مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

هداية

[ في استصحاب الأحكام العقلية ]

قد عرفت (١) في الهداية الغزالية انقسام الدليل إلى دالّ على الحكم في زمن الشكّ ، وناف له ، وساكت عنه ، ومجمل ، ومردّد بينها (٢) ، لو كان لفظا أو إجماعا على بعض الوجوه المقرّرة فيه ، فيجري الاستصحاب على بعض التقادير ولا يجري على بعض آخر كما مرّ الوجه (٣) فيها ، وإلى الثلاثة الأول لو كان إجماعا على بعض آخر ، وفي حكمه الأدلّة اللبّية الأخر كالشهرة ونحوها ، ولا إشكال في الكلّ.

وأمّا لو كان دليل الحكم هو العقل فتحقيق القول في جريان الاستصحاب فيه في مقامين :

[ المقام ] الأوّل : فيما إذا كان الشكّ في موضوع حكم العقل ، مثلا لو حكم العقل بقبح سلوك طريق معلوم الضرر وشرب دواء معلوم المهلكية ، ثمّ شكّ في الهلاكة والضرر باعتبار سنوح سانحة ونحوها ، فهل يجري فيه الاستصحاب أو (٤) لا؟ فيه تفصيل ؛ لأنّه إن قلنا بحجّية الاستصحاب من حيث إفادته الظنّ يجري الاستصحاب ، لأنّ استصحاب الموضوع يفيد الظنّ ببقائه ، فالصغرى محرزة بالظنّ الاستصحابي ، فمهلكية الدواء المفروض مظنون ، وتنضمّ إليها كبرى قطعية وهي المدلول عليها بحكم

__________________

(١) عرفت في ص ١٩٧ وما بعدها.

(٢) « ز » : بينهما.

(٣) « ج ، م » : لوجه.

(٤) « ز ، ك » : أم.

٢٢١

العقل من حرمة ارتكاب شرب دواء مهلك وسلوك سبيل مضرّ ، فينتج حرمة الشرب والسلوك ، ولا غائلة فيه.

لا يقال : إنّ مورد حكم العقل هو الموضوع المعلوم ، وبعد تبدّله ظنّا لا موضوع فلا استصحاب.

لأنّا نقول : موضوع الحكم هو الواقع ، والعلم طريق إليه ، وباختلاف الطريق لا يختلف الواقع ، غاية الأمر كون النتيجة ظنّية ، لتبعيتها أخسّ مقدّماتها ، فإنّ العلم بثبوت الأكبر للأصغر في النتيجة تابع للعلم بثبوت الأكبر للوسط ، والظنّ به للظنّ (١) به ، كالشكّ فيهما ، كما هو ظاهر على من سلك سبيل (٢) النظر ، إلاّ أنّه غير خفيّ على أحد أنّه ليس من الاستصحاب في حكم العقل ؛ إذ لا شكّ فيه عند الشكّ في بقاء موضوعه ، بل إنّما هو من تعلّقه بموضوع مظنون وإن قلنا باعتباره من حيث إفادة الأخبار ذلك ، فلا يجري فيه الاستصحاب ؛ إذ قد عرفت فيما سبق أنّ معنى استصحاب الموضوع هو الأخذ بأحكامه السابقة والحكم بترتيب آثاره المعلومة ، ولا ريب أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة إلى الأحكام التي تترتّب (٣) عليه شرعا ، وأمّا الأحكام العقلية والعاديّة فلا يحكم بترتّبها عليه بواسطة أنّها ليست من مجعولاته فلا يترتّب عليه ، فإذا استصحبنا الموضوع المشكوك كالمثال المفروض يحكم (٤) بآثاره الشرعية ولا يترتّب عليه حكم العقل بحرمة ارتكابه ، نعم لمّا كان الدليل العقلي عندنا دليلا على الحكم الشرعي فيحكم بترتّب الحكم الشرعي المدلول عليه بالحكم العقلي.

لا يقال : إنّ الحكم الشرعي مترتّب على الحكم العقلي ، وحيث لا يترتّب عليه فلا وجه للحكم بترتّب ما يتفرّع عليه كما يظهر الوجه في المقام الثاني.

لأنّا نقول : فرق بين المقامين ، فإنّ منع جريان الاستصحاب في الحكم العقلي إنّما

__________________

(١) « ز ، ك » : الظنّ.

(٢) « ز ، ك » : ـ سبيل.

(٣) في النسخ : يترتّب.

(٤) « م » : نحكم.

٢٢٢

هو بواسطة اختلاف موضوع القضيّة المعلومة والواقعة المشكوكة ، وفي المقام بواسطة عدم كونه مجعولا للشارع ، وانتفاء الموضوع يوجب انتفاء الأصل وهو الحكم العقلي ، وعدم ترتّبه على الموضوع لا يوجب انتفاءه ، فيلازم الحكم الشرعي ، فيحكم (١) بترتّبه على الموضوع ، بخلاف المقام الآتي ؛ إذ بعد انتفاء الأصل والدليل لا يعقل بقاء الفرع.

المقام الثاني : فيما إذا كان الشكّ في نفس الحكم العقلي كما لو فرضنا وجوب ردّ الوديعة في زمان ، ثمّ شكّ فيه بواسطة حدوث حادثة في موضوع ، فهل يحكم بالوجوب استصحابا للحالة السابقة ، أو لا وجه للقول بالاستصحاب؟ يظهر من بعض الأجلّة (٢) في بعض التقسيمات (٣) للاستصحاب جريانه ، والتحقيق خلافه.

