مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

١
٢

٣
٤

تم تأسيس اكاديمية الامام الخميني (ره) والثورة الاسلامية التي تعد احدي المراكز العلمية ـ البحثية ، على اساس ضرورة البحث في الابعاد المختلفة للثورة الاسلامية وتنظيم الدراسات البحثية الاساسية والعملية حول آراء وافكار سماحة الامام الخميني (ره).

تاسست الاكاديمية ودشنت بفضل حنكة ودراية ويقظة نجل الامام ، الفقيد الراحل المفغور له آية الله الحاج السيد احمد الخميني طاب ثراه باعتبارها احدى المراكز التابعة لمؤسسة تنظيم ونشر تراث الامام الخميني (ره) وهي اليوم تواصل مسيرتها العلمية والبحثية تحت اشراف سامي من قبل سماحة العالم المحقق الفقيه والفاضل المتظلع النبيه ، قرّة عين الامام العبقري وبهجة قلب ولده الألمعي ، السيد حسن الخميني مد الله له في العمر السعيد ومتّعه بالعيش الرغيد.

منذ العام الاول لبدء العمل في الاكاديمية وانطلاق المسيرة العلمية المباركة اي في عام ١٩٩٦م / ١٤١٧هـ. وحتى الان بادرت هذه المؤسسة العلمية الى تربية العشرات من الباحثين في مضمار الامام والثورة الاسلامية ، والى جانب تجميع وتصينف آلاف الوثائق والمستمسكات العلمية وتأسيس مكتبة تخصصية قيمة تحتوي على عشرات الالاف من الكتب والمجلات العلمية ، قامت بتأليف وترجمة وطبع الكثير من الكتب العلمية القيمة.

واليوم تعلن الاكاديمية بكل فخر واعتزاز عن طبعها لهذا السفر القيم الذي يعد نتيجة للبحوث والمساعي العلمية لاحد حاملي نبراس النور لموكب العلماء ، والمدافع عن حوزة الايمان ، من شجرة طيبة ودوحة مثمرة تفرغت منها كريمة الامام الخميني (ره) ونتجت عليها ابناء سماحة ونحن نضع هذا المنشور المبروك تحت تصرف اصحاب الرأي والعلماء والباحثين الاكارم ونحمد الله سبحانه على ذلك.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عباسعلي روحاني

رئيس اكاديمية الامام الخميني (ره) والثورة الاسلامية

٥

[الاستصحاب]

٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين إنّه خير معين (١) الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين (٢) الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين أبد الآبدين (٣).

القول في الاستصحاب

وتحقيق المقصود فيه في طيّ هدايات

[ تعريف الاستصحاب ]

تحديد : الاستصحاب لغة : أخذ الشيء مصاحبا ، واصطلاحا على ما عرّفه في المشارق ناسبا له إلى الأصوليين (٤) : إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه (٥).

واعترض عليه بأنّ الاستصحاب دليل ، والإثبات مصدر متعدّ فعل للمكلّف لا سبيل إلى جعله دليلا.

وفيه : أنّ من الواضح نقل الاستصحاب عن معناه اللغوي إلى معناه الاصطلاحي ، ولا شكّ في مسبوقية النقل إلى مناسبة بين المنقول منه والمنقول إليه ، والأغلب أنّها في

__________________

(١) المثبت من « ز » : وفي سائر النسخ : ـ إنّه خير معين.

(٢) المثبت من « ز » وفي سائر النسخ : ـ الطيّبين.

(٣) لم ترد الخطبة في « م ».

(٤) في « ك ، ل » : ناسبا منه للأصوليين. وفي « ز » : تأسّيا منه للأصوليين.

(٥) مشارق الشموس : ٧٦ وفيه : « إثبات حكم شرعي ... ».

