مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

الحذف (١) ، فكذلك لا سبيل إلى حكم الشارع بثبوت (٢) اللازم العاديّ أو العقلي فإنّهما كنفس المستصحب ليسا قابلين (٣) للجعل والبقاء في مرحلة الظاهر ، فإنّ ما للشارع في مقام التكليف رفعه له أن يضعه ويحكم به ، وكيف يمكن إبقاء الرطوبة أو الحرارة اللازمة للماء والنار كما هو ظاهر؟ فالمراد بتلك الأحكام لا بدّ وأن يكون هي الأحكام الشرعية كما في جميع التنزيلات الشرعية كما في قوله : « الطواف بالبيت صلاة » (٤) فإنّه ليس جعلا لما يترتّب على الصلاة من لوازمها العاديّة كهضم غذاء المصلّي ـ مثلا ـ ولا يمكن أن يكون مجعولا ، وكذا في تنزيل العمل (٥) المشكوك منزلة الصحيح وتنزيل التراب منزلة الماء ، فإنّه لمّا استحال كون المشكوك معلوم الصحّة حكمنا بأنّ المراد أحكام الصحّة من الإجزاء و (٦) إسقاط القضاء ونحو ذلك من الأمور الشرعية المتفرّعة على صحّة العمل في العبادات إذا كان عبادة أو في المعاملات إذا كان منها ، ولعمري لا ينبغي الارتياب في ذلك لمن مارس التنزيلات الشرعية.

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الاستصحاب لا يثمر في ترتيب (٧) شيء من الأقسام العشرة إلاّ قسم واحد وهي الأحكام الشرعية للمستصحب ولوازمها الجعلية ، وما ليس له لازم جعلي ولا يكون من الأمور الجعلية ليس محلاّ للاستصحاب كما لا يخفى.

وهل يثمر في إثبات الأحكام الشرعية المترتّبة على تلك اللوازم العقلية والعاديّة التي قلنا بعدم ترتّبها على المستصحب أو لا؟ التحقيق عدم ترتّبها على المستصحب ؛ لأنّ تلك الآثار الشرعية التي موضوعها تلك الأحكام إن أريد إثباتها لا في موضوع فغير سديد ، ضرورة عدم تقوّم العرض بلا جوهر ومن غير أن يكون حالاّ في منعوت ، إذ لا ريب في أنّ قوام وجود تلك الآثار المحمولة على تلك اللوازم بها. وإن

__________________

(١) « ز ، ك » : المجاز والحذف.

(٢) « ز ، م » : ثبوت.

(٣) « ز ، ك » : بقابلين.

(٤) تقدّم في ص ٢٥٤.

(٥) « ج ، م » : عمل.

(٦) « ج ، م » : أو.

(٧) « ز ، ك » : ترتّب.

٢٦١

أريد إثباتها في موضوعاتها فكذلك ؛ لأنّ المفروض عدم وجودها في مرحلة الظاهر ، إذ لا تقبل (١) الظاهرية ، فإنّها أمور واقعية صرفة لا يكاد يشوبها الظاهرية. وإن أريد إثباتها في موضوع هو المستصحب فإن أريد إثباتها له من غير أن تكون (٢) مجعولة لذلك الموضوع ، ففساده أجلى من أن يخفى على أحد ؛ لكونها أجنبية بالنسبة إلى المستصحب ، إذ ليست (٣) ممّا يتفرّع عليه ، وإن أريد إثباتها له بدعوى جعلها له فعهدتها على مدّعيها ؛ إذ لا يزيد مفاد تلك الروايات على أنّ الأحكام المتفرّعة على المتيقّن والآثار المنتزعة عنه لا يجوز نقضها بالشكّ ، ولا ريب أنّ تلك الآثار ليست (٤) ممّا يتفرّع على المستصحب بوجه.

نعم ، لو كان المستصحب موجودا واقعيا كان له لازم عقلي أو عاديّ يترتّب عليهما (٥) تلك الآثار ، فارتباطها بالمستصحب إنّما هو بواسطة تلك اللوازم العقلية ، ولمّا كان المفروض عدم ترتّب تلك الواسطة فقد انقطع الارتباط بين المستصحب وبين تلك الآثار فلا تعدّ (٦) في عداد محمولاته وأحكامه ، فلا دلالة في الروايات على ترتّبها على المستصحب كما هو ظاهر.

نعم ، لو كان الموضوع لتلك الأحكام موجودا في مرحلة الظاهر بمعنى أن يكون مستصحبا كان لترتيب آثاره عليه بالاستصحاب وجه وقد عرفت أنّ الكلام ليس في الآثار المقارنة للمستصحب حال العلم به.

لا يقال : كما أنّ آثار نفس الموضوع والمستصحب مجعولة للشارع كما هو المعقول من استصحاب الموضوع ، فكذلك لمّا كان الموضوع لتلك الآثار غير معقول البقاء بالاستصحاب حكمنا بمجعولية آثاره الشرعية.

__________________

(١) « ج ، م » : لا يقبل.

(٢) « ج ، م » : يكون.

(٣) في النسخ : ليس.

(٤) في النسخ : ليس.

(٥) « ج ، ك » : عليها.

(٦) في النسخ : يعدّ.

٢٦٢

لأنّا نقول : قد عرفت صحّة ذلك فيما كان المستصحب هو نفس تلك الأحكام العاديّة أو العقلية ، وأمّا مجعولية تلك الأحكام بعد استصحاب موضوع تلك الأحكام لا يعقل إلاّ أن يكون تنزيلا في تنزيل بمعنى أنّ الشارع لمّا حكم بوجود النار في الخارج عند الشكّ فقد حكم بوجود الحرارة أيضا ، ولمّا كانت (١) النار غير موجودة حقيقة فتكلّفنا في تصحيحه بجعل أحكامها ، وكذلك نقول بمثل ذلك في الحرارة ، ومن المعلوم الواضح عدم مساعدة تلك الأخبار على ذلك ، فإنّها لا تقبل (٢) إلاّ تنزيلا واحدا.

فإن قلت : إنّ المراد بالأحكام هي التي يصير المستصحب منشأ لوجودها وتنتهي (٣) إليه ولا شكّ أنّ الأثر المترتّب على الأثر المترتّب (٤) على المستصحب مترتّب عليه ، فلا بدّ من ترتيبه (٥) عليه كما في الآثار المترتّبة على الآثار الشرعية.