وتوضيح المقال (٤) يحتاج إلى تمهيد ، فنقول : لا ريب في أنّ الحكم من الأعراض التي لها تعلّق بالمحكوم به والمحكوم (٥) عليه في القضيّة المفروضة ، ومن المعلوم أيضا اختلاف المحكوم به والمحكوم عليه باختلاف القيود المأخوذة فيهما من زمان ومكان وشرط وآلة و (٦) حالة ووصف ونحوها ، فلا محالة يختلف الحكم عند اختلاف الموضوع والمحمول المختلفين باختلاف تلك القيود والعوارض اللاحقة لهما (٧) ، فذلك الأمر الناعتي (٨) والموجود العرضي يتغيّر بتغيّر ما هو قائم به أو متعلّق به ؛ إذ مناط تشخّصه (٩) ومعيار وجوده هي تلك الأمور التي يختلف باختلافها الموضوع والمحمول. ولا ريب أيضا في أنّ العقل ما لم يحرز تمام ما يحتمل اعتباره في موضوع حكمه لا يحكم ؛ إذ لا يخفى على الحاكم مورد حكمه ، متى لم يعلم بمدخلية قيد أو شيء في محلّ فلا يحكم ، بل هو متوقّف في ذلك المحلّ.

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ فيحكم.

(٢) الفصول : ٣٦٦.

(٣) « ج » : تقسيمات.

(٤) « ز ، ك » : المقام.

(٥) « ج » : للمحكوم.

(٦) « ز ، ك » : أو.

(٧) « ز ، ك » : لها.

(٨) « ز ، ك » : الذاتي.

(٩) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : تشخيصه.

٢٢٣

وإذ قد تقرّر هذا (١) فنقول : إنّ العقل لو حكم بوجوب ردّ الوديعة أو قبح الظلم وحرمته فذلك الحكم العقلي إمّا ضروري غير محتاج إلى وسط في إثبات ذلك الحكم ، أو نظري محتاج فيه إلى وسط ينتهي إلى ضروري ؛ ضرورة امتناع الخلوّ عن القسمين ، والثاني يرجع إلى الأوّل بعد الانتهاء إلى ضروري كما لا يخفى ، والشكّ في الزمان الثاني إمّا أن يكون باعتبار فقد حالة معتبرة في موضوع حكم العقل ، أو ازدياد قيد لم يكن قبل كائنا ما كان ، فمع تلك الحالة إمّا أن يكون العقل حاكما في ذلك الموضوع بالحكم الأوّل ، أو لا يكون حاكما ، فعلى الأوّل فلا وجه للاستصحاب ، وعلى الثاني فإمّا أن يعلم باختلاف الموضوع بواسطة العلم بمدخلية تلك الحالة وجودا و (٢) عدما في حكم العقل أو لا يعلم ، فعلى الأوّل فموضوع الحكم منتف قطعا ولا بدّ في الاستصحاب من بقاء الموضوع ؛ إذ لا نقض ولا تناقض على تقدير الانتفاء ، لما هو معلوم من انتفاء التناقض بين القضيّة الموجبة ومنتفية (٣) الموضوع بعد وضوح اعتبار التناقض في محلّ الاستصحاب في القضيّة المعلومة والمشكوكة كما هو ظاهر ، وعلى الثاني أيضا لا مجرى للاستصحاب ؛ لعدم العلم بالموضوع ولا بدّ من إحرازه يقينا.

وما ذكرنا إنّما هو مسامحة مع الخصم ؛ إذ يحتمل أن يقال : إنّ العقل يحكم على موضوع معلوم من حيث إنّه القدر المعلوم في الحكم له على وجه لا يعلم اعتبار القيود المعتبرة في الموضوع في ثبوت نفس الحكم أيضا.

وإلاّ فالتحقيق : أنّ الشكّ في بقاء الموضوع وعدمه غير معقول ، فدائما إمّا أن يكون الوجود معلوما فالعقل الحاكم في الأوّل موجود في الثاني أيضا فلا حاجة إلى الاستصحاب ، وإمّا أن يكون العدم معلوما فلا وجه للاستصحاب ؛ لارتفاع الموضوع ؛

__________________

(١) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : هذه.

(٢) « ج ، م » : أو.

(٣) « ز ، ك » : منفيّة.

٢٢٤

إذ لا يعقل في حكم العقل على شيء عدم علمه (١) بما هو معتبر فيه ، فالعقل إمّا يحكم بحرمة الظلم ووجوب ردّ الوديعة على وجه عامّ شامل لموضع (٢) الشكّ فلا يجري فيه الاستصحاب ، وإمّا يحكم بذلك في موضوع خاصّ نعلم بعدم تلك الخصوصية في موضع (٣) الشكّ فلا يجري فيه الاستصحاب أيضا كما لا يخفى.

فإن قلت : ما ذكرت إنّما يتمّ فيما إذا علمنا بمستند حكم العقل في الواقعة المتيقّنة (٤) ، وقد يكون حكم العقل بواقعة وقطعه بنسبة (٥) في قضيّة مردّدا بين أن يكون مستندا إلى عدّة أمور مختلفة يحكم به في زمان الشكّ على تقدير ولا يحكم به على آخر ، فيكون العقل في المقام مثل الإجماع ، ومثل ما إذا أدركنا شيئا بالحسّ فإنّ الموجود المحسوس إنّما علمنا به في بعض أزمنة وجوده ؛ إذ ليس يدرك بالحسّ وجوده في الأزمان المتأخّرة والمتقدّمة كما لا يخفى ، فالشكّ (٦) يحصل في موضوع حكم العقل لا أنّه يعلم انتفاء الموضوع عند الشكّ كما في موضوع الإجماع ، وقد تقدّم في بعض الهدايات السابقة (٧) وسيجيء في الخاتمة (٨) ـ إن شاء الله (٩) ـ أنّه قد يتسامح في الموضوع عرفا ، فعلى تقديره لا ضير في استصحاب حكم العقل كما في سائر الأحكام الشرعية.