٧

الأمور الاصطلاحية من نقل الكلّي إلى أفراده ، وقد عرفت أنّ معنى الاستصحاب لغة هو الأخذ مصاحبا ، فإنّه استفعال من صحب ، قال في المجمع : استصحب القوم : صحب بعضهم بعضا (١). ولا ضير في كون الدليل من مقولة الفعل ؛ إذ معنى دليليته هو اعتباره في نظر الشارع على نحو اعتبار الكتاب والسنّة ، فكما أنّ نقل الإجماع يذكر في عداد الأدلّة مع أنّ النقل فعل كالقياس و (٢) الاستحسان فإنّه اعتبار على ما تخيّله المعتزى به ولا غائلة فيه ، فكذلك الاستصحاب فإنّ الفعل صالح للاتّصاف بالدليلية.

على أنّ ظاهر الحدود المودعة في كتب القوم هو هذا ، قال شيخنا البهائي : هو (٣) إثبات الحكم (٤). اه (٥).

وقال في الوافية : إنّه التمسّك (٦) اه.

وقال بعضهم في الرسالة الاستصحابية : هو الحكم باستمرار أمر (٧) اه.

وقال بعض آخر : هو إبقاء ما كان.

وفي الاشارات عن بعض الأواخر (٨) : هو الحكم باستمرار ما كان (٩).

وعن الشهيد : أنّ قاعدة اليقين هو البناء (١٠).

__________________

(١) مجمع البحرين ٢ : ٩٩.

(٢) « م ، ج » : أو.

(٣) « م ، ج » : إنّه.

(٤) زبدة الأصول : ١٠٦ ، وفيه : « هو إثبات الحكم في الزمن الثاني تعويلا على ثبوته في الأوّل ».

(٥) « م ، ج » : ـ « اه » وكذا في الموارد الآتية.

(٦) الوافية : ٢٠٠ ، وفيه : « هو التمسّك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت في غير تلك الحال ».

(٧) الوحيد البهبهاني في رسالة الاستصحاب المطبوعة في الرسائل الأصولية : ٤٢٤ ، وفيها : « ... أمر كان يقيني الحصول في وقت أو حال ، ومشكوك البقاء بعد ذلك الوقت أو الحال ».

(٨) « ك » : ـ الأواخر.

(٩) اشارات الأصول ، قسم الأدلّة الشرعية ( مخطوط ) ٩٣ / ب ، وأورد فيه أكثر التعاريف التي ذكرها المؤلّف.

(١٠) القواعد والفوائد ١ : ١٣٢ ، القاعدة الثالثة ، وفيه : « وهي البناء على الأصل ».

٨

وعن التنقيح : الاستصحاب هو الحكم على وجود شيء (١).

فإنّ صريح هذه الحدود هو أنّ المحمول في هذه القضايا من مقولة الفعل وهو الجنس فيها ، ومنه يظهر ثبوت اصطلاحهم فيه واستقراره على ذلك (٢) ، ويوضحه نسبته إلى الأصوليين في المشارق ، ويؤيّده موافقته لسائر مشتقّاته من موارد استعماله ، فيقال : استصحب إذا حكم بثبوت شيء ثابت سابقا فهو مستصحب وذاك مستصحب ، وعند إظهار العلّة في الحكم بثبوت (٣) شيء وترتيب آثاره السابقة (٤) ، استصحابا للحالة السابقة كما يظهر من موارد استعماله (٥) ، نعم قد يفترق في ذلك الأحكام والموضوعات ، فإنّ الحكم المستصحب في زمان الشكّ مصاحب للمستصحب بخلاف الموضوعات ؛ إذ الموضوع المستصحب آثاره مستصحبة ، فيصير الاستصحاب فيها من قبيل الاستعارة التمثيلية كتشبيه المتردّد بـ « من تقدّم رجلا وتأخّر (٦) أخرى » وهذا الفرق إنّما هو بواسطة قابلية الحكم للجعل في الزمان الثانى بخلاف الموضوع وإن كان قد يقال : بأنّ الحكم في الزمان الثاني ليس هو الحكم الأوّل بل هو مماثل له ، ولهذا يختلف (٧) بالظاهرية والواقعية كما لا يخفى.

لا يقال : قد يكون الشيء معلوم الوجود في الحال ومشكوكه في زمان متأخّر عن (٨) الزمان الحاضر ويستصحب إلى زمن يمكن (٩) بقاؤه فيه مع أنّ المعنى اللغوي غير واقع (١٠) في هذا الموضوع (١١) ، لانتفاء المصاحبة في زمن غير مدرك.

