مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما يتمّ فيما لو كان وجود ذلك الحادث مستمرّا حتّى في زمان اليقين بالوجود أيضا ، وأمّا إذا كان الحادث المفروض أمرا غير قابل للوجود المستمرّ كأمثال (١) الأفعال التوليدية التدريجية كالحركة والتكلّم ونحوهما ممّا ينقضي شيئا فشيئا وممّا لا يتّصف بالوجود إلاّ في آن من الزمان ، فلا يمكن إثبات الأحكام المترتّبة على وجوده (٢) في زمان اليقين ، كما إذا فرضنا حدوث التكلّم أو الولادة التي هي الخروج من الرحم إمّا في يوم الجمعة وإمّا في يوم السبت ؛ إذ لا يمكن استعلام بدو وجوده لعدمه في السبت أيضا ، لأنّ المفروض أنّه آني الوجود ، فكما أنّه لا يمكن إثباته في الجمعة ؛ لأنّ الأصل عدمه فيها ، فكذا لا يمكن إثباته في السبت أيضا ؛ لأنّ الأصل عدمه أيضا ، فالمقام نظير الشبهة المحصورة ؛ إذ لا فرق بين أن يكون الظرف لوجود شيء مكانا أو زمانا ، إذ نسبتهما إلى الوجود متساوية ، فالعلم الإجمالي حاصل بانتقاض أحد الأصلين ، وذلك لا يضرّ في جريانهما وتعارضهما ، على أنّ استصحاب التأخّر وعدمه في الجمعة لو أريد به إثباته في السبت ممّا لا تعويل عليه ؛ لكونه مثبتا ، وتوضح (٣) التعارض بين الأصلين ملاحظة أن لو كان العلم الإجمالي بين وجوده في الخميس أو السبت مع العلم بعدمه في الجمعة كما لا يخفى ، ولعلّ هذا هو الوجه في حكمهم بقضاء صلوات خمسة فيما إذا قطع المكلّف بحدوث حدث منه عقيب واحد من وضوءاتها وإن كان مقتضى استصحاب عدمه على تقدير الأصول المثبتة هو الحكم بقضاء صلاة العشاء فقط ، فتدبّر.

وأمّا أحكام مطلق وجود ذلك الشيء فمن المعلوم ترتّبه عليه كما هو ظاهر لا سترة عليه.

المقام الثاني

__________________

(١) « ز ، ك » : المستمرّ مثل.

(٢) « ج » : وجودها.

(٣) « ج ، ك » : توضيح.

٢٨١

فيما إذا كان المقصود بأصالة التأخّر تأخّر الحادث عن صاحبه ، فنقول : لا ريب في ترتّب (١) أحكام التأخّر مطلقا بخلاف الأحكام المترتّبة على تأخّره عن صاحبه ، ثمّ إنّ هذين الحادثين إمّا أن يكون تاريخ وجودهما مجهولا ، وإمّا أن يكون أحدهما معلوما والآخر مجهولا ، وأمّا فرض المعلومية فيهما فخارج (٢) عن المفروض.

أمّا في الأوّل : فلا يحكم بأحدهما ، كما في تعارض الجمعتين في بلد واحد ، أو في الغرقى والمهدوم عليهم ، والطهارة والحدث ، ونحوها (٣) ممّا لا ضبط فيها ، وقد يقال في أمثال ذلك بتقارنهما ، فإن كان التقارن عبارة عن وجود أحدهما مصاحبا للآخر على وجه يكون أمرا وجوديا كما هو الظاهر فلا عبرة به ، وإن كان عبارة عن عدم تقدّم أحدهما على الآخر فيكون أمرا عدميا مفادا للأصل فيهما فلا غائلة فيه إلاّ أن يقال بترتّبه (٤) على الأوّل أيضا لكون الواسطة خفيّة كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : فربّما يكون مفيدا من طرف واحد ، وربّما يكون مفيدا من الطرفين (٥) ، والمعيار في ذلك أنّه كلّما كان أحد الطرفين أو كلاهما مجرى للأصل العدمي فهو مفيد لترتّب أحكام العدم والتأخّر عليه ، بخلاف ما إذا كان لازما من لوازم العدم.

مثال ما إذا كان الأصل مفيدا من طرف واحد ما إذا علمنا بحدوث كرّية الماء المفروض في الحوض ـ مثلا ـ وحدوث ملاقاة اليد النجسة لهذا (٦) الماء فإذا لم يكن أحد التاريخين معلوما فلا كلام ، وأمّا إذا كان تاريخ الكرّية معلوما كأن كان في السبت ولم يعلم تاريخ الملاقاة فاستصحاب عدم الملاقاة في الجمعة لا يثمر في استصحاب (٧) طهارة اليد لكونه مثبتا ، إذ من لوازم الملاقاة يوم حال الكرّية هو الطهارة وليست من لوازم

__________________

(١) « ج ، ز ، ك » : ترتيب.

(٢) « م » : خارج ، « ج » : فهو خارج.

(٣) « م » : نحوهما.

(٤) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : مترتّبة.

(٥) « ج » : طرفين.

(٦) « م » : بهذا.

(٧) في « م » كانت أوّلا « إثبات » ثمّ شطب عليها وكتب تحتها بما في المتن.

٢٨٢

عدم حدوثه في الجمعة كما هو ظاهر ، و (١) أمّا إذا كان تاريخ الملاقاة معلوما كأن كان في السبت ـ مثلا ـ فاستصحاب عدم الكرّية يثمر في نجاسة الماء ؛ لأنّ عدم الكرّية من لوازمه (٢) الشرعية انفعاله (٣) بالنجاسة ، وليس القليل إلاّ عدم كونه كرّا كما هو ظاهر ، ولا يعارضه استصحاب طهارة الماء ؛ لكونه مزالا بالنسبة إلى هذا الاستصحاب ، ومن هذا القبيل ما فرضه المحقّق في مسألة الإرث (٤) ؛ إذ على تقدير العلم بتاريخ الإسلام (٥) لا يثمر استصحاب تأخّر الموت في انتصاف المال بينهما ، وعلى تقدير العلم بتاريخ الموت أصالة تأخّر الإسلام يجدي في انحصار الوارث الآخر ؛ إذ الانحصار عبارة عن وجود شيء مع عدم غيره ، فكأنّ العدم فصل له (٦) وما (٧) هو بمنزلة الجنس فيه معلوم وجدانا ، والفصل العدمي مفاد الأصل فلا يكون مثبتا كما هو ظاهر.