قلت : إن أريد حصول العلم بواقعة مع قطع النظر عن قاعدة التحسين والتقبيح العقليين كما قد يحصل العلم بوقائع كثيرة في قضايا عديدة ، فالعلم بالحسن والقبح يتفرّع على هذا العلم كما في التوقيفيات والشرعيات نظرا إلى ما قرّر من تبعية الأحكام للصفات ، ففيه : أنّه خروج عن المتنازع فيه ؛ إذ لا ريب في أنّ ذلك مثل

__________________

(١) « ز ، ك » : علّته.

(٢) « ز ، ك » : لموضوع.

(٣) « ز ، ك » : موضوع.

(٤) « ز ، ك » : المنفية.

(٥) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : بنسبته.

(٦) « ز ، ك » : والشكّ.

(٧) انظر ص ١٩٣.

(٨) المراد بها هدية تقدّم الاستصحاب ببقاء الموضوع في ص ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

(٩) « ز ، ك » : ـ إن شاء الله.

٢٢٥

الإجماع قد يجري (١) فيه الاستصحاب فيما لو أحرزنا الموضوع حقيقة أو عرفا ، وقد لا يجري فيما إذا لم يكن معلوما.

وإن أريد حصول العلم وحكم العقل (٢) بوجوب واقعة أو حرمتها من حيث الحسن والقبح كما هو المفروض في المقام ، فالعلم بالوجوب يتفرّع على العلم بالحسن والقبح ، ففيه : أنّه لا يعقل جهالة مستند حكم العقل ؛ إذ القضيّة المفروضة لا تخلو إمّا أن تكون (٣) على وجه يكفي في الحكم بثبوت المحمول للموضوع وتحقّق النسبة تصوّر موضوعها كما في القضايا الضرورية كقولنا : الظلم حرام وقبيح ، أو لا يكون على هذا الوجه ، فيحتاج في الحكم بتحقّق النسبة إلى وسط بينهما ليستفاد (٤) منه ذلك العلم كما في القضايا النظرية كقولنا : ضرب اليتيم حرام ، فإنّه يحتاج في العلم بتحقّق تلك النسبة إلى ملاحظة اندراج موضوعها في موضوع كلّي يكفي في الحكم عليه بالحرمة تصوّره كما في قولنا (٥) : الظلم حرام ، ولا مناص من الانتهاء إلى مثل ذلك دفعا للدور والتسلسل.

فإن كان الشكّ في القضيّة الأولى فلا بدّ من ملاحظة حال الموضوع المحكوم عليه بالحكم العقلي ، فإن كان على وجه لا يختلف بازدياد حالة أو نقصان صفة فلا شكّ في اللاحق ، وإن اختلف بازدياد حالة أو نقصان قيد فعند الشكّ بواسطة أحد الأمرين ارتفع الموضوع قطعا ، ولا سبيل إلى القول بعدم العلم بذلك ، إذ (٦) المفروض أنّ القضيّة بديهية يحكم بثبوت المحمول فيها بمجرّد تصوّر الموضوع.

وإن كان الشكّ في القضيّة الثانية فلا بدّ من ملاحظة حال ذلك الوسط البديهي ، فإن كان موضوع القضيّة النظرية المشكوكة مع ازدياد قيد أو نقصان حالة مندرجا

__________________

(١) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : وقد يجري.

(٢) « ز ، ك » : النقل.

(٣) « ج ، م » : لا يخلو ... يكون.

(٤) « م » : يستفاد.

(٥) « ز ، ك » : قوله.

(٦) « ز » : إذا.

٢٢٦

تحت موضوع الوسط فلا شكّ في اللاحق ، وإلاّ فالموضوع يقيني الارتفاع.

فتقرّر أنّ الأحكام العقلية ممّا لا يعقل (١) فرض الشكّ فيها ، والموضوع فيها دائما إمّا معلوم الوجود فلا شكّ ، وإمّا معلوم العدم فلا استصحاب ، وذلك بخلاف الإجماع كما إذا انعقد على نجاسة الماء المتغيّر ـ مثلا ـ فبعد زوال التغيّر يشكّ في بقاء الموضوع لا أنّه يعلم بعدمه ، فلو قلنا بالتسامح العرفي أو استكشاف الموضوع من ظواهر الأدلّة فنقول بجريانه ، وإلاّ فلا.

فإن قلت : إنّ غاية ما يلزم ممّا ذكر عدم جريان الاستصحاب في نفس الأحكام العقلية ، وأمّا الأحكام الشرعية التي يستدلّ عليها بها (٢) فلا ضير في استصحابها ، فإنّها بهذه الحيثية من الأحكام التوقيفية.

قلت : ذلك وهم باطل ؛ لأنّ كون تلك الأحكام توقيفية بهذه الحيثية لا ينافي القطع بارتفاع موضوعها كما في المقام ، فإنّ الحكم العقلي في محلّه وموضوعه دليل على الحكم الشرعي في ذلك الموضوع وقد ارتفع قطعا ، فلا ثمرة فيها أيضا ، وقد مرّ التنبيه على الفرق بين المقام وفيما إذا كان الشكّ في الموضوع فيما مرّ ، فراجعه.

