاب إلاّ أنّه في المقام

__________________

(١) « م » : الآخرين.

(٢) قوله : « على تقدير الاتّحاد ... فهو » لم يرد في المصدر.

(٣) الفصول : ٣١٥.

(٤) « ز ، ك » : بجماعة.

(٥) « ز ، ك » : الشفاهة.

٣٦٢

شيئان آخران :

الأوّل (١) : أنّ الاستصحاب ممّا لا مجرى له بعد العلم الإجمالي بورود (٢) النسخ في الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة ، فإنّ قضيّة ذلك عدم الاعتداد بالاستصحاب في حكم من أحكامها ، لوجوب إحراز (٣) المعلوم بالإجمال في أطراف الشبهة وترك العمل بتمامها مقدّمة كما عرفت في الشبهة المحصورة ، فإنّ المقام أيضا منها ، فلا يمكن الأخذ بالأصل في الكلّ لمخالفته للعلم الإجمالي ، ولا الأخذ بالبعض لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح مع التعيين ولعدم ما يقضي (٤) بالتخيير مع عدمه.

وقد يجاب عن ذلك بأنّ المعلوم بالإجمال ممّا علم تفصيلا بوجودها في ضمن الأحكام المعلومة الموجودة عندنا.

وفيه : منع واضح إن أريد العلم بوجود المنسوخات في الشرائع السابقة بتمامها في الأحكام الموجودة عندنا ؛ إذ على هذا التقدير لا معنى للشكّ في منسوخية الحكم المفروض في مجرى الاستصحاب على ما هو ظاهر. وإن أريد أنّ الموجود عندنا من الأحكام إنّما هو (٥) القدر المعلوم لنا إجمالا لا منسوخه (٦) وإن لم نعلم بكونه محرزا فيها ، فلا يجدي ؛ لوجوب العلم بالموافقة القطعية وترك الأطراف جميعا.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ المقصود من إحراز المنسوخات في الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة إنّما هو العلم (٧) بتلك الأحكام المنسوخة على الوجه الذي صار منسوخا في شريعتنا والأخذ بنواسخها على ما هو ظاهر ، والمفروض معلومية وجوب العمل بهذه الأحكام الثابتة في شريعتنا مطلقا ، سواء كانت ناسخة لما قرّر في

__________________

(١) سيأتي الثاني منهما في ص ٣٦٦.

(٢) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : لورودها.

(٣) « م » : الإحراز.

(٤) « ج » : يقتضي.

(٥) المثبت من « م » ، ولم ترد كلمة « هو » في سائر النسخ.

(٦) « ج ، م » : بمنسوخية.

(٧) « ج ، م » : العمل.

٣٦٣

سائر الشرائع أو لم تكن (١) فأصالة عدم المنسوخية في الأحكام التي ليست من موارد الشكّ ممّا لا يجدي ؛ لكونها في غير محلّ الابتلاء من المكلّف ، لكونه معلوما بالتفصيل من جهة أخرى وقد عرفت (٢) فيما تقدّم عدم وجوب الاجتناب عن تمام أطراف الشبهة فيما إذا لم يكن بعضها بمحلّ الابتلاء من المكلّف ؛ لعدم تنجّز الخطاب عليه على ما عرفت تفصيل الكلام فيه ، فيجري في الطرف الأصل فيعمل به ويعتمد عليه من غير معارضة ولا غائلة ؛ لكونه من الأدلّة الشرعية ، والعلم الإجمالي ممّا لا أثر له بعد معلومية أحد أطرافه بدليل معتبر شرعا كالاستصحاب والبيّنة ونحوها من الطرق الواقعية أو الأصول العملية من غير فرق بينهما من هذه الجهة وإن كان الفرق بينهما من جهة أخرى واضحا كما هو ظاهر.

وتوضيح المطلب : أنّ مجرّد العلم الإجمالي بوجود شيء بين أشياء متعدّدة لا يقضي (٣) بوجوب إحراز (٤) المعلوم الإجمالي وعدم جريان الأصل الموضوعي في الأطراف ، فإنّه على ما عرفت إنّما هو بواسطة لزوم المخالفة القطعية فيما لو أخذ بالأصل في الكلّ والترجيح بلا مرجّح فيما لو خصّصنا الأخذ بالبعض دون آخر كما عرفت مفصّلا في محلّه ، وليس في المقام كذلك ، فإنّا لو فرضنا الوقائع ألفا ـ مثلا ـ فنعلم بأنّ تسعمائة منه منسوخة قطعا وعندنا في هذه الشريعة المقدّسة يكون على هذا المقدار أحكام معلومة ـ مثلا ـ فنعلم بواسطة معلومية هذه الأحكام وجوب الأخذ بها ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذه هي الأحكام المنسوخة من سائر الشرائع وبين أن لا تكون (٥) تلك الأحكام فنعلم بوجوب العمل بهذه الأحكام تفصيلا ، والعلم الإجمالي

__________________

(١) في النسخ : لم يكن.

(٢) عرفت في ج ٣ ، ص ٤٧٠.

(٣) « ج » : لا يقتضي.

(٤) « ز ، ج » : الإحراز.

(٥) في النسخ : لا يكون.

