مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

نحن فيه من قبيل الثاني فإنّ وجوب الإتيان بالمأمور به عند الشكّ في الامتثال مترتّب على مجرّد الشكّ في الامتثال ولا بدّ من البراءة اليقينية ، فقولهم : « الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية » ناظر إلى إحراز القيد وهو تحصيل اليقين ، ولا يجوز الاقتناع بالشكّ ، فإنّ المناط في ذلك هو لزوم دفع الضرر على ما هو صريح العقل القاطع كما في نظائره من وجوب شكر المنعم ونحوه ، ومجرّد حصول المناط كاف في الحكم بآثاره المترتّبة عليه ولا حاجة في ذلك إلى إحراز المستصحب بالاستصحاب لترتيب هذه الآثار.

وأمّا الثاني : فلأنّا لو سلّمنا الاحتياج إلى إحراز المستصحب وجودا أو عدما في المقام حتّى يترتّب عليه الآثار المطلوبة فتلك الآثار ممّا لا يترتّب (١) على المستصحب. بيان ذلك أنّ الاشتغال عبارة عن صفة منتزعة من الإنشاء والطلب بالنسبة إلى المكلّف بمعنى أنّ الطالب بعد ما أنشأ الطلب التكليفي بالقول أو كشف عنه بعد إيجاده في نفسه بواسطة القول على اختلاف القولين ، يمكن أن ينتزع (٢) من المكلّف صفة يعبّر عنها بالاشتغال كما ينتزع من الفعل كونه مطلوبا ، وبذلك يصحّ إطلاق الطالب على الآمر أيضا ، وهاهنا (٣) معنى آخر يعبّر عنه بالوجوب تارة وبالإيجاب أخرى على اختلاف الاعتبارات ، وهو المراد بالحكم الشرعي ومرجعه إلى أحد الأخيرين ، وليس هذا الإنشاء عندنا ـ كما عليه المحقّقون ـ إلاّ الإرادة الجازمة والكراهة الثابتة بناء على أنّ الطلب هو عين الإرادة لا ما يستتبعه وإن كان مغايرا له ، ولا أمر آخر مفارق له كما زعمه الأشاعرة.

وبالجملة : فالوجوب الذي هو حكم شرعي يكون في عرض الاشتغال إن فرضنا الوجوب بالنسبة إلى الفعل ، وهما معلولان حينئذ لعلّة ثالثة وهو الإيجاب والطلب والإرادة ، وإن لاحظناه (٤) بالنسبة إلى الطالب فالاشتغال مترتّب عليه عقلا ، وعلى

__________________

(١) « ز ، ك » : ممّا يترتّب.

(٢) « ج ، ز » : ينزع.

(٣) « ز ، ك » : هنا.

(٤) « ز ، ك » : لاحظنا.

٣٠١

التقديرين لزوم الامتثال من الأحكام العقلية المترتّبة على الاشتغال فعند وجوده الحقيقي يترتّب عليه لزوم الامتثال المطلوب من استصحابه في أمثال المقام ، وأمّا عند إحراز الاشتغال بالاستصحاب لا يترتّب عليه إلاّ أحكامه الشرعية.

نعم ، يصحّ في المقام استصحاب الوجوب الذي هو حكم شرعي ؛ إذ معنى الاستصحاب هو جعله في مقام الظاهر وإنشاؤه ، وبعد الجعل والإنشاء (١) يترتّب عليه (٢) جميع لوازمه العقلية والشرعية من وجوب الامتثال وحدوث الاشتغال ، فإنّه على تقدير القول بالجعل ظاهرا حقيقي واقعي لا استصحابي ظاهري كما لا يخفى.

نعم ، يترتّب على استصحاب الاشتغال آثاره الشرعية المترتّبة عليه ، مثلا لو قيل بأنّ من اشتغل ذمّته بالفرائض لا يجوز له ارتكاب السنن والنوافل ، صحّ الاستناد إلى الاستصحاب في الحكم بعدم جواز ارتكاب النوافل له ، ومن اشتغل ذمّته بالظهر لا يجوز له الدخول في العصر.

اللهمّ إلاّ أن يقال في المقام بأنّ الاستصحاب مجد من وجهين :

أحدهما : أنّ المستفاد من الأمر بإبقاء الاشتغال حال الشكّ عرفا هو جعل الحكم الشرعي وإنشاء طلب ظاهري ؛ إذ كما عرفت أنّ الاشتغال والوجوب من أطراف إضافة واحدة كالصفة المنتزعة من المأمور به وهي المطلوبية ، فإنّ بعد كشف الشارع والطالب عن إرادته الجازمة يمكن لنا انتزاع تلك الأوصاف من محالّها ، فالمراد بالحكم الشرعي هو الأثر الباقي بعد الإنشاء ؛ ضرورة انعدامه بعد وجوده على ما صرّح بذلك أستاد (٣) الكلّ في رسالته المعمولة في مقدّمة الواجب ، فكما أنّ الحكم بالبقاء المستفاد من دليل الاستصحاب يعدّ عرفا جعل حكم مثله في الظاهر ، فكذلك بالنسبة إلى الصفة المنتزعة من المكلّف ، فإنّ التفرقة بينهما مكابرة.

__________________

(١) « ج ، م » : ـ والإنشاء.

(٢) « ز ، ك » : ـ عليه.

(٣) « م » : الأستاد.

