مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو بالنسبة إلى قاعدة كلّية مطّردة ، وإلاّ فقد يكون في بعض الموارد أدلّة خاصّة تدلّ على عدم اعتبار الشكّ بعد الفراغ من أيّ وجه كان في الأحكام أيضا كما في خصوص الصلاة لرواية خاصّة.

المقام الثاني

في بيان الحال في تلك الواقعة بالنسبة إلى الوقائع المستقبلة ، فنقول : إنّه يمكن الاستناد في المضيّ على الآثار الماضية بالنسبة إلى زمن المستقبل بأحد الأمرين :

الأوّل : ما قد يظهر من الشيخ الأجلّ كاشف الغطاء (١) فيمن شكّ في الوضوء بين الظهر والعصر حيث استظهر جواز الدخول في العصر بالوضوء المشكوك فيه ، ونقل الأستاد ـ دام عزّه ـ عن بعض أجلّة معاصريه الفتوى بذلك أيضا ، والوجه فيه أنّ المستفاد من الأدلّة الدالّة على لزوم حمل الفعل على الصحّة إنّما هو الحكم بإحراز ما يحتمل الفساد بتركه وترك ما يحتمله بفعله واقعا ، وبعد ذلك فلا فرق بين الأعمال الماضية والمستقبلة ، كما في الاستصحاب فإنّ الطهارة المستصحبة كما تجري بالنسبة إلى الصلاة الماضية كذلك تجري بالنسبة إلى ما يشتغل بها المكلّف بعد ذلك أيضا ، مثلا لو شكّ في الوضوء بعد صلاة الظهر فالشارع حكم (٢) بإلغاء الشكّ ، والحكم بأنّ الشاكّ متطهّر واقعا بمعنى (٣) لزوم ترتيب (٤) الطهارة الواقعية عليه ومن جملة ذلك جواز الدخول فيما هو مشروط بالطهارة واقعا كالصلاة والطواف ونحوهما ، هذا وقد استشكل فيه مرّة أخرى.

__________________

(١) كشف الغطاء ٢ : ١٠٧ وفي ط الحجري : ١٠٣ ( البحث الثاني ).

(٢) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : ـ حكم.

(٣) « م » : « على » بدل : « بمعنى ».

(٤) « ز ، ك » : ترتّب.

٣٢١

الثاني : ما يظهر من الشيخ الجليل أيضا في بعض فروع الكشف (١) من أنّ أفعال المسلم محمولة على الصحّة ، وقضيّة ذلك عامّة بالنسبة إلى أفعال الجوارح والأعمال القلبية وما يطرأ للإنسان من الحالات والملكات ، ففيما لو شكّ في صحّة الاعتقاد فالأصل يقضي (٢) بصحّته ومطابقته للواقع كصحّة قوله : وبعد ما حمل اعتقاده على الصحّة وحكم حكما شرعيا بواقعية ما اعتقده فلا يفرق في ذلك الأعمال السابقة والأفعال اللاحقة.

وشيء (٣) من الوجهين لا يكاد يتمّ : أمّا الأوّل : فلأنّ الصحّة المستفادة من الأخبار لا تزيد على الصحّة في الأعمال السابقة التي قد انقضى محلّها ، وأمّا الأعمال الآتية فمحلّها باق ولا يزيد مفادها على عدم المؤاخذة بالأفعال الماضية ، وأمّا ثبوت الواقع بواسطة الحمل فممّا لا دليل عليه ، فعلى هذا فلا بدّ في الأعمال اللاحقة من العمل على ما يقتضيه القواعد فيما لو فرضنا انتفاء ذلك الاعتقاد وإن قدّر بناء العمل على الآثار الماضية أيضا (٤).

وأمّا الثاني : فلأنّ صحّة الاعتقاد كصحّة القول والاجتهاد لها وجهان : أحدهما : عدم تقصير المعتقد كالقائل والمجتهد في تحصيل اعتقاده وقوله واجتهاده ، فالفاسد منها (٥) ما لم يتفحّص المعتقد في تحصيله ، وعمد القائل بالكذب ، وقصّر المجتهد في الاجتهاد ، وثانيهما : مطابقة قوله واعتقاده واجتهاده للواقع ، فالفاسد منها ما يخالف الواقع.

فإن أراد المستدلّ من قاعدة الصحّة في الاعتقاد ما يعمّ الثاني أيضا فهو وإن كان يجدي فيما رامه إلاّ أنّه ممّا لا دليل عليه ؛ لعدم إفادة الأدلّة فيما عدا الصحّة

__________________

(١) كشف الغطاء ١ : ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، وفي ط الحجري ٣٥ ( البحث السادس والثلاثون ).

(٢) « ج ، ك » : يقتضي.

(٣) « ج ، م » : شيئا.

(٤) « ز ، ك » : ـ أيضا.

(٥) « ز ، ك » : ـ منها.

٣٢٢

بالوجه (١) الأوّل ، فإنّ وجوب تكذيب السمع والبصر على تقدير شمول مثله للأفعال الصادرة عن الفاعل الجاهل ، ممّا ليس فيه دلالة على كون القول أو (٢) الاعتقاد أو الاجتهاد مطابقا للواقع ، بل ولا أظنّ أنّ أحدا يقول بذلك فيما إذا كان مدرك الاعتقاد و (٣) الاجتهاد موجودا حاضرا لدى المعتقد والمجتهد ، مثلا لو فرضنا أنّ المجتهد إنّما قطع بجزئية السورة في الصلاة بواسطة رواية مرسلة ضعيفة الدلالة فتذكّر بعدم إفادة مثلها القطع في العادة فشكّ في نفس الحكم الذي أفتى به من (٤) أوّل الأمر ، فلا يعقل الحكم بواسطة أصالة الصحّة بالمطابقة كما هو ظاهر ، حتّى أنّ الشيخ (٥) أيضا (٦) إنّما يستفاد من بعض تضاعيف كلماته تقييده بخفاء المدرك ، وكلامه إنّما هو في مجرّد الاعتقاد مع قطع النظر عن مدرك الاعتقاد.