٣٦٤

بمنسوخية جملة من الأحكام الواقعة (١) في سائر الشرائع لا يورث في هذه الأحكام شيئا آخر بعد العلم بوجوب العمل بها في هذه الشريعة ، فأصالة عدم النسخ في هذه الأحكام لا يوجب (٢) العمل بهذه الأحكام ؛ للعلم بوجوب العمل بها تفصيلا ، بخلاف أصالة عدم النسخ في المائة الباقية فإنّها تقضي (٣) بوجوب العمل بها ، فأطراف العلم الإجمالي ليست على حدّ سواء في جريان الأصل الموضوعي (٤) ، فيؤخذ بما يجري فيه ؛ لكونه من الأدلّة الشرعية الظاهرية ، وذلك نظير ما عرفت من أنّه لو كان أحد الأطراف في الشبهة المحصورة محكوما بحكم موافق للعلم الإجمالي تفصيلا كما إذا علمنا بحرمة أحد الأطراف من غير جهة الغصب ، ثمّ علمنا بحرمة مردّدة بينه وبين غيره من جهة الغصب ـ مثلا ـ فإنّه لا يجب الاجتناب عن الطرف الآخر ؛ لعدم إيراثه حكما جديدا (٥) بالنسبة إلى الطرف المعلوم بالتفصيل ، وبالنسبة إلى الآخر يكون من الشكوك البدوية ؛ إذ مرجع الشكّ إلى أنّ هذه الحرمة إنّما هي بالنسبة إلى هذا (٦) الطرف فيكون (٧) حراما ، أو بالنسبة إلى الطرف الآخر حتّى لا يكون حراما ، فيصير من موارد البراءة على ما مرّ تفصيل الكلام فيها.

وبمثل ذلك نقول فيما نحن بصدده فإنّ الوقائع في جميع الأديان على ما فرضناه ألف والمفروض أنّ تسعمائة منها معلومة لنا تفصيلا لثبوت الأحكام الواردة فيها في هذه الشريعة ، والمائة الباقية مشكوكة ، وقد علمنا إجمالا بأنّ جملة من تلك الوقائع ممّا نسخت أحكامها الثابتة في الشريعة السابقة في هذه الشريعة المقدّسة ، والعلم الإجمالي لا ثمرة فيه إلاّ العمل بأطرافه على وجه يصير المعلوم الإجمالي محرزا في ضمن

__________________

(١) « ز ، ك » : الواقعية.

(٢) « ز ، ك » : لو يوجب.

(٣) « ج » : تقتضي.

(٤) « ز ، ك » : النوعي.

(٥) « ز ، ك » : إجمالا ، « ج » : فذلك.

(٦) « ز ، ك » : هذه.

(٧) « ز ، ك » : ليكون.

٣٦٥

الأطراف المحتملة ، والمفروض وجوب العمل بتلك القطعة من الأحكام المعلومة تفصيلا ، فلم يفد العلم الإجمالي في هذه القطعة شيئا ، فأصالة عدم النسخ فيها لا تجدي (١) ، للعلم بحكمها تفصيلا ، فتلك القطعة ليست بمحلّ الابتلاء من المكلّف ، وتبقى أصالة عدم النسخ في المائة الباقية سليمة عن المعارض حاكمة على قاعدة المقدّمية ، فيجب الأخذ بها ؛ لكونها دليلا شرعيا ظاهريا.

فإن قلت : نعم ، ولكن نحن ندّعي وجود (٢) العلم الإجمالي بين المائة الباقية أيضا ، فلا يمكن إجراء أصالة عدم النسخ فيها أيضا.

قلت : على هذا التقدير يختلف الأحكام باختلاف الموارد ، فإنّه يتصوّر النسخ في تلك المائة على وجوه : فتارة : نعلم (٣) بأنّ بعض الأحكام الواجبة في الشرائع السابقة قد صارت محرّمة ، وتارة : نعلم بأنّ بعضا (٤) منها صارت مباحة ، وتارة : نعلم بأنّ بعض الأحكام المباحة في تلك الشرائع (٥) صارت واجبة ، وتارة : نعلم بأنّ منها صارت محرّمة ، فلا يجري الاستصحاب على بعض الوجوه كما في الوجهين الأخيرين ؛ لأنّ الإباحة في الشريعة السابقة لا يجدي (٦) استصحابها في قبال العلم الإجمالي بانقلابها وجوبا أو تحريما ، ويجري في الوجهين الأوّلين ؛ لأنّ الإباحة لا حكم لها ، إذ (٧) لا مقدّمة للمباح.

وتوضيحه : أنّ العلم الإجمالي يجب الامتثال بأطرافه مقدّمة ، وفيما كان المباح معلوما إجماليا لا يجب إحرازه ؛ لانتفاء المقدّمة فيه كما بيّنا الوجه في ذلك فيما مرّ ، فكن على بصيرة من الأمر في الموارد وتدبّر (٨).

__________________

(١) في النسخ : لا يجدي.

(٢) « ج ، م » : بوجود.

(٣) « ج ، م » : يعلم.

(٤) « ج ، م » : ـ بعضا.

(٥) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الشريعة.

(٦) « ز ، ك » : لا تجدي.

(٧) « ج ، م » : أو.

(٨) « ز ، ك » : ـ من الأمر في الموارد وتدبّر.