قلت : قد عرفت عدم ترتّبها على المستصحب إلاّ بعد وجود موضوعها والمفروض عدمه ، وأمّا الآثار الشرعية المترتّبة على الآثار الشرعية فالوجه فيها ما عرفت في أوّل الهداية من أنّ الحكم الشرعي ولو كان ظاهريا بعد الجعل مترتّب عليه تمام ما يترتّب عليه واقعا إلاّ فيما لم نجده من خواصّ الأحكام الواقعية من حيث هي واقعية ، ولو سلّمنا كون تلك الآثار آثارا للمستصحب فلا يمكن إثباتها له (٦) أيضا بالاستصحاب ؛ لأنّ الأصل عدم تلك الأحكام التي يترتب تلك الآثار عليها ، فاستصحاب الموضوع يقتضي بقاءها ، واستصحاب موضوعاتها يقتضي عدمها ، ولو لم نقل بأنّ انعدامها بواسطة انعدام موضوعاتها المعلوم بالأصل الاستصحابي أولى من وجودها بوجود الموضوع ، فلا أقلّ من التساوي (٧) ، فيتساقطان.

__________________

(١) المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : كان.

(٢) « ج ، م » : لا يقبل.

(٣) « م » : تنهى.

(٤) « ز ، ك » : ـ على الأثر المترتّب.

(٥) « ز ، ك » : ترتّبه.

(٦) « م » : إثباته لها.

(٧) « ز ، ك » : التنافي.

٢٦٣

فإن قلت : إنّ استصحاب الموضوع مزيل بالنسبة إلى استصحاب عدم تلك الأحكام الموضوعة لتلك الآثار ، فمع فرض جريان الأصل المزيل لا يبقى الشكّ في وجود الآثار المتفرّعة عليه ، فيصير مشمولا للرواية.

قلت : قد تحقّق في موضعه على ما ستعرف (١) ـ إن شاء الله (٢) ـ أنّ وجه التقدّم في الاستصحاب السببي على الأصل السّببي ارتفاع شكّ المسبّب بعد استصحاب السبب ، وفيما نحن فيه لا يرتفع الشكّ ؛ إذ المفروض عدم ترتّب الموضوعات العاديّة والعقلية على المستصحب وما لم يكن وجودها محرزا في مرحلة الظاهر لا يرتفع الشكّ (٣) في وجود آثارها كما هو ظاهر وسيجيء لذلك زيادة توضيح في الخاتمة (٤).

فإن قلت : لا شكّ في ترتيب الآثار العقلية والعاديّة وما يترتّب عليهما من الأحكام الشرعية على الأدلّة التعبّدية الاجتهادية كالبيّنة والخبر الواحد ، فلو أخبر العدل بوجود زيد في زمان يقتضي (٥) بياض (٦) شيبته ، فيحكمون بالبياض ويترتّبون عليه ما يترتّب عليه من الآداب اللاحقة له من احترامه ونحوه ، ومجرّد كونها اجتهادية غير مجد ؛ إذ المفروض عدم اعتبارها في نفسها ، بل إنّما تعبّدنا الشارع بالعمل بها فتصير (٧) من التنزيلات الشرعية ، وعلى ما قرّرت من أنّها لا تزيد (٨) على الأحكام الشرعية في مقام ترتيب الآثار فلا بدّ إمّا من عدم الالتزام بها في الأدلّة الاجتهادية والواقع خلافه ، وإمّا من الأخذ بتمام الأحكام المترتّبة على المستصحب وهو المطلوب.

قلت : فرق ظاهر بين المقامين ، وتحقيقه : أنّ الأدلّة التعبّدية على قسمين : فإنّ منها ما

__________________

(١) « ز ، ك » : ستعرفه. انظر ص ٤٩٣ وما بعدها.

(٢) « م » : الله العزيز.

(٣) من قوله : « إذ المفروض » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».

(٤) انظر ص ٣٨٠ وما بعدها.

(٥) « م » : يقضي.

(٦) « ج ، م » : ببياض.

(٧) في النسخ : فيصير.

(٨) « ج ، م » : لا يزيد.

٢٦٤

له مدلول كالبيّنة والخبر ، ومنها ما ليس له مدلول (١) كالبراءة في مواردها وأصالة الصحّة في محالّها والاستصحاب في مجاريها.

فالدليل الدالّ على اعتبار القسم الأوّل يدلّ على أنّ مدلول قول العادل في الوقائع التي أخبر عنها لا بدّ من الأخذ بها وتصديقه فيها ، وكذا مدلول قول الشاهد العدل واقع ، فهذه الأدلّة طرق إلى الواقع ، ولمّا لم تكن (٢) قطعية من حيث احتمال التخلّف عنها في نظر المكلّف لم تكن حجّة بنفسها ، فاحتاجت (٣) إلى بيان اعتبارها دفعا لهذا الاحتمال بوجه لم يكن مضرّا في الاستدلال بها والاعتماد عليها ، ولا شكّ (٤) أنّ قول العادل له مدلول مطابقي ومدلول تضمّني والتزامي ، فمعنى اعتباره اعتبار تمام ما يستفاد منه على ما هو المتعارف في الاستفادة عند العرف والعادة ، فالمخبر بوجود زيد مخبر ببياض شيبته أيضا ، وما يترتّب على المدلول المطابقي من الآثار إنّما هو بواسطة الإخبار به وهو بعينه موجود في المدلول الالتزامي ، فيترتّب عليه أيضا آثاره من غير تفاوت بين المدلولين لاستوائهما في المأخذ.

وذلك بخلاف الأدلّة التي ليس لها مدلول كالاستصحاب وأصالة الصحّة ، فإنّ الدليل الدالّ على اعتبارها إنّما يدلّ على أنّ (٥) الموارد التي كانت مسبوقة بالحالة السابقة عند الشكّ ، أو الموارد التي شكّ في صحّتها مع احتمالها ، لا بدّ من الأخذ بالحالة السابقة والحمل على الصحّة ، وليس للصحّة مدلول ولا للإبقاء مدلول مثل ما كان في الخبر والبيّنة ، فليس لمواردها مدلول مطابقي ولا التزامي ؛ إذ ليس لفظا ولا حالة إدراكية كالظنّ مثلا ، فإنّه وإن لم يكن لفظا إلاّ أنّه يلازم الظنّ باللازم كالعلم على ما هو غير خفيّ.

__________________

(١) « ز ، ك » : ليس مدلول له.

(٢) في النسخ : لم يكن. وكذا في المورد الآتي.

(٣) « ز ، ك » : واحتاجت.

(٤) « م » : فلا شكّ.