وإن أراد صحّة الاعتقاد على الوجه الأوّل فهو حقّ لكنّه لا يفيد (٧) فيما رامه ؛ إذ غايته عدم تقصيره وعصيانه في تحصيل الاعتقاد والاجتهاد وعدم تعمّده (٨) بالكذب ، وأين (٩) هو من مطابقة قوله واعتقاده واجتهاده للواقع (١٠)؟

تنبيه

زعم بعض من لا تحقيق له شمول أخبار الاستصحاب للشكوك السارية أيضا ؛ لأنّ قضيّة الأخبار عامّة شاملة للمقامين ، إذ المناط فيها على مجرّد الشكّ واليقين وهو حاصل فيهما ، وحيث إنّ بعض من لا درية (١١) له قد تفصّى عن مثله بعدم انصراف

__________________

(١) « ز ، ك » : بوجه.

(٢) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : و.

(٣) « م » : أو.

(٤) « م » : فمن.

(٥) كشف الغطاء ٢ : ١٠٣ ، وفي ط الحجري ١٠٢.

(٦) « ز ، ك » : ـ أيضا.

(٧) « ز ، ك » : لا يفيده.

(٨) « ز ، ك » : العمل.

(٩) « ز ، ك » : وإنّ.

(١٠) « ج ، م » : بالواقع.

(١١) « ك » : لا دراية.

٣٢٣

الأخبار إلى الشكوك السارية فاعترضه بأنّ الانصراف إنّما يتمّ (١) فيما لو سلّمناه عند إطلاق الدليل والمفروض على ما بيّن في محلّه عموم أخبار الباب ، فلا وجه لدعوى الانصراف فيه ، ولقد أغرب بعضهم فادّعى أنّ مورد الأخبار المذكورة في الشكوك السارية ، وهو غريب عجيب (٢) ؛ إذ ليس فيها منها عين ولا أثر.

والتحقيق : عدم الارتباط بينهما ، وتوضيحه يتوقّف على بيان وجوه الفرق بين المقامين ، فنقول : إنّ الاستصحاب يفترق مع الشكّ الساري مفهوما وموردا وثمرة.

أمّا الأوّل : فلأنّ المعتبر في الاستصحاب هو الوجود السابق ـ وإن لم يكن معلوما في السابق ، بل لو علمنا (٣) بوجوده في السابق في زمان الشكّ ببقائه على وجه تقارن (٤) الشكّ اليقين في زمان واحد كان استصحابا ، وأمّا ما هو المعروف من اعتبار اليقين السابق فمن حيث إنّ اليقين مرآة عن الوجود والتحقّق ، وليس لخصوص وصف اليقين في السابق مع قطع النظر عن استكشاف الواقع به مدخلية في الاستصحاب ـ والشكّ اللاحق في بقاء الموجود المتحقّق سابقا وارتفاعه ، والمعتبر في الشكّ الساري هو وصف اليقين السابق على الشكّ ـ وإن كان ذلك اليقين متعلّقا بموجود في اعتقاد المعتقد حال الاعتقاد إلاّ أنّ حدوث ذلك وتحقّقه غير ملحوظ في الشكّ الساري ولو في اعتقاده ـ والشكّ اللاحق في صحّة ذلك اليقين ومطابقته للواقع وعدمها ، ولا ينافي القطع بارتفاعه على تقدير وجوده وصحّة اليقين أو القطع ببقائه على هذا التقدير (٥) أو الشكّ فيه ؛ إذ لا يناط بالشكّ في الوجود في الزمن الثاني ، وإنّما مناطه الشكّ في صحّة الاعتقاد وهو لا ينافي القطع بالبقاء ؛ ضرورة إمكان حصول القطع بالملازمة مع الشكّ في وجود الملزوم كما هو ظاهر.

__________________

(١) « ز ، ك » : « هو » بدل : « يتمّ ».

(٢) « ج ، م » : ـ عجيب.

(٣) « ز ، ك » : علمناه.

(٤) « ز ، ك » : يقارن.

(٥) « ز ، ك » : هذا الفرض والتقدير.

٣٢٤

وأمّا الثاني : فلأنّ الاستصحاب في موارد الشكّ الساري بأجمعها يقضي بعدم التحقّق وعدم ثبوت الحكم ، فلا يجتمع معه في مورد.

وأمّا الثالث : فلأنّ المطلوب في مورد الاستصحاب إنّما هو تصحيح الأعمال المترتّبة على الوجود بعد حدوث الشكّ ، فهو يثمر في الأعمال المستقبلة غالبا وعلاج بالنسبة إليها ، والمطلوب في مورد الشكّ الساري إنّما هو تصحيح الأعمال الماضية الصادرة حال اليقين ، وإنّما الحاجة في صحّة العمل المترتّب على ذلك اليقين والشكّ في صحّة اليقين إنّما كشف عن الحاجة.

وإذ قد تقرّر الفرق بين المقامين فليس ينبغي أن يذهب وهم إلى أنّ ما ورد في أحدهما يصلح أن يكون دليلا في الآخر ؛ إذ لا جامع بينهما إلاّ مجرّد لفظ اليقين والشكّ ، وهل يصلح ذلك بعد وجوه (١) الاختلاف والتباين منشأ لمثل هذا التوهّم؟ وليت شعري فهل قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة : « فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » (٢) يمكن أن يجعل بيانا لحكم (٣) الشكّ في صحّة اليقين بعد سؤال السائل : الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة؟ فإنّ السؤال إنّما هو عن حكم المتيقّن بعد الوجود والشكّ في بقائه وارتفاعه ، ولا ربط بينه وبين حكم الشكّ في صحّة اليقين وتحقّق المتيقّن ، وهل يمكن أن يكون المراد به أعمّ من الشكّين بعد انتفاء الجامع بين متعلّق الشكّين واليقينين (٤)؟ كما أنّه لم يذهب وهم إلى أنّ قول الإمام : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » (٥) يعمّ الشكّ في وجود المشكوك فيه وعدمه بعد العلم بوجوده في الجملة.