ومثال ما إذا كان الأصل مفيدا من الطرفين ما إذا علمنا بموت الأب والابن مع الجهل بتاريخ موت الأب والعلم بتاريخ موت الابن ، فبأصالة تأخّر موت الأب واستصحاب وجوده قبل زمان اليقين يترتّب توارثه (٨) من مال الابن ، لكن (٩) ذلك من أحكام نفس الحياة المستصحبة ، ومع العكس يفيد توارث الابن من مال الأب بعين (١٠) ما ذكر ، وقد لا يكون مفيدا ، كما إذا كان تاريخهما مجهولا أيضا فيما إذا فرضنا حدوث حدث وطهارة مع الشكّ في السبق واللحوق ؛ إذ لا يتفاوت الحال في ذلك مع (١١) جهل (١٢) التاريخين أو العلم بأحدهما ، أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلأنّ استصحاب تأخّر

__________________

(١) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ـ و.

(٢) « ج » : لوازمها.

(٣) « ج » : انفعالها.

(٤) تقدّم نصّ عبارته في الهداية السابقة في ص ٢٦٩.

(٥) « ز ، ك » : بتأخّر تاريخ الإسلام.

(٦) « ك » : فكان العدم فصلا له.

(٧) « ج » : ـ ما.

(٨) « ز ، ك » : لوارثه.

(٩) « م » : فأين. « ج » : لأنّ.

(١٠) « ج » : لعين.

(١١) « م » : ـ مع.

(١٢) « ج » : بجهل.

٢٨٣

الحدث لا يجدي في انتقاض الطهارة ، وكذا استصحاب تأخّر الطهارة لا يجدي في حصول الطهارة ، كيف والموارد (١) على ما عرفت مختلفة ، فإطلاق القول بعدم الفائدة في صورتي العلم بالتاريخ والجهل به كما عن الشيخ الجليل فيلسوف القوم في كشف الغطاء ، ليس في محلّه.

قال قدس الله نفسه الزكية (٢) ـ في مسألة العلم بحدوث الحدث والطهارة مع الشكّ في السبق واللحوق ردّا على من فصّل بين العلم بالتاريخ في أحدهما والجهل بالآخر ـ : إنّ أصالة التأخّر إنّما قضت بالتأخّر (٣) على الإطلاق لا بالتأخّر عن الآخر (٤) ومسبوقيته به ؛ إذ وصف السبق حادث والأصل عدمه ، فيرجع ذلك إلى الأصول المثبتة وهي منفيّة ، فأصالة عدم الاستباحة وبقاء شغل الذمّة سالمان عن المعارض. قال : ولذلك أطلق الحكم فحول العلماء في مسألة الجمعتين ، ومسألة من اشتبه موته (٥) في التقدّم وغيرهما (٦) ، وفي مسألة عقد الوكيلين وغيرها ، أو المشتبهين في سبق الكمال على العقد وتأخّره ، ولم يفصّلوا بين علم التاريخ في أحدهما وعدمه (٧) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه رفع الله في الجنّة من مقامه (٨).

وفيه نظر (٩) : أمّا أوّلا : فلما عرفت من أنّ الحكم ربّما يترتّب على نفس التأخّر وعدم الحادث لا على تأخّره عنه ومسبوقيته به كما عرفت فيما قدّمنا لك من الأمثلة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إطلاق القول في تلك المقامات إنّما هو فيما إذا كان التاريخان مجهولين كما هو الظاهر ، ومن المعلوم عدم الفرق بينهما حينئذ ، ولنا أن نقول : إنّ

__________________

(١) « م » : وكيف فالموارد. « ج » : وكيف كان فالموارد.

(٢) « ز ، ك » : رحمه‌الله.

(٣) في المصدر : بالتأخير.

(٤) في المصدر : الأخير.

(٥) في المصدر : موتهم.

(٦) في المصدر : غيرها.

(٧) كشف الغطاء ٢ : ١٠٢ ، وفي ط الحجري : ١٠٢.

(٨) « ز ، ك » : ـ رفع الله ... مقامه.

(٩) « ج ، م » : ـ وفيه نظر.

٢٨٤

الإطلاق فيها بواسطة عدم الفائدة في صورتي العلم والجهل ، ولهذا (١) فصّلوا فيما إذا كان العلم بالتاريخ مجديا كما مرّ في مثال الإرث ، فإنّ الشيخ وجملة من أعاظم الفحول كابن حمزة والشهيدين والمحقّقين والعلاّمة فصّلوا فيه كما عرفت (٢).

نعم ، يعتبر في موارد تلك الأصالة أن لا يكون الحكم المطلوب إثباته أو نفيه من لواحق عنوان آخر غير المستصحب كما نبّهنا عليه ، لكنّه قد يوجد في كلمات الفقهاء الحكم بترتّب آثار اللاحقة بعنوان لازم للمستصحب في تلك الأصالة على ما مرّ بعضها في الهداية السابقة ، ومن جملة تلك الموارد ما أورده الشهيد السعيد (٣) في المسالك.

قال (٤) : إذا أذن المرتهن للراهن في البيع ورجع ، ثمّ اختلفا فقال المرتهن : رجعت قبل البيع ، وقال الراهن : بعده ، كان القول قول المرتهن ترجيحا لجانب الوثيقة ؛ إذ الدعويان متكافئتان (٥).