(٥) « م » : ـ أنّ.

٢٦٥

وبالجملة : فالأدلّة الاجتهادية لها مداليل كاشفة عن الواقع ، والظنّ هو الواقع الظنّي ، والتعبّد بهما إنّما هو من حيث احتمال الخلاف وذلك لا ينافي الكشف ، وترتيب (١) الأحكام العقلية عليها إنّما هو من حيث الكشف لا من حيث التعبّد ولهذا لو قلنا بالاستصحاب من حيث الظنّ وبناء العقلاء ، فلا ريب في ترتيب الآثار الواقعية من العقلية والعاديّة وما يترتّب عليهما من الأحكام ، شرعية كانت أو عقلية أو عاديّة وذلك ظاهر.

فإن قلت : لا ريب في صحّة الاستدلال بالأصول العملية في مباحث الألفاظ كأصالة عدم النقل وأصالة عدم القرينة والاشتراك ونحوها مع أنّ الآثار المطلوبة منها ليست ممّا يترتّب على نفس العدم المستصحب في تلك الموارد ، بل إنّما هي مترتّبة عليها بتوسّط أمر عاديّ أو عقلي ، مثلا أصالة عدم القرينة قاضية بعدم إرادة المجاز من اللفظ في الاستعمال المشكوك بواسطة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة والمطلوب في استصحاب عدم القرينة إثبات استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي على ما هو مقتضى أصالة الحقيقة ، ومن الظاهر الجلي ، عدم ترتّب المطلوب هذا على عدم القرينة ، بل لا بدّ من ضمّ مقدّمة عقلية أو عاديّة من أنّ العادة تقضي (٢) بأنّ بعد عدم إرادة المجاز لا بدّ من إرادة الحقيقة لئلاّ يلغو الاستعمال ، وكذا الكلام في أصالة عدم الاشتراك وعدم النقل كما لا يخفى.

قلت : إن أريد أنّ الأصول اللفظية معمولة في مواردها بواسطة الاستصحاب استنادا فيه إلى الأخبار ، فلا نسلّم كونها من باب الاستصحاب أوّلا ؛ إذ لعلّه من باب الأصول العدمية التي يكفي في ترتيب آثارها مجرّد الشكّ من غير ملاحظة الحالة السابقة ولا نسلّم اعتبارها حينئذ.

__________________

(١) « ز ، ك » : ترتّب.

(٢) « ج » : تقتضي.

٢٦٦

وإن أريد أنّ (١) الأصول العدمية اللفظية معتبرة معمولة في مواردها بواسطة بناء العقلاء وحصول الظنّ بالاستصحاب ، فلا ضير فيه ؛ إذ قد عرفت أنّ الاستصحاب لو كان من حيث الظنّ وبناء العقلاء يترتّب عليه الآثار العقلية والعادية وما يترتّب عليهما كائنا ما كان ، بل التحقيق أن ليس العمل بها فيها إلاّ بمجرّد بناء العقلاء ، ولذلك كان من الأمور المتّفق عليها كما مرّ ، وليس عمل العقلاء بها إلاّ بواسطة تلك الآثار ، فهي المطلوبة في تلك الاستصحابات على وجه يتخيّل في بادئ الرأي أنّها بأنفسها مجاز لتلك الأصول كما هو ظاهر.

هذا هو الكلام في المسألة الأصولية على ما هو قضيّة التحقيق ، إلاّ أنّ موارد تلك الأصول ـ التي يترتّب على المستصحب فيها الآثار الشرعية بتوسّط أمر عاديّ أو عقلي ، فليسمّ بالأصول المثبتة كما اصطلح عليها (٢) شيخ المتأخّرين كاشف الغطاء في الفقه (٣) ـ في غاية الاختلاف ، فربّما لا يعتنون (٤) بتلك الأصول ، كما لو فرضنا وجود النار على جسم قابل للانفعال منها ، ثمّ شككنا فيها ، فإنّه لا يذهب وهم إلى ترتّب الآثار الشرعية المترتّبة على وجود النار (٥) بواسطة لوازمها العاديّة ، كالإحراق مثلا ، فباستصحاب وجود النار لا يحكمون بضمان من كان سببا لإلقاء (٦) النار على ذلك الجسم ، وكذا لو أنّ شخصا رمى غيره بسهم وكان على وجه لو لم يمنعه مانع من الوصول إليه لكان مهلكا له ، فبأصالة عدم المانع لا يترتّب ضمان الرامي ؛ إذ ليس الضمان في المثالين من لوازم وجود النار وعدم المانع ، بل إنّما يترتّب عليهما بواسطة أمر عاديّ هو الإحراق عادة في النار ، والهلاك عادة في السهم ، وذلك ظاهر. وكذا تراهم

__________________

(١) « م » : بأنّ ، وفي « ج » : إمكان!

(٢) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : عليه.

(٣) كشف الغطاء ٢ : ١٠٢ وفي ط الحجري : ١٠٢ في المقام العاشر.

(٤) « ج ، م » : لا يفتنون.

(٥) من قوله : « على جسم » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».

(٦) « ج » : لإبقاء.

٢٦٧

لا يحكمون بوصول الماء إلى البشرة ـ فيما لو شكّ في إصابة الماء بها لاحتمال مانع كالجورب (١) أو شيء آخر منفصل عن البشرة من أقسام اللباس ـ باستصحاب عدم المانع ؛ إذ ليس صحّة الغسل ـ مثلا ـ في المثال المذكور مترتّبا (٢) على عدم المانع بلا واسطة ، بل بواسطة الوصول الذي هو (٣) لازم عاديّ لعدم المانع كما لا يخفى. وكذا لو أنّ موكّلا وكّل شخصا في عقد بيع أو نكاح أو في طلاق زوجته على وجه لو لم يمنعه مانع عن إيقاع العقد أو الطلاق لكان قد أوقعه قطعا ، فإنّ بأصالة عدم المانع لا يرتّبون (٤) آثار الملك على المبيع المفروض من جواز التصرّف فيه بنقله إلى الغير أو الوصيّة به لوارثه ، ولا يحكمون بتوارث ورثته فيه ، ولا أحكام الزوجية من جواز الوطي ووجوب النفقة والتوارث ونحوها ، ولا أحكام الأجنبية ؛ إذ ليس تلك الأحكام مترتّبة على نفس العدم المستصحب في عدم المانع ، بل بواسطة مقدّمة عاديّة وهو وقوع العقد البيعي أو النكاحي أو وقوع الطلاق عادة عند عدم المانع ، وتلك الآثار أحكام لتلك المقدّمة العاديّة. وكذا لو كان هناك كرّ من الماء موجودا ، ثمّ شكّ في وجوده وعدمه من أصل ، فباستصحاب بقاء ذلك الكرّ لا يحكمون بطهارة شيء لاقاه لو كان موجودا.