نعم ، قد نبّهنا (٦) على ما يظهر من رواية الخصال في أحد احتماليه ، فإنّ قوله : « من

__________________

(١) « ز ، ك » : وجود.

(٢) تقدّم في ص ٨٨.

(٣) « ز ، ك » : بحكم.

(٤) « م » : اليقين.

(٥) تقدّم في ص ٣١٩ ـ ٣٢٠ وسيأتي في ص ٤٤٥.

(٦) نبّه في ص ١٠٤ وتقدّمت رواية الخصال في ص ١٠٣.

٣٢٥

كان على يقين » يحتمل أن يراد به من كان وصف اليقين حاصلا له (١) ثمّ شكّ في صحّة ذلك اليقين فليمض على يقينه ويحكم بصحّة يقينه ، ويحتمل أن يراد من كان له متيقّن موجود (٢) معلوم على أن يكون اليقين جهة للقضيّة لا موضوعا فيها ثمّ شكّ في بقائه وارتفاعه فليمض على يقينه ويحكم بوجود المتيقّن بترتيب آثاره عليه ، فعلى الأوّل يصير دليلا للشكّ الساري ، وعلى الثاني دليلا للاستصحاب ، إلاّ أنّ الثاني بقرينة قوله : « فليمض » أظهر ؛ لبعده (٣) بالنسبة إلى الأوّل كما (٤) لا يخفى.

تذنيب

قد يظهر من بعضهم التمسّك في موارد سريان الشكّ باستصحاب الحكم الظاهري ، مثلا فيما لو اعتقد المجتهد حلّية العصير العنبي أو طهارته ، ثمّ طرأ الشكّ عليه ، فقبل طريان الشكّ على (٥) صحّة الاعتقاد كان العصير في مرحلة الظاهر بحسب ما أدّى إليه نظر المجتهد حلالا وطاهرا ، وبعد الشكّ يستصحب الحلّية الظاهرية والطهارة الثابتة في مرحلة الظاهر.

وليس في محلّه ؛ لأنّه من الاستصحاب العرضي وهو ليس معتبرا (٦). وتحقيقه أنّه إذا كان للفعل أو الشيء المستصحب جهتان يترتّب على إحداهما حكم قطعا ، وترتّبه على الأخرى مشكوك من أوّل الأمر ابتداء ، ثمّ بعد ارتفاع الجهة المعلومة لا يمكن استصحاب ذلك الحكم ؛ إذ ثبوت الحكم بالنسبة إلى الجهة المشكوكة غير معلوم وبالنسبة إلى الجهة المعلومة معلوم الارتفاع ، مثلا فيما لو فرضنا حيوانا متولّدا من الكلب والغنم ولم يعلم إلحاقه بأحد عموديه عرفا ، فمقتضى القاعدة الحكم بطهارته

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ له.

(٢) « ج ، م » : وموجود.

(٣) « ز ، ك » : لبعدها.

(٤) « ز ، ك » : فكما.

(٥) « ز ، ك » : في.

(٦) « ز ، ك » : بمعتبر.

٣٢٦

نظرا إلى أصالة الطهارة ، إلاّ أنّه ربّما يغالط فيقال : إنّ ذلك الحيوان المتولّد من الكلب باعتبار ملاقاته لباطن الكلب أو بواسطة تلطّخه بدم النفاس كان نجسا قطعا ، وبعد ما زالت النجاسة العرضية ـ مثلا ـ يشكّ (١) في بقاء النجاسة وارتفاعها فتستصحب (٢) النجاسة ، وفساده ممّا لا يكاد يخفى على أوائل العقول. ومن هذا القبيل جملة من موارد الاستصحاب وقد مرّ الإشارة إلى بعضها ، كما في استصحاب وجوب الأجزاء بعد تعذّر الكلّ ، ومنه ما غالط به بعض الأخبارية على ما نقل عنه في ردّ العمل بالاستصحاب في الأحكام من أنّ العمل به قبل الفحص حرام قطعا ، وبعده يشكّ فيها ، والاستصحاب يقضي بحرمته ، ومنه ما تمسّك به بعضهم (٣) في إثبات حجّية العامّ المخصّص باستصحاب حجّيته قبل التخصيص بعده ، فإنّ الكلّ على حدّ سواء في عدم الاعتداد بالاستصحاب فيها (٤) ؛ لأنّ الحكم اللاحق للعنوان باعتبار أمر طار عليه قد ارتفع قطعا ، إذ لا ريب في انتفاء الاعتقاد بالحلّية أو الطهارة بالنسبة إلى المثال الأوّل ، فإنّه كان هو المنشأ لتخيّل الحكم الظاهري ولم يكن حكما ظاهريا أيضا كما لا يخفى ، والحكم اللاحق للعنوان باعتبار أمر (٥) آخر غير معلوم الثبوت ابتداء ، فلا يتحقّق الاستصحاب.

فالاستصحاب في هذه الموارد بالنسبة إلى الجهة المشكوكة يكون من الاستصحاب في الشكوك السارية ، وبالنسبة إلى الجهة المعلومة من الاستصحاب في الشكوك العرضية ، فعند التحقيق يكون الشكّ في الاستصحاب العرضي من الشكّ في الأقلّ والأكثر لا على وجه الارتباط بين الأقلّ والأكثر ، بل الأقلّ بعنوانه معلوم تفصيلا والزائد غير معلوم كذلك ، وبمثل ذلك يجاب في المغالطة الأخبارية فإنّ الحرمة اللازمة

__________________

(١) « ج ، م » : نشكّ.

