مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

الثلاثة : السببية والشرطية والمانعية كالعضدي (١) تبعا للحاجبي (٢) ، وبين من زاد عليها الصحّة والفساد ، وبين من زاد عليها الرخصة والعزيمة (٣) وبين من زاد عليها العلامة والعلّة كثاني الشهيدين (٤) ، إلاّ أنّه احتمل رجوع (٥) العلّة إلى السبب وكذا العلامة ، أو إلى الشرط ، وبين من لا يرى فيها حصرا ، ولعلّ مراده كثرتها لا عدم انحصارها ؛ إذ لا يعقل ذلك.

وينبغي تحرير محلّ الخلاف أوّلا ، فنقول : لا إشكال في ثبوت أمور هي محمولات في القضايا الشرعية كالطهارة والنجاسة والزوجية والرقّية والكفر والإيمان والملكية ونحوها ممّا لا يحصى كثرة ، فإنّ إنكار تلك الأمور في الشرعيات (٦) في مرتبة إنكار القضايا الأوّلية في العقليات ؛ إذ وجود الأسباب الشرعية وموانعها كشرائطها ضروري وفي غاية الكثرة ، فإنّه (٧) ربّما يعسر الإحاطة بشرائط ماهيّة واحدة وموانعها كالصلاة مثلا ، كما أنّه لا ريب في فساد دعوى أنّ مفاهيم هذه الأوصاف عين مفاهيم الأحكام التكليفية ، فإنّ القول باتّحاد مفهوم وجوب الصلاة لمفهوم سببية الدلوك ساقط جدّا ، فلا يكاد يعقل لذلك وجه ، وإنّما يتأتّى المناقشة اللفظية في تسمية هذه الأوصاف أحكاما إنشائية ؛ ضرورة حصولها في محالّها من غير تعلّق إنشاء بها كما في اتّصاف الطالب بالطالبية ، والمطلوب بالمطلوبية ، فإنّ إنشاء نفس الطلب يكفي في

__________________

(١) شرح مختصر المنتهى : ٩٧ ـ ٩٨.

(٢) في اشارات الأصول : كالعلاّمة والسيوري وغيرهما.

(٣) في اشارات الأصول نسبه من دون ذكر العزيمة إلى الحاجبي والعضدي وقال : ويؤذّن كلامهما بكون الصحّة والبطلان في المعاملات منها ، ثمّ قال : ومنهم من زاد عليها الصحّة والبطلان والعزيمة والرخصة كالآمدي ، ونقل في الإشارات أقوال أخر فلاحظ.

(٤) تمهيد القواعد : ٣٧ ، قاعدة ٣.

(٥) « ج ، م » : برجوع.

(٦) « ز ، ك » : الشرعية.

(٧) « ز ، ك » : فبأنّه.

١٦١

انتزاع هذه الأوصاف عن (١) محالّها ، ولا ريب أيضا في أنّ للشارع بيان هذه الأمور المحمولة على الموضوعات ككشفه عن مانعية الحدث للصلاة ، وجزئية السورة لها ، وإيراث العصيان استحقاق العقاب ، وتضعيف البدن بتكثير الحمّام ، وإضرار الميتة للبدن ، وسببية الدلوك للصلاة ، والطلاق للتحريم ، والنكاح للتحليل ، وشرب الخلّ لشدّ العقل ، ونحوها ممّا لا حدّ فيها ولا حصر لها.

وأمثال هذه البيانات في الكتاب والسنّة وجودها معلوم والمنكر مكابر ، فالحاكم بيننا وبينه بعد حكومة الإنصاف هو الرجوع إلى الأدلّة الشرعية ، ولا شبهة في أنّ هذه الأمور منسوبة إليه تعالى على نحو انتساب سلسلة الممكنات إليه ، وإنّما الكلام في أنّها من الأمور المتأصّلة التي يتعلّق بها الجعل والإبداع والإنشاء كما في الأحكام الخمسة التكليفية أو (٢) يكفي في تحقّقها وإيجادها إبداع ملزوماتها من الأحكام التكليفية وإنشائها ، فتسمية هذه الأوصاف أحكاما على الثاني مجازية باعتبار أنّ ما ينتزع منها أحكام ؛ إذ الحكم الشرعي عبارة عن جعله وإنشائه والمفروض عدم تحقّق الإنشاء والجعل فيها ، نعم يصحّ إطلاق الحكم عليها حقيقة باعتبار معناه التصديقي أو بملاحظة أنّها نسب خبرية كما لا يخفى.

وبالجملة : فالمثبت للحكم الوضعي يدّعي أنّ تلك الأمور متعلّقات للجعل بالأصالة بمعنى أنّها أمور إنشائية ، والنافي ينفيه بادّعاء كفاية إبداع الأحكام التكليفية عن إبداعها ، كما هو المقرّر عند أهل المعقول من أنّ الماهيات متعلّقات للجعل الإيجادي والتكويني أصالة ، ولوازمها مجعولات بالتبع ، فالمجعول بالذات هو الأربعة وإن استتبع جعل الزوجية أيضا ، فإنّ هذا هو الذي ينبغي أن يكون محلاّ للخلاف ، فإنكار هذه الأمور رأسا أو ادّعاء (٣) اتّحادها للأحكام التكليفية ممّا لا ينبغي أن يذهب إليه (٤) الوهم ،

__________________

(١) « ز ، ك » : من.

(٢) « ج » : إذ.

(٣) « ز ، ك » : دعوى.

(٤) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ـ إليه.

١٦٢

ومن هنا ينقدح لك القول برجوع النزاع بين الفريقين لفظيا.