فإن قلت : كما أنّ الأحكام العقلية المترتّبة على التحسين والتقبيح العقليين ممّا لا يمكن فرض الشكّ في موضوعاتها فكذا الأحكام الشرعية أيضا كذلك ؛ لابتنائها عند العدلية على المصالح الواقعية والمفاسد الحقيقية ، فلا بدّ من عدم جريان الاستصحاب فيها أيضا.

قلت : الفرق بين المقامين ظاهر وإن كانت الأحكام الشرعية مبتنية على الأحكام العقلية ؛ لعدم علمنا بالموضوع فيها ، حيث إنّها بموضوعاتها غائبة عنّا ونحن بمعزل عنها ، بخلاف الأحكام العقلية فإنّها معقولة لنا فيحصل العلم بالموضوع فيها دونها ،

__________________

(١) « ز ، ك » : لا يستقلّ.

(٢) « ز ، ك » : بها عليها.

٢٢٧

غاية ما يمكن أن يقال : إنّه إذا لم يكن دليل على إحراز الموضوع في الأحكام الشرعية من خطاب لفظي أو تسامح عرفي لا يمكن القول بالاستصحاب فيها أيضا ونحن لا نضايق من ذلك كما لا يخفى.

٢٢٨

هداية

[ في التفصيل بين كون المستصحب وجوديا وبين كونه عدميا ]

أكثر الحنفية على حجّية الاستصحاب في النفي ، والنفي في الإثبات ، على ما حكاه العضدي (١) ، وظاهره التفصيل بين كون المستصحب وجوديا فليس بمعتبر (٢) فيه ، وبين كونه عدميا فهو معتبر فيه.

وحمله التفتازاني على التفصيل بين الآثار الوجودية التي تترتّب (٣) على المستصحب وجوديا أو عدميا فلا يعتبر ، وبين الآثار العدمية التي تترتّب عليه كذلك فيعتبر ، حتّى أنّ استصحاب حياة المفقود لا يؤثّر في انعزال نصيبه من مال مورّثه ؛ لكونه وجوديا ، ويؤثّر في عدم خروج ماله عن (٤) ملكه وعدم تعلّق حقّ وارثه بماله.

وهذا مع أنّه تكلّف في ظاهر ما حكاه العضدي ممّا لا وجه له أيضا ؛ إذ قد يمكن التعبير عن الأحكام الوجودية التي جعلها منها على وجه يرجع إلى الأحكام العدمية كما لا يخفى ، ولعلّه دعاه إلى هذا الحمل ما قد يتراءى من كون الاستصحابات العدمية إجماعية خارجة عن محلّ النزاع ، فعدّه تفصيلا في قبال القول بالحجّية مطلقا والنفي يتوقّف على ذلك ؛ إذ على هذا التقدير يكون موافقا للقول بالنفي المطلق ، إلاّ أنّه قد

__________________

(١) شرح مختصر المنتهى : ٤٥٣ ، تقدّم عنه في ص ٥١ و ٦٠ ، انظر تعليقة ص ٦٠.

(٢) « م » : معتبرا ، « ج » : معتبر.

(٣) « ج ، م » : يترتّب ، وكذا في المورد الآتي.

(٤) « ز ، ك » : من.

٢٢٩

عرفت (١) فيما تقدّم في تحرير حريم الخلاف عدم الاعتداد بذلك ، فإنّ أدلّة الطرفين يشهد بدخولها في محلّ الكلام كما يظهر من استدلال النافين بأنّه لو كان حجّة لوجب (٢) تقديم بيّنة النافي على بيّنة المثبت لاعتضادها بالاستصحاب ، ومن استدلال المثبتين بأنّه لو لم يكن حجّة لما صحّ التمسّك ببرهان لفظي لاحتمال ما ينافي الاستدلال من النقل ونحوه (٣) مثلا ، ومطاوي كلمات النافين صريحة فيما ذكر ، ألا ترى أنّ صاحب المدارك (٤) يردّ استصحاب عدم التذكية بعدم اعتبار الاستصحاب مطلقا ، وفي كلمات السبزواري ، بل الخوانساري (٥) ـ (٦) وغيرهما النفي الصريح في الكلّ كما هو ظاهر من إطلاق عناوينهم الشاملة للمقامين.

وأمّا ما استند إليه الأستاد الأكبر (٧) من كونها إجماعية نظرا (٨) إلى اعتبار أصالة عدم النقل والحقيقة والنسخ عند المنكرين كالسيّد واضرابه ومن تابعهم ، فهو إنّما يتأتّى في الأصول اللفظية لا مطلقها كما لا يخفى ؛ ضرورة عدم انتهاض الخاصّ دليلا على ثبوت العامّ بعمومه.

واستند بعضهم إلى (٩) استكشاف الإجماع على اعتبار العدميات على (١٠) ما يظهر من تحرير العضدي حيث قال : ولا فرق عند من يرى صحّته بين أن يكون الثابت به نفيا أصليا أو حكما شرعيا فإنّ نفي الفرق بين النفي الأصلي والحكم الشرعي ـ بعد أن حكم بعدم ثبوت الحكم الشرعي بالاستصحاب قبيل (١١) ذلك عند النافي ـ صريح في خروج العدميات عن النزاع ، وإلاّ لم يكن لنفي الفرق وجه.