__________________

(١) التنقيح الرائع ١ : ٧ ، وفيه : « هو الحكم على وجود الشيء أو عدمه في الحال للعلم بوجوده أو عدمه في الماضي ، فيقال : الأصل بقاء ما كان على ما كان ».

(٢) « ج ، م » : ـ واستقراره على ذلك.

(٣) « ك ، ل » : ثبوت.

(٤) « ك » : السابقة عليه.

(٥) « ك » : استعمالاته.

(٦) « ل » : « يقدّم ... يؤخّر ».

(٧) « ز ، ك » : قد يختلف.

(٨) « ج ، م » : من.

(٩) « ك » : يكون.

(١٠) « ل » : واضح.

(١١) « م » : الموضع.

٩

لأنّا نقول : على تقدير التفسير بالبقاء أيضا كذلك ، مع أنّ استقبال المتعلّق غير مضرّ في صدق المعنى اللغوي ، وإن شئت التوضيح فلاحظ كيف يعبّر عنه بالفارسية فيقال : « همراه داشتن وهمراه داشته شده » ونحو ذلك ممّا هو ظاهر ، ويزيد ذلك توضيحا عند ملاحظة الأحكام المحمولة على الاستصحاب من الحجّية والدليلية والوجوب ، فيقال : الاستصحاب حجّة أو دليل أو واجب ، فإنّه لا يعقل إلاّ بعد كونه الإبقاء (١) ؛ إذ لا معنى لاتّصاف البقاء بالحجّية أو الدليلية أو الوجوب ، وأمّا الإبقاء فيصحّ توصيفه بالأمور المذكورة ، فإنّ المراد بدليلية الإبقاء (٢) لو كان من حيث حكم العقل بالبقاء فظاهر ؛ إذ الدليل العقلي على ما عرّف (٣) هو حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي ، وانطباقه على الاستصحاب ظاهر ، ولو كان من حيث حكم الشرع فالمراد به هو ترتيب آثار المعلوم على المشكوك ، وموارد استعماله منطبقة على أحد المعنيين ولو على سبيل التوزيع.

وربّما يستعمل مدخولا للام التعليل في مطاوي كلمات المتعبّدين به ، فيكون إشارة إلى نفس تلك القاعدة المتلقّاة من الصادقين عليهم‌السلام كما في قولهم : للاشتغال أو للضرر أو لليد ، فينقل (٤) منه إليها من حيث اشتمال تلك القاعدة عليه ، كما لا يخفى.

وقد يعترض على الحدّ المذكور بوجوه أخر ، والإعراض (٥) عنها أجدر.

ثمّ إنّه قد جعله بعضهم ـ على ما حكي ـ (٦) نفس الحالة السابقة ، ولا شاهد عليه.

وعرّفه المحقّق القمي بأنّه كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق ،

__________________

(١) « ل » : للإبقاء.

(٢) « ز ، ل ، ك » : لاتّصاف البقاء بهذه الأمور بخلاف الإبقاء ، فإنّه صالح للاتّصاف المذكور ، ضرورة أنّ المراد بدليلية الإبقاء.

(٣) « ز ، ك ، ل » : عرّف به.

(٤) « ل » : فينتقل.

(٥) « ز ، ك ، ل » : المذكور بأمور ضعيفة ، فالإعراض.

(٦) « ك ، ل ، م » : ـ على ما حكي.

١٠

مشكوك البقاء في الآن اللاحق (١).