فكيف كان ، فلنا على ما صرنا إليه من النفي وجهان :

[ الوجه ] الأوّل (١) : أصالة عدم الجعل ؛ لعدم الحاجة إليها بعد كفاية جعل الأحكام التكليفية عنها اللازم جعلها من باب اللطف كما قرّر في محلّه. وأمّا بيان الكفاية فهو أنّه لا شكّ ولا شبهة في أنّ الأحكام الخمسة التكليفية مجعولات للشارع ، فإنّه اللطف الذي يجب عليه تعالى ، على أنّه (٢) الإيجاب لا يعقل بدون الجعل والإنشاء كالتحريم وأخواتهما ، فإذا صدر الطلب من الطالب فلا ريب في احتياجه إلى متعلّق ؛ ضرورة استحالة الطلب بدون (٣) المطلوب ، فهو إمّا أن يكون مركّبا من جزءين فصاعدا ، أو بسيطا ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون ذلك المطلوب مقيّدا بقيد من الأمور التي ينبغي أن تلاحظ في المطلوب ، وجوديا كان أو عدميا كما إذا طلب الإتيان بالماء البارد أو الصافي ، أو يكون مطلقا من غير ملاحظة شيء فيه ، وعلى التقادير فإمّا أن يكون الطلب معلّقا على حصول أمر من وقت أو حال كالأمر بالصلاة عند الزوال ودلوك الشمس ، وإمّا أن يكون مطلقا غير معلّق على حصول شيء. في كلّ هذه الأقسام لا حاجة إلى جعل شيء (٤) من الأحكام الوضعية التي تستفاد من هذه الخطابات ، فإنّ بعد ما فرضنا أنّ الطلب تعلّق بإيجاد المكلّف الصلاة عند زوال الشمس مواجها للقبلة في حالة الطهارة ، فلا حاجة إلى إنشاء سببية الزوال (٥) وجعله سببا للصلاة ، كما لا حاجة إلى جعل شرطية الطهارة والقبلة ، كما لا حاجة إلى جعل مطابقتها للأمر وعدم مطابقتها له (٦) على تقدير الإتيان بها على ما هي عليها من الأجزاء والشرائط أو الإخلال بها بوجه من الوجوه ، فإنّ هذه الأمور اعتبارات عقلية ينتزعها العقل بعد

__________________

(١) سيأتي الثاني منهما في ص ١٧٠.

(٢) كذا. ولعلّ الصواب : أنّ.

(٣) « م » : « من ».

(٤) « ج » : بشيء ، وفي « ز ، ك » : الشيء.

(٥) « ج » : إنشائية الزوال.

(٦) « م » : ـ له.

١٦٣

كون المطلوب واقعا على وجه من الوجوه ، فينتزع الجزئية عند تعلّق الطلب بمركّب كما ينتزع الكلّية أيضا ، ولذلك لم يذهب وهم إلى أنّ كلّية الكلّ (١) أمر جعلي إنشائي لكفاية تعلّق الطلب بمركّب عنه ، وينتزع الشرطية على تقدير تعلّق الطلب بأمر ملحوظ فيه وجود شيء كالطهارة في الصلاة والبرودة في الماء ، والمانعية على تقدير تعلّقه بأمر ملحوظ فيه عدم شيء كالحدث في الصلاة والتراب في الماء مثلا ، والسببية على تقدير تعلّقه بأمر معلّق على شيء كالصلاة المعلّقة على الوقت مثلا ، والصحة فيما إذا وقع الفعل المأمور به على وجهه ، والفساد إذا لم يقع عليه ، فلو قال الآمر ـ بعد جعله الحكم التكليفي ـ : إنّي قد جعلت الوقت سببا أو الطهارة شرطا أو الحدث مانعا ، كان ذلك لغوا صرفا ويجب تنزيه الشارع الحكيم عنه البتّة.

لا يقال : إنّ ما ذكرته إنّما يتمّ بعد فرض صدور الأحكام التكليفية ، ومن أين لك إثبات هذا المعنى في جميع موارد الأحكام الوضعية؟! فلعلّه كان جعل السببية مقدّما على جعل إيجاب الصلاة في الوقت ، فيكون جعل تلك الأحكام مغنيا (٢) عن الحكم التكليفي.

لأنّا نقول : إنّ (٣) سببية الدلوك للصلاة لا يراد بها سببية لذات الصلاة ، فلا بدّ أن يكون المراد لوجوبها (٤) ، ولا يعقل (٥) وجوب الصلاة بدون الطلب ، فيرجع جعل السببية إلى جعل الطلب والوجوب الذي هو حكم تكليفي ، فالمتأصّل في مقام الجعل هو الطلب دون الحكم الوضعي.

فإن قلت : إنّ الأدلّة الشرعية صريحة في كون الأحكام الوضعية متعلّقة للجعل ،

__________________

(١) « ز ، ك » : الكلّي.

(٢) « م » : مغيّا.

(٣) « ز ، ك » : ـ إنّ.

(٤) « ك » : سببية لوجوبها.

(٥) « ج » : فلا يعقل ، وفي « ز » : لا يعقل.

١٦٤

فكيف يتأتّى إنكار جعل الوضعيات؟ فمن ذلك قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (١) ، و « لا صيام لمن لم يبت (٢) الصيام من الليل (٣) » (٤) و « لا عمل إلاّ بنيّة » (٥) و « البيّعان بالخيار » (٦) و « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (٧) إلى غير ذلك من الأحكام التي لا حصر فيها.

قلت : لا خفاء في أنّ الشارع إنّما حكم في تلك الأدلّة والقضايا بثبوت تلك المحمولات لموضوعاتها ، وقد عرفت أنّ الحكم بهذا المعنى ليس من المتنازع فيه ، فهذه المحمولات لا تخلو (٨) من أحد وجهين : إمّا أن يكون اعتبارات عقلية منتزعة من محالّها من الخطابات التكليفية ، وإمّا أن تكون (٩) أمورا واقعية ثابتة في حدود ذواتها مع قطع النظر عن تعلّق جعل إنشائي على نحو الجعل في التكليفيات بها. وعلى التقديرين يكون الخطاب المتعلّق بالوضعيات خبرا لا إنشاء كما هو ظاهر الأدلّة المذكورة ولا داعي لصرفها عن ظاهرها ، وذلك بخلاف الأخبار الواردة في مقام جعل الحكم التكليفي كقوله : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ )(١٠) مثلا ، وكقوله : ( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً )(١١) فإنّه لا مناص من الحمل (١٢) المذكور فيها ؛ لما عرفت

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٣١٥ ، باب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، ح ١ ، و ١ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ، باب ١ من أبواب الوضوء ، ح ١ و ٦ ، و ١ : ٣٦٨ ، باب ٢ من أبواب الوضوء ، ح ٣ ، و ١ : ٣٧٢ ، باب ٤ من أبواب الوضوء ، ح ١ ، و ٢ : ٢٠٣ ، باب ١٤ من أبواب الجنابة ، ح ٢.

(٢) في المصادر : لم يبيت.

(٣) « ج ، م » : ـ الصيام من الليل.