٣٦٦

الثاني (١) : أنّ من المعلوم عند الأمّة سيّما نحن معاشر الإمامية أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما بلّغ عن ربّه غاية الإبلاغ وجاء بتمام محاويج العباد على المعتاد من غير إهمال فيه ولا تقصير منه تعالى عن ذلك ، ويدلّ على ذلك بعد مساعدة الاعتبار لكونه أفضل الأنبياء الكبار موافقة (٢) الأخبار عن السادة الأطهار عليهم من الصلاة أفضلها ومن السلام أنماها ما دجى الليل وأضاء النهار (٣) ومعاضدة كلمات العلماء الأخيار ولم يكلنا في حكم من الأحكام إلى (٤) شريعة من الشرائع السابقة حتّى أرش الخدش ، ومن المعلوم أيضا عندنا أنّه (٥) في مقام تأسيس الأحكام إنّما شرّع الأحكام الواقعية ولم يكتف بالأحكام الظاهرية في وجه ، فما كانت (٦) فيه مصلحة الوجوب فنبّه على وجوبه ، وما كانت (٧) فيه مفسدة الحرمة نبّه على حرمته ، فإنّ الحقّ أنّه لا يعقل الاتّكال على الأحكام الظاهرية في مقام التأسيس ، سواء كانت (٨) براءة أو استصحابا أو غيرهما ، فكلّ ما أوجبه بخصوصه فهو واجب ، وكلّ ما حرّمه فهو حرام ، وكلّ ما ندب إليه فهو مندوب ، وكلّ ما أعرض عنه فهو مكروه ، وكلّ ما لم يكن فيه أحد الوجوه فهو مباح حقيقة وواقعا من غير شوب الظاهرية فيه.

وإذ (٩) قد تقرّر هذا فنقول : إنّه لو وجد حكم من الأحكام الثابتة في الشريعة السابقة فالمستصحب إن أراد استصحابه من غير فحص فلا كلام في فساده ؛ لاشتراط العمل به على تقديره عند الكلّ بالفحص ، وإن أراد استصحابه بعد الفحص في شريعتنا فإن علم حكم الواقعة التي تكون من مجاري الاستصحاب في هذه الشريعة فلا كلام أيضا مخالفا أو موافقا ، وإلاّ فلا بدّ من الأخذ بأصالة البراءة ، فإنّ النبيّ إنّما

__________________

(١) تقدّم الأوّل منهما في ص ٣٦٢.

(٢) « ز ، ك » : بموافقة.

(٣) « ز ، ك » : ـ عليهم من الصلاة ... النهار.

(٤) « ج » : على.

(٥) « ز ، ك » : ـ أنّه.

(٦) في النسخ : كان.

(٧) في النسخ : كان.

(٨) في النسخ : كان.

(٩) « ز ، ك » : إذا.

٣٦٧

شرّع البراءة لما لم يعلم حكمه من شريعته والمقام منه ، فنحن نستكشف من الأخبار المذكورة في البراءة والمذكورة في بيان تبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تمام الأحكام أنّ الحكم الواقعي النفس الأمري في تلك الواقعة الخاصّة هو الإباحة فلا بدّ من الأخذ بها ، ولهذا تراهم مطبقين على إجراء البراءة في مثل هذه الموارد من غير اشتراط الفحص عن الحكم في سائر الشرائع ، ولو لا أنّ من المعلوم من هذه الشريعة المقدسة عدم الاتّكال بشيء من الشرائع السابقة وعدم جواز الرجوع في شيء من الأحكام وأخذها إليها ، لما صحّ الأخذ بالبراءة في مواردها إلاّ بعد الفحص عن الأحكام الثابتة فيها أيضا كما هو كذلك بالنسبة إلى أحكامنا.

فإن قلت : إنّ الأخذ بالاستصحاب في هذه الأحكام الثابتة في سائر الشرائع إنّما هو أخذ بها من حيث دلالة الأخبار الواردة فيه ، وليس هذا إلاّ الأخذ بشريعتنا في الحقيقة ؛ لانتهاء المدرك في الأخذ إليها.

قلت : نعم ، ولكن نحن (١) نعلم بعدم جواز الرجوع إلى الشرائع السابقة وأخذ الحكم منها ولو على هذا الوجه لا بدعوى اختصاص أخبار الاستصحاب بما إذا كان اليقين السابق حاصلا في هذه الشريعة حتّى يمنع عنها بعموم اليقين الشامل للحاصل في غيرها أيضا ، بل بدعوى العلم بأنّ الأحكام التي نحن نحتاج (٢) إليها إنّما هو مستفاد من شريعتنا تأسيسا كما في الأحكام الواقعية ، ومعالجة كما في الأحكام الظاهرية.

وبالجملة : فالمعلوم من الشريعة عدم الاعتداد بشيء من أحكام الشرائع السابقة ، وليس هذا بواس طة مدخلية قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإبلاغه في الحكم حتّى يقال بكونه طريقا ومرآة فلا يعقل المدخلية ، كما أشرنا إليه آنفا (٣) ، بل بواسطة دعوى العلم بإباحة كلّ ما لم يعلم حرمته أو وجوبه في شريعتنا ، وأين (٤) هذا من دعوى المدخلية؟ فالحقّ الحقيق

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ نحن.

(٢) « ج » : محتاج.

(٣) أشار في ص ٣٦٠.

(٤) « ز ، ك » : وإنّ؟ « ج » : وليس.

٣٦٨

بالتصديق عدم جريان الاستصحاب في الأحكام المذكورة ، ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير المحقّق القمي في مقام الردّ على استصحاب النبوّة وقد نبّهنا (١) عليه (٢) ، وعلى هذا فلا بعد فيما أفاده وقد نبّه لذلك أيضا المحقّق النراقي (٣).