__________________

(١) عرفت في ص ٣٨ وما بعدها.

(٢) « م » : يوجب.

(٣) « ز ، ك » : نحوها.

(٤) تقدّم عنه في ص ٥١ ـ ٥٢.

(٥) « ج » : المحقّق الخوانساري.

(٦) تقدّم عنهم في ص ٤٦.

(٧) تقدّم عنه في ص ٤٤.

(٨) « ز » : نظر.

(٩) « م » : على.

(١٠) « ز ، ك » : « هنا ».

(١١) « ز ، ك » : فبقي.

٢٣٠

وفيه : أنّ الظاهر من النفي الأصلي هي البراءة الأصلية فلا دلالة فيه على خروج مطلق العدميات.

وكيف كان فقد تحقّق فيما تقدّم في الهدايات السابقة فساد هذا التوهّم (١) ، فالأولى صرف عنان الكلام إلى تحقيق المرام في هذا المقام فنقول : إنّ الفرق بين استصحاب الوجود والعدم ظاهرا (٢) فيما هو المناط فيه ـ سواء كان عقلا أو نقلا ـ تحكّم صرف ؛ لأنّ المدار لو كان على حصول الظنّ بالبقاء بعد العلم بالحالة السابقة ، فإن قلنا بأنّ (٣) مجرّد ثبوت الشيء في السابق مع عدم العلم بارتفاعه يورث ظنّا بالبقاء من غير ملاحظة شيء آخر كالغلبة ونحوها ، فبعد تقدير التسليم ممّا لا يفترق (٤) فيه الوجود والعدم ؛ لحصول المناط فيهما معا. ودعوى بداهة الفرق بينهما كما يظهر من البعض ضرورية الفساد بعد ملاحظة الوجدان ، وعلى فرض انضمام شيء آخر بذلك فلا فرق أيضا ، ولو كان المدار على الأخبار فعدم الفرق بينهما أوضح.

نعم ، لو كان ولا بدّ أن يفصّل في المقام فأوجه التفاصيل التفصيل بين العدميات مطلقا والوجودي الذي كان الشكّ في بقائه من جهة الشكّ في الرافع ، وبين الوجودي الذي لم يكن الشكّ في رافعه ، سواء كان الشكّ من حيث المقتضي أو من حيث المانع.

وتحقيقه يتوقّف على تمهيد ، فنقول : قد تقرّر بناء العقلاء كافّة على الحكم بوجود المقتضي والمعلول بعد إحراز المقتضي ، وإن كان المانع وجوده (٥) مشكوكا أو الرافع وقوعه محتملا كما إذا فرضنا وجود مقتضي الإحراق في محلّه وشككنا في وجود مانع من وجود الإحراق ، فالعقلاء قاطبة بناؤهم مستقرّ على ترتيب (٦) آثار الإحراق ، وكأنّ

__________________

(١) « ز ، ك » : وكيف كان فلا شبهة في فساد هذا التوهّم كما يظهر من المراجعة إلى بعض الهدايات السابقة.

(٢) « ز ، ك » : ظاهر.

(٣) « ز ، ك » : إنّ.

(٤) « ج » : لا يفرق.

(٥) « ز ، ك » : وجود المانع.

(٦) « ز ، ك » : ترتّب.

٢٣١

الوجه في ذلك أنّ بعد فرض وجود المقتضي يشكّ في أنّ علّة عدم المعلول موجودة فيمتنع (١) المعلول بواسطة ذلك ، فالشكّ إنّما هو في امتناع المعلول من حيث وجود معارض علّة وجوده (٢) ؛ إذ عدم المانع لكونه أمرا عدميا لا يعقل تأثيره في وجود المعلول إلاّ من حيث ارتفاع وجود علّة النقيض ، فبذلك يصير المحلّ قابلا ، فيظهر أثر المقتضي ، ولا مدخلية لعدم المانع في اقتضاء المقتضي ، ولهذا ترى المقتضي باقيا على صفة الاقتضاء فعلا مع العلم بوجود المانع ، وكلّما كان الشكّ في إمكان شيء وامتناعه فتراهم يعاملون معه معاملة الإمكان ظاهرا (٣) كما مرّ (٤) الإشارة إليه في العبارة المنقولة عن الشيخ الرئيس ، وبعد تقدير إمكانه فيؤثّر فيه المقتضي ؛ إذ المفروض أنّه تامّ الاقتضاء ، فيقال بوجود المعلول ويترتّب عليه آثاره.

وإذ قد تقرّر هذا (٥) فنقول : إنّ الأصول العدمية بأسرها ، والاستصحاب الوجودي فيما إذا كان الشكّ في الرافع ، من هذا القبيل.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأحكام العدمية تارة يطلب منها ترتيب حكم عدمي ، وأخرى ترتيب حكم وجودي ، لا كلام على الأوّل ؛ إذ تلك الآثار العدمية التي تلحق الأحكام العدمية إنّما هي في عرضها وإن كانت مترتّبة عليها في الاعتبار ، فهي أيضا محالّ للاستصحاب كنفس (٦) تلك الأحكام. وأمّا الثاني : فكلّ ما نتعقّله (٧) من الأمثلة في العدميات كأصالة عدم النقل والقرينة والحذف والنسيان والسهو من الأصول المعمولة في مواردها ممّا يراد منها ثبوت حكم أو ظهور دلالة ونحوها من الأحكام الوجودية التي تترتّب (٨) على تلك الأمور العدمية ، من هذا القبيل ، فإنّ حدوث النقل مانع (٩) عن (١٠)

__________________

(١) « ز ، م » : فيمنع.