فإنّ الحكم في الأمثلة المفروضة كلّها عدم تلك الأحكام استصحابا له كما لا يخفى.

وربّما يظهر من جملة من موارد المسائل الفرعية (٥) الفقهية استناد جملة منهم فيها إلى تلك الأصول.

فمنها : ما لو شكّ في مانعية وسخ قليل عن وصول الماء إلى البشرة في مواضع الوضوء أو الغسل ، فإنّهم يترتّبون (٦) على أصالة عدم المانعية صحّة الوضوء والغسل مع أنّه لا فرق بينه وبين ما عرفت من مثال الجورب ، ولعلّ كاشف الغطاء قد اعتبر

__________________

(١) « ز ، ك » : الجوراب.

(٢) « ز ، ك » : مترتّبة.

(٣) « ج ، م » : ـ هو.

(٤) « ج ، م » : لا يترتّبون.

(٥) « ج ، م » : ـ الفرعية.

(٦) كذا. ولعلّ الصواب « يرتّبون ».

٢٦٨

الظنّ بالوصول في المثال المفروض تفصّيا عن مثل ذلك كما لا يخفى.

ومنها : ما أفاده الشيخ وابن حمزة في الوسيلة والعلاّمة والمحقّق والشهيدان والمحقّق الثاني (١) في جملة من موارد التداعي فيما تمسّكوا بأصالة تأخّر الحادث.

قال المحقّق في الشرائع ـ على ما هو المحكي عنه (٢) ـ : لو مات المسلم عن ذميين (٣) فتصادقا على تقديم (٤) إسلام أحدهما على موت الأب وادّعى آخر مثله فأنكر أخوه ، فالقول قول المتّفق على تقديم إسلامه مع يمينه ، وذلك إذا ادّعى عليه العلم وأنّه لا يعلم أنّ أخاه أسلم قبل موت أبيه ، وكذا لو كانا مملوكين فأعتقا واتّفقا على تقديم حرّية أحدهما واختلفا في الآخر ، ثمّ قال : الثانية لو اتّفقا على أنّ أحدهما أسلم في شعبان والآخر في غرّة رمضان ، ثمّ قال المتقدّم : مات الأب قبل هلال رمضان ، وقال المتأخّر : مات بعد دخول شهر رمضان ، كان الأصل بقاء الحياة ، والتركة بينهما نصفين (٥) ، انتهت عبارته قدّس الله نفسه الزكية (٦).

وملخّص ما يستفاد منه أنّ الصور ثلاثة : فتارة : لا يعلم تقدّم الإسلام على الموت مع الجهل بتاريخهما ، وأخرى : مع العلم بتاريخ الموت والجهل بتاريخ الإسلام ، ومرّة : العكس (٧) بأن يعلم تاريخ الإسلام والجهل بتاريخ الموت.

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٢٧٣ ، فيه : لأنّ الأصل الحياة حتّى يعلم زوالها ؛ الوسيلة : ٢٢٥ ، فيه : كان القول قول من ادّعى التأخير إذا لم تكن بيّنة على التقديم ؛ قواعد الأحكام ٣ : ٤٨٠ وفي ط الحجري ٢ : ٢٠٠ ، فيه : لأنّ الأصل بقاء الحياة ؛ تحرير الأحكام ٢ : ٢٠٠ ط الحجري ؛ الدروس ٢ : ١٠٨ ، فيه : حلف مدّعي تأخّر الموت ؛ المسالك ١٤ : ١٤١ ـ ١٤٢ ، فيه : الأصل استمرار حياة الأب إلى بعد الوقت الذي اتّفقا على إسلام المسلم فيه.

(٢) « ز ، ك » : على ما حكي عنه.

(٣) في المصدر : ابنيين.

(٤) في المصدر : « تقدّم » وكذا في الموردين الآتيين.

(٥) شرائع الإسلام ٤ : ٩٠٧ ـ ٩٠٨ ط الشيرازي ، ٤ : ١٢٤ ط البقّال ، وليس فيه قوله : « وذلك إذا ادّعى عليه العلم و ».

(٦) « ز ، ك » : « انتهى » وليس فيهما « عبارته قدّس الله نفسه الزكية ».

(٧) « ز ، ك » : بالعكس.

٢٦٩

ففي الأوّليين : قد حكم باستقلال المتقدّم في الإسلام ؛ إذ لم يعلم باستحقاق المدّعي لتأخّر الموت ، ولا يكفي فيه القول بأنّ الكفر مانع وبعد وجود المقتضي للتوارث وهو التوالد يحكم بالإرث بينهما ؛ إذ بعد التسليم عن ذلك بالغضّ عن كون الإسلام شرطا لا أنّ الكفر مانع ، نقول : إنّ المانع مستصحب الوجود ؛ لأنّ الكفر كان معلوما ، نعم لو كان المانع غير معلوم كان القول على التقدير (١) المذكور موجّها على بعض الوجوه.

وفي الثانية : حكم بانتصاف المال بينهما نصفين ؛ لأنّ الأصل تأخّر الموت عن إسلامه (٢) ، ومن المعلوم أنّ توارثه وانتصاف المال نصفين إنّما يترتّب على كونه مسلما حال حياته لا على تأخّر موته عن إسلامه ، فهو من أحكام المتقدّم ، واستصحاب تأخّر الموت لا يثمر في إثبات تقدّم الإسلام إلاّ عادة.

وبالجملة : فموارد أصالة التأخّر غالبا من هذا القبيل ، فلا بدّ إمّا من توجيه لكلماتهم في مواردها ، وإمّا من الأخذ بمقتضى الدليل ، ولا ينبغي التوحّش من الانفراد بعد مساعدة الدليل. ومع ذلك فيمكن توجيه بعض موارد النقض في كلماتهم ولو بنوع من العناية كأن يقال في المثال المفروض في الشرائع : إنّ حصول (٣) علقة التوارث إنّما هو (٤) من الآثار الشرعية المترتّبة على نفس الحياة من غير توسّط شيء آخر ، كما أنّ توارثه من قريبه إنّما هو لواحق حياته ، فلو شكّ في ذلك بعد العلم بموت قريبه والشكّ في تأخّر موته عنه ، نحكم (٥) بتوارثه من مال قريبه باستصحاب حياته ؛ لكونه من أحكامه شرعا بلا واسطة ، وبمثله نقول في المثال المذكور فلا حاجة في انتصاف المال بين الأخوين إلى إحراز موته بعد إسلامه على وجه يصدق أن يقال فيه : إنّه مات عن مسلمين ، بل يكفي في ذلك استصحاب حياته مع العلم بإسلامه ، كذا أفاد فتأمّل.

