مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

بالصلاة عند الشكّ فيه وجواز فسخ المشتري عند الشكّ في بقاء الخيار ، ولا يختلف في ذلك شيء من الحكم والموضوع عدا ما لا مدخل (١) للرواية فيه وهو قبول الوجوب المستصحب للجعل (٢) وإمكانه فيه وعدم قبول الموضوع الخارجي لذلك ؛ إذ لا تنافي في قول القائل (٣) عند استصحاب الوجوب : إنّه وجوب ظاهري ، مع ظهوره في قولنا : الحياة الظاهرية أو الوجود الظاهري كما لا يخفى ، ومن المعلوم أنّ هذا ممّا لا يقضي (٤) بانحصار مورد الأخبار في الأحكام.

فإن قلت : فإذا كان معنى حجّية الاستصحاب في الموضوعات هو الأخذ بأحكامها ، فيرجع النزاع في حجّية الاستصحاب فيها لغوا ؛ لإمكان استصحاب نفس تلك الأحكام والآثار.

قلت : أمّا اوّلا : قد يكون هناك أمور غير موجودة حالة اليقين بوجود الموضوع وأحكام غير محمولة عليه فعلا ، كما إذا كان معلّقا بوجود شيء ، أو حضور زمان كوجوب الفطرة المشروط (٥) بحضور زمان العيد ، ونحو ذلك ، فعند الشكّ في وجود زيد وقت حضور زمان العيد لا يمكن استصحاب وجوب الفطرة ؛ لعدم وجودها قبل ، فلا يعود النزاع (٦) عبثا.

لا يقال : يكفي في الاستصحاب في مثل ذلك (٧) وجودها تقديرا ، كأن يقال : إنّ الفطرة كانت بحيث لو حضر زمان العيد واجبة ، ونشكّ في وجوبها بعد ، فيستصحب ذلك الوجوب التقديري ، وبعد فرض تحقّق التقدير فلا بدّ من الأخذ بوجوبها كما في غيرها من موارد الاستصحاب.

__________________

(١) « ز ، ك » : دخل.

(٢) « ز ، ك » : للجهل.

(٣) « ز » : لا تنافي القول القائل ، وفي « ك » : تنافي لقول القائل.

(٤) « ج » : لا يقتضي.

(٥) « ز ، ك » : المشروطة.

(٦) « ز ، ك » : فلا لغو والنزاع.

(٧) « ج ، م » : + هو.

١٨١

لأنّا نقول : هذه قضيّة انتزاعية وليست من الأحكام الشرعية ، فهي ملحقة بالموضوعات التي لا حاجة إلى استصحابها على زعم الخصم كما لا يخفى ، مضافا إلى أنّ في الاستصحاب (١) التقديري كلاما ستعرفه (٢) إن شاء الله (٣) ، مع إمكان فرض (٤) المثال على وجه لا يجري فيه الاستصحاب التعليقي (٥) كعدم التزكية المترتّب عليه النجاسة ، فافهم.

وأمّا ثانيا : إنّ الاستصحاب في الآثار والأحكام من دون استصحاب الموضوع ممّا لا يعقل بعد الشكّ في وجوده ؛ إذ الموضوع في الاستصحاب ـ كما ستعرف تحقيقه (٦) إن شاء الله (٧) ـ لا بدّ من العلم بوجوده والمفروض في المقام كونه مشكوكا ، واستصحابه يغني عن استصحاب الأحكام ؛ إذ معناه ترتيب تلك الأحكام ، بل لا يعقل ؛ لانتفاء الشكّ فيه ، وفرض العدم كما في صورة تعدّد الأدلّة ممّا لا يجدي في المقام ، لتحقّق مورد الاستصحاب عند تعدّد الأدلّة بعد فرض العدم وارتفاعه بعد فرض عدم الاستصحاب في المقام كما لا يخفى.

__________________

(١) « ج ، م » : استصحاب.

(٢) « ج ، م » : ستعرف.

(٣) « ز ، ك » : ـ إن شاء الله.

(٤) « ز ، ك » : وفق.

(٥) « ج » : العدمي.

(٦) ستعرف في هداية تقوّم الاستصحاب ببقاء الموضوع ص ٣٧٥.

(٧) « ز ، ك » : ـ إن شاء الله.

١٨٢

هداية

[ في التفصيل بين الأحكام الكلّية والأحكام الجزئية ]

قد ينسب إلى الأخباريين التفصيل بين الأحكام الكلّية الشرعية والأحكام الجزئية التي منشأ الاشتباه فيها الموضوعات الخارجية ونفس تلك الأمور ، فقالوا بالحجّية في الأخيرين ، وبعدمها في الأوّل ، فكما أنّ أرباب التفصيل المتقدّم قد أفرطوا فهؤلاء قد فرّطوا كما لا يخفى ، وقد مرّ (١) التنبيه على عدم التعاكس بين التفصيلين كما زعمه المحقّق القمي رحمه‌الله (٢).

ثمّ إنّ هذا التفصيل منهم مبنيّ على أصلهم من أنّ المرجع في الأحكام الكلّية الشرعية عند الجهل والشكّ إلى الاحتياط ، بخلاف الموضوعات كما في أصالة البراءة على ما مرّ تفصيل الكلام فيها ، فلا عبرة بالحالة السابقة ولو كان موافقا للاحتياط فكيف بما إذا كان مخالفة (٣).

وقد تعرّضوا للجواب عن أخبار الاستصحاب تارة بالمعارضة لأخبار الاحتياط ، وأخرى بعدم شمولها للأحكام الكلّية الشرعية. ولهم في بيان الثاني طريقان :

الأوّل (٤) : ما أفاده الشيخ الجليل البارع (٥) رئيس جهابذة (٦) الأخبارية في محكيّ

__________________

(١) مرّ في ص ٦٢.

(٢) « ج ، م » : ـ رحمه‌الله.

(٣) كذا في النسخ ، ولعلّ الصواب : ولو كانت موافقة ... كانت مخالفة.