قال : وجه التكافؤ : أنّ الراهن يدّعي تقدّم البيع على الرجوع والأصل عدمه ، والمرتهن يدّعي تقدّم الرجوع على البيع والأصل عدم تقدّمه أيضا ، فتكافأ الأصلان فيتساقطان ، ويبقى حكم الرهن على العين باقيا وهو ترجيح جانب الوثيقة. إلى أن قال : وفي إطلاق الحكم بذلك بحث آخر وهو أنّ ذلك كلّه إنّما يتمّ حيث يطلقان الدعويين من غير اتّفاق منهما على زمان معيّن للبيع أو الرجوع ، أو مع اتّفاقهما إلى وقت واحد ؛ لتحقّق الأصول المذكورة ، أمّا لو اتّفقا على زمان أحدهما واختلفا في تقدّم الآخر ، فإنّ الأصل مع مدّعي التأخّر ليس إلاّ ، ووجه ذلك أنّهما لو اتّفقا ـ مثلا ـ على وقوع البيع يوم الجمعة وادّعى المرتهن الرجوع قبله من غير تعيين زمان ، فالأصل

__________________

(١) « ك » : لذا.

(٢) عرفت في الهداية السابقة في ص ٢٦٩.

(٣) « ز ، ك » : ـ السعيد.

(٤) « م » : قال في مسألة.

(٥) المثبت من المصدر وفي النسخ : متكافئان.

٢٨٥

يقتضي تأخّره ؛ لأنّ ذلك حكم كلّ حادث إلى أن يعلم وجوده وإنّما علم وجوده بعد البيع ، فيقدّم قول الراهن ، ولو انعكس بأن اتّفقا على وقوع الرجوع يوم الجمعة وادّعى الراهن وقوع البيع قبله من غير اتّفاق على وقت ، فالأصل يقتضي تأخّره إلى أن يعلم وجوده وإنّما علم بعد زمان الرجوع ، فيقدّم قول المرتهن.

قال قدّس الله روحه (١) : وهذا التفصيل هو الأقوى وهو خيرة الدروس ، وفيما عداه يقدّم قول المرتهن كما ذكره الأصحاب ؛ لقيام الدليل على ترجيح جانب الوثيقة كما حقّقنا (٢) ، انتهى ما أفاده (٣).

وبعد الاطّلاع على ما نبّهنا (٤) عليه في الهداية السابقة من عدم التعويل على مثل هذه الأصول ؛ لعدم دلالة دليل على اعتبارها والوجوه التي وجّهنا بها كلام القوم ، لا يخفى عليك ما فيه من وجوه الصحّة والفساد ، فتدبّر.

ولعلّ العمدة في تلك الوجوه بعد البناء على الظنّ هو القول بأنّ ترتيب اللوازم العاديّة وأحكامها من باب التسالم ، والله الموفّق (٥) الهادي.

تذنيب

عكس الاستصحاب المذكور استصحاب (٦) القهقرى على ما هو المعروف في لسان عوام الطلبة ، وقد نبّهنا على فساده في أوائل المبحث بهذا العنوان (٧) ؛ إذ ليس من الاستصحاب ، لاستلزامه اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وما يراد من ذلك إثبات الوجود اللاحق في الزمن السابق المشكوك ذلك الوجود فيه ، ولا دليل على ثبوت

__________________

(١) « ز ، ك » : رحمه‌الله.

(٢) مسالك الأفهام ٤ : ٧٧ ـ ٧٩.

(٣) « ز ، ك » : ـ ما أفاده.

(٤) « م » : بما نبّهناه.

(٥) « ز ، ك » : ـ الموفّق.

(٦) كذا. ولعلّ الصواب : الاستصحاب.

(٧) انظر ص ١٤.

٢٨٦

ذلك من العقل ولا من النقل ، وقد يعبّر عن ذلك بأصالة تشابه الأزمان وهو أيضا ممّا لا وجه له ؛ لعدم ما يقضي (١) بذلك على ما هو الظاهر منها (٢). اللهمّ إلاّ أن يكون المدرك فيها الغلبة ، فتأمّل.

نعم ، يمكن أن يكون هذا نتيجة لاستصحاب عدمي معقول وهو أن يقال : لو لم يكن كذلك لزم حادث آخر والأصل عدمه كأصالة عدم النقل ، مثلا لو ثبت أنّ الأمر في العرف للوجوب فشكّ أنّه (٣) في اللغة أيضا كذلك أم لا (٤) ، فلو قلنا بأنّه (٥) في اللغة أيضا للوجوب لا يلزم حادث غير ما دلّ الدليل على وجوده وحدوثه في الحال ، ولو قلنا بعدمه يلزم أن يكون هناك أيضا حادث آخر والأصل عدمه ، ولا يعارضه أصالة تأخّر الحادث ؛ لأنّ مجرى ذلك فيما إذا كان الاستعمال في السابق معلوما على الإجمال ولم يعلم خصوصية المستعمل فيه ، وحينئذ لا يجري أصالة تأخّر الحادث ؛ للعلم بالحدوث إجمالا ، والكلام في التعدّد والاتّحاد ، والأصل يقضي (٦) بالثاني ؛ لأصالة عدم تعدّد الوضع ، وهذا وإن كان مثبتا إلاّ أنّه من الموارد التي لا مناص من العمل بها ؛ لكونه من مباحث الألفاظ ، نعم لو كان المعنى المستعمل فيه في السابق معلوما كاللاحق وشكّ في بدو الحدوث والنقل فأصالة التأخّر تقضي (٧) بالتأخّر ، ولا يجري فيه أصالة عدم النقل في السابق كما في الحقيقة الشرعية ، فإنّ استعمال الصلاة في اللغة معلوم وفي عرف المتشرّعة أيضا معلوم وإنّما شكّ في بدو النقل ، فبأصالة عدم النقل لا يمكن إثبات الحقيقة الشرعية بالنسبة إلى زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ الأصل تأخّر الحادث

__________________

(١) « ج » : ما يقتضى.

(٢) « م » : منه.

(٣) « ج ، م » : ـ أنّه.

(٤) « ج ، م » : أيضا للوجوب أو لا.

(٥) « ج ، م » : بأنّها.

(٦) « ج » : يقتضى.