تذنيب

قد ذكروا في المقام ثمرات ليس شيء منها بشيء :

الأولى : أنّه على القول بجريان الاستصحاب فالأصل في كلّ أمر مجرّد عن قرائن التعبّدية أو التوصّلية أن يكون محمولا على التعبّد ، فلا يمكن الامتثال إلاّ بعد الإخلاص ونيّة القربة ؛ لثبوت ذلك في الشرائع السابقة لقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [ حُنَفاءَ ] وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ )(٤) حيث (٥) إنّ المستفاد من ظاهر الآية الشريفة أنّ الغرض في أمرهم والداعي إلى طلب ما هو المطلوب منهم منحصر في الإخلاص له تعالى في أعمالهم تحصيلا للقربة عنده وطلبا للزلفى لديه ، فحيثما لم يكن الداعي لهم في أفعالهم المأمور بها تحصيل القربة لم يحصل الامتثال ؛ لبقاء داعي الأمر والغرض منه ؛ فإنّ الظاهر أنّ اللام للغاية على حدّ قوله : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً )(٦) وعلى القول بعدم جريان الاستصحاب فلا وجه لهذا الأصل ؛ لاختصاصه بالآية السابقة ، والأصل عدم ثبوت فعل زائد على القدر المعلوم من التكليف كما هو المرجع فيما شكّ في وجوبه وعدمه على ما مرّ في بعض المباحث الماضية.

وفيه أوّلا : أنّ من المعلوم أنّ جريان الاستصحاب على القول به لا بدّ وأن يكون

__________________

(١) « ج ، م » : تنبّه.

(٢) تقدّم في ص ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٣) انظر مناهج الأحكام : ١٨٩ ـ ١٩٠ و ٢٣٨.

(٤) البيّنة : ٥. وله بحث عن هذه الآية في مقدّمة الواجب في مطارح الأنظار ١ : ٣٠٧ وما بعدها.

(٥) « ج » : ثبت.

(٦) القصص : ٨.

٣٦٩

فيما إذا ثبت الحكم لعنوان (١) المكلّف على وجه لا يحتمل فيه الاختصاص ، وإلاّ فكيف يمكن تسرية حكم جماعة لجماعة غيرهم بالاستصحاب؟ وظاهر قوله : ( وَما أُمِرُوا ) اختصاص الحكم بهم فلا يكون الموضوع محرزا ، ولا أقلّ من الشكّ.

وثانيا : أنّ المستفاد من الآية ليس عدم حصول الامتثال بالنسبة إليهم إلاّ بعد الإتيان بالفعل على وجه القربة أيضا ؛ لأنّ استفادة هذا المعنى موقوف على كون « اللام » الداخلة على الفعل للغاية وليس بصحيح ؛ إذ قضيّة ذلك على ما قرّرناه أن يكون المأمور به (٢) محذوفا في الكلام وتكون (٣) العبادة على الوجه المخصوص غاية في تلك الأوامر ، فيكون المعنى : وما أمروا بشيء إلاّ لأجل العبادة على وجه الإخلاص ، وحينئذ لا يصحّ عطف قوله : ( وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ) على قوله : ( لِيَعْبُدُوا اللهَ ) لأنّهما من الأفعال المأمور بها (٤) ، فلا يصحّ أن يكون غاية لها على ما هو قضيّة العطف.

اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّ كلمة « اللام » في المعطوف عليه للغاية وفي المعطوف لمعنى آخر كأن يكون للتقوية مثلا ، إلاّ أنّه كما ترى يوجب استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو كما عليه المحقّقون باطل ، فالّذي يساعده صحيح الاعتبار بل ويعاضده بعض الآثار كما نقلها بعض أهل التفسير أنّ مفاد الآية لا يزيد على نفي الشرك ، كما في قوله : ( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً )(٥) فاللام في قوله : ( لِيَعْبُدُوا اللهَ ) لام الإرادة والتقوية ممّا تدخل على نفس المأمور به والمراد ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ )(٦) وقوله : ( وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ )(٧) وقوله (٨) : « وأمرنا لنعبد

__________________

(١) « ز ، ك » : بعنوان.

(٢) « ز ، ك » : المأمور بها.

(٣) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يكون.

(٤) « م » : بهما.

(٥) النساء : ٣٦.

(٦) الأحزاب : ٣٣.

(٧) الشورى : ١٥.

(٨) « م » : ـ قوله.

٣٧٠

الله (١) » ونظائره في التنزيل وفي الكلمات (٢) الشعرية والأمثال العربية كثيرة (٣) ، فيصحّ العطف أيضا ؛ إذ المعنى حينئذ : وما أمروا إلاّ بالعبادة على وجه الإخلاص ونفي الشرك وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ؛ حيث إنّها أصول الأحكام الأصلية والفرعية فلا ينافي الحصر أيضا ، فالقيد المذكور جزء للمأمور به لا أنّه خارج عنه و (٤) داع إلى الأمر به.

وثالثا : أنّه على التنزّل فلا حاجة إلى الاستصحاب في إثبات الحكم المذكور في شريعتنا ؛ لدلالة ذيل الآية على ثبوت الحسن فيه ولو في هذه الشريعة ، فإنّ قوله تعالى : ( ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(٥) إمّا مأخوذ من القيام بمعنى الثابت المنصوب الذي لا يزول ، أو من القوام الذي لا عوج فيه ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، وقد عرفت أنّ الكلام في الثمرة إنّما يظهر فيما لو لم يكن الحكم ثابتا في الشريعة ؛ إذ لا كلام في وجوب العمل بما ثبت من شريعتنا.