(٤) مستدرك الوسائل ٧ : ٣١٦ ، باب ٢ من أبواب وجوب الصوم ونيّته ، ح ١ ، عن عوالى اللآلى ٣ : ١٣٢ ـ ١٣٣ / ٥ و ٦ ، وورد أيضا في مصادر العامّة وسيأتي أيضا ص ٢٠٠.

(٥) وسائل الشيعة ١ : ٤٦ ـ ٤٨ ، باب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ١ ـ ٤ و ٩.

(٦) وسائل الشيعة ١٨ : ٥ ـ ٦ ، باب ١ من أبواب الخيار ، ح ١ ـ ٣.

(٧) مستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ ، باب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٥ و ٨.

(٨) في النسخ : لا يخلو.

(٩) في النسخ : يكون.

(١٠) البقرة : ٢٢٨.

(١١) النساء : ١٠٣.

(١٢) « ج » : الجعل ، وكتب تحتها : « الحمل نسخة ».

١٦٥

من عدم معقولية التكليف اللازم إلاّ بالطلب ، فلا بدّ من أن يكون هذه الخطابات في معرض إنشاء الطلب ، أو إخبارا عن إنشاء سابق كما لا يخفى.

فمن الأوّل : السببية والشرطية والجزئية والحجّية والمانعية والصحّة والفساد والرخصة والعزيمة والعلّة والعلامة.

أمّا السببية فالوقتية منها عبارة عن إيجاب شيء وطلبه في وقت ، والمعنوية منها عبارة عن طلب شيء معلّقا على شيء آخر كالكفّارة عند الظهار والتحريم عند الإسكار ، ولا يرتاب في أنّ بعد إنشاء الطلب المعلّق على شيء فليس من شأن الشارع إنشاء سببية ذلك الشيء.

وأمّا الشرطية والجزئية فالأمر فيهما ظاهر ممّا مرّ ؛ إذ الجزئية كالكلّية ، والشرطية كالمشروطية ، لأنّهما متضايفان وتجويز الجعل في أحدهما يوجب تجويزه في الآخر ، وفساد ذلك في الآخر ظاهر.

وأمّا الحجّية فلا نعني بها إلاّ كون الشيء بحيث يجب العمل به ، ومعناه هو وجوب الأخذ به والاتّكال عليه.

وأمّا الصحّة والفساد ففي العبادات عبارتان عن مطابقة المأمور به للأمر ، وعدمها ، ولا ريب في كونهما أمرين عقليين منتزعين عن وقوع الفعل على ما هي عليه من الأمور المعتبرة فيه ، وعدمه ، ولذلك أنكرهما العضدي تبعا للحاجبي (١).

وفي المعاملات فمرجعهما إلى كون المعاملة واقعة على وجهها (٢) ، فيترتّب عليها أثرها (٣) المقصود منها وعدمه ، والعجب ممّن أطلق القول بجعلهما في المعاملات بعد اعتقاد الجعل في السببية ، ويكفيك في الحكم بعدم جعل السببية في المعاملات ملاحظة الأسباب العقلية كالشمس للإشراق والنار للإحراق ، فهل لأحد حسبان أنّ سببية

__________________

(١) شرح مختصر منتهى الأصول : ٩٨ ، الشرح للعضدي والمتن لابن الحاجب.

(٢) « م » : وجههما.

(٣) « م » : آثارها.

١٦٦

الشمس للإشراق مجعولة ؛ إذ ليست من مقولة الأفعال ، بل هي أمر قائم بالشمس كسببية الدلوك للصلاة أيضا؟

وأمّا الرخصة والعزيمة فخروجهما عن (١) أحكام الوضع ظاهر لا حاجة إلى بيانه.

وأمّا العلّة والعلامة فقد عرفت (٢) في كلام الشهيد رجوعهما إلى السبب أو إلى الشرط في الأخير.

ومن الثاني : الزوجية والملكية والحرّية والرقّية والطهارة والنجاسة والكفر والإيمان والحدث والجنابة والضمان إلى غير ذلك من المحمولات الشرعية.

وهذه الأمور أيضا لا تخلو من وجهين : فتارة : تكون (٣) من الأمور الواقعية المعلومة عند العرف مفهوما ومصداقا كالزوجية والملكية ، فليس للشارع فيها تصرّف إلاّ ببيان بعض المصاديق التي نحن بمعزل عن إدراكها لغيبتها عن نظرنا ، وأخرى : تكون (٤) من الأمور التي لا نجدها في عقولنا مفهوما ومصداقا كالجنابة والحدث ، وعلى التقديرين ليست هي (٥) من الأمور المجعولة للشارع على (٦) نحو الجعل في التكليفيات.

أمّا على الأوّل : فلأنّها أمور واقعية ثابتة عند العرف ، وغاية ما يمكن القول به هو أنّ بعض الأفراد المعمولة عند العرف في تلك المفاهيم ممّا ليست من أفراد تلك المفاهيم في نظر الشارع ، وبعض الأفراد التي نحن معزولون عنها أفراد لها ، كبيع (٧) المعاطاة المفيد للملك عندهم مع عدم اعتداد الشارع به في الشرع على القول بذلك ؛ إذ لا يعقل من الملكية إلاّ تعلّق خاصّ بين المالك والمملوك ، وليس المفهوم منها إلاّ حقيقة واحدة فإنّها من المشتركات المعنوية ، ولا يحتمل أن يكون الملكية مشتركة بين الملكية

__________________

(١) « ز ، ك » : من.

(٢) عرفت في ص ١٦١.

(٣) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : لا يخلو ... يكون.

(٤) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يكون.

(٥) « ز ، ك » : ـ هي.

(٦) « ز ، ك » : ـ على.

(٧) « ز ، ك » : ـ كبيع.

١٦٧

الشرعية والعرفية اشتراكا لفظيا ، فإذا قال الشارع : « إنّ العقد ـ مثلا ـ مملّك » فذلك لا بدّ أن يكون إخبارا بحصول الملك لا إنشاء لحصوله (١). وعلى قياسه الزوجية والرقّية والحرّية والضمان ونحوها ، ومنه أيضا الطهارة والنجاسة بناء على تفسيرهما بالقذارة والنظافة ، فإنّ الظاهر الشرعي فيه نظافة لا يصل إليه عقولنا كالقذارة الشرعية ، فهي إذن أمور واقعية قد (٢) كشف الشارع عن وجودها في الواقع ، ولا دخل للجعل فيها إلاّ باعتبار أنّه تعالى خالق كلّ شيء وهو جاعل الظلمات والنور ، فاستناد هذه الأشياء إليه تعالى كاستناد سلسلة الممكنات إليه تعالى بأجمعها على وجه لا يعزب عنه ذرّة لا في السماء ولا في الأرض.