__________________

(١) « ز ، ك » : التقيّد.

(٢) « ز ، ك » : الإسلام.

(٣) « ز ، ك » : ـ حصول.

(٤) « ز ، ك » : هي.

(٥) « ج » : يحكم.

٢٧٠

وحيث إنّ توجيه بعض الأمثلة ليس ممّا يجدي في أصل المسألة فالأولى صرف عنان الهمّة إلى بيان ضابطة جامعة بين الموارد (١) فإنّها هي المهمّة.

فقد يقال في ذلك : إنّ الاستناد إلى الأصول المثبتة للآثار الشرعية بواسطة أمور غير شرعية ، والتعويل عليها لعلّه من باب الركون إليها بواسطة إفادتها الظنّ كما عليه بناء العقلاء ؛ إذ قد عرفت أنّه على تقدير إفادة الاستصحاب الظنّ كما هو المأخذ لبناء العقلاء في العمل به لا فرق بين الآثار الشرعية والعقلية والعاديّة ، فبعد (٢) وجود موضوعات تلك الآثار الشرعية (٣) المترتّبة على الآثار العقلية ولو ظنّا لا مانع من ترتيب تلك الآثار ؛ لأنّ الظنّ بالملزوم هو الظنّ باللازم على التحقيق ، أو يلازمه كما هو مذاق البعض ، وعلى تقدير اعتبار الظنّ الاستصحابي في الملزوم أو في اللازم لا وجه لإنكاره ، وقد عرفت أيضا في الهداية الحنفية (٤) أنّ بناء السلف من أصحابنا كالمفيد وأضرابه قبل ظهور دلالة الأخبار عليه على العمل بالاستصحاب ، كما يظهر من استدلال المحقّق (٥) من حيث استقرار بناء العقلاء عليه و (٦) إفادته الظنّ إلاّ أنّ ذلك ليس مطّردا ؛ لعدم الفرق بين الموارد التي لا يعتمدون على الأصول المثبتة والموارد التي يعوّلون عليها من هذه الجهة.

ويمكن أن يقال أيضا (٧) : إنّ الواسطة التي يترتّب عليها الحكم الشرعي في موارد الأصول المثبتة مختلفة : فتارة : على وجه لا يعدّ في العرف واسطة بل الحكم الشرعي في أنظارهم مترتّب على نفس المستصحب وإن كان بعد التدقيق والتحقيق مترتّبا على الواسطة ، وأخرى : على وجه يكون الواسطة جليّة لا يمكن الإغماض عنها ولو بحسب متفاهم العرف ، فعلى الأوّل يحكمون بترتّب الآثار الشرعية على المستصحب ، وعلى

__________________

(١) « ج ، م » : ضابطة لعلّها تجمع بين الموارد.

(٢) « ج ، م » : وبعد.

(٣) « ز ، ك » : تلك الأحكام والآثار الشرعية.

(٤) عرفت في ص ٢٣٥.

(٥) انظر معارج الأصول : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٦) « ز ، ك » : ـ و.

(٧) « ز ، ك » : ـ أيضا.

٢٧١

الثاني لا يحكمون بذلك ، وحسبان ترتّب الحكم الشرعي المترتّب على الواسطة عليه إمّا بملاحظة خفائها ، وإمّا بواسطة اتّحاد الواسطة والمستصحب وجودا وإن كانا مختلفين عنوانا.

وينطبق على الأوّل بعض الموارد المذكورة ، كما إذا شكّ في مانعية وسخ من وصول الماء إلى محال الوضوء والغسل ، فإنّ استصحاب عدم المانع لا يترتّب عليه حصول الطهارة الشرعية إلاّ بواسطة عاديّة هي وصول الماء إلى البشرة وكما إذا لاقى شيئا يابسا (١) لرطوبة نجسة مستصحبة فإنّهم يحكمون بترتّب (٢) نجاسة الملاقي على استصحاب الرطوبة النجسة مع أنّ ذلك لا يثمر إلاّ بواسطة تأثيرها في الملاقي وتأثّرها منها من حيث خفاء الواسطة ، بخلاف ما إذا كانت الواسطة جليّة كما في مثال مانعية الجورب أو مانعية الشمعة من وصول الماء على البشرة كما لا يخفى.

وينطبق على الثاني بعض الموارد الأخر كاستصحاب الكرّية في وجه ، وتوضيحه أنّ استصحاب الكرّية يتصوّر على وجهين : ففي وجه لا مجرى له عند التحقيق إلاّ بالمسامحة في الموضوع ، كما إذا استصحبنا وصف الكرّية كأن يقال : إنّ الماء الفلاني كان كرّا في الأمس وبعد انتصاف الماء في اليوم لا نعلم بعدمها وارتفاعها ، والأصل بقاء الكرّية ، وليس هذا الأصل من الأصول المثبتة لطهارة ملاقيه ، فإنّ من الأحكام الشرعية التي يترتّب على الكرّية ذلك ، إلاّ أنّ الكلام في جريان ذلك الاستصحاب ، لأنّ الكرّية المعلومة في الأمس إنّما كانت متعلّقة بموضوع قد ارتفع قطعا ، فلا يجري الاستصحاب إلاّ بعد المسامحة في موضوعه. وفي وجه آخر يجري الاستصحاب إلاّ أنّه لا يترتّب عليه طهارة الملاقي ، كما إذا استصحبنا بقاء الكرّ في الحوض بعد ما كان وجوده معلوما ، فإنّ طهارة الملاقي ليس من الآثار المترتّبة على بقاء الكرّ في الحوض ،

__________________

(١) كذا. ولعلّ الصواب شيء يابس.

(٢) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يحسبون ترتّب.