الثانية : صحّة الجعالة مع جهالة الجعل وجواز الضمان فيما لم يجب ؛ لثبوتهما في الشريعة التي كان عليها يوسف عليه‌السلام كما يستفاد من قوله : ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ )(٦) فإنّ الجعل هو الحمل وهو مجهول المقدار ، وقد ضمنه المؤذّن مع عدم وجوبه على الملك ؛ لعدم استحقاقه الجعل إلاّ بعد الجعل والعمل ، فعلى القول بالاستصحاب يثبت في شريعتنا دون القول الآخر.

وفيه : أنّه يرد على الأوّل أن تلك ليست من الجعالة الحقيقية ، بل هي تورية فيها لما دعى إليها من الأغراض ، وعلى التنزّل فالجهالة ممنوعة ؛ لمعهودية مقدار حمل البعير

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ الله. « ج » : ـ لنعبد الله.

(٢) « ج » : كلمات.

(٣) في هامش « م » : ونظير ذلك أن يقال بالفارسية : بفرما تا آب بياورند.

(٤) « ج ، م » : ـ و.

(٥) البيّنة : ٥. وفي النسخ : ( ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) وهذه وإن وردت في آية ٣٦ من سورة التوبة ، وآية ٤٠ من سورة يوسف ، وآية ٣٠ من سورة الروم ، إلاّ أنّ الكلام في آية سورة البيّنة.

(٦) يوسف : ٧٢.

٣٧١

في الأغلب على وجه يكفي في نفي الغرر ، مع أنّ ثبوت ذلك في الشريعة التي كان عليها غير ثابت ؛ إذ النقل في القرآن من حيث حكاية قول (١) المؤذّن لا يوجب صحّة المنقول بعد عدم ثبوت عصمة (٢) المؤذّن وإذن يوسف له فيه ، والحمل على الصحّة لا يقتضي (٣) إلاّ تصحيح نفس الفعل الشخصي لا تشريع الحكم في شريعتنا ، وعلى الثاني أنّه ليس المعنيّ بقوله : ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) أن قال (٤) : الجعالة التي هي ثابتة (٥) في ذمّة الملك على تقدير العمل أنا به زعيم فيما لو امتنع المضمون له ، بل معناه : أنّ عهدة المال عليّ وأنا به قائم ، ولا أقلّ من احتماله.

الثالثة : قوله تعالى في حكاية أيّوب عليه‌السلام (٦) : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ )(٧) فإنّ الضغث هو الشماريخ القائمة على الساق الواحد ، فإنّه على القول بالاستصحاب يصحّ الوفاء بمثله فيما لو (٨) نذر مثله دون القول الآخر.

وفيه : أنّ من الواضح متابعة وقوع الحنث وعدمه لما هو المتعارف في استعمال آلات الضرب فيما لم يكن المقصود للحالف أو الناذر معهودا معلوما ، ولا يفرّق في ذلك شريعة من الشرائع ، وأمّا حكاية أيّوب عليه‌السلام فلعلّه بواسطة أعمّية مقصوده للوجهين ـ الدفعي والتدريجي ـ أو أنّها قضيّة في واقعة وليست من الأحكام الثابتة التي كان عليها أيّوب ولهذا قد أوحي إليه (٩) علمها ، وإلاّ فكيف يعقل عدم علمه بأحكام شريعته التي كان عليها؟ فإنّه عليه‌السلام لم يكن صاحب شريعة على حدّها. لا يقال : يحتمل أن يكون هذا بدلا عن المنذور ثابتا في شريعته تعبّدا فيصحّ استصحابه في شريعتنا

__________________

(١) « ج » : فعل.

(٢) « ز ، ك » : قصّة.

(٣) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : لا يقضي.

(٤) « ج » : مال.

(٥) « ج » : هو ثابت.

(٦) « ج ، م » : على نبيّنا وعليه ( الصلاة و « ج » ) السلام.

(٧) ص : ٤٤.

(٨) « ج ، ز » : ـ لو.

(٩) « ج ، م » : أوحى الله.

٣٧٢

ليكون بدلا تعبّديا ، لأنّا نقول : قد عرفت منافاته لعدم علمه عليه‌السلام بأحكام شريعته.

الرابعة : قوله تعالى مدحا ليحيى على نبيّنا وعليه‌السلام : إنّه كان ( سَيِّداً وَحَصُوراً )(١) فإنّه يستفاد منه أرجحية العبادة على التزويج ، فيستصحب على الاستصحاب دون القول الآخر.