(٧) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : يقضي. « ج » : تقتضي.

٢٨٧

إلى زمن اليقين بوجوده (١) ، وإثبات الأصل ممّا لا ضير فيه على ما عرفت مرارا كما لا يخفى ، والله الموفّق (٢) الهادي.

__________________

(١) « ج » : لوجوده.

(٢) « ز ، ك » : ـ الموفّق.

٢٨٨

هداية

[ في استصحاب الصحّة ]

قد تداول بينهم التمسّك باستصحاب الصحّة فيما إذا شكّ في أثناء العمل في صحّته باعتبار الشكّ في اعتبار شيء فيه وعدمه ، وتنظّر فيها بعض الأواخر ، والتحقيق عندنا عدم الاعتداد به في بعض الوجوه دون آخر.

وتوضيح المقصد أن يقال : إنّ بطلان العبادة ـ مثلا ـ تارة بواسطة انتفاء أمر معتبر فيها على وجه غير ممكن التدارك كما إذا ترك السورة في الصلاة مع الوصول إلى حدّ الركوع ، وأخرى بواسطة وجود ما يقطع به العمل (١) كالتكلّم في الأثناء فهو قاطع للعمل ومبطل أيضا ؛ إذ كلّ قاطع مبطل ولا عكس. وكيف كان (٢) فالكلام يقع في موردين ؛ إذ المستصحب للصحّة (٣) إنّما يريد (٤) الصحّة بالنسبة إلى الأجزاء المادّية للصلاة مثلا ، وأمّا بالنسبة إلى الجزء الصوري (٥) لها واشتمال الصلاة على هذا الجزء الصوري إنّما يستفاد من الأخبار الواردة الدالّة على قطعها ، فيستفاد منها أنّ لها هيئة (٦) ارتباطية تقطع بقواطعها ، كما إذا (٧) استفدنا من لفظ النقض في (٨) أنّها حالة مستمرّة ، وهذا

__________________

(١) « ج » : ـ العمل.

(٢) « م » : ـ كان.

(٣) « ج » : بالصحّة.

(٤) « ج ، م » : يراد.

(٥) « ز ، ك » : الأجزاء الصورية.

(٦) « ز ، ك » : أنّ الماهية.

(٧) « ج ، ز ، ك » : ـ إذا.

(٨) كذا. والظاهر زيادة لفظة « في ».

٢٨٩

الجزء الصوري وإن كان داخلا في عنوان القسم الأوّل لأنّ انتفاءه انتفاء أمر معتبر فيها على وجه لا يمكن تداركها ، إلاّ أنّ التقسيم له فائدة أخرى تطّلع عليها بعيد ذلك.

أمّا الكلام في القسم الأوّل (١) فالصحّة المقصود إثباتها تارة : يراد منها موافقة الأمر ، وأخرى : ترتّب (٢) الأثر عليه على اختلاف المعنى منها ، ولا وجه لاستصحابها على التقديرين ، أمّا على الأوّل فلأنّ كون الجزء موافقا للأمر إمّا يقصد منه الأمر المستفاد من الأمر بالكلّ ، وإمّا الأمر المتعلّق بنفس الكلّ ، والثاني غير حاصل (٣) عند فقد الكلّ كما هو المفروض ، والأوّل قطعي حال الشكّ فلا يقين بالسابق على الأوّل ، ولا شكّ في اللاحق على الثاني ، وأمّا على الثاني فلأنّ الأثر المستصحب إمّا أن يكون أثر الكلّ ، أو الأثر المترتّب على الأجزاء التي لم يأت بها ، أو أجزاء (٤) الماهيّة (٥) ، لا معنى للأوّلين ؛ لعدم اليقين السابق فيهما ، كما أنّه لا معنى للأخير أيضا ؛ إذ الأثر المترتّب على الجزء ليس إلاّ كونه بحيث (٦) لو انضمّ إليه الأجزاء الباقية على وجه معتبر شرعا لكان مؤثّرا في حصول الكلّ والمركّب ، ووقوعه على هذا الوجه أمر قطعي لا شكّ فيه ، وعدم ترتّب الأجزاء اللاحقة لا يوجب زوال الأثر من الأجزاء السابقة ، وهذه الصفة موجودة فيها فعلا ؛ إذ لا يزيد ذلك على حيثية تعليقية يكفي في صدقها صدق التعليق وإن كذب المتعلّقان كما لا يخفى.

لا يقال : قد يكون الأجزاء اللاحقة مؤثّرة في وقوع الأجزاء السابقة على وجه الصحّة فيشكّ في ذلك فيستصحب.

لأنّا نقول : أوّلا : فلا قطع بالمستصحب في أوّل الأمر حينئذ. وثانيا : لو فرض حصول القطع فيمتنع زواله ؛ لأنّ ما وقع على صفة يمتنع انقلابه من تلك الصفة (٧).

__________________

(١) سيأتي القسم الثاني في ص ٢٩٦.

(٢) « ج » : ترتيب.

(٣) « ج » : + حال!

(٤) في النسخ : الأجزاء.

(٥) « ز ، ك » : الماهيّة.

(٦) « ز ، ك » : ـ بحيث.

(٧) « م » : الصحّة.

٢٩٠

وثالثا : لا يثمر في الأجزاء الباقية إذ لا يزيد ذلك على القطع الوجداني بصحّتها وعلى تقديره لا يجدي بالنسبة إليها كما لا يخفى.

ويمكن أن يقرّر الاستصحاب في هذا المقام بوجوه إلاّ أنّه لا يجدي في الكلّ.

الأوّل : استصحاب القابلية ، وبيانه : أنّ القراءة ـ مثلا ـ كان على وجه يصحّ أن يكون جزء فعليا للصلاة ، وبعد حدوث تلك الحادثة لا يعلم بقاؤها على هذه الصفة والأصل بقاؤها.