(٢) المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : فيستصحب.

(٣) نقل المحقّق القمي في القوانين ١ : ٢٦٥ عن بعضهم أيضا ، كما تقدّم عنه في ص ٣١٨.

(٤) « م » : فيهما ( ظ ).

(٥) « ج ، م » : ـ أمر.

٣٢٧

لعدم (١) الفحص قد زالت والحرمة الذاتية لم تثبت ، وكذا في العامّ المخصّص فإنّ الحجّية المستندة إلى عدم التخصيص قد ارتفعت ، وغيرها مشكوكة من أوّل الأمر وإلاّ يلزم البداء المحال وذلك أمر واضح وإن اشتبه بعض أفراده على بعض الأفهام ، ولكن بعد ملاحظة ما ذكرنا من الأمثلة لا يكاد يشتبه الأمر على أحد ، وأوضح فسادا من الكلّ ما لو شكّ ـ مثلا ـ في حيوان خلق إبداعا وشكّ في طهارته ونجاسته ، فإنّ المغالط قد ينجّسه بنجاسة عرضية كأن يبول عليه أحد ، ثمّ بعد زوال تلك النجاسة العرضية يستصحب النجاسة لإثبات النجاسة الذاتية ، فكن على بصيرة من الأمر وتأمّل واغتنم والله الموفّق الهادي (٢).

__________________

(١) « ز ، ك » : بعدم.

(٢) « ز ، ك » : ـ والله ... الهادي.

٣٢٨

هداية

[ في الاستصحاب التعليقي ]

قد اصطلح بعض الأواخر على تسمية بعض أقسام الاستصحاب بالاستصحاب التعليقي ، وربّما يتراءى في بعض الأنظار (١) عدم الاعتداد بهذا القسم من الاستصحاب.

وتحقيق المقام : أنّ موضوع الحكم قد يكون الماهيّة المجرّدة عن الوجودين كما في لوازم الماهيّة مثل (٢) زوجية الأربعة ونحوها كما في الأحكام الطلبية فإنّ الوجوب إنّما هو من لواحق الماهيّة كالمطلوبية ؛ إذ بعد الوجود فلا وجه لوجوبه ومطلوبيته ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، غايته أنّ الطالب إنّما يلاحظ الماهيّة الموجودة في الذهن بعنوان وجودها في الخارج فيلحقها وصف المطلوبية ومن هذه الجهة تفترق الزوجية اللازمة للأربعة ، ولهذا ترى (٣) أنّ المتصوّر لماهيّة الصلاة لا يعدّ ممتثلا للأمر بها.

وقد يكون الماهيّة (٤) الموجودة في الخارج ، فالوجود الخارجي ليس إلاّ جزء من موضوع الحكم ، فهو متعلّق به لا أن يكون معلّقا عليه ، كما في نجاسة الكلب فإنّ النجاسة إنّما هي من ملحقات الموجود (٥) الخارجي وليست النجاسة معلّقة على وجود

__________________

(١) السيّد المجاهد في المناهل : ٦٢٥ ( كتاب الأطعمة والأشربة ) كما عنه في فرائد الأصول ٣ : ٢٢٢.

(٢) « ز ، ك » : في مثل.

(٣) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ـ ترى.

(٤) « ز ، ك » : الماهيّة.

(٥) « ز ، ك » : الوجود.

٣٢٩

الكلب في الخارج ، نعم لو كان الموضوع هو نفس الماهيّة (١) كما في المثال المتقدّم صحّ التعليق بالوجود الخارجي.

وقد يكون الموضوع هو الموجود الخارجي لكن تعلّق الحكم به معلّق على حصول أمر آخر.

والفرق بين المقامين واضح فإنّ انتفاء الحكم على تقدير عدم المعلّق عليه بواسطة انتفائه وإن كان الموضوع موجودا على الأخير ، وانتفائه على تقدير عدم الموضوع بواسطة انتفاء الموضوع ، فعدم النجاسة فيما لو قدّر عدم الكلب بواسطة عدم الكلب ، فنجاسة الكلب منفيّة لا أنّ النجاسة عن الكلب منفيّة ، بخلاف ما إذا كان الحكم معلّقا على أمر آخر كما في وجوب الحجّ فإنّ الوجوب عن المكلّف منفيّ عند انتفاء الاستطاعة كما لا يخفى (٢).

وبالجملة : فالحكم المتعلّق على موضوع خاصّ ليس معلّقا على وجود الموضوع فيما لو كان الموضوع هو الموجود ، وإلاّ فلم يبق لنا حكم تنجيزي أصلا ، فالمراد بالاستصحاب التعليقي هو استصحاب الحكم المعلّق على وجود أمر عند احتمال زوال ذلك الحكم ، مثلا إنّ نجاسة العصير العنبي معلّق على غليان ذلك العصير واشتداده وعدم ذهاب ثلثيه ، وهذه عبارة عن قضيّة تعليقية وهي أن يقال : إنّ العصير إنّما هو على وجه لو غلى واشتدّ ولم يذهب ثلثاه كان نجسا ، فالشكّ في هذه القضيّة تارة : يتعلّق ببقاء الملازمة في الوقت الثاني وارتفاعها ، وتارة : ببقاء السببية المستفادة من اقتران الشرط في جملة المقدّم بأداة الشرط ، وأخرى : في الحكم المعلّق عليه. لا إشكال في جريان الاستصحاب على الأوّلين ؛ لعدم المانع منه وليس من الاستصحاب التعليقي

__________________

(١) « ز » : الماهيّة.

(٢) في هامش « م » : لو علم الناس ما في زيارة الحسين عليه‌السلام في نصف شعبان لقامت .... رحالهم على الخشب.