٣٠٢

وثانيهما : أنّه لا ريب في ترتّب الأحكام الشرعية المترتّبة على الاشتغال عليه بعد الاستصحاب ، كعدم جواز الدخول في العصر بعد الشكّ في الإتيان بالظهر واستصحاب بقاء الاشتغال بالظهر ، وقد يكون ذلك الحكم الشرعي المجعول في مرحلة الظاهر كما هو المستفاد (١) من استصحاب موضوعه ، لازما لحكم شرعي آخر ، وحينئذ فلا ريب في لزوم الأخذ بهذا الحكم الشرعي أيضا ؛ إذ بعد القول بمجعولية هذا الحكم الشرعي فيترتّب عليه جميع ما يترتّب عليه ويجب الأخذ بكلّ ما هو مستند إليه كوجوب مقدّماته ونحو ذلك ، ومن جملة مقدّمات الإتيان بالعصر إنّما هو الإتيان بالظهر قبل الإتيان به ، فالقطع ببراءة الذمّة عن صلاة العصر يتوقّف على الإتيان بالظهر حال الشكّ ، وهو من نتائج بركات بقاء الاشتغال استصحابا وذلك ظاهر.

ثمّ أنّه قد يتوهّم : عدم الفرق بين استصحاب الاشتغال وقاعدته ؛ حيث إنّ كلاّ منهما موقوف على العلم السابق والشكّ اللاحق ، وقد مرّ (٢) منّا ما يوضح به فساد ذلك ، فإنّ الحكم المترتّب على المستصحب إنّما هو مترتّب عليه ، فبانسحابه في الزمن الثاني يترتّب عليه بخلافه في قاعدة الاشتغال ؛ إذ لا حاجة فيها إلى انسحاب المعلوم كما في قاعدة البراءة واستصحابها.

المقام الثاني

في القسم الأخير من الأقسام المذكورة ، ونقول فيه أيضا : إنّ بعد الإجمال في المكلّف به تارة : يكون الشكّ في أنّ ما يمكن الامتثال به مبرئ عن الاشتغال اليقيني أو لا ، كما إذا تردّد المكلّف به بين المطلق والمقيّد بعد تعذّر المقيّد ، وأخرى : في أنّ أحد الفعلين مبرئ مع التمكّن منهما معا أو لا (٣).

__________________

(١) « ز ، ك » : الظاهر المستفاد.

(٢) مرّ في ج ٣ ، ص ٣٣٢ وما بعدها.

(٣) « ج ، م » : ـ أو لا.

٣٠٣

والتحقيق : عدم الاعتداد بالقاعدة المزبورة فيهما أيضا ، أمّا الأوّل فلعين ما ذكر في المقام الأوّل من عدم الحاجة ؛ لكفاية الشكّ عن الاستصحاب بانسحاب المستصحب ، فلا بدّ من الإتيان بالمطلق كعتق الكافرة عند تعذّر المقيّد ؛ لبقاء العلّة التامّة للامتثال وهو دفع احتمال الضرر الموجود عند الشكّ في الفراغ.

فإن قلت : إنّ مقتضى الاشتغال هو كون المقيّد مأمورا به ، وبعد تعذّره فلا أمر به ؛ لسقوطه بسقوط المأمور به.

قلنا : لا إشكال في وجوب الامتثال بالمطلق على تقدير القول بالبراءة عند دوران الأمر بين المطلق والمقيّد كما هو التحقيق ؛ لوجود الأمر والتمكّن من المأمور به ، وأمّا على القول بالاشتغال فلا شكّ في (١) أنّ الالتزام بالمقيّد إنّما هو بواسطة دفع الضرر المحتمل في جانب المقيّد ، وذلك لا يقضي (٢) بأنّ المأمور به هو خصوص المقيّد واقعا على وجه لو تعذّر كان الأمر ساقطا بواسطة سقوطه ، بل هو أخذ بالاحتياط ؛ لكونه جمعا بين الحقّين ، وبعد التعذّر لا بدّ من الإتيان بالمطلق دفعا للخوف ، ولا ينافي ذلك تعذّر أحد أطراف العلم الإجمالي ؛ إذ لو كان العلم حاصلا قبل التعذّر لا يتفاوت الحال بين التعذّر وعدمه ، فإنّه بمنزلة الامتثال به.

نعم ، لو كان العلم الإجمالي حاصلا بعد التعذّر لم يتّجه القول بالإتيان ؛ لأوله (٣) على الشكوك البدوية كما نبّهنا عليه في الشبهة المحصورة (٤) ، وبعد التسليم نقول : لا جدوى في الاستصحاب ؛ لكونه من الأصول المثبتة ، اللهمّ إلاّ أن يدفع بأحد الوجهين على ما سبق ذكرهما (٥) ، ومنه (٦) يظهر الكلام في الثاني أيضا ؛ لكون الأصل على تقدير الأخذ (٧) مثبتا كما في استصحاب البراءة ولقد نبّهنا على ذلك في أصالة البراءة أيضا ، فتدبّر (٨).

__________________

(١) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : إلى.

(٢) « ج » : لا يقتضي.

(٣) « ك » : لا دلالة ، وفي « ز » : لإدلاله ( ظ ).

(٤) نبّه عليه في ج ٣ ، ص ٤٧٤.

(٥) سبق في ص ٣٠٢.

(٦) « ز ، ك » : من هنا.

(٧) « ز ، ك » : الحاجة.

(٨) « ز ، ك » : ـ فتدبّر.

٣٠٤

هداية

[ في استصحاب الفرد المردّد ]

إذا علمنا بحدوث حادث مردّد بين أمرين وجوديين أو عدميين أو مختلفين كما إذا علمنا بدخول شخص في الدار مردّد بين كون الداخل زيدا أو عمرا فهل في المقام أصل يرجع إليه فيهما أو في أحدهما ، أو لا؟

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ في المثال المذكور تارة : يراد من إعمال الأصل فيه إثبات عدم كون الداخل زيدا أو عمرا ليترتّب عليه أحكامه ، وأخرى : يراد فيه (١) استصحاب عدم دخول زيد أو عمرو.