(٢) « ك » : وجود.

(٣) « ز » : ظاهر.

(٤) مرّ في ج ٣ ، ص ٦٢.

(٥) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : هذه.

(٦) « ج ، م » : لنفس.

(٧) « م » : نتعلّقه.

(٨) « ج ، م » : يترتّب.

(٩) « م » : مانعة.

(١٠) « ز ، ك » : من.

٢٣٢

حمل اللفظ على المعنى المنقول منه ، وكذا قرينة المجاز ووجود الحذف والنسيان أيضا مانع عن ظهور الدلالة كما لا يخفى مع وجود المقتضي لذلك (١) وهو الوضع ، فمدخلية العدم في تلك الأمور المطلوبة من الأصول العدمية (٢) إنّما يكون من حيث إنّ وجوده مانع عن ترتّبها على مقتضياتها (٣) ، لكونه علّة تامّة لنقيض (٤) الحكم كما عرفت ، ومثله الكلام في أصالة عدم الرافع إلاّ أنّه يعتبر مانعيته بالنسبة إلى البقاء لا الحدوث كما هو كذلك في المانع.

فإن قلت : لا مانع من أن يكون ذلك العدم علّة تامّة لترتّب ذلك الأمر الوجودي ، وحيث إنّها في الأمور الشرعية ليست بعلّة (٥) حقيقة (٦) فإنّها كاشفة عنها واقعا ، فلا مانع من أن يكون العدم مؤثّرا في الوجود ، بل هو واقع ، كما في أصالة عدم التذكية فإنّ النجاسة مترتّبة على نفس العدم ولا ضير فيه.

لا يقال : إنّ خروج الروح وإزهاقه مقتض للنجاسة ، والتذكية مانعة (٧) منها ، فبأصالة (٨) عدم التذكية يحرز المعلول ، فلا مخالفة فيه لما ذكر.

لأنّا نقول : المقتضي لا بدّ وأن يكون متقدّما على غيره ، والمقام مقارن فلا يجوز أن يكون مقتضيا.

قلت : نعم ولكنّ التحقيق أنّ المثال المذكور أيضا من هذا القبيل ، فإنّ الإزهاق يقتضي (٩) النجاسة (١٠) ، والمقتضي مقدّم على عدم المانع طبعا ، فلا غائلة في مقارنته له زمانا.

فتلخّص : أنّ الاستصحابات العدمية التي نتداولها إنّما هي ممّا يكون المقتضي للآثار

__________________

(١) « ز ، ك » : له.

(٢) « ز ، ك » : ـ العدمية.

(٣) « م » : مقتضاياتها.

(٤) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : لنقض.

(٥) « ج ، م » : علّة.

(٦) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : حقيقية.

(٧) « ج ، م » : مانع.

(٨) « م » : فأصالة.

(٩) « ج » : تقتضي.

(١٠) « ز ، ك » : فإنّ الإزهاق المقتضي للنجاسة.

٢٣٣

المطلوبة في تلك الاستصحابات موجودا ، والشكّ إنّما هو في وجود المانع لحدوثها أو لبقائها ، نعم لو فرض من الأصول العدمية ما لم يكن المقتضي للآثار المترتّبة عليها موجودا فأصالة عدم المانع لا يكفي في الحكم بترتّب (١) تلك الآثار وهو ظاهر إلاّ أنّ الأمثلة الموجودة ليس منها.

هذا تمام الكلام فيما كان المستصحب عدميا.

وأمّا الثاني : وهو ما كان المستصحب وجوديا فلا ينطبق على القاعدة المزبورة إلاّ فيما كان الشكّ في الرافع فقط ؛ إذ المانع من الحدوث لو كان مشكوكا فلا يعلم (٢) بوجود المعلول فلا يقين في السابق ، فلا يجري الاستصحاب الوجودي فيما إذا كان الشكّ في المانع ، وأمّا الشكّ من حيث المقتضي بعد العلم بتماميته في السابق وإن كان يعقل فيه الاستصحاب الوجودي إلاّ أنّه ليس داخلا فيما مهّدناه في المقدّمة.

وبالجملة : فنحن ندّعي استقرار بناء العقلاء على ذلك الحكم بوجود المعلول بعد إحراز المقتضي ولو كان المانع وجوده مشكوكا ، وهذه القاعدة وإن لم يكن (٣) من الاستصحاب في شيء إلاّ أنّه ينطبق (٤) على موارده المفروضة ، وإليه ينظر عبارة المحقّق كما مرّ نقله فيما سبق (٥) ، ولو لا أنّ من المعلوم خلافه في كلمات العلماء ـ كما عرفت حيث إنّ المستفاد من كلام جملة عدم الاعتداد بالاستصحاب مطلقا ـ لم يكن دعوى الإجماع عليه أيضا بعيدا ؛ حيث إنّ العمل عليه ، ولا ينافيه إنكارهم تفصيلا بعد الإذعان (٦) الإجمالي.

والأخبار الواردة في الباب بناء على التحقيق دلالة لها على غير ذلك ، فإنّ المنساق منها ـ سواء كان بلفظ النقض أو غير ذلك كما لو قال : « إذا شككت فابن على اليقين » ـ

__________________

(١) « م » : ترتّب.

(٢) « ك » : فلا نعلم.

(٣ و ٤). كذا.

(٥) انظر ص ٥٣ ـ ٥٤ و ٦٥ و ٦٨.