٣٣٠

في شيء منهما ، وإنّما الكلام في استصحاب الحكم المعلّق عليه ، كما إذا شكّ في نجاسة العصير المأخوذ من الزبيب فيقال : إنّ العنب ـ مثلا ـ عصيره فيما لو غلى واشتدّ ولم يذهب ثلثاه نجس قطعا ، وبعد ما صار زبيبا يشكّ في نجاسة عصيره وعدمها ، فيستصحب الحكم المعلّق عليه. وكما أنّ المرأة قبل الوقت عند بياضها كانت بحيث لو دخل الوقت يجب عليها الصلاة. وبعد دخول الوقت يشكّ (١) في الوجوب بواسطة احمرار وجدتها (٢) غير معلوم الحيضية ، فيستصحب الوجوب المعلّق على دخول الوقت. وكما في وجوب الحجّ فإنّ المكلّف قبل الاستطاعة كان بحيث لو استطاع وجب عليه الحجّ ، ثمّ شكّ في الوجوب المعلّق على الاستطاعة عند الخوف من العدوّ الذي يحتاج دفعه إلى بذل بعض من المال ، فيستصحب الوجوب المعلّق ، ولا ضير في هذا الاستصحاب أيضا من جهة التعليق.

فإن قلت : إنّ استصحاب الحكم المعلّق دائما معارض باستصحاب عدم الحكم المنجّز عند فقد المعلّق عليه ، مثلا استصحاب وجوب الحجّ معارض باستصحاب عدم وجوب الحجّ المنجّز عند عدم الاستطاعة ، وكذا استصحاب وجوب الصلاة معارض باستصحاب عدم وجوب الصلاة قبل ، فلا يجدي استصحاب الوجوب.

قلت : نعم ، ولكنّ الشكّ في الوجوب وعدمه بعد حصول المعلّق عليه مسبّب عن الشكّ في بقاء الحكم المعلّق عليه ، وبعد استصحاب الحكم المعلّق فلا يبقى للشكّ في الوجوب مجال ، فلا تعارض ؛ لأنّه مزيل بالنسبة إليه ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب من حيث إنّ المستصحب معلّق (٣) ، نعم لا بدّ من ملاحظة شيء آخر في أمثال هذه الموارد وهو أنّ سبب الشكّ قد يكون من أجزاء المقدّم والتالي في القضيّة التعليقية فلا بدّ من إحراز هذه المقدّمة ، فالملازمة إنّما هي (٤) بين المقدّم والتالي لكن بعد

__________________

(١) « ج ، م » : شكّ.

(٢) في النسخ : وجدها.

(٣) « ز ، ك » : معلوم.

(٤) « ج ، م » : هو.

٣٣١

الأخذ بجميع ما يعتبر في الطرفين ، ففيما لو علمنا بذلك فلا شكّ في عدم جريان الاستصحاب ؛ إذ عدم الحكم على تقدير قطعي وثبوته على تقدير مشكوك أصلا ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب في هذه الموارد. وكذا فيما لو شككنا في جزئية شيء للمقدّم أو للتالي إلاّ أن يستفاد من ظهور اللفظ الوارد في مقام التعليق شرطية الشيء الخاصّ مع قطع النظر عمّا عداه ، فإنّ المناط في تشخيص هذه الأمور على الرجوع إلى الأدلّة الدالّة على هذه الأحكام التعليقية ، فربّما يستفاد منها شرطية شيء خاصّ ، وربّما يستفاد انضمام شيء آخر إليه ، وهذا هو الوجه في خلافهم في وجوب الحجّ على المستطيع فيما لو توقّف دفع العدوّ على دفع بعض المال الذي يبقى معه الاستطاعة ، وربّما يتسامح في بعض ما يحتمل كونه جزء من المقدّم كالوصف أو الحال أو الزمان فيلاحظ (١) فيها كونها ظرفا لا قيدا لأحد الطرفين ، مثلا في قولنا الماء المتغيّر فيما لو كان مقدّما في قضيّة تعليقية قد يعتبر مركّبا فبانتفاء أحد جزئية ينتفي التالي ، وقد يعتبر المقدّم هو الماء في حال التغيّر على وجه لا يكون التغيّر مناطا في الملازمة (٢) ، فعلى الأوّل لا معنى للاستصحاب ، وعلى الثاني يجري الاستصحاب ، إلاّ أنّه لا يخفى على أحد أنّه (٣) بعد إحراز أنّ السبب والعلّة التامّة للحكم وحدوثه (٤) هو الماء في حال التغيّر والمفروض وجوده في الحال أيضا ، فالشكّ في البقاء والارتفاع غير معقول إلاّ على تقدير احتمال أن لا تكون (٥) العلّة المبقية هي (٦) العلّة المحدثة ، فالشكّ في البقاء والارتفاع معقول على هذا الوجه.

فبالحقيقة الاستصحاب التعليقي ليس إلاّ كالاستصحاب التنجيزي ، فكما أنّ جريان الاستصحاب التنجيزي عند التحقيق يتوقّف على اتّحاد القضيّة المشكوكة

__________________

(١) « ز ، ك » : فلاحظ.

(٢) « ز ، ك » : للملازمة.

(٣) « ج ، م » : أنّ.

(٤) « ج » : هو وحدوثه.

(٥) « ج ، م » : يكون.

(٦) « ج ، م » : هو.

٣٣٢

والمتيقّنة ، فكذا جريان التعليقي أيضا يتوقّف على الاتّحاد بين القضيّة التعليقية المشكوكة وبين معلومها.

فإن قلت : إنّ الظاهر من الجملة الشرطية هو أنّ المقدّم علّة لوجود التالي وإن كان الواقع شرطا (١) من العلل الناقصة كأن يكون شرطا أصوليا مثلا ، فعند وجود المعلّق عليه لا معنى للشكّ.