وأمّا على الثاني : فلأنّها أيضا اعتبارات واقعية قد كشف الحكيم المطّلع على الواقع عنها ، فإنّ الحدث هي حالة واقعية حادثة بعد حصول أسبابها من شأنها عدم جواز الدخول معها في العبادة المشروطة بعدمه ، وكذا الجنابة فإنّها أيضا أمر واقعي ، غاية الأمر أنّ العرف لقصور نظرهم عن إدراك ما هو ثابت في الواقع لا يلتفتون إليها ، ولذلك بيّنها (٣) الشارع الحكيم بمفهومها ومصداقها وما يترتّب عليها من أحكامها ، وذلك لا يقضي (٤) بجعل منه فيها ، فإنّ الجنابة صفة للمكلّف فكيف يعقل أن يكون بجعل الشارع وإنشائه تكليفا وإن كان من منشآت الشارع تكوينا؟

ثمّ إنّ ما ذكرنا في الطهارة والنجاسة من كونهما حقيقتين من الحقائق العرفية (٥) هو المطابق لبعض ظواهر الأدلّة كما استوفيناها في محالّها ، ويكفي في ذلك شاهدا ملاحظة قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ [ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ] فَاجْتَنِبُوهُ )(٦) حيث إنّ الأمر بالاجتناب بعد إحراز كونه رجسا ، فهو متفرّع عليه ، وهو

__________________

(١) « ج ، م » : لحصول الملك.

(٢) « ز ، ك » : ـ قد.

(٣) « م » : نبّهنا.

(٤) « ج » : لا يقتضي.

(٥) « ج ، م » : + هذا.

(٦) المائدة : ٩٠.

١٦٨

الذي يوافقه قواعد العدلية من تبعية الأحكام للصفات. وقد يظهر من الشهيد في القواعد (١) : أنّ النجاسة صفة انتزاعية من الأمر بوجوب الاجتناب عن العين التي ننتزع (٢) منه تلك الصفة بعد الأمر ، فجعلها عبارة عن (٣) إيجاب الشارع الاجتناب عن الشيء للاستقذار أو الاستنفار. ولعلّ مراده من الأوّل هو القذارة في البول ، ومن الثاني هو النفرة في الكفّار مثلا.

وبالجملة : فعلى هذا فالأمر أظهر ، ولك أن تقول بجريان هذا الكلام في مثل الملكية والزوجية ؛ لرجوع الأوّل إلى إباحة التصرّف في الأموال ، والثاني في الفروج ، فكون الشيء بحيث يجوز فيه التصرّف المالي عبارة عن الملكية ، وعلى هذا القياس يقال في غيرها.

فإن قلت : إنّ جعل الطلب وإنشاءه على وجه التعليق بوقت أو التقييد بوجود شيء أو عدمه جعل للسببية أو الشرطية أو المانعية ، وكذا جعل المطلوب مركّبا جعل للجزئية ، فلا وجه لإنكار جعل هذه الأمور.

قلت : أمّا تعليق الطلب فليس إلاّ إنشاء للطلب المعلّق لا إنشاء للسببية كما هو ظاهر ، وإنّما يصحّ بعد ذلك انتزاع السببية لإيراث الطلب الكذائي استعدادا للمحلّ. وأمّا تقييده بأمر وجودي أو عدمي فليس تعلّق الطلب بالشيء مع تصوّره ببعض أوصافه وأحواله ، وليس يلزم من التصوّر المذكور جعل ولا إنشاء ، بل إذا لحق المتصوّر المذكور طلب وحكم من الأحكام التكليفة يستأهل لأن ينتزع منه الأمور المذكورة ، ومن هنا تعرف ضعف المقالة المتداولة بينهم من أنّ الصلاة من المخترعات الشرعية ؛ إذ لا اختراع هنالك (٤) ولا إبداع إلاّ لمجرّد الطلب المتعلّق بعدّة أمور متناسبة في الواقع لا نعلمها.

__________________

(١) القواعد والفوائد ٢ : ٨٥.

(٢) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : ينتزع.

(٣) « ز ، ك » : من.

(٤) « ك » : هناك.

١٦٩

الوجه الثاني من الوجهين (١) : أنّ الأمور التي يتوهّم كونها أحكاما وضعية من الخمسة المعروفة أو مع زيادة العلّة والعلامة والرخصة والعزيمة ، غير قابلة للجعل بالأصالة ؛ لأنّها من الأمور المنجعلة بذواتها بعد تعلّق الجعل الأصيل (٢) بمحالّها ، فتعلّق الجعل بها ثانيا تحصيل للحاصل واستحالته ضرورية فطرية.

أمّا الأوّل : فقد عرفت فيما تقدّم أنّ كلّ واحد من هذه الأمور اعتبار عقلي منتزع عن أمر جعلي شرعي بحسب اختلاف مراتب المجعول الشرعي التابع لاختلاف المصالح الداعية إلى الجعل (٣) والطلب على وجه خاصّ وجهة مخصوصة ، فقد تقضي (٤) المصلحة باعتبار زمان أو مكان أو آلة مخصوصة أو فاعل خاصّ على حالتي الاجتماع مع الغير أو الافتراق ، مقدّما أو مؤخّرا ، مرتّبا أو غير مرتّب ، إلى غير ذلك من وجوه اختلافات (٥) الكيفيات المكتنفة بالأفعال التي هي موارد للطلب ومحالّ للجعل التكليفي ، فبحسب اختلاف هذه (٦) الكيفيات ينتزع العقل هذه الأوصاف ، وهذا أمر في غاية الظهور ، والعجب من بعض الأجلّة (٧) حيث إنّه قد بالغ في ذلك مبلغه مع وضوحه.