وفساده غير خفيّ ؛ إذ الاستصحاب ـ على ما عرفته (٢) ـ إنّما هو من الأدلّة العقلية وقد (٣) عدّه في عدادها غير معدود منهم ، وليس الكون الموصوف بما ذكر (٤) حكما عقليا يتوصّل به إلى حكم شرعي ، بل إنّما هو (٥) يحصل فيه ، ولعلّه إنّما أخذه من صغرى كلام العضدي حيث قال : إنّ معنى استصحاب الحال أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّ ما هو كذلك فهو مظنون البقاء ، ثمّ قال : وقد اختلفوا في صحّة الاستدلال به لإفادته ظنّ البقاء ، وعدمها لعدم إفادته إيّاه (٦). فإنّه قد يتسارع إلى الفهم أنّ الخلاف إنّما هو في الكبرى ، والنزاع في حجّية شيء إنّما هو بعد التسليم في مفهومه والمسلّم في المقام هو الصغرى ، فلا بدّ أن يكون ما ذكره في بيان الصغرى هو المفهوم المسلّم ، فيكون حدّا للاستصحاب (٧) ، إلاّ أنّه بعيد عن الصواب فإنّ من الواضح أنّ المعنيّ بالتعريف في المقام هي (٨) الكبرى فإنّها صالحة لأن ينتزع منها الحدّ كما هو ظاهر ، فبيان الصغرى إنّما هو توضيح للمورد ، وتوضحه (٩) ملاحظة ما صنعه العضدي في مقام تحديد القياس فراجعه. ووقوع الخلاف في الكبرى ليس بضائر في كونها ممّا ينتزع منها الحدّ ؛ إذ غاية ما يلزم أن يكون النزاع في حصول الظنّ وحكم العقل بالبقاء وعدمه.

ولقد أجاد صاحب المعالم حيث جعل صغرى ما في كلام العضدي محلاّ للاستصحاب فقال : اختلف الناس في استصحاب الحال ، ومحلّه أن يثبت حكم في وقت ثمّ يجيء وقت آخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، فهل يحكم ببقائه على

__________________

(١) القوانين ٢ : ٥٣ ، وفي ط : ص ٢٦٥.

(٢) « ج ، م » : إذ كما عرفت أنّ الاستصحاب.

(٣) « ز ، ك ، ل » : ـ قد.

(٤) « ل » : ذكره.

(٥) « ج ، م » : ـ هو.

(٦) شرح مختصر منتهى الأصول : ٤٥٣.

(٧) « م » : حدّ الاستصحاب.

(٨) « ز ، ك ، ل » : ـ هي.

(٩) « ج ، م » : يوضحه.

١١

ما كان وهو الاستصحاب ، أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دليل (١)؟

ومن الظاهر انطباق كلامه على ما نبّهنا عليه.

وكيف كان فما أورده في مقام التحديد ممّا لا يصل إلى طائل.

قال الأستاد أنار الله برهانه : ويمكن أن يتعسّف في كلامه على وجه يرجع إلى التحديد للاستصحاب (٢) فيقال : إنّ الاستصحاب في قوله : « استصحاب الحال » مصدر للفعل المبنيّ للمفعول أضيف إلى فاعله وهو الحال ، والكون محمولي تامّ لا رابطي ناقص ، وقوله : « يقيني الحصول » كقوله : « مشكوك البقاء » صفة للحكم أو الوصف لا خبر للكون ، والظرف الأخير من متعلّقات الكون لا المشكوك ، فيصير الحاصل أنّ مستصحبية (٣) الحال وكونه مستصحبا عبارة عن ثبوته في الآن اللاحق بعد ما كان مشكوكا (٤) ، و (٥) يقيني الحصول في السابق.

قلت : وقد اعترف سلّمه الله بكونه تعسّفا فلا ينبغي الركون إليه ، على أنّه لا يتمّ أيضا ؛ إذ المعهود في مقام التحديد هو بيان الاستصحاب المبنيّ للفاعل.

وقد يتخيّل أنّه ليس في مقام التحديد ، بل إنّما هو أيضا في مقام بيان محلّه كصاحب المعالم ، ويدفعه ملاحظة صدره وذيله كما هو ظاهر (٦).

ثمّ إنّ الحدود المتقدّمة متوافقة المعنى غالبا وإن اختلفت (٧) ألفاظها على حسب ما قد يناقش في بعضها ويزيّف بعض آخر كما هو دأب المحصّلين في مثل المقام. وأجودها ما دارت عليه ألسنة المشهور من أنّه إبقاء ما كان على ما كان ، وقصارى ما يورد

__________________

(١) المعالم : ٢٣١.

(٢) « ز ، ك ، ل » : تحديد الاستصحاب.

(٣) « م ، ج » : مستصحبة.