لا مجال للاستصحاب على الأوّل ؛ لأنّه بمنزلة إثبات الفصول المعتبرة في ماهيّات الأنواع بالأصول ، كما إذا قطعنا بحدوث حيوان مردّد بين كونه ناطقا أو ناهقا ، فإنّه لا مجال لاستصحاب عدم الناطقية أو الناهقية فيه ؛ إذ لا يكون عدم الناطقية أو عدم الناهقية معلوما بالنسبة إلى هذا الموجود المردّد ، فعدم كون الداخل زيدا (٢) لم يكن معلوما قبل فلا علم في السابق ، فينتفي الاستصحاب بانتفاء أحد أركانه. وما قد يرى في بعض كلمات العلماء من إثبات عدم السيادة بالأصل (٣) ، فمبنيّ على المسامحة ؛ إذ

__________________

(١) « ز ، ك » : فيه هو.

(٢) « ج » : « زيد » وفي « م » : « غير زيد » ثمّ شطب على « غير ».

(٣) انظر مصباح الفقيه ١ : ٢٧٠ ط الحجري ؛ كتاب الطهارة من ( التنقيح ) للسيّد الخوئي ٦ : ٩٤ ؛ جامع المدارك ١ : ٨١ ؛ كتاب الخمس للحائري : ٤٨٣.

٣٠٥

المقصود استصحاب عدم تولّده من هاشم ، وعلى تقدير جريان الاستصحاب لا ينبغي الشكّ في أنّ استصحاب عدم كون الداخل زيدا لا يجدي في كون الداخل عمرا ؛ لأنّه من المقارنات الاتّفاقية وقد عرفت في الهدايات السابقة عدم إحراز المقارن باستصحاب المقارن كما مرّ (١).

وأمّا على الثاني فلا ريب في جريان استصحاب عدم دخول زيد كجريانه بالنسبة إلى عمرو أيضا ، إلاّ أنّه لا يفيد أحد الاستصحابين في إثبات كون الآخر داخلا ؛ لأنّه مثبت فلا تعويل عليه ، وهل يترتّب على الاستصحابين أحكام عدم الحادثين معا أو لا؟ التحقيق التفصيل بين الموارد ، فإنّه ربّما يترتّب على الاستصحابين أحكامهما معا ، وربّما لا يترتّب شيء منهما ، وربّما يقال بترتّب حكم واحد منهما لا على سبيل التعيين ، وربّما يترتّب حكم واحد منهما على سبيل التعيين.

أمّا الأوّل : ففيما لم يكن للعلم الإجمالي حكم لعدم لزوم المخالفة العملية (٢) كما إذا تطهّرنا بما يحتمل كونه ماء أو بولا ، فإنّه يعلم إجمالا إمّا بزوال الحدث بواسطة الوضوء ، أو بحدوث النجاسة في محالّ الوضوء ، فإنّه يترتّب على استصحاب عدم كونه بولا عدم نجاسة المحالّ ، وعلى استصحاب عدم كونه ماء عدم حصول الطهارة ، فتأمّل.

وكما إذا كان هناك ماء غير معلوم الكرّية فلاقاه جسم نجس فإنّه يؤخذ بعدم نجاسة الماء وعدم طهارة الملاقي.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ذلك فيما إذا لم يكن في المقام أصل موضوعي مثل طهارة المائع في الأوّل نظرا إلى قاعدة الطهارة ، فإنّه مزيل لاستصحاب بقاء الحدث ، وكاستصحاب عدم الكرّية فيثبت بذلك النجاسة كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : ففي الشبهة المحصورة ، إلاّ أنّ الكلام في المقام مع قطع النظر عن جريان الأصل الموضوعي.

__________________

(١) مرّ في ص ٢٥٤.

(٢) « ك » : العلمية؟

٣٠٦

فإن قلت : لا دليل على اعتبار الاستصحاب فيما خالفه العلم الإجمالي ؛ إذ مع ذلك يمتنع حصول الظنّ من الطرفين ، وأمّا الأخبار فالظاهر منها ما إذا لم يكن في البين علم إجمالي ، فلا وجه للعمل بالاستصحاب لا عقلا ولا نقلا.

قلت : قد عرفت (١) أنّ بناء القوم فيه على ما استفدنا من كلماتهم فيما سبق على العمل به من باب الظنّ النوعي وهو موجود ، وأمّا الأخبار فلا نسلّم عدم شمولها للمقام (٢) كما عرفت تفصيل الكلام فيها في محلّها (٣) من لزوم الاجتناب وعدم التعويل على استصحاب الطهارة فيهما أو في أحدهما ؛ لانقطاع الحالة السابقة بالعلم الإجمالي. وهل الأصلان في موارد الشبهة المحصورة يمنع عن التعويل عليهما عدم جريانهما أو تعارضهما؟ التحقيق التفصيل (٤) بين الموارد.

وتوضيحه أن يقال : إنّ محلّ جريان الاستصحاب إن كان مجرى للدليل الدالّ على لزوم الاجتناب فعدم التعويل بواسطة عدم الجريان ؛ إذ الدليل على الاجتناب ـ وهو حكم العقل بعد خطاب الشرع بلزوم الاجتناب عن الحرام الواقعي وعدم التصرّف في الدليل الدالّ على الواقع (٥) كما هو مفروض الكلام من لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة ـ دليل اجتهادي حاكم على الاستصحاب ـ فلا يجري الاستصحاب بعد حكم العقل بخلافه وذلك فيما إذا كان الاستصحاب جاريا في حكم يخالف مقتضى حكم العقل بلزوم الاجتناب (٦) ، كما فيما إذا علمنا بحرمة أحد المالين المباحين إجمالا ، فإنّ خطاب الشارع (٧) بحرمة التصرّف في مال الغير والغصب يقضي (٨) بلزوم الاجتناب عنهما ، واستصحاب الحلّية والإباحة لا يجدي في قبال ذلك ، فلا مجرى للاستصحاب ؛

__________________

(١) انظر ص ٥٥.