وأمّا الثاني : فظاهر لا حاجة إلى بيانه وتوضيحه ، مضافا إلى أنّ الجعل لا بدّ من قيامه بالجاعل ؛ لأنّه من الأمور الصادرة عنه ، فهو من قبيل أفاعيله كالضرب للضارب والقتل للقاتل ، ولا ريب في قيام هذه الأوصاف بغير الجاعل ؛ لقيام السببية بالدلوك والجزئية بالسورة والشرطية بالطهارة والمانعية بالحدث ، فكيف يمكن أن يكون هذه الأمور مجعولة؟ وذلك يصحّ في التكليفيات فإنّ الإباحة فعل المبيح ، وتعلّق الأحكام التكليفية بالغير كتعلّق الوجوب بالصلاة أو الحرمة بالخمر غير مضرّ فيما نحن بصدده ؛ لأنّ الإيجاب عند التحقيق عين الوجوب ذاتا وإن تغايرا (٨) اعتبارا

__________________

(١) تقدّم الأوّل منهما ص ١٦٣.

(٢) « ج » : الأصلي.

(٣) « ز ، ك » : للجعل.

(٤) « ج » : تقتضي.

(٥) « ج » : اختلاف.

(٦) « م » : ـ هذه.

(٧) الفصول : ٣٣٦.

(٨) « ج ، م » : وإن تغايره.

١٧٠

بمعنى أنّ الموجود في الخارج ليس إلاّ شيئا واحدا (١) يسمّى إيجابا بملاحظة صدوره عن الفاعل ووجوبا باعتبار تعلّقه بالقابل ، فالوجوب هو الطلب ذاتا لا اعتبارا.

فإن قلت : التسبّب كالإيجاب متّحد مع السببية ، فهو قائم بالجاعل ، وقيام السببية بالغير غير مضرّ كما في الوجوب.

قلت : إن أريد من التسبّب بيان كون الشيء متّصفا بالصفة المذكورة فذلك أمر مسلّم ولا ضير فيه ؛ لأنّ البيان ولو كان في هذه الأمور غير خارج عن وظيفة الشارع. وإن كان المراد إحداث السببية وإبداعها وإيجادها ، فهو أمر غير معقول إلاّ برجوعه إلى حكم تكليفي ، وعند ذلك فحصول السببية قهري فلا يحتاج إلى أن يصير موردا للجعل بالأصالة ، نعم يصحّ استناد الجعل إلى هذه الأمور مجازا ؛ لكونها مجعولات بالتبع ، كما في إسناد الجعل (٢) التكويني إلى لوازم الماهيات المجعولة جعلا تكوينيا أصالة على القول بذلك ، فإسناد الجعل إلى الحرارة اللازمة لماهيّة النار في الخارج ، أو إلى الزوجية اللازمة للأربعة ، وإن كان صحيحا باعتبار أنّها مجعولة بواسطة تعلّق الجعل بملزومها إلاّ أنّه إسناد مجازي كما هو ظاهر (٣) ـ (٤).

بقي الكلام فيما أورده بعض الأعيان من المعاصرين (٥) على المحقّق الخوانساري فيما أورده من التحقيق من رجوع الأحكام الوضعية إلى التكليفية كما نقلناه في أوّل الهداية ، فنقول : أمّا ما أورده من لزوم انحصار الأحكام في الثلاثة ، ففساده ظاهر ؛ لأنّ المناط ليس على مجرّد إمكان رجوع البعض إلى آخر ، بل المناط عدم الحاجة إلى الجعل وامتناعه ، فإن أراد الامتناع كما هو المناط في التحقيق المذكور فسقوطه في غاية

__________________

(١) في النسخ : شيء واحد.

(٢) « ز ، ك » : ـ الجعل.

(٣) « م » : ـ كما هو ظاهر.

(٤) في هامش النسخ ما عدا « ج » : ( و « م » ) لا يخفى ما في المقام من الطفرة ، فتأمّل. « منه »

(٥) هو الكلباسي في اشارات الأصول كما تقدّم في ص ١٥٩.

١٧١

الظهور ، وإن أراد مجرّد الرجوع فليس من محلّ الكلام في شيء.

وأمّا ما أفاده من قيام الضرورة باختلاف حرمة الخمر ومانعيته للصلاة ، فهو في غاية الجودة إلاّ أنّه لا يجديه شيئا ؛ لما عرفت من أنّ دعوى الاتّحاد بين المفهومين محال (١) بالضرورة ، ولكن أحدهما يمكن أن يكون منتزعا من الآخر من غير أن يكون مجعولا بالأصالة.

وأمّا جريان التكليف بما لا يطاق في الوضعي دون التكليفي ، ففيه : أنّ الوجه في ذلك ـ كما ستعرف ـ عدم تنجيز (٢) الوضعي ، ومع ذلك فالتكليفي التعليقي يجري فيه التكليف بما لا يطاق كما عليه إطباق أهل التخطئة كما هو الصواب.

وأمّا ما أورده من تخلّف الوضعي عن التكليفي في بعض الأحيان كضمان الصبيّ وجنايته فإنّه ليس في حقّه حكم تكليفي حتّى يقال بصحّة انتزاعه منه ، ففيه : أنّ الحكم التكليفي الذي هو منشأ لانتزاع الوضعي لا يجب أن يكون منجّزا ، بل يكفي في انتزاعه منه وجوده ولو معلّقا. فإن أراد انتفاءه في حقّ الصبيّ مطلقا ولو كان (٣) معلّقا ببلوغه أيضا ، فهو ظاهر الفساد ، وإن أراد انتفاءه (٤) منجّزا فهو مسلّم ، ولكنّه لا يجديه شيئا ، مع إمكان القول بالخطاب الفعلي لوليّه أيضا ، فتدبّر في الغاية وتأمّل في النهاية تهتدي إلى الحقّ.

تنبيه

يمكن ظهور ثمرة الخلاف بين القولين في موردين : الأوّل : جريان الأصل عند الشكّ في الشرطية والجزئية على القول بالثبوت دون القول بالنفي ، فإنّه على القول بكونها مجعولات متأصّلة مستقلّة يصحّ القول بجريان أصالة عدم الجزئية والشرطية ، وهي

__________________

(١) « ج ، م » : محالة.

(٢) « ك ، ج » : تنجّز.

(٣) « ز ، ك » : ـ كان.

(٤) « ج » : ببقائه.

١٧٢

واردة على قاعدة الاشتغال. وأمّا على القول بأنّها أمور انتزاعية فلا وجه لإجراء الأصل المذكور فيها ؛ إذ لا يختلف الجعل على تقدير الجزئية وعدم الجزئية (١) ، لأنّ المجعول أمر واحد ، غاية الأمر اختلاف قيوده. اللهمّ إلاّ أن يجري الأصل في تعلّق نظر الطالب إلى المشكوك ، فتدبّر.