(٤) سيأتي الثاني منهما في ص ١٨٨.

(٥) « ز ، ك » : ـ البارع.

(٦) « ز ، ك » : ـ جهابذة.

١٨٣

الفوائد الطوسية ، قال (١) ـ بعد قول المصنّف (٢) : « ولا تنقض اليقين بالشكّ » ـ : أقول : هذا إنّما يدلّ على حجّية الأصل بمعنى الاستصحاب لا بمعنى أصالة (٣) الإباحة ، ولا دلالة له على الاستصحاب في الحكم الشرعي ، بل هو مخصوص باستصحاب الحالة السابقة التي ليست من نفس الأحكام الشرعية ، سواء كانت مخالفة للأصل أم موافقة له (٤) ، مثلا إذا تيقّن الإنسان أنّه توضّأ ثمّ شكّ في أنّه أحدث وبالعكس ، أو تيقّن دخول الليل ثمّ شكّ في طلوع الصبح (٥) وبالعكس ، أو تيقّن وقوع العقد ثمّ شكّ في التلفّظ بالطلاق ، أو تيقّن في وقوع الطلاق ثمّ شكّ في الرجعة أو في تجديد العقد ، أو تيقّن طهارة ثوبه ثمّ شكّ في ملاقاة البول له ، أو نحو ذلك ممّا ليس من نفس الأحكام الشرعية وإن ترتّب عليه بعضها ، فإنّ هذه الأشياء لا تحتاج (٦) إلى نصّ ، وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق (٧) ؛ لأنّ المكلّف لا يمكنه الرجوع في هذه الأشياء إلى المعصوم ، وإذا رجع إليه فإنّه لا يعلم الغيب كلّه ، وهل يتصوّر عاقل أن يقول للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبرني لما أحدثت بعد وضوئي ، وهل خرج منّي منيّ (٨) بعد الغسل؟ وهل طلّقت زوجتي أم لا؟ ولمّا اقتضت الحكمة لرفع (٩) الحرج والمشقّة أن ينصّ الشارع على العمل في هذه الأشياء التي ليست من الأحكام الشرعية بقواعد كلّية من أصل واستصحاب ونحوهما على تفصيل يستفاد من النصّ المذكور في محلّه ، حكم العامّة بمساواة الأحكام الشرعية الإلهية لتلك الأمور الدنيّة (١٠) الدنيوية ، بناء على أصلهم من حجّية القياس.

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ قال.

(٢) كذا في النسخ ، والصواب « المعاصر » لأنّه كان في مقام ردّ قول بعض معاصريه. كما سيأتي التصريح به في أواخر كلامه.

(٣) في المصدر : الأصالة.

(٤) « ز ، ك » : أم لا.

(٥) « ك » : الفجر.

(٦) « ج ، م » : المصدر : لا يحتاج.

(٧) في المصدر : تكليف ما لا يطاق.

(٨) المثبت من « ج ، ز » وهو موافق للمصدر ، وفي « ك ، م » : شيء.

(٩) « ج » : برفع.

(١٠) « ج ، م » : الدينية.

١٨٤

وغفل عن الفرق بين الأمرين بعض المتأخّرين من الخاصّة مع أنّ النصوص بالفرق بين المقامين كثيرة ، وإلاّ لزم تكليف ما لا يطاق ، أو رفع التكاليف كلّها أو أكثرها والاستغناء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام بالأصل والاستصحاب كما صرّح به بعض علماء العامّة.

ولا يمكن المعاصر أن يجيب (١) بما ورد من وجوب طلب العلم. لأنّه يقول : لا (٢) المراد بالعلم الظنّ الحاصل من الدليل الشرعي كالأصل والاستصحاب ، ولا يجب بعد ذلك الرجوع إلى المعصوم عليه‌السلام عندهم ، ولأنّهم يدّعون أنّه لا يحصل من الأخبار غير الظنّ حتّى مع المشافهة ؛ لأنّ دلالة الألفاظ ظنّية كما زعموا ، فيلزم من وجوب الرجوع بعد حصول الظنّ الشرعي تحصيل الحاصل.

وممّا يؤيّد الاختصاص هنا بما ليس من نفس الأحكام الشرعية أنّ هذا الحديث إنّما ورد في نواقض الوضوء إذا حصل الشكّ في غلبة النوم على السمع وعدمه ، وفي الشكّ بين عدد الركعات الصادرة عن المصلّي.

وممّا يؤيّد ذلك ويوضحه أنّهم عليهم‌السلام قالوا (٣) : « لا تنقض اليقين أبدا بالشكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر » (٤) فإذا لم يحصل للمكلّف يقين بتجدّد حالة أخرى يمكنه الاستدلال بهذا الحديث ، وإذا حصل له اليقين بتجدّد حالة أخرى كخروج المذي عن المتوضّئ ووجود الماء عند المصلّي بتيمّم (٥) ، وحصل عنده شكّ (٦) في حكمهما (٧) الشرعي ، وهو الذي ينصرف إليه إطلاق الاستصحاب عندهم ، فلا يمكنه الاستدلال بهذا الحديث ؛ لأنّه قد نقض اليقين السابق بيقين وشكّ لا بشكّ منفرد ، ولم يقل في الحديث : لا تنقض اليقين بالشكّ وباليقين والشكّ وإنّما تنقضه بيقينين آخرين (٨) ، فلا يكون ذلك دليلا على

__________________

(١) في المصدر : يجب.

(٢) في « ك » : « إنّ » بدل « لا ».

(٣) « ز ، ك » : ـ قالوا.

(٤) تقدّم في ص ٨٨.

(٥) « م » : تيمّم.

(٦) « ز ، ك » : الشكّ.

(٧) « ج ، ك » والمصدر : حكمها.

(٨) « ز ، ك » : بيقين آخر.