وفيه : أنّ الشكّ في كون الجزء المفروض قابلا لأن يصير جزء فعليا من الصلاة إمّا بواسطة أمر سابق على ذلك الجزء أو في نفس ذلك الجزء أو بواسطة أمر لاحق له. لا معنى له على الأوّلين لما عرفت من القطع بذلك ، وكذا على الثالث ؛ لأنّ الشكّ إنّما هو في اللاحق ، واستصحاب كونه جزء فعليا لا يرتفع الشكّ الموجود بالنسبة إلى اللاحق ، لكونه من الأصول المثبتة.

الثاني : استصحاب وجوب الإتمام ، فإنّ قبل عروض سانحة كان الواجب إتمام الصلاة ، وبعد ذلك لا يعلم به ، فيستصحب الوجوب السابق.

وفيه : أنّ الإتمام معناه ضمّ الأجزاء الباقية إلى الأجزاء الماضية ليتمّ العمل والمفروض عدم العلم بالباقي والشكّ في اعتبار شيء آخر فيه ، واستصحاب وجوب الإتمام لا يجدي في ارتفاع الشكّ في أنّ الشيء (١) الفلاني جزء أم لا.

الثالث : استصحاب حرمة القطع ؛ لأنّ قبل حدوث الشكّ كان يحرم على المكلّف قطع الصلاة ، وبعده يشكّ في الحرمة والأصل بقاؤها ، فيحرم عليه التكلّم أو شيء آخر من القواطع.

وفيه : أنّ حرمة القطع وفعل القاطع إن أريد حرمته بذاته مع قطع النظر عن اتّصافه

__________________

(١) « ج » : الجزء.

٢٩١

بالقاطعية فغير مسلّمة ؛ إذ لا دليل على حرمة التكلّم مع قطع النظر عن كونه قاطعا للصلاة. وإن أريد حرمته بعنوان القاطعية فلا بدّ من العلم بكونه قاطعا ، وعلى تقدير الشكّ في الجزء أو الشرط في حال الترك لا يعلم انقطاع الصلاة بواسطة ذلك الشيء المتروك حتّى لا يكون التكلّم قاطعا ؛ إذ بعد الانقطاع لا يعقل القطع ولا عدم انقطاعها (١) بواسطة ذلك الشيء ؛ إذ المفروض كونه مشكوكا حتّى يكون قطعا ، فيكون من موارد الشبهة الموضوعية التي لا دليل على لزوم الاجتناب فيها في غير ما سبق بالعلم الإجمالي ، فالأصل البراءة فلا يحرم القطع كما لا يخفى.

فإن قيل : إنّ العرف يحكمون بكونه قطعا فيحرم.

قلنا : لا مدخل للعرف في مثل المقام كما هو ظاهر. نعم ، لو كان المستند في الحكم دليلا لفظيا غير الاستصحاب كآية البطلان (٢) كان للتمسّك بالعرف فيها وجه ، ولمّا انجرّ الكلام إلى هذا المقام فالمناسب تحقيق هذه (٣) الآية الشريفة (٤).

قد استدل بها جماعة في جملة من الموارد ، منهم ابن إدريس (٥) في إفطار قضاء الصوم قبل الزوال رادّا على الرواية الدالّة على الجواز بأنّها خبر واحد لا يقبل لتخصيص الكتاب ، ومنهم بعض آخر (٦) في وجوب إتمام الصلاة وعدم إبطالها عند الشكّ في الجزئية والشرطية أو (٧) المانعية ، فالآية تدلّ على عدم جواز إبطال العبادات والأعمال ، سواء كان العمل صحيحا لو لا الإبطال كالصوم المفروض في كلام ابن إدريس ، أو شكّ في صحّته كما في الصلاة عند الشكّ في الشرطية أو المانعية.

وتقريب الاستدلال على وجه شامل للإبطال فيما شكّ في بطلانه (٨) أن يقال : إنّ الآية

__________________

(١) « ز ، ك » : انقطاعه.

(٢) محمّد : ٣٤.

(٣) « ز ، ك » : هذا.

(٤) « ز ، ك ، ج » : ـ الآية الشريفة.

(٥) لم أعثر عليه في السرائر.

(٦) انظر هامش فرائد الأصول ٢ : ٣٧٧.

(٧) « م » : و.

(٨) « ز ، ك » : ـ فيما شكّ في بطلانه.

٢٩٢

بعمومها تدلّ على عدم جواز رفع اليد عن العمل ، ففيما لو لم يكن وجه للإبطال سوى ذلك فظاهر. وأمّا في القسم (١) الآخر فعدم جواز رفع اليد إمّا بواسطة وجوب المضيّ في العبادة وإن كانت فاسدة ، وإمّا بواسطة صحّتها وكونها مسقطة للقضاء والإعادة ، والأوّل باطل ؛ للعلم بانتفائه عدا ما ثبت في موارد مخصوصة ، فتعيّن الثاني. وليس لأحد أن يقول : إنّ وجوب المضيّ لا يبقي الشكّ في المانعية أو الجزئية ـ مثلا ـ كما في الاستصحاب ؛ إذ التمسّك بالأدلّة الاجتهادية كالكتاب يجدي بالنسبة إلى إثبات اللوازم والملزومات كما في الاستدلال على صحّة المعاملة بوجوب الوفاء لها على ما هو المدلول عليه بقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) إذ قد يمكن استكشاف بعض الموضوعات بعموم العامّ ، كما (٣) إذا شكّ في كون زيد صديقا للمولى مع العلم بكونه من جيرانه بعد ما أمر المولى بإضافة جيرانه على وجه العموم مع العلم بعدم إرادة العدوّ منهم ، فبعموم وجوب إضافة الجيران وإكرامهم يحكم في المشكوك بكونه صديقا فيجب إضافته وإكرامه ، فنقول بمثل ذلك في المقام فإنّ حرمة الإبطال وعدم جواز رفع اليد عن العمل بعمومها (٤) يستكشف عن صحّة العمل ، فالصحّة مستفادة من عموم النهي كما لا يخفى. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال.