(٢) « م » : المقام.

(٣) « ز ، ك » : محالّها.

(٤) « ز ، ك » : هو التفصيل.

(٥) « ز ، ك » : الرافع.

(٦) من هنا إلى قوله : عنهما ، سقط من نسخة « ك ».

(٧) « ز » : الشرع.

(٨) « ج » : يقتضي.

٣٠٧

لارتفاع الشكّ المأخوذ في مجراه بالدليل الاجتهادي ، وإن كان مجرى الاستصحاب أمرا آخر غير ما يجري فيه ذلك الدليل الدالّ على لزوم الاجتناب على وجه يكون الاستصحاب محقّقا لموضوع لا يجري فيه ذلك الدليل الحاكم بلزوم الاجتناب ، فعدم التعويل من باب التعارض بعد الجريان ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين إجمالا ، فإنّ استصحاب الطهارة وارد على ذلك الدليل بمعنى أنّه محقّق لموضوع لا يجري فيه ذلك الدليل ، فإنّ العقل يحكم باحتمال النجاسة مقدّمة بلزوم الاجتناب ، والاستصحاب يحكم بعدم الاحتمال شرعا ، فالأصلان جاريان إلاّ أنّهما متعارضان كما سبق بيانه تفصيلا في الشبهة المحصورة ، هذا ما يقتضيه جليّ النظر.

وأمّا دقيق الفكر فيقضي (١) بعدم الفرق بين المقامين ؛ إذ الدليل الدالّ على لزوم الاجتناب ليس دليلا اجتهاديا حقيقة ، بل هو عبارة عن وجوب تحصيل الامتثال بعد العلم بالاشتغال ، والاجتناب من المالين المشتبهين من جهة المقدّمة العلمية ، والاستصحاب على أيّ تقدير حاكم على قاعدة الاشتغال ، فاستصحاب الحلّية والإباحة رافع لاحتمال أن يكون هذا الفرد هو المحرّم ، فلا يجري فيه المقدّمة العلمية.

نعم ، لو كان الأصلان في المشتبهين غير الاستصحاب كأن كانا براءتين ، فلا مجال لجريانهما في قبال قاعدة الاشتغال ؛ لورودها عليها وحكومتها بالنسبة إليها كما لا يخفى ، فتدبّر.

وأمّا الثالث : ففيما إذا لم يكن الموافقة القطعية بعد اعتبار العلم الإجمالي في الجملة واجبا ، كما فيمن يرى عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة بالنسبة إلى الكلّ ، وكما إذا فرضنا حصول العلم الإجمالي بين شيئين غير مرتبطين على ما مرّ تفصيل الكلام فيهما.

__________________

(١) « ج ، م » : يقضي.

٣٠٨

وأمّا الرابع : ففيما إذا لم يكن للآخر حكم أو لم يكن في محلّ الابتلاء ، كما إذا علمنا بوقوع عقد مردّد بين أن يكون دائما أو منقطعا ، فإنّ أصالة عدم الدوام يحتمل بالنسبة إلى نفي توارث الزوجة من الزوج فيما لو ادّعته ، وأصالة عدم الانقطاع لا تجدي (١) في هذا الحكم شيئا ، وكما إذا قال الموكّل : وكّلتك في بيع العبد ، وادّعى الوكيل وكالته في بيع الجارية ، فإنّ القول قول الموكّل ؛ لأصالة عدم توكيله لبيع العبد ، فيجدي في أخذ الثمن من الوكيل ، وأصالة عدم الوكالة في بيع الجارية فيه لا يجدي (٢) شيئا ، كما إذا ادّعى أحد المتعاقدين وقوع العقد على عشرة والآخر وقوعه (٣) على ثمانية ، فأصالة عدم وقوعه على العشرة يجدي (٤) في أخذ الزائد ، ولا يجدي في هذا الحكم نفيا ولا إثباتا أصالة عدم وقوعه على الثمانية ، وكما إذا شكّ في ولادة شخص من هاشم ، فأصالة عدم تولّده من هاشم يثمر في عدم استحقاقه الخمس ، ولا يثمر أصالة عدم تولّده من غيره في نفي هذا الحكم ، وكما إذا شكّ في كون مكان مسجدا أو دارا ، فأصالة عدم كونه مسجدا يجدي في اللبث فيه جنبا ، ولا يضرّ في ذلك أصالة عدم كونه دارا ، وكما إذا شكّ في كون القرينة صارفة أو مؤكّدة ، فأصالة عدم الصرف يجدي في حمل اللفظ على المعنى الحقيقي ، ولا يضرّ في ذلك عدم كونها مؤكّدة إلاّ على تقدير أن يكون أصالة عدم التأكيد مثبتا (٥) ؛ لكونها صارفة ، وذلك جار في الكلّ ، وقد عرفت عدم الاعتداد بهذه الأصول ، ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده بعضهم من أنّه لو شكّ في القرينة الحالية لا يجوز التمسّك بالأصل في نفيها لوجود الحال قطعا بين المتكلّم والمخاطب ، ممّا لا وجه له ؛ إذ أصالة عدم كون الحال قرينة تجدي في حمل اللفظ على المعنى الحقيقي ، وأصالة عدم كونها غير قرينة ، لا يضرّ في ذلك.

__________________

(١) « ج ، م » : لا يجدي.

(٢) « ز ، ك » : لا يحتمل.

(٣) « ز » : على وقوعه.

(٤) « ك » : تجدي وكذا في المورد الآتي.

(٥) « ز ، ك » : مثبتة.

٣٠٩

ثمّ إن شئت قلت في تلك الأمثلة وما يضاهيها : إنّ الأصل إنّما يجري في اللوازم والآثار إلاّ أنّه لا يجدي في اللوازم المتجدّدة ، فكن على بصيرة من الأمر كي لا تشتبه (١) عليك حقيقة الحال في الموارد.