١٨٥

الاستصحاب ، على أنّه إنّما يدلّ على أنّ الشكّ لا ينقض إلاّ باليقين ، فلا دلالة له على عدم نقض الشكّ بالظنّ ، ولا الظنّ بالشكّ ، ولا اليقين بالظنّ ، ولا الظنّ بالظنّ ، ولا اليقين باليقين والشكّ ، أو به وبالظنّ ، وهم يستدلّون في جميع تلك الصور بالاستصحاب ، فلا دلالة للحديث على حجّيته مطلقا ، على أنّ اللام في « اليقين » يحتمل كونها للعهد الذكري ؛ لأنّه قال : « فإنّك كنت على يقين من وضوئك ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ » (١) فلا دلالة له (٢) على غير الصورة المفروضة التي هي موضوع (٣) الحديث ، وهي ليست من الأحكام (٤) الشرعية ، والقياس باطل ، والاستدلال بالفرد على الطبيعة غير معقول خصوصا في الأصول هذا (٥) ، انتهى.

والجواب عمّا أفاده ذلك الشيخ الجليل أخيرا ـ بقوله : وممّا يؤيّد ذلك ويوضحه ، إلخ ـ إنّما يستفاد عمّا أسلفنا ذكره في الهداية السبزوارية ، ونقول في المقام توضيحا (٦) : أوّلا : إنّ النجاسة المشتبهة باعتبار حدوث أمر خارجي أو الطهارة المشكوكة بواسطة ملاقاة رطوبة مشتبهة ، ممّا لا ينبغي الاستصحاب فيها ؛ لانتقاض اليقين بالشكّ في البقاء و (٧) اليقين بحدوث الأمر الخارجي على ما زعمه ، مع أنّ صدر الكلام المنقول منه ينادي بخلافه كما لا يخفى. والحاصل أنّ النقض في الشبهة الموضوعية عند الشكّ في مانعية العارض ليس إلاّ بيقين وشكّ ، فما هو الجواب عنه هو الجواب عن غيره.

وثانيا : إنّ النقض لا يحصل إلاّ بالشكّ أو باليقين على الخلاف ؛ لأنّ المكلّف بعد العلم بوجوب شيء عليه إمّا أن يأتي به ، أو لا يأتي به ، لا كلام على الأوّل ، وعلى الثاني : فإمّا (٨) أن يتركه عصيانا ، أو يعلم بخلافه ، أو يشكّ فيه ، فاليقين لا يتصوّر

__________________

(١) تقدّم في ص ٨٨.

(٢) « ز ، ك » : له أبدا.

(٣) « ج ، م » : موضع ، وفي المصدر : موضوع بالحديث.

(٤) في المصدر : من نفس الأحكام.

(٥) الفوائد الطوسية : ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٦) « ز ، ك » : ـ توضيحا.

(٧) « ز ، ك » : أو.

(٨) « ز ، ك » : وإمّا.

١٨٦

انتقاضه إلاّ بالشكّ أو اليقين على الخلاف ، والإمام عليه‌السلام إنّما منع عن عدم ترتيب الآثار عند نقض اليقين بالشكّ ، وحكم بوجوب الإتيان فيما لو كان المعلوم سابقا واجبا ، ولا مدخلية لليقين بوجود شيء آخر للنقض على ما هو غير خفيّ على أوائل العقول.

ولقد أجاد المحقّق القمي رحمه‌الله (١) حيث أورد على السبزواري ـ في جملة كلام له ـ بأنّ المتبادر من الخبر أنّ موضع الشكّ واليقين وموردهما شيء واحد ، فاليقين بوجود المذي لم يرد على اليقين بالطهارة ، بل هما أمران متغايران (٢) ، انتهى.

ولعمري إنّ وضوح فساد هذه التوهمات ممّا يغني عن إطالة الكلام في إبطالها ، ولهذا لم يفد أستادنا المرتضى في الجواب عنها عدا ما ذكر ، إلاّ أنّ الأنسب أن نذكر (٣) بعض ما يرد في ضمن إفادات هذا الشيخ الجليل ، ولو لا أنّ المذكور من إفاداته على ما أودعه (٤) لكان ترك التعرّض له (٥) أولى.

فنقول : يرد عليه أوّلا : أنّ الفرق بين الأحكام والموضوعات في مثل هذه الأخبار العامّة المسوقة لبيان المشتبهات ممّا لا يصغى إليه ، وليت شعري هل يتصوّر عاقل فرقا بين أن يقول الشارع : أنت في سعة ما لم تعلم وجوب شيء ، كما في الشبهة الوجوبية التي أجمعت الأمّة على البراءة فيها خلا ما يظهر من بعض متعصّبي الأخبارية (٦) ، وبين أن يقول : يجب أن يعمل فيما علم وجوبه سابقا بالأحكام السابقة مثلا وعامله معاملة المعلوم؟ فلو أنّ مثل هذا القول يوجب القول بالاستغناء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام فهؤلاء أوّل من يقول به ، فإنّ مقام الشبهة ممّا لا بدّ من العمل فيه بأصل (٧) ، والأصل عندهم هو الاحتياط ، وعند غيرهم يختلف موارده بحسب اختلاف الأدلّة ، وكيف

__________________

(١) « ج ، م » : ـ رحمه‌الله.

(٢) القوانين ٢ : ٦١ وفي ط : ص ٢٧٠.

(٣) « ز » : ـ نذكر.

(٤) « ز ، ك » : ـ على ما أودعه.

(٥) « ز ، ك » : لها.

(٦) هو أمين الأسترآبادي وبعض متابعيه كما تقدّم عنه في ج ٣ ، ص ٤٠٨.

(٧) « ج » : بالأصل.

١٨٧

يحتمل هذا القول في حقّ المفيد مع أنّه من أجلاّء القوم؟ وكيف يوجب الاستغناء في عين الاحتياج لما هو مأخوذ منهم عليهم‌السلام كما لا يخفى؟ مع أنّ ما ذكره في صدر كلامه : فإنّه لا يعلم الغيب كلّه ، فيه ما لا يخفى وإن لم نقل بإحاطة علمهم عليهم‌السلام فعلا.