ولكن هذا بالنسبة إلى شرط الواجب وجزئه ، وأمّا إذا شكّ في شرط الوجوب كاشتراط وجوب الحجّ بقدر الكفاية بعد الرجوع ، فيمكن أن يكون النزاع المذكور أيضا مثمرا ؛ لأصالة عدم الجعل ، وأمّا بناء على القول به (٢) فلا بدّ من الرجوع إلى البراءة فيهما.

الثاني : إذا رجع المجتهد عمّا ذهب إليه سابقا ، كما إذا رأى جواز العقد على الباكرة (٣) بدون إذن وليّها ، ثمّ رجع واعتقد عدم الجواز ، أو اعتقد جواز العقد بالفارسية ، ثمّ اعتقد خلافه بعد إيقاع العقد في الموردين منه ، فعلى القول بأنّ الزوجية والملكية من الأمور المتأصّلة المجعولة للشارع فيمكن القول بأنّ الرجوع لا يؤثّر فسادا في العقود السابقة كما لا يؤثّر عزل الوكيل في فساد ما عمله حال الوكالة ، فإنّ التأثير في السابق حين ثبوت الوصف حاصل ولا وجه لانتفائه ، بل لا يعقل انتفاؤه بعد وقوعه ، وعلى القول بكونها أمورا انتزاعية من الخطاب التكليفي فثبوتها موقوف على ثبوت الخطاب ، وثبوت الخطاب دائر مدار الرأي الفعلي ، فجواز التصرّف في المال ينتفي بانتفاء الخطاب كما هو ظاهر.

وأمّا ما يستفاد من الكلام المنقول في السابق ـ من ثبوت الثمرة في جريان التكليف بما لا يطاق في الحكم الوضعي وعدم جريانه في الحكم التكليفي واشتراط العلم والقدرة في التكليفي دون الوضعي ـ فقد ظهر ضعفه ممّا مرّ على وجه لا يحتاج إلى

__________________

(١) « ك » : عدمها.

(٢) « ج ، م » : ـ به.

(٣) « ج » : البكر.

١٧٣

تضعيفه ، وقد يقال أيضا : إنّ لازم القول بإنكار الوضعيات إنكار شرطية الستر للصلاة بالنسبة إلى الغافل ، وليس بشيء.

وإن شئت توضيح الحال فنقول : نحن معاشر المنكرين للأحكام الوضعية والقائلين بأنّها أمور انتزاعية ، لا يجب عندنا أن يكون محلّ انتزاع هذه الأمور خطابا فعليا متعلّقا بالمكلّف في الحال حتّى يصحّ القول بتحقّق الثمرة في الأمور المذكورة ، بل يكفي عندنا في الانتزاع وجود الخطاب التعليقي ، فالضمان في الصبيّ ليس منتزعا من الخطاب الفعلي ، بل من الخطاب التعليقي بمعنى أنّه لو بلغ يجب عليه كذا ، وهذا الخطاب ينتزع منه الضمان ، وكذا شرطية الستر تنتزع من الخطاب المتوجّه إلى المصلّي على تقدير الالتفات وعدم الغفلة ، مضافا إلى أنّا نقول : إنّ (١) المراد من نفي الوجوب بالنسبة إلى الغافل إن كان نفي الوجوب الواقعي ففساده ظاهر ؛ لثبوت الأحكام الواقعية على تقدير الغفلة أيضا ولذلك لا يحتاج إلى إيجاد خطاب آخر ، وإن كان المراد نفي الوجوب الظاهري فمسلّم إلاّ أنّ الشرطية أيضا منفيّة في مرحلة الظاهر ؛ ضرورة عدم تعلّق الشرطية مع فرض انتفاء الخطاب المفيد لها (٢) ، فتدبّر يظهر لك الحال (٣).

__________________

(١) « ز ، ك » : من أنّ.

(٢) « م » : لهما.

(٣) « ج ، م » : ـ فتدبّر يظهر لك الحال.

١٧٤

هداية

[ في اعتبار الاستصحاب عند الشكّ في عروض القادح ]

ذهب (١) المحقّق السبزواري (٢) إلى اعتبار الاستصحاب عند الشكّ في عروض القادح دون غيره من الأقسام المذكورة مستندا في ذلك إلى عدم صدق الروايات في غيره حيث إنّ المنهيّ عنه فيها نقض اليقين بالشكّ ، ولا يصدق ذلك إلاّ فيه ؛ إذ النقض عند الشكّ في قدح العارض أو فردية شيء له إنّما يستند إلى وجود ما يحتمل مانعيته لا إلى الشكّ نظرا إلى ما هو المقرّر عندهم عادة من استناد المعلول إلى علّته التامّة أو الجزء الأخير منها ، وهو في غيره ليس شكّا ؛ لتقدّم الشكّ في غيره وتأخّره فيه.

واعترضه جماعة ـ أوّلهم السيّد في شرح الوافية ـ : بأنّ الشكّ وإن كان مقدّما في الشكّ (٣) في المانعية نوعا إلاّ أنّ النقض غير مستند إليه في استصحاب القوم ، بل إنّما يستند إلى الشكّ الشخصي المؤخّر عن وجود ذلك الشيء.

وفيه : أنّ الشكّ هذا بخصوصه كان موجودا قبل ولم تحصل حالة ثانوية للمكلّف عند حدوث المذي ، كيف وهو من الأفراد التي حكم عليها بذلك؟

وتفصيل هذا المقال وتوضيح هذا الإجمال هو أن يقال : إنّ مقصود المحقّق المفصّل هو أنّ الشكّ في استصحاب القوم إنّما يقارن اليقين السابق ، بل ربّما يكون مقدّما عليه ؛

__________________

(١) « ز ، ك » : قد ذهب.

(٢) انظر الذخيرة : ١١٦.

(٣) « ز ، ك » : ـ في الشكّ.