وفيه : أنّ المراتب في ذلك مختلفة والوقائع فيه متفاوتة ، فربّما يكون ترك التزويج لأمر العبادة والفراغ فيها وعدم اختلال الحواسّ والمشاعر في المناجات ، وذلك أمر مرغوب فيه مطلوب مستحسن في جميع الشرائع ؛ إذ من المعاين بالوجدان ترك ملاهي (٢) النفس والاشتغال بما يستأنس بها من النسوان والتجرّد والانقطاع عن الخلق للوصول إلى الحقّ ممّا لا ينكر الحسن فيه ، فهو بهذا العنوان ممّا لا حاجة في إثباته إلى الاستصحاب ، وربّما يكون ترك التزويج مخلاّ في ذلك فيجب كما يستفاد من ملاحظة أحوال فحول الرجال ، فيكون الكمال في التزويج ، ولبعض الواصلين إلى الدرجة العليا والمرتبة القصوى حالة الاجتماع بينهما على وجه لا يضرّ أحدهما بالآخر فهو في عين الوحدة والتجرّد مشغول وبالعكس كما لا يخفى ، فإن أريد إثبات الأرجحية المطلقة في هذه الشريعة لثبوتها في شريعة يحيى ، فظاهر الفساد ؛ للعلم بخلافه أوّلا في هذه الشريعة ، ولعدم ثبوته على هذا الوجه في غيرها ثانيا ، وإن أريد إثبات الأرجحية ولو في بعض المراتب فنحن لا نضايق من ثبوته على الوجه المذكور في شريعة يحيى إلاّ أنّه لا حاجة في ذلك إلى الاستصحاب ؛ لمعلوميته في هذه الشريعة.

الخامسة : قوله تعالى في قصّة شعيب وموسى : ( أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ )(٣) فإنّه يستفاد منه صحّة الإجارة على تقدير الترديد في زمان الإجارة ، فعلى الاستصحاب يصحّ في شريعتنا

__________________

(١) آل عمران : ٣٩.

(٢) « ز » : ملاعب وفي « ك » : ملاعبة.

(٣) القصص : ٢٧.

٣٧٣

دون القول الآخر.

وفساده ممّا لا يكاد يخفى ؛ لوضوح وقوع العقد على الثمانية وكون العشرة من عنده تفضّلا وتطفّلا كما لا يخفى ولا ضير فيه ، وعليك بملاحظة الموارد المذكورة في كلامهم فإنّه قلّ ما يكون فيه شيء خال عن الإشكال ، والله وليّ الإفضال والهداية.

٣٧٤

هداية

[ في تقوّم الاستصحاب ببقاء الموضوع ]

لا بدّ في جريان الاستصحاب من بقاء الموضوع الذي هو محلّ حصول المستصحب وتحقّقه ، وقد يظهر من بعضهم (١) عدّه في عداد شروط العمل بالاستصحاب وليس على ما ينبغي ؛ لأنّ الظاهر من شروط العمل ما هو الخارج عن حقيقة المشروط مع توقّف إجمالي عليه اعتبارا ، وبقاء الموضوع ممّا له مدخل في تقوّم حقيقة الاستصحاب ؛ إذ بدونه لا يعقل ، ففي عدّه من الشروط تسامح ، وكيف كان فالمراد به هو الموضوع في القضيّة الحملية التي كانت متيقّنة حال العلم وكان المستصحب محمولا فيها ، كما في قولنا : الثوب طاهر أو نجس ، والصلاة واجبة ، والخمر حرام ، ونحو ذلك ، فإنّ الصلاة والثوب والخمر موضوعات لمحمولاتها التي هي الوجوب والطهارة والنجاسة والحرمة في تلك القضايا ، والمراد من بقائه هو تقرّره على ما كان عليه حين حمل المستصحب عليه.

فإن كان المحمول هو الوجود فالموضوع (٢) هو الماهيّة لا بشرط شيء المعرّاة عن الوجودين وإن كانت متّصفة ومتحلّية بالوجود الذهني حال الحمل عليها أو (٣)

__________________

(١) عبّر عنه بـ « بعض المتأخّرين » في « هداية نافعة في جميع ما تقدّم » في آخر بحث الاستصحاب.

(٢) « ز ، ك » : والموضوع.

(٣) « ج ، م » : ـ أو.

٣٧٥

بالوجود الخارجي ، إلاّ أنّ ذلك الاتّصاف في (١) ظرف الحمل على ما هو اللازم فيه من تصوّر الأطراف ، ومع ذلك فليس الحمل عليها في هذه الملاحظة ؛ لامتناع قيام الوجودين بالماهيّة ، بل على نفسها من غير ملاحظة شيء آخر (٢) معها وإن كان لا ينفكّ عن الوجود الذهني واقعا ، ولهذا لا يفرق في ذلك بين العلم بوجودها أو بعدمها أو الشكّ فيهما ، فإنّ من المعلوم اتّحاد الموضوع في هذه الحالات ؛ ضرورة امتناع حمل العدم ، أو نفي الوجود عن الماهيّة الموجودة ، أو التردّد في ذلك.

وإن كان المحمول أمرا وراء الوجود أو (٣) ما هو بمنزلته في اتّصاف الماهيّة به كالعدم من الأمور الوجودية التي تلحق (٤) الموضوع باعتبار وجودها ذهنا أو خارجا كالوجوب والطهارة والرطوبة والقيام والقعود ونحوها ، فالموضوع هو الأمر الموجود على اختلاف المحمولات إمّا ذهنا وإمّا (٥) خارجا ، وذلك أمر ظاهر في غاية الظهور والوضوح.

فما قد يتوهّم (٦) : من عدم اطّراد هذا الشرط في موارد الاستصحاب ؛ لانتقاضه بالاستصحاب في الأمور الخارجية كوجود زيد فإنّ الموضوع لو كان باقيا فلا شكّ في وجوده ، ممّا لا يصغى إليه.

وقد استصعبه (٧) بعضهم فاكتفى عن الشرط المذكور بعدم العلم بارتفاع الموضوع ، وأنت خبير بفساده بعد ما بيّنا المراد (٨) من البقاء ـ وإن أبيت عن ذلك ـ وقلت : إنّ الظاهر من لفظ البقاء هو الوجود ، وعلى تقديره فلا يعقل الشكّ ، فنقول : فعلى ما

__________________

(١) « ج ، م » : إلاّ أنّه في.