وثانيا : أنّ بعد فرض حصول الظنّ من الأصل والاستصحاب في جميع موارده والقول باعتباره من هذه الجهة ، فلا نسلّم لزوم تحصيل الحاصل فيما لو راجع إلى الحجّة وإن قلنا بظنّية الخطابات الشفاهية (١) ؛ إذ لم نجد قائلا بمكافأة الظنون المستفادة من الأصول للأدلّة الاجتهادية فكيف عن قول المعصوم وقد ادّعي الإجماع على ذلك؟ فالقول بذلك إنّما هو من خرافات العامّة وأصحابنا رضوان الله عليهم (٢) أجلّ (٣) شأنا وأعظم قدرا من (٤) ذلك ، مع أنّ المقدّمات المذكورة بأجمعها ممنوعة عند التحقيق كما لا يخفى.

وأمّا ما أفاده من زعمهم ظنّية الدلالة اللفظية ، فليس بأبعد من دعوى قطعية أسناد الأخبار (٥) الآحاد.

وثالثا : أنّ من المقرّر في مقامه عدم تخصيص العامّ بالمورد ؛ ضرورة عدم مدخليته في ذلك قطعا ، وبعد ما فرض من عموم قوله : « لا تنقض » فلا وجه للتخصيص ، على أنّ السائل إنّما سأل عن حكم الموضوع المشتبه كما لا يخفى.

ورابعا : أنّ ما ذكره في العلاوة ممّا لا يستقيم بوجه ؛ إذ بعد القول بحجّية الظنّ بواسطة دليل شرعي فالنقض بالظنّ إنّما هو نقض باليقين ، وذلك ظاهر في الغاية.

وأمّا ما أفاده من حديث العهد فقد مرّ الكلام فيه فيما تقدّم بما لا مزيد عليه.

الثاني (٦) : ما زعمه أمينهم ، قال في الفوائد المكّية ـ على ما حكاه في الوافية بعد

__________________

(١) « ز ، ك » : الشخصية.

(٢) « ز ، ك » : ـ رضوان الله عليهم.

(٣) « ج ، م » : فهم أجلّ.

(٤) « ز ، ك » : عن.

(٥) « ج ، م » : أخبار.

(٦) تقدّم الأوّل منهما في ص ١٨٣.

١٨٨

إيراد الأخبار (١) الدالّة على الاستصحاب ـ : لا يقال : هذه القاعدة تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام الله كما ذهب إليه المفيد والعلاّمة من أصحابنا والشافعية قاطبة ، وتقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفية بعدم جواز العمل به.

لأنّا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها (٢) كثير من فحول الأصوليين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنية تارة بما ملخّصه أنّ صور الاستصحاب المختلف فيها عند النظر الدقيق والتحقيق راجعة إلى أنّه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه ، ومن المعلوم أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة (٣) إلى استواء (٤) حكم موضوع (٥) إلى موضوع آخر يتّحد معه بالذات (٦) ويغايره بالقيد والصفات ، ومن المعلوم عند الحكيم أنّ هذا المعنى غير معتبر شرعا وأنّ القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.

وتارة بأنّ استصحاب الحكم الشرعي ، وكذا الأصل ، أي الحالة التي إذا خلّي الشيء ونفسه كان عليها ، إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما ، وقد ظهر فى محالّ النزاع بيان ذلك : أنّه تواتر الأخبار منهم عليهم‌السلام بأنّ كلّ ما يحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة ورد فيه خطاب وحكم حتّى أرش الخدش ، وكثير ممّا ورد مخزون عند أهل الذكر عليهم‌السلام ، وأنّه (٧) ورد في محالّ النزاع أحكام لا نعلمها بعينها ، وتواترت الأخبار عنهم بحصر المسائل في ثلاث : أمر بيّن رشده ، وبيّن غيّه أي مقطوع به لا ريب فيه ، وما ليس هذا ولا ذاك ، وبوجوب التوقّف في الثالث (٨) ، انتهى كلامه بألفاظه المحكيّة في الوافية.

__________________

(١) « ج » : أخبار.

(٢) « ج ، م » : حلّها ، وكتب عليها في « م » : جوابها.

(٣) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : بالحقيقة.

(٤) في المصدر : إسراء.

(٥) « ج ، م » والمصدر : ـ موضوع.

(٦) « ز ، ك » : ذاتا.

(٧) « ز ، ج ، م » : أنّه ، وفي المصدر : فعلم أنّه.

(٨) الوافية : ٢١٢ ـ ٢١٣.

١٨٩

ومحصّل ما ذكره في الوجه الأوّل مع توضيح منّي هو أنّه لا شكّ في أنّ القيود المعتبرة في القضيّة المعلومة المتيقّنة من زمان أو مكان أو شرط أو حال أو إضافة أو وصف ونحو ذلك ، ممّا يجب أن تكون (١) باقية حال الشكّ في تلك القضيّة على وجه يصدق عليها أنّها قضيّة متيقّنة (٢) فشكّ فيها حتّى يكون موردا للأخبار المذكورة.

وأمّا إذا تبدّلت القيود المأخوذة فيها بعد الأصل المقرّر عند العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد واختلافها بالوجوه والاعتبار ، فيحتمل أن لا يكون المصلحة المقتضية للحكم الأوّل باقية ، فالقضيّة المشكوكة بعد انتفاء قيد أو ازدياد حالة تصير واقعة أخرى مباينة للواقعة الأولى ، وإلحاق الأخيرة بها عند الشكّ ليس إلاّ من القياس الباطل ، والاستصحاب في الأحكام الكلّية الإلهية إنّما هو من هذا القبيل بخلافه في الموضوعات فإنّ الشكّ في بقاء الطهارة بعد الشكّ في حدوث البول وعروضه إنّما هو على وجه لا يختلف موضوع الحكم في القضيّة المتيقّنة الأولى ؛ لعدم تبدّل قيد من قيوده أو حال من أحواله.