والإنصاف عدم دلالة الآية على ذلك ؛ إذ الوجوه المحتملة فيها كثيرة :

الأوّل : أن يكون المراد بها إحداث صفة البطلان في العمل والنهي عنه على ما يقتضيه ظاهر قوله : « لا تبطلوا » فإنّه من الإبطال وهو في اللغة ظاهر في إحداث البطلان الذي (٥) هو المصدر المجرّد منه بعد ما كان العمل صحيحا ولم يكن باطلا ، فيختصّ بما إذا كان العمل صحيحا لو لا الإبطال ، بل الظاهر منه على المفروض أن يكون الإبطال بعد تمام العمل ووقوعه على وجه الصحّة بإحداث عمل محبط لما وقع

__________________

(١) « ز ، ك » : تقسيم.

(٢) المائدة : ١.

(٣) « ج ، م » : + فيما.

(٤) « ز ، ك » : بعمومه.

(٥) « ز ، ك » : ـ الذي.

٢٩٣

صحيحا كالشرك ونحوه ، ويعاضده قوله تعالى قبل الآية هذه : ( وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ * ... أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ )(١) ويوضحه (٢) قوله تعالى : ( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى )(٣) فإنّ الظاهر كونهما على وجه واحد ، ومن المعلوم أنّ المستفاد من الثاني النهي من إحداث صفة البطلان في الصدقات الصادرة من العباد (٤) بالمنّ على من تصدّق بشيء له أو أذى عليه كما فيما ورد في تفسيره ، ويؤيّده تفسيره في الروايات بالشرك فقال عليه‌السلام : « لا تبطلوا أعمالكم بالشرك » (٥) وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية مضمونها أنّه قال : « من قال : لا إله إلاّ الله غرس له في الجنّة كذا ، ومن قال : الحمد لله له كذا » ، إلى أن تعجّب بعض من السامعين فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فلا ترسلوا إليها نارا فتحرقوها » (٦) ، ثمّ قرء قوله تعالى : ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ )(٧).

الثاني : أن يكون المراد بالآية إحداث الموصوف بالبطلان متّصفا بهذه الصفة ، فالمعنى : لا يجوز لكم إيجاد الصلاة باطلا بواسطة عدم إطاعة الله وإطاعة رسوله من عدم تعليم (٨) أحكام العمل وكيفياته كما يقتضيه ظاهر العطف على « أطيعوا » والأفعال المزيدة قد تستعمل في هذا المعنى كما في قولهم : « لا تضيّق فم الركية للفتى (٩) » فإنّ المراد به عدم إيجاده متّصفا بهذه الصفة ، وأمثاله في العرف كثيرة ، ومنها قولهم : « مجمل » إذ ليس الإجمال صفة طارئة ، فالنهي عن الإجمال كأن يقال : « لا تجمل في القول » معناه : لا توجد قولا متّصفا بعدم وضوح الدلالة ، وكذا قولهم : « مبيّن » إذ البيان في قبال

__________________

(١) محمّد : ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) « م » : توضيحه.

(٣) البقرة : ٢٦٤.

(٤) « ج ، م » : العبادات.

(٥) لم أجده.

(٦) المثبت من « ك » وهو موافق لمصادر الرواية وفي « م » : فتحرقها وفي « ج ، ز » : فيحرقها.

(٧) وسائل الشيعة ٧ : ١٨٦ ، باب ٣١ من أبواب الذكر ؛ بحار الأنوار ٨ : ١٨٦ ، باب ٢٣ ، ح ١٥٤ و ٩٣ : ١٦٨ ، باب ٢ ، ح ٣.

(٨) كذا ، والأنسب تعلّم.

(٩) « ز ، ك » : ـ للفتى.

٢٩٤

الإجمال وليس ممّا يطرأ اللفظ بعد الحدوث في الأغلب ، فالأمر بالبيان بيان لإيجاد بيان ظاهر الدلالة وبيّن المقصود وذلك ظاهر.

الثالث : أن يكون المراد بها ما هو مناط الاستدلال المذكور من وجوب المضيّ على العمل وعدم جواز رفع اليد عنه ، وهو لو لم نقل بكونه خلاف الظاهر بالنسبة إلى الوجهين الأوّلين فلا أقلّ من التساوي ، سيّما الأوّل منهما ؛ لموافقته (١) للعرف واللغة ونظائرها في الكتاب العزيز وما قبلها والروايات الواردة فيها كما مرّ ، سلّمنا عدم المكافئة فلا يجوز الحمل على الأخير ؛ إذ لا ريب في جواز رفع اليد عن كثير من الأعمال الواجبة فكيف بالمستحبّات والمباحات ، وتخصيصها بالشرعيات مجازفة ، وعلى تقديره العمل بها فيها أيضا مكابرة ، والقول بالأخذ بعمومها خرج ما خرج ، وبقي الباقي في العامّ مجازفة في مكابرة ؛ إذ التخصيص قد يبلغ حدّا لا يجوز القول به في كلام الحكيم وإن قلنا بجواز تخصيص الأكثر ، فلا بدّ من حملها على طائفة معهودة صادقة على الصلاة (٢) الواجبة فقط أو على الإبطال بالشرك كما ورد في الرواية ، ولا يجوز أن يكون هذا فردا منها ، فيكون البيان مختصّا ببعض (٣) أفراده ؛ لعدم الجامع القريب بين الإبطال على الوجه المزبور ورفع اليد ، فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد (٤).

فجملة الكلام في هذا المقام : أنّ الشكّ لو كان متعلّقا بما هو بمنزلة الجزء الماديّ من الصلاة كما في السورة مثلا ، فلا جريان للاستصحاب فيه على بعض الوجوه المتقدّمة ، ولا يجدي في بعض آخر ؛ إذ المدار على ارتفاع هذا الشكّ إمّا وجدانا ، وإمّا شرعا وكلاهما منفيّان ، أمّا الأوّل فبالفرض ، وأمّا الثاني فلعدم جريان استصحاب صحّة

__________________

(١) « ز ، ك » : بموافقته.

(٢) « م » : الصلوات.

(٣) « ز ، ك » : محضا لبعض.

(٤) « ج ، م » : المعنى الواحد.