قلت : قد لا يكون التعليق مستفادا من ظواهر الألفاظ الواردة في المقام ؛ لإمكان استفادته من أمر لبّي ، فلا ظهور فيه ، ومع ذلك فالشكّ ممكن بواسطة احتمال ارتفاع أحد أجزاء (٢) العلّة (٣) التامّة للحكم المعلّق عليه ولا ينافيه ظهور اللفظ في العلّية ؛ إذ ربّما يتّفق اجتماع الأجزاء عدا الجزء المعلّق عليه فيصحّ التعليق على وجوده أو بواسطة ارتفاع ما يمكن أن يكون من العلّة ، ويحتمل أن يكون من أجزائها ، فيستصحب الحكم المعلّق عليه عند هذه الاحتمالات.

فإن قلت : إنّه (٤) قبل زمان الشكّ كانت العلّة التامّة موجودة عدا الجزء المعلّق عليه ، وبعد وجوده والشكّ في ارتفاع بعض الأجزاء أو ارتفاع ما يحتمل الجزئية يستصحب العلّة التامّة ، فيترتّب عليها المعلول.

قلت : نعم ، ولكنّه لا بدّ أن يعلم أنّه على تقدير احتمال ارتفاع بعض أجزاء العلّة ، كما إذا علمنا بأنّ التغيّر في مثال الماء من أجزاء العلّة ثمّ شككنا في ارتفاعه وبقائه يستصحب العلّة التامّة ، ولا حاجة إلى استصحاب الحكم المعلّق عليه ، لترتّبه على العلّة ، كما أنّ بعد فرض جريان الاستصحاب في الموضوع لم يبق شكّ في الحكم ولا معنى لاستصحابه ولو مع قطع النظر عنه ، وعلى تقدير ارتفاع ما يحتمل كونه من العلّة

__________________

(١) « ز ، ك » : هو شرطا.

(٢) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الأجزاء.

(٣) « ز ، ك » : للعلّة.

(٤) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : إنّ.

٣٣٣

يكون الأصل مثبتا ، مثلا لو زال التغيّر قطعا واحتملنا أن تكون (١) العلّة مركّبة منه ومن غيره فأصالة بقاء العلّة لا يترتّب عليها (٢) أنّ الموجود هي العلّة إلاّ بملازمة عقلية وقد عرفت عدم الاعتداد بمثله ، فتدبّر.

__________________

(١) « ج ، م » : يكون.

(٢) « ج ، م » : عليه.

٣٣٤

هداية

[ في بيان استصحاب الحكم المخصّص ] (١)

إذا ثبت في الشريعة حكم بدليل عامّ عموما أزمانيا ثمّ ثبت بدليل مخصّص لذلك العامّ ارتفاع ذلك الحكم في قطعة من الزمان ففي زمان الشكّ هل يؤخذ بعموم العامّ أو باستصحاب حكم (٢) الخاصّ؟ وجهان بل قولان :

يظهر من ثاني المحقّقين في جامع المقاصد (٣) في تلقّي الركبان فيما إذا شكّ في بقاء الخيار وارتفاعه تحكيم عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٤) على استصحاب الخيار (٥) ، ويظهر من الشهيد (٦) في عدّة مواضع من المسالك (٧) الأخذ بالاستصحاب (٨).

والتحقيق أن يقال : إنّ (٩) الدليل الدالّ على الحكم المخالف للاستصحاب تارة : يكون مهملا بالنسبة إلى الأزمنة التي تقع فيها الأفراد ، كما إذا قال المولى : أكرم العلماء ملاحظا فيها عموم الأفراد فقط من غير مدخلية الزمان في ذلك الحكم ، فلا يختلف الوجوب باختلاف الأزمنة حينئذ.

__________________

(١) العنوان من هامش « م ».

(٢) « ج ، م » : الحكم.

(٣) « ز ، ك » : ـ في جامع المقاصد.

(٤) المائدة : ١.

(٥) جامع المقاصد ٤ : ٣٨.

(٦) « ز ، ك » : + رحمه‌الله.

(٧) « ز ، ك » : ـ في عدّة مواضع من المسالك.

(٨) مسالك الأفهام ٣ : ١٩٠ و ٤٣١ ، و ٤ : ١٠٠ و ١٨٤ ، و ٥ : ١٩٢ ، و ٨ : ٣٤ ، وقارن بما ذهب في خيار الغبن والرؤية ٣ : ٢٠٤ و ٢٢١.

(٩) « م » : ـ يقال إنّ.

٣٣٥

وتارة : يكون عامّا (١) بالنسبة إليها فتارة : على وجه يكون الحكم ثابتا في تمام الزمان فيكون كلّ واحد من أجزاء الزمان جزء لا فردا (٢) ، وأخرى : على وجه يكون الحكم ثابتا في كلّ واحد من أفراد الزمان فيكون كلّ جزء من الزمان ملحوظا في نظر الآمر فردا مغايرا للآخر.

ومرّة : يكون الدليل مشكوكا فيه إهمالا وعموما على الوجهين.

لا إشكال في جريان الاستصحاب على الأوّل ؛ لعدم المانع منه بعد وجود أركانه من اليقين السابق والشكّ اللاحق.

كما أنّه لا إشكال في جريانه على الأوّل من الثاني ؛ لأنّ المفروض خروج القطعة المفروضة المخصّصة من العامّ ، وخروجها عن العامّ في زمن اليقين والشكّ بالنسبة إلى لزوم التخصيص في العامّ مساو لعدم ملحوظية الزمان فيه إلاّ على هذا الوجه الذي لا يفرق فيه الخروج في الزمانين ، وذلك ليس من تخصيص العامّ في شيء ، بل لو فرض عدم اعتبار الاستصحاب أيضا لم يكن الأخذ بالعامّ وجيها ؛ لعدم دلالته على أفراد الزمان ، بل لا بدّ من الأخذ بسائر الأصول كما إذا لم يكن في ذلك المورد عموم ولا استصحاب.