وأمّا (٣) الجواب عنه ، فتارة بالنقض بالاستصحاب في الموضوعات فيما إذا كان الشكّ في رافعية العارض ، كما إذا شكّ في الطهارة بعد حدوث رطوبة مشتبهة ، فإنّ الموضوع في القضيّة المتيقّنة قد ارتفع قيد من قيوده باعتبار حدوث تلك الرطوبة مع أنّه يقول به ، أقول بل بمطلق الموضوعات ؛ إذ لا يعقل وجود الشكّ وارتفاع اليقين إلاّ بواسطة حدوث حالة أو ارتفاع شيء يحتمل اعتباره في الموضوع أو في الحكم ولو على وجه يكون اليقين حاصلا في تلك الحالة. وبالجملة : النسبة المعتبرة في القضيّة لا تختلف (٤) علما وشكّا إلاّ باعتبار اختلاف شيء معتبر في تلك النسبة.

لا يقال : يحتمل أن يكون هناك شيء معه يحصل اليقين على وجه لا مدخل له في

__________________

(١) في النسخ : يكون.

(٢) « ز ، ك » : عليها الناقضية منتجة.

(٣) « ج ، م » : ـ أمّا.

(٤) في النسخ : لا يختلف.

١٩٠

حصوله إلاّ حصوله في حالة.

لأنّا نقول : فبعد ارتفاعه لا يبقى (١) الشكّ كما لا يخفى.

ولو رام إلى أنّ الموضوعات الخارجية ـ كوجود زيد ووجود الطهارة السابقة ـ ممّا لا يعقل فيه اختلاف الموضوع بواسطة اختلاف القيود ؛ لعدم اختلاف الوجود الشخصي ، وعدم تقدّره (٢) ، لامتناع قبوله له ، بخلاف الأحكام الشرعية فإنّها من مقولة الطلب واختلافه باختلاف القيود والحالات ممّا لا تدانيه (٣) ريبة ، فيجوز الاختلاف في الأحكام دون الموضوعات.

فنقول في الذبّ عنه أوّلا : إنّ (٤) الأحكام الجزئية الشرعية ممّا يختلف (٥) أيضا ؛ لكونها أمورا جعلية قابلة للاختلاف (٦) مع أنّه لا مانع من استصحابها عندهم.

وثانيا : إنّ الوجود وإن كان لا يختلف باختلاف القيود وليس من الأمور المتقدّرة إلاّ أنّ له مراتب شتّى مختلفة باعتبار اختلافات الماهيات المختلفة باختلاف الاستعدادات المختلفة باختلاف الأمور المكتنفة بالماهيّات واللواحق العارضة لها والقيود المعتبرة فيها ، فوجود زيد بعد اكتناف حالة غير موجودة بالماهيّة المعروضة له يحتمل اختلافه كالأحكام الطلبية.

والحاصل : أنّ المستفاد من كلام الفاضل المذكور انحصار الشكّ في الموضوعات في الشكّ في الرافع ، وهذا ليس على ما ينبغي ؛ لإمكان الشكّ في الرافعية والشكّ في المقتضي كما عرفت ومع ذلك لا مفرّ من اختلاف موضوع المسألة بحدوث نقيض القيد المعتبر فيه كما لا يخفى.

وأخرى بالحلّ ويتمّ الكلام فيه في مقامين :

__________________

(١) « ج ، م » : لا ينبغي.

(٢) « ز ، ك » : تقديره.

(٣) « ج ، م » : يدانيه.

(٤) « ج ، م » : ـ إنّ.

(٥) « ك » : تختلف.

(٦) « ز ، ك » : لكونها قابلة الاختلاف.

١٩١

[ المقام ] الأوّل : في الشكّ في رافعية العارض ، ولا بدّ من تمهيد مقدّمة وهي : أنّه لا ريب في أنّه قد يكون للمعلول بعد وجوده بوجود (١) علّته التامّة شيء يزيله يعبّر عنه بالرافع كالبول للطهارة وكالطلاق للزوجية ، ولا شكّ في أنّ عدم الرافع ليس معتبرا في وجود المعلول كعدم المانع ، بل الرافع لا يتحقّق إلاّ بعد الوجود فكيف يعتبر عدمه فيه؟ فهو إذا علّة لرفع المحمول عن الموضوع وليس معتبرا في الموضوع ، فلو شكّ في أنّ الشيء الفلاني رافع أو لا يشكّ في استمرار الحكم معه من دون احتمال تغيّر (٢) الموضوع ؛ إذ باختلاف العلّة واحتمال حدوثه أو نفيه لا يختلف الموضوع.

وإذ قد تقرّر هذه (٣) ، فنقول : إذا شكّ المكلّف بعد خروج المذي في أنّه متطهّر أم لا بعد العلم بالطهارة ، فلا بدّ من القول بالاستصحاب ، والموضوع غير مختلف ؛ لما قرّر في التمهيد من أنّ الطهارة السابقة ممّا لا مدخل لعدم الرافع فيه ولا يكون ذلك من (٤) قيوده ولواحقه ، والظاهر أنّ هذا المعنى ممّا يسلمه الخصم أيضا وزعم أنّ الشبهة الموضوعية من هذا القبيل ، ولولاه لما صحّ الحكم في الشبهة الموضوعية أيضا.

فإن قلت : إنّ الرافع وإن لم يكن عدمه (٥) معتبرا في وجود المعلول في الآن الأوّل إلاّ أنّ عدمه معتبر في البقاء في الآن الثاني ، فيختلف موضوع المسألة باحتمال الرافعية كما في المانع. وتوضيحه : أنّ عدم المانع لمّا كان مأخوذا في وجود الحكم المعلول فعند احتمال حدوثه يختلف الموضوع ؛ لأنّ المعلوم هو الحكم عند عدم ما يحتمل مانعيته ، والحكم بعد هذه الملاحظة ومقيّدا بهذه الجهة يخالف الحكم بدونها ، والرافع عدمه وإن لم يكن معتبرا في أصل الوجود ولكنّه معتبر في البقاء ، فيختلف موضوع الحكم.