__________________

(١) « ز ، ك » : لا يشتبه.

٣١٠

هداية

[ في الاستصحاب في الأجزاء بعد تعذّر الكلّ ]

إذا تعذّر الإتيان بالكلّ بعد التمكّن منه فلإجراء حكم الكلّ في الأجزاء الباقية طرق : أحدها : الأخذ بالعمومات الدالّة على عدم سقوط الميسور بالمعسور ووجوب الإتيان بما هو المقدور ، كقوله : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (١) و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (٢) وقوله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » (٣) على ما سبق منّا تحقيق القول فيها في بعض المباحث الماضية (٤).

وثانيها : الاستقراء فإنّه قد يوجد في كلمات البعض دعوى مطلوبية الأجزاء الباقية بعد تعذّر المركّب في أمثال المركّبات الشرعية ، وليس بتلك المكانة من البعد إلاّ أنّه لا يثمر (٥).

__________________

(١) عوالى اللآلى ٤ : ٥٨ ، ح ٢٠٥ وفيه : « لا يترك الميسور ... ».

(٢) عوالى اللآلى ٤ : ٥٨ ، ح ٢٠٧.

(٣) رسائل السيّد المرتضى ٢ : ٢٤٤ ؛ تفسير مجمع البيان ٣ : ٣٢٩ ؛ تفسير جوامع الجامع ١ : ٥٣٦ ؛ عوالى اللآلى ٤ : ٥٨ ، ح ٢٠٦ ؛ بحار الأنوار ٢٢ : ٣١ ، باب ٣٧ ؛ وورد في كتب العامّة مسندا كصحيح البخاري ومسلم وسنن ابن ماجة والنسائي والبيهقي ومصنّف عبد الرزاق ومسند ابن راهويه وأحمد وأبي يعلى وصحيح ابن خزيمة وابن حبّان ومعجم الأوسط للطبراني.

(٤) في بحث البراءة في ج ٣ ، ص ٥٦١. وقد بسطنا الكلام هناك فلاحظ.

(٥) « ج ، م » : لا يسمن.

٣١١

وثالثها : الاستصحاب كما أنّه أحد وجهي كلامي المحقّق والعلاّمة في مسألة وضوء الأقطع في المعتبر والمنتهى (١) ، والوجه الآخر في كلامهما احتمال الاستناد إلى الأدلّة الاجتهادية.

وكيف (٢) كان ، فللمستصحب أن يقرّره بوجهين :

الأوّل : أنّه لا ريب في تعلّق التكليف بالكلّ عند التمكّن منه على ما هو المفروض في عنوان الهداية فهو بحيث لو كان المكلّف آتيا به كان التكليف ساقطا قطعا ، وبعد التعذّر شكّ في سقوط التكليف والأصل بقاؤه وعدم سقوطه ، فيجب (٣) الإتيان بالأجزاء الباقية.

فإن قلت : إن أراد المستصحب استصحاب وجوب (٤) الكلّ فقد ارتفع قطعا ، وإن أراد استصحاب الأجزاء الباقية فلم يعلم وجوبها قبل ، فلا يجري الاستصحاب.

قلت : أمّا أوّلا : فليس من دأب المناظر في ميدان المناظرة صرف عنان الكلام إلى تعيين ما هو المستصحب في المقام ، بل عليه أن يلاحظ فيما هو المرام من الاستصحاب كما لا يخفى على من تأمّل (٥).

وأمّا ثانيا : فهنا (٦) شقّ ثالث وهو اختيار بقاء التكليف المردّد بين كونه على وجه يرتفع بعد التعذّر قطعا وبين كونه على وجه لا يرتفع كأن يكون المكلّف به هو القدر المشترك بين الكلّ وغيره ، واستصحاب أمثال الأمور المردّدة ممّا لا ضير فيه ؛ لصدق الحدّ عليه وشمول الدليل له.

__________________

(١) المعتبر ١ : ١٤٤ ؛ المنتهى ٢ : ٣٧ وفي ط الحجري ١ : ٥٩.

(٢) « ز ، ك » : فكيف.

(٣) « ز ، ك » : سقوط التكليف وعدمه فيجب.

(٤) « م » : وجود.

(٥) في هامش « م » : فيه أنّ الترديد في المستصحب وإبطال كلّ شقّ من طرفي الترديد ليس كلاما خارجا عن طور المناظرة وقانون التوجيه ( ظ ). « منه ».

(٦) « ج ، م » : فهاهنا.

٣١٢

نعم ، لا بدّ من ملاحظة أن لا يكون المقصود من إثبات المردّد بالاستصحاب إجراء أحكام أحد الأطراف عليه.

فإن قلت : إنّ المقام ليس من موارد الاشتغال ؛ إذ ما هو معلوم الوجوب غير ممكن الامتثال ، وما هو ممكن الامتثال غير معلوم الوجوب ، فالأصل البراءة. لا يقال : إنّ عدم إمكان الكلّ لا يضرّ في استصحاب وجوب الباقي كما في المطلق والمقيّد ، فإنّ قضيّة مطلق الاشتغال وجوب الامتثال بالمطلق أيضا. لأنّا نقول : إنّ الأخذ بالمقيّد لم يكن أخذا بما هو المكلّف به في الواقع وإنّما كان من وجوه الاحتياط ، بخلاف الإتيان بالكلّ في المقام فإنّ الأخذ به بعد (١) التمكّن منه والإتيان به إنّما هو الأخذ بما هو المكلّف به واقعا وليس من موارد الاحتياط ، فإنّه هو المتعيّن في حقّ المتمكّن ، وبعد تعذّر الكلّ لا مجال للاستصحاب.