٢٩٥

الأجزاء السابقة ، وعدم إثبات استصحاب وجوب (١) الإتمام والقابلية عدم جزئية المشكوك ، وعدم العلم بالموضوع في استصحاب حرمة القطع ، وعدم دلالة الآية على حرمة القطع في هذا المقام (٢).

وأمّا الكلام في القسم الثاني (٣) وهو ما إذا كان الشكّ في الجزء الصوري للصلاة مثلا ، وبعبارة أخرى ما إذا كان الشكّ في قاطعية شيء للصلاة أو عروض القاطع ، وقد عرفت أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في حرمة القطع أنّ الصلاة ذات هيئة ارتباطية متّصلة بعض أجزائها بالآخر (٤) في نظر الآمر ، فالتحقيق جريان الاستصحاب فيه وكونه مفيدا أيضا. بيان ذلك : أنّه لا شكّ في اتّصاف الأجزاء السابقة بحالة ارتباطية على وجه يمكن أن يصير جزء فعليا للصلاة فيما لو انضمّ إليها الأجزاء الأخر ، فتلك الحالة تارة : نعلم ببقائها عند انضمام الأجزاء الباقية إليها صحيحة ، وتارة : نعلم بارتفاعها كما إذا عرض المصلّي حال اشتغاله بالصلاة قاطع معلوم القاطعية كالتكلّم ، وأخرى يشكّ في بقائها وارتفاعها بواسطة الشكّ في عروض القاطع كالتكلّم بكلام طويل ـ مثلا ـ أو قطع العارض كأن تكلّم بلفظة واحدة مفيدة كقولنا (٥) : « ق » أمرا مثلا ، والأصل بقاء تلك الحالة وبعد وجودها شرعا تصير مطابقة للأمر بها ويترتّب عليها آثارها ، وهو المراد بالصحّة المستصحبة.

لا يقال : القطع أمر نسبي لا يتحقّق إلاّ بين شيئين متحقّقين والمفروض عدم وجود الأجزاء اللاحقة ، فلا يتحقّق القطع.

لأنّا نقول : عند العلم بحصول القاطع المعلوم أيضا لا يكون الأجزاء الباقية

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ وجوب.

(٢) في هامش نسخة « م » : اللهمّ إلاّ أن يتمسّك بأنّ وجوب الإتمام إنّما يلازم عدم الجزئية شرعا ؛ لعدم القول بالفصل ، إذ لا يعقل القول بوجوب الإتمام مع لزوم الإعادة ، فتأمّل « منه ».

(٣) تقدّم القسم الأوّل في ص ٢٩٠.

(٤) « ز ، ك » : « ببعض » بدل : « بالآخر ».

(٥) « م » : كقوله.

٢٩٦

موجودة ، فكيف يتصوّر القطع فيه مع أنّه مسلّم عندنا؟ فما هو الجواب فيه هو الجواب هنا أيضا. وحلّه (١) أنّ المقطوع هو الكون الصلاتي المترتّب بعض (٢) أجزائها على بعض الموجود في نظر المصلّي على ما (٣) أمر به الشارع في صورتي العلم والشكّ ، ولا يتأتّى القول بأنّ الربط بين الأجزاء (٤) السابقة واللاحقة على هذا الوجه يكون من أوّل الأمر مشكوكا فلا يجري الاستصحاب ؛ لأنّ موارد الاستصحاب موارد الشكّ وهذا من لوازم الشكّ كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ الشكّ في الجزئية والشرطية والمانعية أيضا يلازم الشكّ في الهيئة الطارئة للأجزاء وارتفاعها والأصل بقاؤها على (٥) تلك الحالة أيضا ، فالمقامان يجري الاستصحاب فيهما.

قلت : إنّ الشكّ في الجزئية وإن كان يلازم الشكّ في الهيئة لانبساطها على تمام الأجزاء فالشكّ في واحد منها شكّ فيها أيضا ، إلاّ أنّ البطلان مستند إلى فقد الجزء كالسورة ، أو وجود المانع كالنجاسة الثابتة قبل الصلاة أيضا ، وارتفاع الجزء الصوري تابع لارتفاعه ، فلا يستند إلى ارتفاعها البطلان كما لا يستند إلى بقائها صحّة الصلاة من هذه الحيثية ؛ لبقاء الشكّ فيه بعد ذلك أيضا ، وقد عرفت في المقام الأوّل جريان هذا الاستصحاب وعدم جدواه ؛ لكونه مثبتا بالنسبة إلى نفي الشكّ عن المشكوك المفروض.

والحاصل : أنّ وجود الربط لمّا كان في المقام مستصحبا صحّ الاستناد إليه في إثبات الصحّة التابعة لوجوده (٦) بخلاف المقام الأوّل ، إلاّ على دعوى غير بيّنة ولا مبيّنة من أنّه كلّما وجب إبقاء (٧) الربط الذي هو بمنزلة الجزء الصوري كان الصلاة صحيحة مطابقة

__________________

(١) « ز ، ك » : علمه. « ج » : حمله.

(٢) « م » : على بعض.

(٣) « ج ، م » : ـ ما.

(٤) « ز ، ك » : أجزائه.

(٥) « ج ، م » : في.

(٦) « ج » : بوجوده.

(٧) « ز » : إلقاء.

٢٩٧

للأمر مسقطة للقضاء.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الوجه في استناد جملة من الفحول كالشيخ وأضرابه (١) باستصحاب الصحّة في موارد الشكّ ، فإنّها كلّها في هذا المقام دون المقام السابق ، ولا شكّ أيضا أنّ قاعدة الاشتغال في الشكّ في الجزئية و (٢) الشرطية ممّا لا يجوز الاعتماد عليها بعد جريان استصحاب الصحّة ؛ لكونه واردا عليها.