(٢) « ز ، ك » : ـ آخر.

(٣) « ج ، م » : و.

(٤) « ج ، م » : يلحق.

(٥) « ز ، ك » : « أو » بدل : « وإمّا ».

(٦) المتوهّم شريف العلماء ، كما في ضوابط الأصول : ٤٣٧ ـ ٤٣٨ ؛ تقريرات درسه للفاضل الأردكاني ( مخطوط ) : ٣٠٨.

(٧) « ج » : استضعفه.

(٨) « ز ، ك » : ـ المراد.

٣٧٦

زعمت فلا حاجة (١) إلى إحراز الموضوع في الاستصحاب في كلّ مورد ؛ إذ المراد بقولهم : لا بدّ من بقاء الموضوع في الاستصحاب ، هو بقاؤه في الاستصحاب الذي له موضوع ، وأمّا فيما ليس له موضوع فانتفاء الشرط بانتفاء الموضوع ، كما في قولنا : يجب ستر العورة في الصلاة ، فإنّ المقصود منه وجوب الستر على تقدير وجود الساتر ، وذلك ظاهر لمن له أدنى ممارسة في استنباط المطالب من العبائر واستخراج المقاصد من الدفاتر.

ثمّ إنّ الدليل على هذه (٢) الدعوى بعد إطباق العقلاء : هو أنّ الحكم إن أريد إثباته في موضوع كان ثابتا له في حال العلم بالحكم فهو المطلوب ، وإن أريد إثباته في موضوع غيره فذلك لا يسمّى استصحابا كما أنّ الحكم بعدم ثبوته له ليس نقضا لليقين بالشكّ على ما هو المنهيّ عنه في أخبار الباب ، وبوجه آخر أنّ المستصحب لا أقلّ من أن يكون عرضا من الأعراض فإن أريد إثباته لا في موضوع فيلزم تقوّم العرض بلا جوهر ومن غير أن يكون حالاّ في منعوت ، وفساد اللازم كالملازمة ظاهر ، وإن أريد إثباته في موضوع فأمّا في موضوعه ابتداء فلا كلام على ما هو المطلوب ، وأمّا في غيره فإن أريد إثبات الحكم الأوّل بحسب شخصه فيلزم انتقال العرض من موضوعه مع أنّ وجوده بتشخّصه وهو بموضوعه ؛ لأنّه من مشخّصاته ، وإن أريد إثبات حكم آخر ولو باختلافهما (٣) نوعا فليس من الاستصحاب في شيء لا لغة ولا اصطلاحا ، كما أنّ نفيه عنه ليس نقضا لليقين بالشكّ.

لا يقال : ذلك مسلّم عند العلم بانتفاء الموضوع ، وأمّا عند الشكّ فلا يجري فيه البرهان ؛ للقول ببقاء العرض في الموضوع المحتمل.

لأنّا نقول : ذلك واه جدّا فإنّه إن أريد أنّ العرض على تقدير وجود موضوعه

__________________

(١) « ج » : لا حاجة.

(٢) « م » : هذا.

(٣) « ك » : اختلافها.

٣٧٧

موجود فهو واضح إلاّ أنّه لا يجدي ، وإن أريد أنّ بمجرّد احتمال (١) وجوده يحكم بوجود العرض ففساده ظاهر ؛ إذ الحكم بوجود العرض لا ينفكّ عن العلم بوجود الموضوع.

نعم ، في المقام إشكال آخر وهو [ أنّه ] بعد ما عرفت من البرهان فلا جدوى في إحراز الموضوع بالعرف ؛ لعدم قيام الحكم بالموضوع العرفي ، بل محلّ الحكم حقيقة هو الموضوع الواقعي ، وتخيّل العرف قيامه بالأمر المنتزع عندهم لا يثمر في تحقّق الواقع ، فربّما يعتقدون جواز شيء ممتنع أو امتناع شيء جائز ، كما أنّه لو كان الأسد الحقيقي موردا لحكم من الأحكام فاعتقاد أنّ الغنم هو الأسد بحسب العرف لا يجدي في ترتّب الأحكام المتفرّعة على الأسد الحقيقي ، إلاّ أن ينهض على اعتبار تخيّلهم دليل آخر.

وكيف كان فالذي يساعده صحيح النظر هو وجوب بقاء الموضوع في الاستصحاب وإلاّ لم يكن استصحابا.

ومن هنا ينقدح أنّه كما يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع فكذلك يعتبر بقاء المحمول لا بوصف الحمل ؛ ضرورة ارتفاع الشكّ على تقديره ، بل بمعنى عدم اختلاف المحمول ، بل وبقاء كلّ ما يحتمل من اختلافه اختلاف أحد العمودين في القضيّة من شرط أو وصف أو حال ، زمانا أو مكانا وغيرها نظرا إلى لزوم اتّحاد القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة.

فعلى هذا فالأولى في التعبير في بيان الاشتراط أنّه لا بدّ من اتّحاد الموضوع والمحمول ، بل الأولى منه أيضا اتّحاد النسبة ؛ لاختلافها باختلاف أحد الأركان كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب عند العلم بارتفاع الموضوع ، وأمّا عند الشكّ في بقائه وارتفاعه فصور الشكّ ثلاثة : فتارة : يكون الشكّ في الموضوع

__________________

(١) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ـ احتمال.