قلت : لا فرق بين استصحاب المطلق بعد تعذّر المقيّد وبين استصحاب الباقي بعد تعذّر الكلّ.

وتوضيح ذلك وتحقيقه : أنّ من الواجبات الموسّعة ما لا يختلف أفراده إلاّ باعتبار اختلاف الأزمنة التي يقع الفعل فيها مع مماثلتها واتّحادها نوعا ، ومنها ما يختلف أفراده باعتبارات أخر أيضا ، كما في الصلاة بالنسبة إلى أحوال المكلّفين من الأمور التي تختلف عناوين الأحكام باختلافها كالسفر والحضر أو وجدان الماء وتعذّره والصحّة والمرض والعجز والقدرة ونحوها ، فإنّ الصلاة بالنسبة إلى كلّ من المسافر والحاضر شيء ، وبالنسبة إلى الواجد والفاقد شيء ، وبالنسبة إلى المريض والصحيح شيء ، وكذا العاجز والقادر (٢) ، فالمتّصف بالوجوب الموسّع هو القدر المشترك بين تلك الأفراد المختلفة شخصا ونوعا المتّحدة في كونها صلاة ، وليس خصوص صلاة الحاضر واجبا موسّعا ؛ ضرورة عدم وجوبها على المسافر ، ولا واجبا مضيّقا ؛ ضرورة حصول

__________________

(١) « ز ، ك » : لعدم.

(٢) « ج ، م » : والصحيح والعاجز والقادر شيء.

٣١٣

الامتثال بغيرها عند لحوق ما يقضي بذلك الغير وهذا ظاهر لا سترة عليه ، فالأمر بوجوب الإتيان بالكلّ كأقيموا الصلاة إنّما قيّد إطلاقه حال الإمكان بأن يأتي المكلّف بالسورة مثلا أو على وجه خاصّ وكيفية مخصوصة ، والإتيان بالمأمور به على هذا الوجه ليس أمرا متيقّنا حتّى يؤخذ به ويدفع الباقي بالأصل ، بل هو مردّد بين أن يكون المطلوب هو خصوص المقيّد على وجه لو انتفى القيد انتفى التكليف رأسا ، وبين أن يكون المطلوب هو المطلق ولكن قيّد إطلاقه بكذا في حال كذا على وجه لو انتفى القيد لم ينتف التكليف بالمطلق ؛ لاحتمال أن يكون المطلوب هو القدر المشترك بين الكلّ والأجزاء الباقية ، فعلى التقديرين المطلوب عند التمكّن هو المقيّد وإنّما المجمل هو وجه التكليف به ، ومنه جاء الاشتغال كدوران الأمر بين المتباينين كما في الظهر والجمعة.

وبالجملة : فمعلومية المكلّف به عند التمكّن ليس باعتبار أنّه المكلّف به حقيقة على وجه لو انتفى القيد ينتفي التكليف ، بل يحتمل أن يكون بواسطة أنّه كلّ فهو مطلوب بنفسه ، وأن يكون بواسطة (١) أنّه (٢) أحد (٣) أفراد الواجب الموسّع فلا يرتفع التكليف بعد ارتفاعه كما لا يخفى.

هذا غاية ما يمكن أن ينتصر للمستدلّ في المقام ، إلاّ أنّه بعد ذلك أيضا ممّا لا يستقيم (٤) بعد الغضّ عن جريان قاعدة الاشتغال ، فإنّها هي مبنى (٥) الاستصحاب كما لا يخفى ؛ لأنّ استصحاب (٦) الوجوب المردّد كما هو المفروض لا يجدي في الحكم بوجوب الأجزاء الباقية التي هي إحدى (٧) طرفي الترديد.

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ بواسطة.

(٢) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : ـ أنّه.

(٣) « ج ، م » : أخذ أحد.

(٤) « ز ، ك » : ممّا يستقيم.

(٥) « ج » : منشأ ، وفي « ز » : « على » بدل : « مبنى » وفي « ك » : فإنّها مبنيّ على. وما أثبتناه من « م » وكانت فيها أوّلا « على » ثمّ شطب عليها وكتب بما في المتن مع علامة الظاهر.

(٦) « ز ، ك » : ـ استصحاب.

(٧) « م » : أحد.

٣١٤

وبعبارة واضحة : إنّ المقصود بالاستصحاب (١) هو الحكم بوجوب الأجزاء الباقية التي هي إحدى (٢) طرفي الترديد وهذا ممّا لا يترتّب على استصحاب الأمر المجمل إلاّ أن يكون الأصل مثبتا ، أو قلنا باستثناء هذه الموارد ـ باعتبار خفاء الواسطة أو اتّحادها وجودا مع المستصحب ـ من الأصول المثبتة ، فإنّ بقاء الوجوب وإن كان يغاير وجوب الباقي مفهوما إلاّ أنّه (٣) لا مصداق للمستصحب إلاّ أن يكون الباقي واجبا كما في مثال بقاء الكرّ.

الثاني : أنّ تلك الأجزاء التي شكّ في وجوبها كانت واجبة في السابق عند التمكّن ، فيستصحب وجوبها إلى أن يحصل القطع بالارتفاع.

وفيه : أنّ من الواجب في جريان الاستصحاب كما مرّ غير مرّة اتّحاد القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة موضوعا ومحمولا ، فلو اختلف عنوان الموضوع أو المحمول فلا يجري فيه الاستصحاب ، والمقام ممّا يغيّر فيه الموضوع والمحمول كلاهما :

أمّا الأوّل : فلأنّ المتّصف بالوجوب من هذه الأجزاء لم يكن ذواتها ، بل هي بعنوان أنّها أجزاء كانت متّصفة بالوجوب ، وقد تبدّل ذلك العنوان فإنّها قد صارت معنونة بعنوان الكلّية ؛ إذ ليس (٤) الكلّ حينئذ إلاّ تلك الأجزاء.