نعم ، لا ينبغي الركون إليه في المقام الأوّل على تقدير القول بالاشتغال ؛ لعدم المدخلية في الاستصحاب بالنسبة إلى المشكوك ، فما قد يظهر من بعضهم مع مصيره إلى القول بالاشتغال من التمسّك بأصالة الصحّة واستصحابها زاعما ورودها على الاشتغال ، ممّا لا وجه له ، ولعلّ التعويل على الآية أيضا في هذا المقام ممّا لا يخلو عن قوّة ، سيّما بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، فتدبّر.

__________________

(١) انظر الخلاف ٣ : ١٥٠ ؛ المبسوط ٢ : ١٤٧ ؛ السرائر ١ : ٢٢٠ ؛ المعتبر ١ : ٥٤ ؛ نهاية الإحكام ١ : ٥٣٨ ؛ تذكرة الفقهاء ١ : ٢٤ ؛ تمهيد القواعد : ٢٧٣.

(٢) في هامش « م » : قلت : ولعلّ جريان استصحاب بقاء الربط مخصوص بما إذا حصل الشكّ في الأثناء على ما قيّدنا بذلك عنوان الهداية ، وإلاّ فلو فرض حصول الشكّ في انقطاع الصلاة بالأمر الفلاني قبل الدخول فيها فلو فرض صحّة الدخول في الصلاة بعدم إمكان قصد القربة على تقدير الشكّ ، فلا وجه للاستصحاب ؛ لعدم اليقين السابق كما لا يخفى على المتأمّل ، اللهمّ إلاّ أن يتمسّك بالاستصحاب العدمي بالنسبة إلى وجود القاطع أو قاطعية الموجود ، فتأمّل فإنّه خارج عن المفروض على تقدير حدوره « منه ».

٢٩٨

هداية

[ في استصحاب الاشتغال ]

قد اشتهر بينهم التمسّك باستصحاب الاشتغال في موارد كثيرة ، وتحقيق القول في ذلك أن يقال : إنّ الشكّ في البراءة والاشتغال تارة بواسطة الشكّ في حصول المبرئ المعلوم المبرئية ، كما إذا علمنا بالتكليف المعلوم المبيّن كوجوب صلاة الظهر وشككنا في الإتيان بها ، وتارة بواسطة الشكّ في مبرئية الفعل الموجود ، كما إذا سلّم على جماعة شخص فتبرّع في الجواب عنه ثالث خارج منهم أو واحد من الجماعة فشككنا في براءة الباقي وإسقاط تكليفهم بحصول هذا الفعل من الشريك أو المتبرّع ، وكما إذا صلّى على الميّت صبيّ مراهق على القول بشرعية عباداته فشككنا في سقوط الوجوب بفعله عن غيرهم ، وكما إذا تبرّع في زكاة فطر الضيف أجنبي أو الضيف بنفسه زكّى فشككنا في سقوط وجوب الزكاة عن صاحب الضيف ، وكما إذا التقطنا شيئا فشككنا في سقوط وجوب التعريف بفعل الوكيل ، ونحوها ممّا لا يعدّ ولا يحصى ، وتارة بواسطة الشكّ في أصل التكليف وكيفياته بعد العلم به إجمالا ، كما إذا علمنا بوجوب الصلاة في الجمعة ولم نعلم المكلّف به تفصيلا هل هو الظهر أو الجمعة؟ في الشبهات الحكمية بأقسامها ، وكما إذا اشتبهت القبلة بين الجهات أو الجهتين في الشبهات الموضوعية على ما مرّ تفاصيلها ، ولنورد الكلام في هذه الأقسام في مقامين :

٢٩٩

المقام الأوّل

في القسمين الأوّلين ، فنقول : التحقيق (١) عدم الاحتياج إلى الاستصحاب فيهما ، وعلى تقديره فلا يجدي فيما هو المطلوب عند الشكّ في البراءة والاشتغال.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحاجة إلى الاستصحاب إنّما هو فيما إذا كان المستصحب مشكوك البقاء أو الحكم المترتّب عليه ، وجودا كان المستصحب أو عدما ، فعند ذلك يحكم ببقاء ذلك المستصحب إمّا بواسطة إثبات نفسه ، وإمّا بواسطة إثبات الحكم المتفرّع عليه ، والمقام ليس منه ، إذ ليس المقصود إثبات نفس المستصحب بدون أن يترتّب عليه شيء ، وأمّا الأحكام المترتّبة على المستصحب فهي مترتّبة على ما هو مقدّم طبعا على الاستصحاب وهو مجرّد الشكّ المعتبر في محلّ الاستصحاب ومجراه. وتوضيحه : أنّ أحكام المستصحب ـ وجودا كان أو عدما ـ قد يختلف مع الأحكام المترتّبة على عدم العلم به والشكّ فيه كما (٢) في استصحاب وجود زيد وعدمه ، فإنّ ما يترتّب على الوجود المحكوم بالبقاء ـ كالحكم بعدم جواز نكاح حليلته ، ووجوب النفقة عليه ، ووجوب انعزال نصيبه من مال مورّثه ، ونحوها ـ ممّا لا يترتّب على عدم العلم بوجوده ، فمجرّد عدم العلم مع عدم العلم بالحالة السابقة الوجودية لا يجدي في ترتيب هذه الأحكام ، وقد يتّحد مع الأحكام المترتّبة على عدم العلم بذلك (٣) المستصحب ، فإذا لا حاجة في الحكم بترتيب هذه الآثار على إحراز وجود المستصحب أو عدمه ، بل يكفي في ذلك مجرّد عدم العلم ، كما فيما إذا شككنا في حجّية شيء كالظنّ ـ مثلا ـ فإنّ ما يترتّب على عدمها إنّما يترتّب على نفس الشكّ فيها ، كما نبّهنا على ذلك فيما تقدّم في مباحث الظنّ (٤) حيث تمسّك بعضهم في مقام تأصيل الأصل بأصالة عدم الحجّية ، وما

__________________

(١) « ز ، ك » : إنّ التحقيق هو.

(٢) « م » : كما هو.

(٣) « ز ، ك » : « عدم ذلك » ، بدل : « عدم العلم بذلك ».

(٤) نبّه في ج ٣ ، ص ٧٦.

٣٠٠