٢٧٢

نعم لو نذر شيئا (١) على تقدير بقاء الكرّ في الحوض يترتّب عليه ، وإنّما الطهارة مترتّبة على كرّية هذا الماء وهذا العنوان وإن كان مخالفا لبقاء الكرّ ولا يترتّب عليه إلاّ بواسطة ملازمة عقلية كأن يقال بعد استصحاب بقاء الكرّ في الحوض : وليس فيه ماء إلاّ هذا الماء ، فينتج : فهذا الماء كرّ ، إلاّ أنّه لمّا كان متّحدا في الوجود مع بقاء الكرّ المستصحب لا يعدّ في عداد الوسائط ، فيسامحون في ترتيب آثار (٢) عنوان على عنوان آخر ، لاتّحادهما وجودا.

وفيه : أنّه لا يجدي في جميع الموارد بمعنى عدم اطّراده ، فربّما يعتمدون بتلك الأصول مع جلاء الواسطة واختلاف الوجود أيضا. على أنّ الثاني غير منعكس أيضا ؛ إذ قد تكون الواسطة منتزعة (٣) من المستصحب ولا يعوّلون (٤) على الاستصحاب ، كما إذا فرضنا وجود زيد في الدار وكان مهدور الدم ، ثمّ شككنا في بقائه فيها مع العلم بوجود شخص غير معلوم في الدار ، فاستصحاب وجود زيد في الدار لا يجدي في قتله كما هو ظاهر. على أنّ اختلاف الأحكام باختلاف العنوان ممّا لا ريب فيه وإن اتّحد المعنون ، فمجرّد الاتّحاد الوجودي مع اختلاف عناوين الوجود غير مجد ، وعدم التفات العرف إلى مثل ذلك غير مضرّ ؛ لعدم مدخلية العرف في أمثال ذلك كما لا يخفى.

وقد يفصّل في العمل بالاستصحاب المثبت في مثال الوضوء والغسل بين أن يكون الشكّ في وجود المانع ، أو مانعية الموجود ، ففي الثاني لا عبرة به (٥) ، وفي الأوّل يعتمد عليه ، كما عن بعض مشايخنا المعاصرين أدام الله إفاداته (٦) ، وتفصّى عن إثبات الأصل بالسيرة (٧).

__________________

(١) « ج ، م » : بشيء.

(٢) « ز ، ك » : ـ آثار.

(٣) « ج ، م » : يكون الواسطة منتزعا.

(٤) « ز ، ك » : فلا يعوّلون.

(٥) « ج ، م » : ـ به.

(٦) « ز ، ك » : ـ أدام الله إفاداته.

(٧) قال في الفصول : ٣٧٨ : وأمّا التعويل على أصالة عدم حدوث الحائل على البشرة في الحكم

٢٧٣

وليس بذلك البعيد (١) إلاّ أنّه خارج عن المفروض ، وقد عرفت (٢) اعتبار الظنّ بعدم المانع عن كاشف الغطاء تفصّيا عن ذلك.

ويمكن أن يقال أيضا : إنّ غالب الموارد التي يتمسّك فيها بتلك الأصول إنّما هو في مواضع (٣) التداعي كما فيما حكيناه عن المحقّق (٤) ، ولا ريب أنّ المتداعيين يختلف تقاديرهم في تحرير الدعوى عند الحاكم ، فربّما يكون تشاجرهم في شيء بحيث لو أثبته المدّعي بإقامة بيّنة شرعية أو حلف عليه كان ما هو المقصود من التشاجر راجعا إليه وإن لم يكن البيّنة وافية بإثبات المقصود ، لتسالمهم في الأمر الآخر ، فكأنّ مقصود المدّعي مركّب (٥) من أمرين أحدهما ثابت بالبيّنة والآخر بالتسليم (٦) من الآخر ، وكذا الكلام في جانب المنكر فإنّ مطابقة قوله للأصل ربّما يكون من جهة مجرّد تشخيص المدّعي والمنكر بإجراء أحكامهما عليهما ، فلا يعتبر في ذلك أن يكون الأصل المطابق لقوله وافيا بتمام مقصوده فقد لا يكون كذلك ، وأمّا ترتّب المقصود على ذلك إنّما هو بواسطة التسالم بينهما كما يظهر ذلك في تقديمهم قول مدّعي الصحّة في عقد يدّعي أحد المتعاقدين وقوعه على عوض غير مملوك كالخمر والخنزير ، والآخر على ألفي دينار مثلا ، فإنّ أصالة الصحّة لا تقضي (٧) بوقوع العقد على ألفين وإنّما قضيّة ذلك عدم كون الخمر والخنزير أحد العوضين ، فالحكم باشتغال ذمّة الآخر بالمبلغ المزبور بعد الحكم

__________________

(١) « م » : التعبّد.

(٢) عرفت في ص ٢٦٨.

(٣) « م ، ك » : موضع.

(٤) حكاه عنه في ص ٢٦٩.

(٥) كتب فوقه في نسخة « م » : مركّبا.

(٦) « م » : لتسليم.

(٧) « م » : لا يقضي ، « ج » : لا تقتضي.

٢٧٤

بالصحّة إنّما هو مستند إلى تسليم ذلك عند الآخر.

وإذ قد عرفت هذا فنقول ـ في المثال المذكور في كلام الشرائع (١) ـ : إنّ تأخّر الموت بنفسه مستصحب ولا يتفاوت فيه الحال ؛ لكونه من مجاري الأصل حقيقة ، وأمّا تأخّره عن إسلامه فهو من الأمور المتسالمة بينهما على تقدير استصحاب تأخّر الموت كما في تسالمهم على وقوع العقد (٢) على تقدير الصحّة على ألفي دينار ، ولك أن تقول : إنّ مجرّد مطابقة القول للأصل لا يجدي في إثبات المقصود إلاّ بعد اليمين وهي كالبيّنة من الطرق الواقعية ، وقد عرفت أنّ الطرق الواقعية ممّا يوجد بجميع لوازمها الواقعية.