وأمّا الثاني : فلأنّ الوجوب المحمول على تلك الأجزاء ، عند التمكّن من الكلّ [ ليس إلا ] وجوبا مقدّميا تبعيا وقد تبدّل بالوجوب النفسي ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الأجزاء مطلوبة بأوامر متعدّدة مستقلّة ، وبين أن يكون الأمر بها مستفادا من الأمر بالكلّ ؛ إذ على تقديره لا يزيد على إفادة كونها مطلوبة للغير ، إذ احتمال المطلوبية النفسية عند الشكّ مدفوع بأصالة البراءة كما هو ظاهر ، فإثبات وجوب تلك الأجزاء وجوبا نفسيا باستصحاب وجوبها عند التمكّن ليس إلاّ كإثبات قعود عمرو

__________________

(١) « ز ، ك » : أنّ الاستصحاب.

(٢) « ج ، م » : أحد.

(٣) « ج ، م » : أن.

(٤) « ج » : ليست.

٣١٥

باستصحاب قيام زيد.

هذا على ما يقتضيه مذاق التحقيق ، وأمّا على مشرب القوم فلا ينهض هذا الجواب بدفع الاستصحاب وإن أفاده (١) غير واحد منهم كالمحقّق الخوانساري (٢) والمحقّق القمي (٣) ونقله الأستاد دام شرفه (٤) عن شيخه الشريف (٥) ، وهو بمكان من البعد منهم ؛ إذ بعد ما يظهر منهم من المسامحة في أمر الاستصحاب موضوعا ومحمولا حتّى أنّهم قد استصحبوا الكرّية في الماء الموجود في الحوض بعد انتصافه فيه فلا مانع من الأخذ بمقتضى الاستصحاب في أمثال المقام ، سيّما بعد ملاحظة أنّ العرف ربّما لا يفرّقون بين نوعي الوجوب ويفهمون من الوجوب أمرا جامعا بين النفسي والغيري ، وكيف (٦) كان فعلى مشربهم لا ينبغي التردّد في جريان هذا الاستصحاب ، ولعلّ ذلك منهم غريب.

__________________

(١) « ج » : أفاده بها.

(٢) مشارق الشموس : ١١٠.

(٣) لم أجده في القوانين.

(٤) « ز ، ك » : ـ دام شرفه.

(٥) كما في تقريرات درسه للفاضل الأردكاني ( مخطوط ) : ٢٩١ ؛ وفي ضوابط الأصول : ٤٣٢.

(٦) « ز ، ك » : فكيف.

٣١٦

هداية

[ في قاعدة اليقين ]

قد ذكرنا فيما مهّدناه لتحديد الاستصحاب في أوّل الباب أنّه استفعال من صحب ، وهو لغة أخذ الشيء مصاحبا ، وعدم صدقه على ما إذا سرى الشكّ إلى زمن اليقين ممّا لا ريب فيه ؛ ضرورة توقّفه على تحقّق المستصحب كما هو ظاهر ، واصطلاحا فعلى (١) ما مرّ من وجوه اختلاف تحديداته يستفاد منها اعتبار تحقّق المستصحب في زمن اليقين وكان الشكّ في بقائه وارتفاعه بعد ما كان التحقّق في زمان معلوما ، وهذا كما ترى تنحصر موارده (٢) في الشكوك الطارئة فيه لا عليه ، فما قد يوجد في بعض الكلمات من عدم حجّية الاستصحاب في الشكّ الساري ينبغي أن يحمل على عدم تعقّل الاستصحاب فيه وخروجه عن (٣) أفراده ، بل ولو فرض اعتباره وحجّيته فلا يسمّى استصحابا ، مضافا إلى عدم دلالة شيء من أخبار الباب على اعتبار هذا الاستصحاب.

نعم (٤) ، ظاهر بعض منها كرواية الخصال وهو قوله عليه‌السلام : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه » (٥) دلالته على اعتباره مطلقا كما هو أحد احتماليها على ما احتملناه

__________________

(١) « م » : ففي.

(٢) « ج ، م » : مورده.

(٣) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : من.

(٤) « ز ، ك » : « من » بدل : « نعم ».

(٥) تقدّم في ص ١٠٣.

٣١٧

في ردّ الاستدلال بها على الاستصحاب كما ذكرها غوّاص بحار الأنوار (١) في جملة أدلّة الاستصحاب عند ذكر القواعد المشتركة (٢).

وقد تفطّن بذلك الشيخ الأجلّ كاشف الغطاء فيمن تيقّن بالطهارة وشكّ فى الحدث حيث قال : [ ولو سبق العلم بتقدّم شيء أو تأخّره ، ثمّ طرأ الشكّ غير متذكّر لسبب العلم ، بنى على علمه على إشكال ، وإن ذكر سببه ورأى أنّه غير قابل لترتّب العلم فلا بناء عليه ؛ لأنّ المراد بعدم نقض اليقين بالشكّ عدم النقض بالشكّ الطارئ بعده بقسميه ـ ما اقترن بسبب الاستدامة وغيره ـ دون الطارئ عليه. ](٣) وأومأ إليه أيضا المحقّق القمي (٤) في بحث حجّية العامّ بعد التخصيص حيث استصحب بعضهم الحجّية في مقام الاستدلال على الحجّية.

وبالجملة : فذلك ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ولا يهمّنا إطالة الكلام فيه ، بل المقصود إنّما هو التنبيه عليه.