(٤) « ز » : مشكوكا فيه.

(٥) « ز ، ل » : ـ و.

(٦) « ز ، ك ، ل » : ليس بصدد التحديد ، بل هو أيضا ـ كصاحب المعالم ـ في مقام بيان محلّ الاستصحاب ومورده ، ويدفعه ... وذيله من كتابه.

(٧) « م » : اختلف.

١٢

عليه انتقاض طرده بما إذا ثبت الحكم ثانيا بدليل ، ويدفعه انصراف (١) الحدّ إلى الحيثية المستفادة من التعليق ، فإنّ المتبادر هو الإبقاء ، لكونه سابقا.

والأسدّ الأخصر هو ما عرّفه الأستاد بأنّه إبقاء ما يحتمل الارتفاع ، فإنّه لا يتوجه عليه المناقشة المتقدّمة. وتوضيحه أنّ الاستصحاب وغيره من الأصول العملية إنّما هي من لواحق موضوع الشكّ وبيان لحكمه ، فالشكّ ابتداء حكمه الأخذ بالبراءة الأصلية ، و (٢) فيما له حالة سابقة يجب الأخذ بالحالة السابقة ، ومعلوم أنّ الحكم إنّما يلحق الموضوع مع وجوده ، ففي مورد الاستصحاب إنّما يحكم به من حيث إنّه حكم مشكوك له حالة سابقة ، وموارد الأدلة الاجتهادية إنّما هي مواضع الشكّ على وجه يرتفع الشكّ بها ، فإنّها كاشفة ولو ظنّا عن الواقع ، ففيما إذا ثبت حكم في الزمان الثاني بدليل اجتهادي لا يصدق أنّه إبقاء لما يحتمل الارتفاع ، بل هو رفع لاحتمال الارتفاع بما يكشف عن الواقع لا حكم لموضوع الاحتمال.

أقول : وفيه تعسّف لا ينبغي تحمّله في مقام التحديد ، على أنّه لا يلائم القول باعتباره من حيث الظنّ ؛ لكونه دليلا اجتهاديا كسائر الأدلّة الاجتهادية ، غاية الأمر عدم إمكان تعارضه لها نظرا إلى وجه خارجي ، مع أنّه ينتقض أيضا بما إذا ثبت الحكم في الزمان الثاني بأحد الأصول العملية فيما إذا توافق مواردها للاستصحاب.

اللهمّ إلاّ أن يدفع بكفاية لفظ (٣) الإبقاء عن ذلك ، وعلى تقديره فالحدّان متساويان فى ذلك ، واحتمال ورود دليل على لزوم الإبقاء مدفوع بأنّ الدليل الدالّ على لزوم الإبقاء ليس إلاّ الاستصحاب أو ما في معناه ، مضافا إلى أنّ (٤) كونه مسوقا لبيان حكم موضوع الشكّ ، وكونه معتبرا من باب التعبّد ، لا ينافي حصول الظنّ منه اتّفاقا ، فليس من محتمل الارتفاع حينئذ ، كما لا يخفى.

__________________

(١) « م ، ج » : بانصراف.

(٢) « ز ، ك » : ـ و.

(٣) « ج ، م » : لفظة.

(٤) « ز ، ك ، ل » : ـ أنّ.

١٣

فالتحقيق : أنّ هذه الحدود غالبا حدود لفظية والمعنى معلوم ولا ينبغي الاهتمام في مثله بعد ظهور المقصود.

ثمّ إنّ ممّا (١) ذكرنا من المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي يظهر الوجه في عدم انطباق الاستصحاب لجملة من موارده ، كاستصحاب (٢) القهقرى (٣) المعروف في لسان عوامّ الطلبة ، وطورا يعبّر عنها (٤) بأصالة تشابه الأزمان ، والمراد به إثبات ما ثبت في الزمان اللاحق قبل ذلك الزمان من الأزمنة السابقة ؛ إذ ليس فيه الإبقاء بوجه ، بل قضيّة استصحاب العدم عدم ثبوته في الزمان السابق. نعم يمكن التمسّك فيه بأصالة عدم النقل ولا مدخل له فيما نحن بصدده ، وكاستصحاب الشكّ الساري ، وكاستصحاب العرضي ، واستصحاب حكم العقل ، ونحوها ممّا سنسوق الكلام في (٥) تفاصيلها إن شاء الله العزيز ، فتأمّل في المقام (٦).