(٦) « م » : الإعادة.

٢٣٤

اتّحاد مورد اليقين والشكّ على وجه لم تكن القضيّة المتيقّنة مخالفة للمشكوكة إلاّ بالإيجاب والسلب فقط واليقين والشكّ ، وليس هذا إلاّ في العدميات ؛ لأنّ العدم الثابت المعلوم أوّلا بعينه مشكوك في اللاحق ، إذ لا يتفاوت العدم الأزلي بتفاوت الأمور التي يحتمل تفاوت الوجود بها من حال أو وصف وزمان ومكان ونحوها كما هو ظاهر لا سترة عليه ، وفي الوجودي فيما إذا كان الشكّ في الرافع ؛ إذ المقصود بالاستصحاب هو البقاء ، والمحمول في القضيّة المعلومة السابقة هو الوجود ، ولا مدخل للرافع فيه ، فلا يختلف بالتقييد (١) له (٢) بعدمه كما يختلف في المانع من الحدوث كما مرّ تفصيل ذلك فيما مرّ (٣) في الهداية الأخبارية (٤).

وعلى ما قرّرنا من ثبوت طريقة العقلاء على الأخذ بالاستصحاب في الموارد المفروضة يظهر الوجه فيما ذهب إليه جملة من محقّقي السلف من اعتبار الاستصحاب كالمفيد (٥) وأضرابه (٦) قبل ظهور دلالة الأخبار عليه ، إلاّ أنّه يشكل أيضا بأنّ الاعتماد (٧) بالاستصحاب (٨) عند العقلاء إن كان بواسطة ما قد يتوهّم من أنّ العقلاء أيضا قد يتعبّدون بأمارة وإن لم تفد الظنّ كما في التعبّديات الشرعية كالبيّنة ونحوها مثلا ، ففساده ظاهر ؛ إذ لا يعقل التعبّد عند العقل بعد ما نعلم من أنّ المناط هو الواقع عنده وكيف يمكن التعبّد به (٩) مع أنّه لا يزيد على شكّ؟ والأخذ بأحد طرفيه ترجيح بلا مرجّح وهو فطري الاستحالة وتجويزه سفسطة ، وإن كان بواسطة إفادته الظنّ في موارده إمّا بملاحظة الغلبة أو بمجرّد العلم بالحالة السابقة أو غير ذلك ، فهو حقّ في

__________________

(١) « ز ، ك » : بالتقيّد.

(٢) « ج » : فيه وفي « ك » : به.

(٣) « ز ، ك » : الحدوث على ما مرّ تفصيله.

(٤) مرّ في ص ١٩٠ ـ ١٩٤.

(٥) التذكرة : ٤٥.

(٦) كالمحقّق كما نصّ به في ص ٢٧١.

(٧) « ز ، ك » : « بالاعتماد » بدل : « بأنّ الاعتماد ».

(٨) « ج » : إلى الاستصحاب.

(٩) « ج ، م » : ـ به.

٢٣٥

موارد الاستصحاب المعمول عندهم في أحكام معاشهم ، وأمّا في الأحكام الشرعية فحصول الظنّ في موارده بأجمعها غير معلوم ، ودعواه مجازفة بيّنة ومكابرة واضحة ؛ إذ كثيرا ما نجد من أنفسنا في تلك الأحكام عدم رجحان ثبوت المستصحب مع الأخذ به فيها أيضا ، ويظهر ذلك من ملاحظة قضيّة المذي كما (١) لا يخفى ، ولا سيّما إذا عارضه دليل غير معتبر كالقياس.

وبالجملة : دعوى حصول الظنّ في جميع موارد الاستصحاب في الأحكام لا شاهد عليها ، بل يكذّبها (٢) الوجدان والبرهان معا ، وبدونه لا دليل عليه ؛ لعدم اعتبار الشكّ عند العقلاء ، فكيف يمكن القول بالاستصحاب للسلف مع عدم دلالة دليل عليه؟ وغاية ما يتعسّف في الذبّ عنه أن يقال : إنّ بناء العقلاء على العمل بالظنّ الاستصحابي إلاّ أنّه لمّا قرّر الشارع العمل بذلك الظنّ في الشرعيات لا جرم صار ذلك ظنّا نوعيا.

وتوضيح ذلك : أنّه لو فرض وجود أمارة ظنّية غير معتبرة عند العقلاء كالنوم ـ مثلا ـ فعارض الاستصحاب على وجه انتقل الظنّ الشخصي إليه ، فمع ذلك تراهم يلتزمون بإعمال الاستصحاب وطرح النوم كما يظهر ذلك عند ملاحظة قول الطبيب عند مخالفته لظنّ المريض ، فالأخذ بالاستصحاب في هذا المقام وإن لم يكن مفيدا للظنّ إلاّ أنّه أولى من الأخذ بالأمارة الغير المعتبرة عندهم ، فكان ذلك الظنّ لا يعدّ ظنّا مثل ما يراه الرائي من بعيد فيظنّ السراب ماء كما لا يخفى ، ولمّا قرّر الشارع العمل بالاستصحاب صار العامل به في الشريعة كما إذا كان عند العامل (٣) أمارة ظنّية غير معتبرة ، فيأخذ بالاستصحاب وإن لم يكن مفيدا للظنّ من حيث أولويته من الأمارة الغير المعتبرة شرعا ، فكأنّ الظنّ القياسي ليس من الظنّ بعد عدم الاعتداد به عند (٤)

__________________

(١) « ز ، ك » : مما.