وتحقيق المقام وتوضيحه : أنّ الموارد التي يتمسّك فيها بتلك الأصول في الغالب هو مواضع التداعي كما في استصحاب تأخّر الموت ، ولا شكّ في اعتبار هذا الاستصحاب بالنسبة إلى الأحكام التي تترتّب (٣) على نفس التأخّر. وأمّا الآثار اللاحقة لكون الموت متأخّرا عن الإسلام فلا عبرة بهذا الاستصحاب فيها ، فالأخذ بتلك الآثار لأحد أمرين : إمّا من جهة تسالمهما على أنّ الوراثة بعد إثبات التأخّر الذي هو مجرى الأصل ومفاده ممّا لا كلام فيه ، فكأنّ المدّعي لمقارنة الموت للإسلام أو تقدّمه عليه مقرّ بكونه وارثا بمجرّد ثبوت تأخّر الموت وإن لم يفد إثبات تأخّره عنه ، فالاستناد إلى الأصل إنّما هو لإثبات هذا الجزء ولا غبار عليه من هذه الجهة ؛ لعدم كونه مثبتا له بل هو عين مفاده ، كما في أصالة الصحّة فيما إذا اختلف المتعاقدان في وقوع العقد على ثمن غير مملوك شرعا كالخمر والخنزير أو على عوض آخر ، فإنّ قضيّة الصحّة لا تزيد على مجرّد الصحّة ولا يثبت بها خصوصية الثمن الآخر كما هو المدّعى به في كلام الآخر ، ومع ذلك فالحكم باشتغال ذمّة المشتري بخصوصية العوض مستند إلى تسالم المتبايعين في أنّه (٤) بعد إحراز الصحّة فالعوض هو هذا الشيء الخاصّ كما لا يخفى ، وأمّا

__________________

(١) تقدّم نصّ عبارته في ص ٢٦٩.

(٢) « ز ، ك » : الصيغة.

(٣) « ج ، م » : يترتّب.

(٤) « ج ، م » : أنّ.

٢٧٥

في جهة ثبوت الواقع باليمين فإنّها أيضا كسائر الطرق الاجتهادية مثبتة للواقع كالبيّنة نظرا إلى الأمر بالتصديق للحالف في الدليل الدالّ عليه ، ومن المعلوم أنّ بعد فرض واقعية اليمين يترتّب عليها تمام أحكام الواقع كما في غيرها على ما مرّ.

وأمّا الاستناد إلى الأصل فلا يثمر إلاّ في تشخيص المدّعي والمنكر عند القاضي ، ولا يلزم أن يكون الأصل الموافق لقول المنكر وافيا بإثبات مرامه بتمام أجزائه ، فأصالة تأخّر الموت إنّما تجدي (١) في كون المدّعي لذلك (٢) منكرا فعليه اليمين ، ثمّ يترتّب على اليمين تأخّر الموت عن الإسلام ، ثمّ بعد ثبوت ذلك باليمين ينتصف المال بينهما ، نعم يتمّ النقض بذلك لو قلنا بكونه وارثا مع عدم اليمين بمجرّد الأصل ومع عدم التسالم ، ودون القول بذلك حينئذ خرط القتاد.

هذا ما يقتضيه الجليل (٣) من النظر (٤) وأمّا دقيق النظر (٥) فلا يرى استقامته أيضا.

أمّا أوّلا : فلأنّ دعوى ترتّب الأحكام التي هي من لواحق تأخّر الموت عن الإسلام كوراثة (٦) المدّعي للتأخّر ونحوها على تسالمهما ، مكابرة صرفة ومجازفة محضة ؛ للقطع بأنّ الآخر في الأغلب ممّا لا يرضى بذلك أبدا وهو ينفي استحقاقه للإرث رأسا ، فقد يكون بعض الدعاوي مترتّبا على بعض آخر وإظهار البعض ربّما يكون مقدّمة لإظهار الآخر ، فكيف يقال بالتسالم؟ ولو فرض إقراره أحيانا بذلك فلا يمكن الأخذ بإقراره أيضا ؛ إذ الغالب إنّما هو من باب التعليق (٧) على الأمور المستحيلة ولو بحسب اعتقاده. وأمّا التنظير بأصالة الصحّة فممّا لا يجدي أيضا ؛ لأنّ المشتري في مقام ادّعاء بطلان البيع رأسا فلا يظهر (٨) منه تسليم كون العوض شيئا مملوكا فضلا عن

__________________

(١) « ج ، م » : يجدي.

(٢) « ز ، ك » : لذاك.

(٣) كانت أوّلا في نسخة « م » : « الجلي » ثمّ غيّر بما في المتن وعكس ذلك في نسخة « ك ».

(٤) « ز ، ك » : جليل النظر.

(٥) « ز ، ك » : وأمّا دقيقه.

(٦) المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : كوارثه.

(٧) « ز ، م » : التعلّق.

(٨) « م » : ولا يظهر ، « ج » : لا يظهر.

٢٧٦

خصوصية شيء ، فكيف يتأتّى (١) القول بأنّه مقرّ بأنّ بعد إحراز الصحّة أحد (٢) العوضين هو الشيء الخاصّ كما هو ظاهر؟

وأمّا ثانيا : فلأنّ كون اليمين من الطرق الاجتهادية كالبيّنة ونحوها في محلّ المنع ، والأمر بالتصديق ممّا لا دلالة فيه على كونه مثبتا للواقع كما لا دلالة في الأدلّة الدالّة على حمل فعل المسلم على الصحّة على ذلك ، وتفصيل الكلام فيه خارج عن المقام.

وأمّا ثالثا : فلأنّ مجرّد مطابقة قول واحد من المتداعيين لأصل من الأصول لا يثمر في جعله منكرا ما لم يكن ذلك الأصل وافيا بتمام مطلوبه وجميع مقصوده ؛ إذ ليس حكم الإنكار والادّعاء حقيقة من الأمور التوقيفية ، بل التحقيق أنّ ما ورد من الشرع في بيان حكمهما من كون البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر إنّما هو مطابق لما يحكم به الوجدان الصحيح والعقل الصريح في حقّ المدّعي والمنكر ، فعدم حاجة المنكر إلى إثبات دعواه ليس إلاّ بواسطة وفاء الأصل المطابق لقوله بتمام مقصوده ، ومن ثمّ تراهم لا يحكمون بتقديم قول مدّعي سقوط الخيار في البيع على قول من يدّعي عدم سقوطه بواسطة مطابقة قول مدّعي السقوط لأصالة اللزوم في البيع ، لعدم الاعتناء بهذا الأصل في قبال أصالة عدم سقوط الخيار ، لأنّ الشكّ في اللزوم وعدمه ناش من الشكّ في إسقاط الخيار وعدمه ، وبعد إحراز عدم السقوط لا يبقى الشكّ في عدم اللزوم ؛ لأنّه مزيل له ، فليس كلّ أصل مشخّصا للمنكر ، فأصالة تأخّر الموت لا يجدي في إثبات تأخّره عن الإسلام كما هو المقصود في المقام.

فإن قلت : قد يختلف وجوه التقارير في تحرير الدعاوي ففي كلّ وجه يراد من الأصل المعمول فيه إثبات ذلك الوجه دون غيره ، ومصبّ الدعوى في المقام هو إثبات تأخّر الموت وهو كاف ، وأمّا تأخّره عن الإسلام فهو شيء آخر و (٣) يحتاج إلى دعوى

__________________

(١) « ج ، م » : ينافي.