__________________

(١) « ج » : ما.

(٢) كذا. ولعلّ الصواب : كالاستصحاب.

(٣) سيوافيك الكلام عنه في ص ٢٨٦.

(٤) « ج » : ـ عنها.

(٥) « ز ، ك ، ل » : إلى.

(٦) « ز ، ك ، ل » : ـ العزيز ، فتأمّل في المقام.

١٤

هداية

[ في أنّ الاستصحاب من الأدلّة أو من القواعد الفقهية ]

هل الاستصحاب من الأدلّة (١) ، أو من القواعد الفقهية؟ وعلى الثاني : فهل هو (٢) من القواعد الممهّدة للاستنباط حتّى يكون (٣) من المسائل الأصولية ، أو هو من القواعد الكلّية الفرعية؟ فلنا مقامان :

[ المقام ] الأوّل

قد عدّه جماعة من أساطين الفنّ في عداد الأدلّة العقلية كالمحقّق (٤) وأضرابه ، ولعلّه مبنيّ على إفادته الظنّ ؛ إذ لا كلام في كونه من الأدلّة حينئذ ، إذ الدليل العقلي هو حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي ، وهو صادق على حكم العقل ظنّا ببقاء ما ثبت ، فإنّه موصل إلى الحكم الشرعي ، كما في صورة العلم العقلي ؛ إذ لا يتفاوت في صدق الحكم العقلي على أفراده بين أن يكون قطعيا كحسن العدل والإحسان ، أو ظنّيا كالاستصحاب والاستحسان ، إلاّ من جهة تفاوت مراتب نفس الحكم والإدراك ظنّا وعلما.

__________________

(١) « ج » : الأدلّة العقلية.

(٢) « م » : ـ هو.

(٣) « م » : تكون.

(٤) انظر معارج الأصول : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ؛ المعتبر ١ : ٣٢.

١٥

ثمّ لا يخفى أنّ الأخبار الواردة في المقام لو قلنا : إنّها واردة على طبق حكم العقل فتدلّ على اعتبار الاستصحاب من حيث إفادته الظنّ ، فهو أيضا دليل كأخبار الآحاد وغيرها من الأدلّة الشرعية.

وتوضيحه وتحقيقه : أنّ المعيار في كون الشيء دليلا هو كاشفيته عن الواقع على وجه به يوصل إليه ومنه يطلب أمرا واقعيا ثابتا في نفس الأمر ، فكلّما كان الشيء كاشفا ولو ظنا عن الواقع ، فهو دليل ، غاية ما في الباب عدم اعتبار الكاشف الظنّي إلاّ بعد دلالة دليل عليه ، بخلاف ما لو كان علميا ؛ إذ لا حاجة فيه إلى دليل آخر غير نفسه كما هو ظاهر.

فالاستصحاب الظنّي دليل ، سواء كان المدار في اعتباره على القاعدة العقلية التي زعمها القائل بها (١) ، أو على الأخبار ، ألا ترى أنّ جملة من الأدلّة تستفاد (٢) حجّيتها من الأدلّة الشرعية ومع ذلك لا يتوهّم خروجها عن الأدلّة.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الأخبار الدالّة على الاستصحاب ليست مقرّرة لما استقرّ عليه بناء العقلاء من اعتبار الاستصحاب الظنّي ، بل إنّما يدلّ على الاستصحاب التعبّدي والأخذ بالحالة السابقة بترتيب آثارها عليها عند الشكّ ، فلا شكّ في عدم كونه دليلا ، فإنّه حينئذ كإحدى (٣) القواعد الشرعية من قاعدة اليد والضرر ولزوم البيع ونحوها ، فإنّ المناط في كون شيء قاعدة هو أن يكون مفادا لدليل شرعي ، ولم يكن من حيث كشفه عن الواقع وإن كشف عنه في بعض الأحيان كشفا اتّفاقيا ؛ إذ لم يكن اعتباره من هذه الحيثية ، ومن هنا انقدح أنّ قول الشارع : « إذا شككت فابن على الأكثر » (٤) قاعدة شرعية ، بخلاف ما ورد من وجوب متابعة الإمام ، فإنّه دليل من حيث كشفه عن

__________________

(١) « ز ، ك ، ل » : ـ بها.