قلت : المستصحب هو الوجود لا البقاء ، وإنّما الاستصحاب (٦) يؤثّر في البقاء ،

__________________

(١) « ج ، م » : لوجود.

(٢) « ج ، م » : لتغيّر.

(٣) « ج » : هذا.

(٤) « م » : من ذلك.

(٥) « ز ، ك » : ـ عدمه.

(٦) « ز ، ك » : المستصحب.

١٩٢

فبالاستصحاب يحكم بالبقاء ، والموضوع هو نفس الوجود ، مثلا الطهارة السابقة عند حدوث المذي مستصحبة وبالاستصحاب باقية ، والموضوع هو وجود الطهارة ، ولا مدخل فيه لعدم (١) الرافع ، ويوضحه ملاحظة حال الطلاق بالنسبة إلى النكاح فيما إذا شكّ في وقوعه بلفظ غيره كـ « أنت خليّة » ونحوه ، فإنّ الزوجية السابقة ممّا لا يؤثّر فيها عدم الطلاق وإن كان يؤثر في البقاء ، والاستصحاب بعد عدم تغيّر (٢) الموضوع وعدم اختلاف القضيّة المشكوكة والقضيّة المعلومة ، ممّا يقضي (٣) بالبقاء ، والبقاء ليس موضوعا كما لا يخفى.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام إلاّ أنّه لا يخلو عن شيء ، فتأمّل.

وأمّا المقام الثاني : فيما إذا كان الشكّ في المقتضي ، والمانع ممّا له مدخل في وجود الحكم المعلول ، فنقول : قد تقرّر في محلّه ـ كما ستعرف في الخاتمة (٤) ـ وجوب إحراز الموضوع في الاستصحاب ، وهذا الشرط بإجماله ممّا لا خلاف فيه ولا ريب يعتريه وإن كان قد يخالف بعضهم في بعض مقاماته ، فلا يصحّ الاستصحاب إذا تبدّل الموضوع بموضوع آخر ، بل والمحمول أيضا ، أو جزء منهما ، أو قيد منهما ، فلا بدّ أن لا يكون القضيّة المشكوكة مخالفة للقضيّة المتيقّنة سوى ما هو المفروض من اليقين في إحداهما والشكّ في الأخرى ، بل لو احتملنا تبدّل الموضوع أو ما يعتبر فيه من حال أو وصف أو شرط ، لا يحكم بالاستصحاب فيه أيضا ، إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ (٥) المعيار في تميّزه أيّ شيء هو؟ فقد يقال بأنّ التحقيق هو التدقيق في أمره ، فعلى هذا فالأمر كما أفاده الأمين ، وقد يقال بأنّ المعيار في التميّز هو العرف ، فكلّ قضيّة يكون متّحدة مع

__________________

(١) « ج ، م » : عدم.

(٢) « ج » : تغيير.

(٣) « ج » : تقتضي.

(٤) المراد بها هداية تقوّم الاستصحاب ببقاء الموضوع ص ٣٧٧.

(٥) « ج ، م » : ـ أنّ.

١٩٣

القضيّة الأخرى عرفا وإن كان قيد من قيود موضوعه مرفوعا ، فالموضوع باق والقضيّة متّحدة ويجري فيها الاستصحاب ، فمن جملة ما لا يعتني العرف بشأنه في اختلاف الموضوع هو الزمان ؛ لأنّ المفهوم عندهم في القضيّة القائلة بأنّ زيدا كان قائما ـ مثلا ـ هو كون الرابطة الزمانية ظرفا لوقوع النسبة فيها لا قيدا للموضوع أو المحمول والمظروف من حيث هو مظروف ومأخوذ (١) بهذه الملاحظة وإن كان يختلف باختلاف الظرف عند النظر الدقيق ، إلاّ أنّ أهل العرف يتسامحون فيه أيضا ويحكمون بالاتّحاد ، فالقضيّة المعلومة ممّا لا مخالفة لها عرفا للمشكوكة منها ، فيكون من مجاري الاستصحاب ، وإن كان الزمان مختلفا فيهما ، وكذا كلّ ما يعبّر عندهم بالحال.

وبالجملة : فنحن لو احتملنا اختلاف الموضوع وتبدّله لا نحكم بجريان الاستصحاب إلاّ أنّ الكلام معهم يرجع (٢) إلى الصغرى ، مثلا لو استفدنا جواز تقليد المجتهد العادل الحيّ من دليل شرعي فبعد انتفاء قيد من قيوده كالحياة أو العدالة واحتمال اعتباره في الموضوع لا نحكم بجواز التقليد للاستصحاب على ما هو ظاهر ، بخلاف ما لم نحتمل ذلك وإن انتفى القيد ولو بواسطة الرجوع إلى دليل الحكم على وجه تطمئنّ (٣) النفس (٤) بأنّ الموضوع هو الذات المجرّدة ، وربّما يختلف التعبير في ذلك كما إذا قال : « الماء المتغيّر كذا » أو قال : « الماء إذا تغيّر حكمه كذا » فإنّ الظاهر من الأوّل هو كون الماء المقيّد بالتغيّر موضوعا للحكم فلو زال القيد لا مجال للاستصحاب فيه ، ومن الثاني كون (٥) الماء نفسه موضوعا.

فالحاصل : أنّ دعوى انحصار صور الاستصحاب بتمامها فيما زعمه باطلة يكذّبها الوجدان فضلا عن البرهان ، وسيجيء لذلك زيادة تحقيق (٦) في الخاتمة (٧) إن شاء الله

__________________

(١) « ج ، م » : مأخوذا.

(٢) « ز ، ك » : راجع.

(٣) في النسخ : يطمئن.

(٤) « ك » : به النفس.

(٥) « ز ، ك » : بكون ، وفي « م » : يكون.

(٦) « ز ، ك » : بيان.