ومن هذا القبيل مسألة الخيار فإنّ ما يظهر لنا بعد التأمّل الصادق عدم دلالة ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٣) على عموم زماني يكون كلّ جزء من أجزاء الزمان ملحوظا في نظر الشارع مقصودا له في وجوب الإمضاء بمضمون العقد ولزوم الوفاء به ، فلو تساهل من له الخيار في الأخذ بخياره على وجه لم يصدق فيه الغرر (٤) العرفي صحّ استصحاب حكم الخاصّ والأخذ بالخيار في ثاني الزمان ، ووافقنا في ذلك جماعة من

__________________

(١) « ز ، ك » : تكون عامّة.

(٢) « ز ، ك » : لأفراده.

(٣) المائدة : ١.

(٤) « ج » : الفور ، كتب تحتها في نسخة « م » : « ضرر ».

٣٣٦

الأعاظم منهم سيّد الرياض (١) إلاّ أنّه قيّد الحكم بما إذا كان الحكم الخياري مدركه الإجماع ، وأمّا لو كان الوجه في ثبوت الخيار هو نفي الضرر والضرار فلا يجري فيه الاستصحاب ؛ لاستناد الحكم فيه إلى علّة معلومة الارتفاع كما في استصحاب الأحكام العقلية. وأمّا ما أفاده المحقّق الثاني من أنّ قوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) لو لم يكن عامّا بالنسبة إلى الزمان لم ينتفع (٣) بعمومه ، فهو في غاية الجودة ، إلاّ أنّه لا يجديه فإنّ من الظاهر أنّ عموم الزمان الملحوظ فيه لا يجب أن يكون على الوجه الثاني كما لا يخفى ، هذا إذا كان عموم الدليل في مجموع الزمان على ما هو القسم الأوّل من التقسيم الثاني.

وأمّا القسم الثاني وهو ما كان عموم الدليل بالنسبة إلى الأزمنة عموما متناولا لكلّ جزء من أجزائه بحيث يكون كلّ واحد منها فردا برأسه ملحوظا للآمر (٤) ، فلا يجري فيه الاستصحاب على بعض الوجوه ويجري على بعض آخر ، ويكشف عن العموم على هذا الوجه إمّا ملاحظة عنوان العامّ كأن يكون مشتملا على أداة استغراق بالنسبة إلى الزمان أيضا كما في قولنا أكرم العلماء في كلّ زمان زمان ، وإمّا يستفاد ذلك من عنوان المخصّص فإنّه دليل على المستثنى منه كالمستثنى في ملاحظة الزمان فيه قيدا ؛ لأنّ الظاهر منه الاتّصال ، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون العموم مستفادا على الوجه المذكور من اللفظ أو العقل بمعونة حذف المتعلّق ونحوه.

وكيف كان ففيما لو وجد مثل هذا العامّ في الأدلّة فإمّا أن يكون الحكم في دليل المخصّص معلّقا على موضوع موجود في بعض الأفراد الملحوظة في ذلك العامّ ، كما إذا أمر المولى بلزوم الإتيان بالصلاة في كلّ زمان ـ مثلا ـ إلاّ من كان مريضا أو مسافرا

__________________

(١) الرياض ٨ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ ، و ١٠ : ٣٨٧ ، وفي ط الحجرية ١ : ٥٢٥ ـ ٥٢٦ ، و ٢ : ١٣٥.

(٢) المائدة : ١.

(٣) « ج » : لم ينفع.

(٤) « م » : به الآمر.

٣٣٧

مثلا ، فعند الشكّ في ارتفاع ذلك الموضوع لا إشكال في جريان الاستصحاب في نفس ذلك الموضوع ، ويلازمه عدم الاعتداد بالعموم على ما هو الظاهر ، كما إذا شكّ في حصول الحدّ في الفرد الخارج من عموم الزمان كما في قولنا : « أكرم العلماء في كلّ يوم إلاّ يوم الخميس » ثمّ شكّ في انتهائه مثلا ، وإن كان بينهما فرق (١) آخر من جهة أخرى. وإمّا أن لا يكون كذلك ، كما إذا شكّ في المثال المذكور في وجوب الإكرام في الجمعة فلا بدّ من الأخذ بعموم العامّ فيه ، ولا وجه للأخذ بالاستصحاب في مثله وإن فرضنا عدم عموم العامّ ؛ لأنّ المفروض أنّ الزمان قيد للحكم فبملاحظة اختلافه يختلف أفراد الحكم ولا يصحّ إجراء حكم فرد وانسحابه في آخر بالاستصحاب ، وليس هذا بواسطة أنّ العامّ دليل اجتهادي ولا يعارضه الاستصحاب العملي كما قد يتوهّم.

نعم ، لو فرضنا إهمالا في عنوان المخصّص ولم يكن عموم العامّ كاشفا عن اعتبار الزمان في المخصّص على الوجه المعتبر فيه ـ إذ كما أنّ المخصّص يكشف عن عموم العامّ قد يكون عموم العامّ أيضا كاشفا للمخصّص كما إذا ثبت عدم وجوب إكرام العلماء في الخميس لا على وجه التقييد ـ فيجري فيه الاستصحاب ، وإنّما يمنع منه عموم العامّ فلو لا العامّ كان الاستصحاب هو المرجع ، بخلاف الأوّل فإنّه على هذا التقدير لا يصحّ الأخذ بالاستصحاب ، بل لا بدّ فيه (٢) من الرجوع إلى ما يقتضيه سائر القواعد الممهّدة لبيان مواضع الشكّ.

ثمّ إنّ كلام المحقّق الثاني والشهيد إن كان في خصوص قوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فلم يظهر لنا مخالفتهم لما أوردناه من التحقيق وإن صعب الأمر في (٣) بعض المصاديق من المفهوم المذكور كما عرفت في خصوص المثال على حذو ما سبق ، وإن كان ذلك من

__________________

(١) « ج ، م » : فرقا.