(٢) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : يستفاد.

(٣) « ج » : كأحد.

(٤) الوسائل ٨ : ٢١٣ ، باب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣ ، وفيه : « إذا سهوت ... ».

١٦

الواقع.

والحاصل : أنّ الاستصحاب ليس إلاّ حكم الشارع في موارد الشكّ بالأخذ بالحالة السابقة علاجا للشكّ في الواقعة المشكوك فيها (١) ، وهذا هو المراد من كونه قاعدة فقهية لا دليلا ، لا أنّه لا يمكن جعل تلك القاعدة كبرى عند الشكّ في أحكام جزئيات موضوعها ، كما هو الشأن في جميع القواعد ، فتدبّر.

ثمّ إنّ دليلية الاستصحاب على تقدير أخذه من العقل إنّما (٢) يجدي في كونه دليلا ، ولا يجدي في عدّه دليلا آخر في قبال العقل ؛ لأنّه منه ، فيتّحد القسمان إلاّ أن يكون تنبيها على اختلاف نوعي حكم العقل فيه وفي القطعيات.

المقام الثاني

فى أنّه هل البحث في الاستصحاب بحث عن المسألة الأصولية ، أو (٣) بحث عن المسألة الفرعية؟ ربّما يتوهّم : أنّ بعد ما علم في المقام الأوّل من أنّه دليل أو قاعدة لا وجه للتكلّم في هذا المقام ؛ إذ على الأوّل فهو من المسائل الأصولية ، وعلى الثاني (٤) فهو من المسائل الفرعية ، وليس كما يتوهّم (٥) ؛ إذ قد يكون دليلا في الموضوعات الخارجية على الظنّ والتعبّد ولا يصير البحث عنه أصوليا ، وقد يكون قاعدة والبحث عنه أصولي ، لكونها ممهّدة للاستنباط. وكيف كان فتحقيق البحث موقوف على تمهيد مقدّمة :

فنقول : إنّ المعيار في تميّز مسائل العلوم المختلفة على ما هو المقرّر في مقامه أمور : أوّلها ـ وهو أقواها ـ : ملاحظة رجوع البحث في تلك المسألة إلى البحث عن

__________________

(١) « ج » : المشكوكة فيها.

(٢) « ز ، ك » : ربّما.

(٣) « ز ، ك » : ـ بحث عن المسألة الأصولية أو.

(٤) « ز ، ك » : كما أنّه على الثاني.

(٥) « ز ، ك » : توهّم.

١٧

عوارض الموضوع في ذلك العلم ، فإنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، فإنّ المسألة ـ على ما هو التحقيق ـ هو نفس المحمولات من حيث انتسابها إلى الموضوعات ، والموضوع في المسألة قد يكون نفس موضوع العلم ، وقد يكون جزء منه ، أو جزئيا له (١) ، أو جزء من جزئيه ، على الوجه المعهود في مسائل العلوم المدوّنة ، وبيان كيفية البحث عن الأجزاء والجزئيات خارج عمّا نحن بصدده.