٣٧٨

الخارجي كما إذا تعلّق الحكم بالكلب ـ مثلا ـ فشككنا في وجوده وارتفاعه من غير أن يكون الشكّ مسببا عن الشكّ في حكم شرعي أو موضوع لغوي ، وأخرى : يكون الشكّ في موضوع لغوي لعدم العلم بوضع اللفظ الواقع موضوعا في القضيّة للمعنى الشامل للمشكوك بعد عروض حالة كما في الشكّ في شمول الكلب الواقع في المملحة قبل أن يصير ملحا ، ومرّة : يكون الشكّ في الحكم الشرعي لعدم العلم بما تعلّق به الحكم شرعا كما في الشكّ في كون النجاسة من أحكام الكلب من حيث هو كلب ومتقوّم بصورته (١) الكلبية أو من لواحق الهويّة الجسمية مثلا ، وكما في الشكّ في كون النجاسة من الأحكام اللاحقة بعنوان الماء (٢) فيما إذا تغيّر أو من المحمولات الثابتة للماء المتغيّر.

لا شكّ في عدم الجدوى في الاستصحاب الجاري (٣) في نفس الموضوع فيما إذا كان الشكّ على أحد الوجهين الأخيرين ؛ لعدم ارتفاع الشكّ بالاستصحاب ، فإنّ أصالة بقاء الكلب عند الشكّ في اندراج الملح أو ما يقرب منه لا يجدي في رفع الشكّ ، كما أنّ (٤) أصالة بقاء الموضوع لا تجدي (٥) في الحكم بنجاسة الملح إلاّ على وجه لا اعتداد به كما في استصحاب بقاء الماء (٦) الكرّ ، فالمقصود إثبات كون الشيء المخصوص موضوعا ولا دليل عليه والثابت وهو مطلق الموضوع غير مجد ، وأمّا على الوجه الأوّل فجريان الاستصحاب كوضوح فائدته ظاهر ، إلاّ أنّه قد يظهر من بعض الأجلّة (٧) تبعا لغير واحد منهم أنّ عند الشكّ في الموضوع لا بدّ في استصحاب الحكم المتفرّع عليه من استصحاب نفس الموضوع توطئة لاستصحاب الحكم ، فإنّهم زعموا أنّ وجود

__________________

(١) « ز ، ك » : ومقوّم صورته.

(٢) « ز » : إلاّ.

(٣) « ز ، ك » : ـ الجاري.

(٤) من قوله : « أصالة بقاء الكلب » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».

(٥) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : لا يجدي.

(٦) « ج ، م » : ـ الماء.

(٧) انظر الفصول : ٣٨١.

٣٧٩

الموضوع أعمّ من أن يكون وجودا واقعيا كما فيما لو أحرزنا الموضوع بالوجدان ، أو بالاستصحاب ، وليس على ما ينبغي ؛ إذ ـ بعد ما عرفت من عدم الجدوى في الاستصحاب الجاري في نفس الموضوع في جميع الأقسام لعدم ارتفاع الشكّ به كما مرّ ـ نقول : إنّ الشكّ في الحكم تارة : يكون مسبّبا عن الشكّ في بقاء الموضوع وارتفاعه ، فعلى تقدير وجوده فالحكم مقطوع به ، وعلى تقدير عدمه فالحكم قطعي الارتفاع ، وتارة : يكون مسبّبا عن شيء بحيث لو قطعنا بوجود الموضوع أيضا كان الشكّ فيه على ما كان عليه قبل العلم بالموضوع. مثال الأوّل ما إذا شككنا في بقاء التغيّر في الماء وارتفاعه ، فإنّ الشكّ فيه يوجب الشكّ في زوال النجاسة مثلا ، مثال الثاني ما إذا شككنا في وجود زيد وعلى تقدير وجوده نشكّ في طلاق زوجته ، فإنّ الشكّ في الطلاق وعدمه لا يناط بوجوده ، فعلى تقدير الوجود فالشكّ فيه موجود.

وعلى التقديرين فإمّا أن يكون الحكم الشرعي مترتّبا على الموضوع من غير توسّط أمر عاديّ أو عقلي ، أو لا يكون مترتّبا على نفس الموضوع ، بل أمر لازم له (١) عقلا أو عادة ، وعلى التقادير الأربعة لا حاجة في استصحاب الحكم الشرعي إلى استصحاب الموضوع أوّلا ، فعلى تقدير الحاجة فلا جدوى فيه ثانيا.

أمّا الأوّل : فبيانه أمّا إجمالا : فلكفاية الاستصحاب الموضوعي عن استصحاب الحكم على قسميه فيما إذا كان الحكم مترتّبا على نفس الموضوع وكفاية استصحاب نفس الواسطة من غير حاجة إلى استصحاب موضوعه في ترتّب الحكم الشرعي على الموضوع العاديّ أو العقلي اللذين فرضناهما واسطة (٢) بقسميه (٣). وأمّا تفصيلا ، فلأنّ معنى استصحاب الموضوع على ما عرفت سابقا ليس إلاّ جعل أحكامه المتعلّقة به شرعا ؛ إذ ليس قابلا للإبقاء بواسطة عدم قبوله الجعل فاستصحاب الموضوع يغني

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ له.

(٢) « ك » : بواسطة وظاهر نسخة « ز » : بواسطته.

(٣) « ك » : تقسيمه.

٣٨٠