(٧) المراد بها هداية تقوّم الاستصحاب ببقاء الموضوع في ص ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

١٩٤

العزيز. هذا تمام الكلام في الجواب عن أخبار الاستصحاب بعدم (١) الشمول.

وأمّا الجواب عمّا أفاده الأمين أخيرا بالمعارضة ، بل و (٢) حصر المسائل في ثلاثة ، فبأنّ الأخبار المذكورة على ما (٣) هو واضح لمن تدبّر سياقها حاكمة على أخبار الاحتياط على تقدير دلالتها على لزوم التوقّف حكومة الأدلّة الاجتهادية الخاصّة على الأصول العملية ؛ لارتفاع موضوعها بالاستصحاب ، إذ بعد وجوب الأخذ بالحالة السابقة ولزوم ترتيب الآثار المتقدّمة على المتيقّن حال الشكّ بواسطة الأخبار الآمرة به ، فلا يبقى شكّ و (٤) شبهة في موارد الاستصحاب حتّى يكون موردا للاحتياط ويكون من بيّن الرشد ؛ لأنّ لموضوع الشكّ في الشريعة أحكاما : تارة يجب العمل بالبراءة ، وأخرى بالاحتياط ، وأخرى بالاستصحاب ، ومرّة بالتخيير ، على حسب اختلاف مواردها ، وفيما يكون مجرى الاستصحاب لا يجري فيه غيره من الأصول ، لعدم تحقّق مواردها.

وقد يتمسّك في دفعه بالنقض بالموضوعات ؛ إذ لو لا حكومة الأدلّة الدالّة على الاستصحاب لما جاز العمل به فيها أيضا.

اللهمّ إلاّ أن يدفع بأنّ العمل بها في تلك الموارد وفاقي فلا يرد نقضا ، ولكنّ الإنصاف أنّها دعوى دون إثباتها خرط القتاد ؛ لظهور العموم فيها بحسب اللفظ ، ومن الغريب أنّ المعصوم عليه‌السلام إنّما قدّم الاستصحاب على الاحتياط اللازم اتّفاقا ، ومنه يظهر وجه الورود في غير المورد أيضا ، فتدبّر.

__________________

(١) « ج ، م » : لعدم.

(٢) « ز ، ك » : ـ و.

(٣) « ج » : على ما ستعرف.

(٤) « ز ، ك » : ـ شكّ و.

١٩٥
١٩٦

هداية

[ في التفصيل بين كون دليل المستصحب الإجماع أو النصّ ]

الدليل الدالّ على الحكم الثابت في الزمن الأوّل : إمّا أن يكون لفظيا أو لا :

فعلى الأوّل : فإمّا أن يكون اللفظ بعمومه وإطلاقه شاملا للزمان الثاني الذي وقع الشكّ في ثبوت الحكم فيه أو لا ، وعلى الأوّل : فلا حاجة إلى استصحاب الحكم ؛ لكفاية اللفظ عنه ، نعم قد يتوقّف صحّة الاستدلال باللفظ على (١) الاستصحاب لكنّه لا مدخل له للحكم المدلول بالدليل اللفظي ، كأصالة عدم التخصيص واستصحاب عدم التقييد (٢) ونحوهما ، فإنّ الاستناد بالعامّ في (٣) جريان الحكم السابق عند احتمال التخصيص لا يتمّ بدون ذلك ، وقد يصير الحكم في الزمان الثاني مظنون الإرادة من نفس اللفظ مع قطع النظر عن إعمال الأصول المعهودة ، فلا حاجة إليها في الاستدلال أيضا ، ويعبّر عن هذا الاستصحاب في لسان القوم باستصحاب حال الدليل ، والظاهر أنّ تسمية هذا القسم بالاستصحاب إنّما هو باعتبار استصحاب عدم التخصيص ، وإلاّ فلا يخلو عن مسامحة ؛ لانتفاء شروط تعقّل الاستصحاب كما لا يخفى. وعلى الثاني : فإمّا أن يكون اللفظ محتمل الدلالة في الزمان الثاني بحيث لا نعلم (٤) المراد منه في حالة الشكّ ، فيحتمل أن يكون مرادا من اللفظ ويحتمل أن لا يكون ، وإمّا أن لا يكون

__________________

(١) « ز » : إلى ، وسقطت من نسخة « ك ».

(٢) « ك » : القيد ، وفي « ز » : التقيد.

(٣) « ز ، ك » : « و » بدل « في ».

(٤) « ز ، ك » : لا يعلم.

١٩٧

كذلك بحيث نعلم بعدم إرادة الحكم في الزمان الثاني من اللفظ ، ففي هذين القسمين لو أريد إثبات الحكم في الزمان الثاني يحتاج إلى الاستصحاب.

فمحلّ الاستصحاب فيما لو كان الدليل لفظيا في مقامين : أحدهما : ما كان الدليل مجملا كالقسم الثاني ، وثانيهما : ما كان الدليل ساكتا عن حال زمان الشكّ.

وعلى الثاني : فإمّا أن يكون الدليل هو العقل ، وإمّا أن يكون هو الإجماع ، لا كلام في المقام على الأوّل ؛ لما سبق تحقيق الكلام فيه فيما تقدّم ، وأمّا على الثاني فالإجماع على طريقة العامّة لو تحقّق في مورد فحكمه حكم اللفظ فيما لو كان ساكتا إذا لم يكن حال الشكّ أيضا إجماعيا ، إذ هو حينئذ دليل بنفسه فإمّا أن يكون موجودا في الحالين ، أو مختصّ بالزمان الأوّل ، فعلى الأوّل لا وجه للاستصحاب ، وعلى الثاني فهو محلّ الاستصحاب أيضا ؛ لسكوت الإجماع عن الحالة الثانية. وأمّا على طريقة المتقدّمين من أصحابنا فحكمه حكم اللفظ بعينه ، لأنّ المفروض كشفه عن قول المعصوم ولفظه ، وهو مختلف. وأمّا على طريقة الحدس فهو أيضا على قسمين : فتارة : على نحو العموم بمعنى حصول القطع برضاء المعصوم في الحكم الفلاني في الحالتين ، وأخرى : على نحو السكوت ، فعلى الأوّل لا استصحاب ، وعلى الثاني فهو محلّ الاستصحاب.