فالمهمّ في المقام هو بيان أنّ الأعمال المترتّبة على المعلوم السابق هل هي ممضاة شرعا أو لا بدّ من استئنافها؟ وهل يمكن إجراء تلك الأحكام بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة أو لا؟ فتحقيق الكلام في مقامين :

[ المقام ] الأوّل :

في بيان حكم الأعمال السابقة في أمثال هذه الوقائع ، مثلا لو اعتقد عدالة زيد فصلّى معه ، أو طلّق حليلته وهو بمسمع منه ، أو اعتقد عدم جزئية السورة في الصلاة بواسطة إخباره عن مجتهده ، أو استنبطه المجتهد عن (٥) دليل ، ثمّ شكّ في عدالته في الزمان

__________________

(١) انظر البحار ٧٧ : ٣٥٩.

(٢) « ك » : القواعد الشرعية الكلّية.

(٣) كشف الغطاء ٢ : ١٠٣ وفي ط الحجري : ١٠٢. وفي النسخ موضع مقول القول قدر سطر بياض.

(٤) القوانين ١ : ٢٦٥.

(٥) « ز ، ك » : من.

٣١٨

الأوّل وفي دلالته فهل يحكم بصحّة صلاته وعدم لزوم الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه (١) ، وعدم وجوب نفقة الزوجة عليه فيما مضى ، إلى غير ذلك من الأحكام الماضية أو لا؟

التحقيق أن يقال : إنّ تلك الأحكام إمّا أن يكون موضوعها نفس الاعتقاد ، وإمّا أن يكون الاعتقاد طريقا إلى ما هو الموضوع حقيقة وهو الواقع أو جزء منه وهو الواقع المعلوم.

فعلى الأوّل لا كلام في صحّة تلك الأعمال ؛ لوقوعها عن أهلها في محلّها ، لكن حيثما كان الموضوع مجرّد الاعتقاد ولو في وقت ما يعني وقت الاشتغال بالعمل كما في مثال الاقتداء مع الإمام المعلوم عدالته حال الاقتداء على وجه ، وأمّا لو كان الموضوع هو دوام الاعتقاد فلا إشكال في فساد العمل أيضا ؛ لانتفاء موضوعه بمعنى أنّ تبدّل الاعتقاد يكشف عن عدم تحقّق الموضوع وقت الاشتغال بالعمل.

وعلى الثاني وهو ما إذا كان الموضوع مجرّد الواقع أو مع العلم فالشكّ إمّا أن يكون شكّا في الموضوع كما في مثال العدالة ، وإمّا أن يكون شكّا في الحكم كما في مثال جزئية السورة.

فعلى الأوّل : لا ريب في أنّ قضيّة القواعد الأوّلية عدم صحّة الأعمال ، بل لا بدّ من الأخذ بما يقتضيه الأدلّة فيما لم يكن هذا الاعتقاد حاصلا ، مثلا لو كان العدالة الواقعية معتبرة في واقعة الطلاق فصحّة الطلاق موقوفة (٢) على إحرازها والمفروض عدم العلم بها ، فلا بدّ من الأخذ ببقاء الزوجية وأصالة عدم وقوع الطلاق والمباينة كما هو ظاهر.

نعم ، في أمثال المقام قاعدة أخرى تقضي بالإجزاء والاكتفاء وصحّة الأعمال الماضية على تقدير نهوضها فيما نحن بصدده وهي قاعدة الشكّ بعد الفراغ عن العمل المدلول عليها بجملة من الأخبار كقوله : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » بعد قوله : « إذا

__________________

(١) « ج ، م » : الخارج.

(٢) « ج » : موقوف.

٣١٩

شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره » (١) إلخ ، وقوله : « كلّ شيء قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (٢) فإنّ مقتضي هذه القاعدة عدم الاعتناء بالشكّ والقول بصحّة الصلاة والإجزاء بها ، إلاّ أنّ شمولها للمقام ممّا لا يخلو عن شيء فإنّ الشكّ تارة : متعلّق بإحداث البطلان في العمل الماضي عمدا ، وتارة بترك شيء منه نسيانا أو سهوا ، وتارة : متعلّق (٣) بإيجاد نفس العمل وعدم إيجاده ، وتارة : متعلّق (٤) بصحّة الاعتقاد بما هو معتبر في العمل ، لا إشكال في شمولها للأوّلين ، ويحتمل شمولها للثالث على أفسد الاحتمالين ، وأمّا الرابع فشمول تلك الأخبار لمثل هذا الشكّ في غاية الإشكال والحكم به في نهاية الصعوبة ، سيّما فيما لو بنينا على اعتبار تلك القاعدة من حيث الظهور فإنّ عدم ظهور الأخبار الدالّة عليه في مثل المقام ظاهر.

نعم ، لا يبعد القول بذلك على تقدير التعبّد ، وستعرف (٥) لذلك زيادة تحقيق في محلّه (٦) إن شاء الله.

وعلى الثاني : فلا ريب في فساد الأعمال الماضية ، سواء فرض في المقلّد أو في المجتهد ؛ لعدم ما يقضي (٧) بالصحّة.

وأمّا القاعدة المذكورة فقرائن اختصاصها بما إذا كان الشكّ في الموضوع دون الأحكام على منار كما توضحه (٨) ملاحظة الأخبار الواردة في هذا المضمار ، بل لا يكاد يذهب إليه وهم كما يدلّ عليه قوله : « في شيء لم تجزه » وقوله : « قد جاوزه » وقوله : « ودخل في غيره » سيّما بعد ملاحظة قوله : « في شيء من الوضوء » وقوله في رواية أخرى : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (٩) إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتدبّر.

__________________

(١) سيأتي في ص ٤٤٥.

(٢) سيأتي في ص ٤٤٦.

(٣) « ز ، ك » : يتعلّق.

(٤) « ز ، ك » : يتعلّق.

(٥) ستعرف في ص ٤٦١ ـ ٤٦٢.

(٦) « ز ، ك » : ـ في محلّه.

(٧) « ج » : يقتضي.

(٨) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : يوضحه.

(٩) سيأتي في ص ٤٤٦.

٣٢٠