(٢) « ج » : لأحد.

(٣) « ج » : ـ و.

٢٧٧

ثانية.

قلت : نعم ، ولكنّه غير مجد في تلك الدعوى والمقصود ترتّبها عليه كما هو ظاهر من عبارة الشرائع (١) على أنّ مجرّد التغيير في العبارة ربّما لا يجدي في الإنكار والادّعاء ، فإنّ المدّعي حقيقة هو المطالب بشيء ، والمنكر هو من يطالب منه ، وإن اختلفا في التعبير على وجه يعدّ في ما يتراءى في الأنظار أن يكون المدّعي منكرا والمنكر مدّعيا ، وعلى مثل هذا بنينا في الردّ على جامع المقاصد المحقّق الثاني (٢) فيما إذا اختلف المتعاقدان في وقوع العقد على عشرين أو ثلاثين تومانا (٣) فضّيا (٤) مثلا ، حيث حكم بالتداعي والتحالف ؛ إذ من الواضح أنّ المطالب بالعشرة الزائدة هو المدّعي وإن كان ادّعاؤهما (٥) في العبارة على أمر وجودي كما لا يخفى.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام ، والإنصاف أنّه لم يظهر لنا وجه في تصحيح موارد الأصول المثبتة في كلمات القوم على وجه جامع لجامع مواردها. ولعلّ العمدة فيها هو البناء عليها من جهة الظنّ كما ذكرنا ، فكن على بصيرة كي (٦) لا يلتبس عليك الحال ، ثمّ إنّ ما أوردنا في المقام إنّما هو بالنسبة إلى اللوازم دون الملزومات أو المشارك في اللزوم أو المقارن ، فتدبّر فإنّه من المزالق (٧).

__________________

(١) تقدّم نصّ عبارته في ص ٢٦٩.

(٢) انظر جامع المقاصد ٧ : ٢٩٣.

(٣) « ج » : + ذهبيا.

(٤) في هامش « م » : تومانا ذهبيا.

(٥) « ز » : ادّعاءها ( ظ ).

(٦) « ز ، ك » : لكلي.

(٧) « ز ، ك » : ـ فإنّه من المزالق.

٢٧٨

هداية

[ في أصالة تأخّر الحادث ]

قد شاع التمسّك بأصالة تأخّر الحادث عندهم وهي بظاهرها ليست في محلّها ، فإنّ الظاهر من لفظة (١) الأصالة هو الاستصحاب وليس التأخّر معلوما في السابق حتّى يستصحب ذلك التأخّر ، بل (٢) لا يعقل كما هو غير خفيّ على أحد ، فالمراد منها القاعدة التي مقتضاها هو الحكم بتأخّر الحادث من استصحاب عدمه في الزمان (٣) السابق على زمان (٤) اليقين لو كان الحادث هو الوجود ، أو استصحاب وجوده السابق لو كان هو العدم (٥) ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ موارد إطلاقاتهم لهذه القاعدة كما يظهر من مطاوي كلماتهم هو الأوّل.

وكيف كان فالمطلوب من إجراء هذا الاستصحاب في موارده (٦) إمّا إثبات تأخّر شيء حادث عن بعض أجزاء الزمان كأن يقال : إنّ الحادث الفلاني لا يعلم بحدوثه في الأمس أو في اليوم ، ومقتضى استصحاب عدمه في الأمس تأخّر وجوده عنه ، وإمّا إثبات تأخّر حادث عن حادث آخر مثله ، كما إذا كان هناك حادثان ولم يعلم سبق أحدهما على الآخر ، فيحكم بمقتضى استصحاب عدمهما ـ على حسب اختلاف

__________________

(١) « ز ، ك » : لفظ.

(٢) « ج ، م » : + و.

(٣) « م » : الزمن.

(٤) « ز ، ك » : ـ زمان.

(٥) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : الوجود.

(٦) « ز ، ك » : ـ في موارده.

٢٧٩

المقامات على ما ستعرف ـ بالتأخّر ، فإذا لنا مقامان (١) :

[ المقام ] الأوّل

لا خفاء في أنّ الأحكام الشرعية المترتّبة على نفس التأخّر بمعنى عدمه السابق على زمان اليقين فيما إذا كان الحادث وجوديا ، ووجوده السابق فيما إذا كان عدميا يترتّب على العدم في الأوّل والوجود في الثاني على تقدير استجماع الشرائط المعتبرة في الاستصحاب كما هو ظاهر ، كما لا إشكال في أنّه (٢) بعد العلم بالوجود في الأوّل والعلم بالعدم في الثاني يترتّب عليهما أحكام مطلق الوجود والعدم ، وهل يترتّب على (٣) الأحكام التي تترتّب (٤) على محض الحدوث الذي هو عبارة عن وجود غير مسبوق بالوجود فيما كان المستصحب عدما ، وعن عدم غير مسبوق بمثله ـ مثلا ـ فيما كان المستصحب وجودا ، أو لا؟ التحقيق هو الأوّل ؛ لأنّ الحدوث على هذا المعنى له جزءان : أحدهما : العدم المطلق أو الوجود كذلك ، وثانيهما : كونه غير مسبوق بمثله وجودا وعدما ، والأوّل معلوم بالوجدان كما هو المفروض ، والثاني و (٥) هو الجزء العدمي فيهما معلوم بالاستصحاب ولا غائلة فيه ؛ لعدم كونه من الأصول المثبتة كما قرّرنا في موارد جمّة ، منها : إثبات الأقلّية فيما دار الأمر بينها وبين الأكثر ؛ إذ ليس الأقلّ عنوانا وجوديا لازما لعدم الجزئية مثلا ، بل مجرى الأصل ومفاده هو هذا العنوان على ما هو ظاهر ، ولا ريب في عدم ترتّب الأحكام اللاحقة بعنوان (٦) وجودي آخر لازم للمستصحب في المقام ؛ لما عرفت في الهداية السابقة من عدم التعويل على مثل (٧) هذه الأصول.

__________________

(١) « ج » : مقامين.

(٢) « ج ، م » : أنّ.

(٣) كذا. ولعلّ الصواب « عليهما ».

(٤) في النسخ : يترتّب.

(٥) « ز » : ـ و.

(٦) « ز » : لعنوان.

(٧) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : بمثل.

٢٨٠