وقد يكون الدليل على وجه يعلم منه نفي الحكم في الزمان الثاني ، وهذا كما يتصوّر في الأدلّة اللفظية كذلك يتصوّر في الإجماع أيضا على الوجوه المختلفة من الطرق كما هو ظاهر.

وقد يكون الدليل اللفظي مردّدا بين الأقسام المذكورة فحكمه حكم الساكت.

فإذا أقسام اللفظ خمسة فإنّه : إمّا دالّ على الحكم في الزمان الثاني ، أو ناف له ، أو مجمل ، أو ساكت ، أو مردّد ، لا استصحاب (١) على الأوّلين ، ومحلّه على الأواخر. وأقسام

__________________

(١) « ك » : ولا استصحاب.

١٩٨

الإجماع على طريقة العامّة ثلاثة لأنّه : إمّا دالّ أو ساكت أو ناف ، إذ لا إجمال ولا ترديد فيه كما لا يخفى ، فلا استصحاب على الأوّل والأخير بخلاف الثاني ، وأقسامه على الطريقة كأقسام اللفظ. وعلى (١) طريقة المتأخّرين والحدس فله أقسام ثلاثة ؛ إذ لا إجمال ولا ترديد فيه ، يجري الاستصحاب في قسم منها دون القسمين الأخيرين (٢).

فظهر من جميع ما تقدّم توضيحه أنّ مجرّد قابلية الحكم للبقاء في الحالة الثانية يكفي في الاستصحاب ولا مدخل للدليل فيه ، ولا يتفاوت الحال في ذلك ، سواء كان هو الإجماع أو غيره.

وقد ينسب إلى الغزالي التفصيل بين ما إذا كان الإجماع دليل ثبوت المستصحب فلا يجري فيه الاستصحاب ، وبين ما إذا كان الدليل نصّا فيجري فيه الاستصحاب ، واستند في ذلك ـ على ما هو المشهور منه ـ إلى منافاة الإجماع للخلاف ، فلا يمكن استصحاب حال الإجماع عند الشكّ بخلاف النصّ لإمكان الخلاف مع النصّ.

وأجاب عنه جملة منهم تارة بالنقض بالنصّ فيما لو كان ساكتا أو مجملا ؛ لعدم دلالته في (٣) محلّ الخلاف والشكّ ، وأخرى بالحلّ بأنّ الاستصحاب هو الدليل في الزمان الثاني نظرا إلى الأدلّة المعهودة على اختلاف المشارب لا الإجماع ، فمنافاته للخلاف ممّا لا ضير فيه فيما هو المقصود.

والتحقيق : أنّ العبارة المنقولة من الغزالي ممّا لا دلالة فيها على التفصيل المذكور بوجه وهي هذه على ما حكاها في النهاية على ما في شرح الوافية للسيّد في المتيمّم إذا وجد الماء في الأثناء و (٤) في المتطهّر إذا خرج منه (٥) شيء من غير السبيلين بعد ما استند الشافعي للمضيّ (٦) والبقاء إلى الاستصحاب (٧) ، قال : المستصحب إن أقرّ بأنّه لم يقم دليلا

__________________

(١) « ج ، م » : ـ على.

(٢) « ز ، ك » : الآخرين.

(٣) « ج ، م » : دلالته على في.

(٤) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : أو.

(٥) « ج ، م » : ـ منه.

(٦) « ج ، م » : إلى المضيّ.

(٧) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الاستصحابات.

١٩٩

في المسألة ، بل قال : أنا ناف ولا دليل على النافي ، فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي ، وإن ظنّ إقامة دليل فقد أخطأ. فإنّا نقول : إنّما يستدام الحكم الذي دلّ الدليل على دوامه ، وهو إن كان لفظ الشارع فلا بدّ من بيانه ، فلعلّه يدلّ على دوامها (١) عند عدم الخروج (٢) لا عند وجوده ، وإن دلّ بعمومه على دوامها عند العدم والوجود معا كان ذلك تمسّكا بالعموم ، فيجب إظهار دليل التخصيص ، وإن كان بإجماع والإجماع إنّما انعقد على دوام الصلاة عند العدم دون الوجود ، ولو كان الإجماع شاملا حال الوجود كان المخالف له خارقا للإجماع ، كما أنّ المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الشمس خارق للإجماع ؛ لأنّ الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الخروج وعدم الماء ، فإذا وجد فلا إجماع ، فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم بعلّة جامعة ، فإمّا أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الجامع فهو محال ، وهذا كما أنّ العقل دلّ على البراءة الأصلية بشرط عدم دليل السمع فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، فكذا هنا انعقد الإجماع بشرط العدم ، فانتفى الإجماع عند الوجود.

وهذه دقيقة وهو أنّ كلّ دليل يضادّه نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه مع الخلاف ، والإجماع يضادّه نفس الخلاف ؛ إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف العموم والنصّ ودليل العقل فإنّ الخلاف لا يضادّه ، فإنّ المخالف مقرّ بأنّ العموم بصيغته يتناول محلّ الخلاف ، فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا صيام على من لم يبت الصيام » (٣) شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه ، فيقول : أسلّم شمول الصيغة لكنّي أخصّه بدليل ، فعليه الدليل ، وهنا المخالف لا يسلّم شمول الإجماع محلّ الخلاف ؛ لاستحالة الإجماع مع الخلاف ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل ، فهذه دقيقة يجب التنبّه لها.

__________________

(١) في هامش المصدر : الضمير راجع إلى الصلاة. « منه رحمه‌الله ».

(٢) في هامش المصدر : أي خروج الحدث من غير السبيلين.

(٣) المستدرك ٨ : ٣١٦ ، وفيه : « لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل » ، وتقدّم في ص ١٥٠.

٢٠٠