(٢) « ج ، م » : ـ فيه.

(٣) « ز ، ك » : « يختصّ » بدل : « صعب الأمر في » وبعد « في » زاد ما بين السطور في نسخة « م » بخط آخر : « تحقيق ».

٣٣٨

جهة إطلاق القول بحكومة العامّ الزماني على الاستصحاب أو ورود الاستصحاب على العامّ ، ففساده ممّا لا يكاد يخفى بعد ما أوردنا (١) لك من التحقيق ، وأنت بعد ما أحطت خبرا بما قد سلف ذكره تقدر على الاحتجاج بكلّ من الوجهين وإبطاله ، فلا نطول بذكره ، إلاّ أنّ هاهنا كلاما أفاده بعض أفاضل السادات (٢) من متأخّري المتأخّرين ـ لا بأس بنقله تتميما للمبحث ـ : من أنّ استصحاب الحكم المخالف للأصل دليل شرعي مخصّص للعمومات ، ولا ينافيه عموم أدلّة حجّيته من أخبار الباب الدالّة على عدم جواز النقض بغير (٣) اليقين (٤) ؛ إذ ليس العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل ، وإلاّ لم يتحقّق لنا في الأدلّة دليل خاصّ ؛ لانتهاء (٥) كلّ دليل إلى أدلّة عامّة ، بل العبرة بنفس الدليل ، ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاصّ (٦) لا يتعدّاه إلى غيره فيقدّم على العامّ كما يقدّم على غيره من الأدلّة (٧) ، ولذا ترى (٨) أنّ الفقهاء يستدلّون في [ إثبات ](٩) الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب في مقابلة ما دلّ على البراءة الأصلية وطهارة الأشياء وحلّيتها ، ومن ذلك استنادهم (١٠) إلى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشكّ في ذهاب ثلثي العصير في (١١) كون التحديد (١٢) تحقيقيا

__________________

(١) « ز ، ك » : أوردناه.

(٢) في هامش « م » : وهو العلاّمة الطباطبائي السيّد مهديّ بحر العلوم في الفوائد الغروية [ ١١٦ ـ ١١٧ ] وكذا كتب تحتها في « ز ، ك » : « سيّد بحر العلوم » وأدرج « في الفوائد الغروية » في المتن بعد « السادات » وليس بصواب.

(٣) « ز ، ك » : بعد.

(٤) في المصدر : عدم جواز نقض اليقين بغيره.

(٥) في المصدر : لانتهاء حجّية.

(٦) في المصدر : خاصّ به.

(٧) في المصدر ونقل فرائد الأصول ٣ : ٢٧٧ : الأدلّة عليه.

(٨) « ز ، م » : نرى.

(٩) ما بين المعقوفين من المصدر.

(١٠) المثبت من « ك » وهو موافق للمصدر ونقل فرائد الأصول وفي « م » زيادة : على استثنائهم ( ظ ) وفي « ج » زيادة : إلى استنادهم وفي « ز ، ك » : استثناؤهم إلى استنادهم.

(١١) في المصدر ونقل فرائد الأصول : وفي.

(١٢) في المصدر : التحديد به.

٣٣٩

أو تقريبيا (١) ، وفي صيرورته (٢) قبل ذهاب الثلثين دبسا ، إلى غير ذلك (٣) ، انتهى كلامه على ما لخّصه بعض الأجلّة (٤).

ثمّ اعترض الملخّص (٥) عليه بأنّ هاهنا مقامين : الأوّل : تخصيص العامّ ورفع شموله لبعض ما يتناوله بالاستصحاب ، الثاني : إبقاء حكم التخصيص بعد قيام دليله في بعض ما يتناوله العامّ بالاستصحاب.

أمّا المقام الأوّل : فلا ريب في عدم حجّية الاستصحاب فيه ، سواء كان حكم العامّ موافقا للأصل أو مخالفا له (٦) ؛ لاقتصار حجّيته على صورة عدم اليقين على الخلاف وإن كان اليقين حاصلا من عموم ونحوه (٧) ممّا يكون في أدنى درجات الاعتبار ، وإلاّ لم يوجد أمر ولا نهي ؛ لمعارضة كلّ منهما باستصحاب البراءة الأصلية ؛ إذ لا فرق بين عموم العامّ وغيره من حيث كونه دليلا لفظيا. ولم يصلح عامّا للتمسّك به في موارد الشكّ إلاّ فيما لا يجوز تطرّق التخصيص إليه من دليل خارجي ؛ لأنّ القدر الثابت بالعامّ هو ذلك البعض الذي لا يجوز أن يكون مخصّصا.

وأمّا المقام الثاني : فلا ريب في حجّية الاستصحاب فيه إذا اشتمل على شرائط الحجّية وهو ممّا لا خلاف فيه وليس من تخصيص العامّ بالاستصحاب في شيء ، ومن هذا الباب ما ذكره من الأمثلة ، فإنّ عمومات البراءة إنّما دلّت على البراءة عند عدم ما يدلّ على الاشتغال ، فإذا دلّ الاستصحاب على بقاء الاشتغال أو على بقاء الموضوع يتفرّع عليه ، فشأن الاستصحاب في تلك العمومات تحقيق عنوان لا يجري فيه العمومات ، وكذلك الكلام في عموم الطهارة.

__________________

(١) في المصدر : لا تقريبيا.

(٢) في المصدر : صورة صيرورته.

(٣) الفصول : ٢١٤.

(٤) في هامش « ز ، ك ، م » : [ وهو « م » ] صاحب الفصول ، انتهى وسيصرّح بذلك أيضا كما سيأتي.

(٥) « م » : المتلخّص.

(٦) « ج ، م » : ـ له.

(٧) « ز » : نحوها.

٣٤٠