(٢) « م » : يكذّبه.

(٣) « ز ، ك » : العادل.

(٤) « ز ، ك » : من.

٢٣٦

الشارع ، نعم يبقى الكلام في اعتبار هذا الظنّ في الشريعة ، فلا يبعد أن يقال : إنّ استقراء موارد الاستصحاب يعطي الظنّ القويّ بأنّ الشارع إنّما اعتبر الظنّ الحاصل من ملاحظة الحالة السابقة كما عرفت الوجه في ذلك (١) فيما قدّمنا من الاستناد إلى الأخبار الخاصّة إلاّ أنّ الكلام يبقى حينئذ في اعتبار هذا الظنّ في المقام.

كذا أفاد أديمت إفاداته (٢) إلاّ أنّ الإنصاف عدم انتهاضه بدفع الإشكال حقيقة ؛ إذ بعد ما علم من أنّ مناط حكم العقلاء هو حصول الظنّ ومدار حكمهم هو الواقع ففرض عدم اعتبار الظنّ المقابل للاستصحاب والاعتناء بالاستصحاب إنّما هو خلاف الفرض (٣) كما لا يخفى.

__________________

(١) « ز ، ك » : كما عرفت وجهه.

(٢) « ز ، ك » : « أفاد الأستاد » من دون الجملة الدعائية.

(٣) « ز ، ك » : المفروض.

٢٣٧
٢٣٨

هداية

[ في كلام النراقي في معارضة الاستصحاب الوجودي والعدمي ]

زعم بعض (١) أفاضل متأخّري المتأخّرين أنّ استصحاب حال الشرع ـ يعني الاستصحاب الوجودي ـ ليس معتبرا ، واستصحاب حال العقل ـ يعني الاستصحاب العدمي ـ معتبر ، واستند في ذلك إلى أنّ استصحاب الوجود دائما معارض باستصحاب عدمي مسبوق بذلك الوجود ، ومحصّل تفصيله التفكيك بين ما كان المقتضي محرزا وشكّ في حصول الرافع وبين ما كان الشكّ من حيث المقتضي ؛ إذ في موارد الشكّ الأخير دائما يتعارض الاستصحابان فيتساقطان ولا بدّ من الرجوع إلى أصل عملي آخر كالبراءة ونحوها ، بخلاف موارد الشكّ الأوّل فإنّ استصحاب عدم الرافع بعد سقوط الاستصحابين متعيّن.

فالأولى نقل كلامه بطوله لتوضيح مرامه ، قال ـ في جملة كلام له في تعارض الاستصحابين ـ : والتحقيق أنّ تعارض الاستصحابين إن (٢) كان في موضوع (٣) وحكم واحد فلا يمكن العمل بشيء منهما ويتساقطان فيرجع إلى البراءة وشبهها ، وذلك كما إذا قال الشارع في ليلة الجمعة مثلا : « صم » وقلنا : بأنّ الأمر للفور ، وكنّا متوقّفين في

__________________

(١) في هامش « م » : « وهو المحقّق النراقي » وكذا كتب تحتها في هامش « ز » و « ك » : « أي النراقي » وسيأتي نصّ كلامه.

(٢) « ز ، ك » : إذا.

(٣) في المصدر : موضع.

٢٣٩

إفادة (١) المرّة والتكرار ، فنقطع بوجوب صوم يوم الجمعة ونشكّ (٢) في السبت ، وفيه يتعارض الاستصحابان ؛ لأنّا كنّا يوم الخميس متيقّنين بعدم وقوع التكليف بصوم يوم الجمعة ولا السبت ، وبعد ورود الأمر قطعنا بتكليف صوم الجمعة وشككنا في السبت ، وهذا الشكّ مستمرّ من حين ورود الأمر إلى يوم السبت ولا ينقض بالشكّ ، فيستصحب عدم تكليف يوم السبت بالصوم ، وكذا نقطع في الجمعة (٣) بالتكليف بالصوم ونشكّ في السبت ، فيستصحب التكليف ، أي وجوب الصوم ، فيحصل التعارض.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّ عدم التكليف المعلوم قبل الأمر إنّما يستصحب لو لا الدليل على التكليف ، واستصحاب الوجوب المتيقّن في الجمعة دليل شرعي ، فيرتفع عدم التكليف ونقض (٤) اليقين باليقين.

فأجاب عنه : بأنّ مثله يجري في الطرف الآخر فيقال : وجوب صوم الجمعة (٥) إنّما يستصحب لو لا الدليل على عدمه ، واستصحاب عدمه المتيقّن قبل ورود الأمر دليل شرعي ، فيرتفع الوجوب.

لا يقال : إنّ العلم بالعدم قد انقطع وحصل الفصل فكيف يستصحب؟

لأنّا نقول : إنّه (٦) لم يحصل فصل (٧) أصلا ، بل كنّا قاطعين بعدم إيجاب صوم السبت (٨) يوم الخميس وشككنا فيه بعد الأمر ولم نقطع بوجوب صومه أصلا ، فيجب استصحابه (٩) ، انتهى.

__________________

(١) في المصدر : إفادته.

(٢) « ز ، ك » : الشكّ.

(٣) « م » والمصدر : يوم الجمعة.

(٤) في المصدر : وينقض.

(٥) « م » : يوم الجمعة.

(٦) « م » : بأنّه.

(٧) في المصدر : فصلا.

(٨) « ك » : يوم السبت.

(٩) مناهج الأحكام : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

٢٤٠