١٧٥

إذ الشكّ في انتقاض الطهارة بخروج المذي حاصل حين اليقين بالطهارة أيضا ، فتحصل (١) عند المكلّف قضيّة كلّية واقعية قائلة بأنّ كلّ فرد من أفراد المذي مشكوك الناقضية مثلا ، ولا شكّ أنّها قضيّة (٢) حقيقية لا خارجية ، فيعمّ الحكم الأفراد المحقّقة والمقدّرة ، فكما أنّ الحيوانية في قولنا : « كلّ إنسان حيوان » يعمّ جميع أفراد الموضوع على وجه يحكم بحيوانية زيد بعد وجوده بتلك الحيوانية التي حكمنا بها على الإنسان لا بحيوانية غيرها ، فكذلك الشكّ الحاصل في ناقضية المذي الخاصّ إنّما هو بعينه هو الشكّ المحمول على المذي في القضيّة المفروضة ، وإنّما حصل في المقام متعلّق هذا الشكّ على وجه التفصيل (٣) عن (٤) الكلّي. ألا ترى أنّه لو فرض علمنا بقيام زيد في الغد قبل حضوره فعنده لا يحصل لنا حالة إدراكية عدا ما كان لنا قبل كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر أنّ ما احتاله (٥) بعض الأجلّة (٦) في الجواب المذكور تبعا لغيره من تقدّم الشكّ التقديري دون الفعلي ، ممّا لا يجديه ، وهل هذا إلاّ كرّ على ما فرّ؟ لما عرفت من عدم حدوث حالة ثانوية بعد خروج المذي ، فتدبّر.

والتحقيق في الجواب هو أن يقال : إنّ نقض اليقين إنّما هو بالشكّ في تمام الموارد المفروضة ، ولا يجوز عند العقل نقض اليقين بغير الشكّ أو اليقين بخلافه ؛ إذ لا ارتباط بين اليقين بوجود الطهارة ووجود المذي حتّى يمكن انتقاضه بوجود المذي ، فإنّه حالة نفسانية ولا دخل للامور الخارجية فيه إلاّ إعدادها لانتقاض اليقين بالشكّ ؛ إذ نقض اليقين ليس إلاّ رفعه ، ورفعه إمّا بيقين مثله على خلافه أو لعدم العلم به والتردّد ، فلا نقض في جميع الصور المفروضة إلاّ بالشكّ ، ولهذا ترى الانحصار في قول أبي جعفر عليه‌السلام : « وإنّما ينقضه بيقين مثله » (٧) إذ لا يسبق وهم إلى انتقاض اليقين بيقين غيره على

__________________

(١) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : فيحصل.

(٢) « ز ، ك » : ولا شكّ في الناقضية.

(٣) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الفضل.

(٤) « ز ، ك » : من.

(٥) « ز ، ك » : احتمله.

(٦) الفصول : ٣٧٢.

(٧) تقدّم في ص ٨٨.

١٧٦

شيء آخر غير مباين للمتيقّن أوّلا كما لا يخفى.

وإن أبيت عن ذلك فنقول في الجواب : إنّ المعيار في استصحابه على ما يستفاد من كلامه هو تأخّر زمان الشكّ عن زمان اليقين على وجه يستند الانتقاض إليه ، ومن الظاهر تخلّفه عن مطلوبه ؛ إذ النسبة بين الدليل والمدّعى هو العموم من وجه ؛ لأخصّية المدّعى عن الدليل فيما إذا حدث الشكّ باعتبار أمر خارجي عند الشكّ في قدح العارض كما إذا رأينا رطوبة مشتبهة بين كونها ماء أو بولا مثلا ، بل وإذا كان الشكّ في الحكم الكلّي أيضا كما إذا احتملنا مانعية حادث لم يكن قبل ـ ولو (١) بحسب (٢) نوعه ـ موجودا كالمذي ـ مثلا ـ لو فرضنا حدوثه في اليوم ، أو فيما إذا فرض عدم الالتفات إليه بوجه على تقدير وجوده أيضا ، وأخصّية الدليل عن المدّعى فيما لو كان الشكّ متقدّما أو مقارنا لزمان اليقين عند الشكّ في طروّ العارض ، كما إذا حدث الشكّ بخروج البول في الغد عند اليقين بالطهارة في اليوم ، فعند حضور الغد يشكّ في بقاء الطهارة بواسطة الشكّ في طروّ المانع ، فيستصحب الطهارة السابقة مع تقدّم الشكّ على زمان اليقين أو تقارنه له ، وذلك ظاهر.

وقد يتمسّك في دفع التفصيل المذكور بأنّ مورد الرواية من الأقسام التي لا يقول به فيها ، فإنّ الخفقة والخفقتين ممّا شكّ في اندراجهما تحت ما علم مانعيته. وفيه : أنّ ذلك ليس من موارد الاستصحاب في الرواية ، ولهذا ترى الإمام عليه‌السلام أجابه بدليل اجتهادي مبيّن للواقع وقال : « يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب » نعم (٣) لا يبعد دعوى ذلك بالنسبة إلى قوله : « فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم به » بناء على أن يكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في اندراج فرد تحت مفهوم معلوم المانعية ، ولكن ربّما يمنع عن ذلك أيضا فيقال بأنّ الشكّ إنّما هو من الشكّ في وجود المانع ، حيث إنّ السؤال إنّما هو من

__________________

(١) « ز » : ـ لو. « ك » : ـ ولو.

(٢) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : تحت.

(٣) « ج » : « و » بدل « نعم ».

١٧٧

وصول تلك الحالة إلى حالة النوم كما لا يخفى.

وقد يجاب عنه أيضا بأنّ الظاهر من الروايات عدم الاعتداد بالشكّ في حال من الحالات والأخذ بالحالة السابقة وعدم نقض اليقين إلاّ بيقين آخر ، ولا يضرّ في ذلك سبق الشكّ أو لحوقه ؛ ضرورة صدق الاعتداد بالشكّ عند التردّد في مانعية شيء موجود لو لم يؤخذ بالحالة السابقة ، وقد منع الشارع منه في الروايات المتقدّمة ، ومرجعه إلى دعوى إطلاق الأخبار أو عمومها لجميع (١) الأقسام. وهو غير بعيد ، إلاّ أنّ المعتمد في الجواب هو ما قدّمنا.

وقد ينسب إلى المفصّل المذكور (٢) التفصيل بين الأحكام والموضوعات أيضا فقال بالعدم في الثاني وبه في الأوّل ، ولم يظهر لنا أنّ التفصيل المتقدّم إنّما هو بعد إخراج الموضوعات كما يظهر من المحقّق الخوانساري في الحاشية المنقولة فيما تقدّم (٣) ؛ إذ لا دخل لأحد التفصيلين بالآخر.

وكيف كان ، فقد يتوهّم تعاكس هذا التفصيل (٤) لما ذهب إليه الأخباريون ، وليس بإطلاقه على ما ينبغي ؛ إذ يحتمل أن يراد بالموضوعات في مقابل الأحكام وجريان الاستصحاب فيها دونها أن يكون (٥) المستصحب هو الموضوع الخارجي كحياة زيد أو عدالة عمرو ، ونحوها كما هو الظاهر بملاحظة سياق العبارة المنقولة في الحاشية.

ويحتمل أن يراد بها الأحكام الجزئية الشرعية التي منشأ الشبهة فيها هي الشبهة في الأمور الخارجية كالطهارة المتعلّقة بثوب خاصّ باعتبار الشكّ في نجاسة البلل الواقع فيه.

فعلى ثاني الاحتمالين يصير القولان متعاكسين ، وعلى الأوّل فلا عكس له في

__________________

(١) « ز ، ك » : بجميع.

(٢) انظر ص ٦٢.

(٣) تقدّم في ص ١٣٦ ـ ١٣٨.

(٤) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : التفصيل هذا.

(٥) « ك » : وأن يكون.

١٧٨

الأقوال المعروفة.

والمشهور في مستند القول المذكور هو عدم شمول أخبار الباب لها بواسطة أنّ بيانها ليس من وظيفة الشارع ، فإن أراد بها الأحكام الجزئية قبالا للأخبارية ، فمحجوج بموارد الروايات المتقدّمة فإنّها بأجمعها واردة في مقام بيان تلك الأحكام ، وإن كنت في ريب منها فراجعها.

وإن أراد بها نفس الأمور الخارجية كما استظهرناه ، فالجواب عنه تارة بالنقض بالأحكام الجزئية التي وردت الروايات في بيانها ، فإنّ الشارع ليس من وظيفته بيان نجاسة الثوب الخاصّ الذي يشكّ (١) فيها بواسطة الاشتباه فيما لاقاه ، كما أنّه ليس من وظيفته بيان بقاء الرطوبة إلى غاية كذائية.

وأخرى بالحلّ وهو أنّ للموضوع الخارجي جهتين : إحداهما : بيان نفسه من غير تعرّض بشيء من أحكامه ، كأن يبيّن أنّ زيدا ـ مثلا ـ موجود أو (٢) أنّ البلل الواقع في الثوب الفلاني ماء أو غير ذلك ، والثانية : بيان حكمه إمّا واقعا إذا كان الموضوع للحكم هو نفس الموضوع من غير ملاحظة الجهل ، وإمّا ظاهرا فيما إذا كان الموضوع مشتبه (٣) الحكم مثلا ، وما دارت عليه الألسن من أنّ شأن الشارع ليس بيان الموضوعات إنّما هو بالنسبة إلى الجهة الأولى لا الثانية ، فإنّها في الحقيقة راجعة إلى حكم كلّي في قضيّة كلّية تندرج الموضوعات الجزئية الخاصّة في موضوعها ، فإنّ الشارع قد بيّن بعموم قوله : « لا تنقض » حكم الموضوع المشتبه ، وليس هذا من بيان الموضوع في شيء ؛ إذ كما أنّه لا يسبق وهم إلى أنّ بيان حكم كلّي الخمر (٤) بيان للموضوع ، فكذلك لا ينبغي أن يرتاب في أنّ القول بلزوم الأخذ بالحالة السابقة وترتيب آثارها على المشكوك عند الشكّ ، كما هو مفاد قوله : « لا تنقض » بيان للموضوع الخارجي.

__________________

(١) « ج ، م » : شكّ.

(٢) « ز ، ك » : و.

(٣) « م » : مشتبهة.

(٤) « ز ، ك » : كالخمر.

١٧٩

فالتفصيل المذكور في غاية السقوط ، ألا ترى أنّ الشارع قد جعل للموضوع المشتبه أمورا أخر غير الاستصحاب كاليد والسوق والبيّنة ونحوها ، وليس أمثال ذلك من بيان الموضوع في شيء ، بل إنّما هو حكم كلّي متعلّق بموضوع كلّي منطبق على جزئياته كالنجاسة للخمر الحقيقي ، فلا فرق بين القضيّة الحاكمة بنجاسة الخمر والقائلة بحلّية ما يوجد في سوق المسلم عند الاشتباه ، سوى الاشتباه كما لا يخفى على المتدبّر.

فإن قلت : إنّ المستفاد من أخبار الاستصحاب مجعولية المستصحب في مرحلة الظاهر ، كما إذا شكّ في فورية الخيار ـ مثلا ـ عند علم المشتري بالغبن أو العيب أو في وجوب شيء بعد ثبوته في الحالة السابقة ، فإنّ المستفاد من قوله : « لا تنقض » هو أنّ الشارع قد جعل في مرحلة الظاهر وجوبا ظاهريا عند الشكّ في البقاء وعدمه كما جعل حكما واقعيا قبل الشكّ ، ولا ريب أنّ الجعل الظاهري ممّا لا يتعقّل في الموضوعات الخارجية دون الأحكام ، فإنّها أمور واقعية لا مدخل لجعل الشارع فيها ، بخلاف الأحكام ؛ إذ ليس لها واقع إلاّ طلب الشارع على اختلاف الموارد ، فتارة إيجابا ، وأخرى استحبابا ، ومرّة تحريما ، ونوبة تنزيها ، كما لا يخفى ، فيمكن الجعل فيها كما هو مفاد الأدلّة ، فينحصر مورد الأخبار المذكورة في الأحكام.

قلت : قد عرفت فيما تقدّم آنفا (١) أنّ معنى قوله : « لا تنقض اليقين » هو وجوب الأخذ بالحالة السابقة وإجراء الأحكام المترتّبة على المتيقّن عليه عند الشكّ ، وليس للجعل فيه عين ولا أثر ، ووجوب الأخذ بالأحكام في الموضوعات معناه ترتيب آثارها عليها ، ففيما إذا شكّ في حياة زيد بعد العلم بها لا بدّ من الحكم بحرمة زوجته (٢) على غيره ووجوب إنفاقه لها ونحو ذلك ، وفي الأحكام أيضا معناه هو وجوب الإتيان

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ آنفا.

(٢) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : « زوجتها ».

١٨٠