وبالجملة : فملاحظة الموضوع من أقوى ما يحصل به (٢) التميّز عند اشتباه المسائل ، لكنّه إنّما يجدي إذا كان الموضوع معلوما عند الكلّ متّفقا عليه ، وأمّا إذا كان مختلفا فيه فقد يمكن أن يكون شيء من الموضوع عند البعض ، فالبحث عنه إنّما يعدّ من مسائل الفنّ عنده لا عند من لا يراه منه كما هو ظاهر ، مثلا موضوع الأصول ممّا قد اختلف فيه ، فقيل بكونه ذوات الأدلّة مع قطع النظر عن (٣) اتّصافها بالدليلية ، فيكون البحث عن دليليتها داخلا في علم الأصول ، وقيل بكونه الأدلّة مع كونها أدلّة ، فلا يكون البحث عن دليليتها داخلا في العلم ؛ لما تقرّر (٤) من أنّ الموضوعات في العلوم المدوّنة لا بدّ وأن يكون إمّا مبنيّة في العلم الأعلى ، أو مبنيّة بنفسها ، ولمّا كان المتعارف فى كتب الأصول البحث عن تلك المسائل أيضا ، تجشّم بعضهم في دفع ذلك بالوجه الأوّل. فيرد عليه : أنّ البحث عن قدم الكتاب وحدوثه ، وكونه معجزة وعدمه ، وكيفية نزوله ، ومراتب بواطنه ، من المسائل المدوّنة في غير الفنّ منه. اللهمّ إلاّ بنوع من العناية. وبالجملة فعند ذلك لا بدّ من الرجوع إلى غير هذا المعيار.

وثانيها : حدّ العلم فإنّه أيضا ممّا يمكن استعلام حال المسائل به ، فإنّ التحديدات المتداولة في العلوم المدوّنة وإن لم يمكن أن تكون (٥) تحديدات حقيقية (٦) ومركّبة من

__________________

(١) « ج ، م » : منه.

(٢) « م ، ج » : ما به يحصل.

(٣) « م ، ج » : من.

(٤) « ز ، ك » : قد تقرّر.

(٥) في النسخ : يكون.

(٦) « ل ، ك » : حقيقة.

١٨

الأجناس والفصول ، لتعذّر الاطّلاع على كنه العلوم ابتداء ، إلاّ أنّه لا بدّ وأن يكون على وجه شامل لجميع المسائل المبحوث عنها في تلك العلوم ولو شمولا عرضيا بحيث لو اطّلع الطالب على مسألة منها عرف بكونها منها (١) ، فالحدّ هي الجهة الجامعة لمسائل العلم ، ومنه يستعلم حال الموارد المختلفة ؛ إذ لا أقلّ من كونه مانعا عن المسائل التي ليست من العلم ، وجامعا للتي هي منه ، وذلك ظاهر في الغاية ، إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّه متى تعارض (٢) الموضوع والحدّ في تميّز مسألة على وجه يحكم الأوّل بدخوله في العلم ، والثاني بخروجه عنه (٣) ، فالموضوع هو المقدّم ؛ لكونه أصلا في التميّز ، ولهذا قيل : إنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات مع حصول التميّز بغيرها أيضا ، والوجه في ذلك انتزاع الحدّ واقعا من الأمور المختلفة والمحمولات المنتهية إلى جهة متّحدة وهو الموضوع ، فهو تابع للموضوع ، وأمّا المحمول فتميّزه بتميّز الموضوع ؛ لكونه من أحكامه من حيث هو محمول ، فهو الأصل في التميّز كما لا يخفى.

وثالثها ـ وهو أضعفها ـ : تدوين أهل العلم لها فيه ، أو تنصيص أهل الفنّ والخبرة بذلك ، هذا بالنسبة إلى مطلق العلوم المدوّنة ، وقد يوجد فى بعض منها ما يخصّ البعض كما في المسائل الفقهية والمسائل الأصولية ، فإنّ من خصائص الأولى أنّ بعد ما استفرغ المجتهد (٤) جهده في تحصيل الحكم الشرعي وبذل وسعه في استنباطه بدفع المعارضات للأدلّة وبتوضيح الدلالات فيها ، كان للمقلّد أن يعمل به بلا حالة منتظرة (٥) ، كوجوب الصلاة ، ولزوم البيع ، وثبوت الخيار عند ظهور العيب فى المبيع ، ونحوها ، ومن خصائص الثانية أنّه (٦) بعد التنقيح والتصحيح لم يكن من شأن المقلّد أن يعمل به ،

__________________

(١) « ز ، ك ، ل » : عرف أنّها منها.

(٢) « ز ، ك ، ل » : عارض.

(٣) « ز ، ك ، ل » : منه.

(٤) « ز ، ك » : ـ المجتهد.

(٥) « ز ، ك ، ل » : كان للمقلّد أن يقلّده فيه ويعمل به بلا حاجة إلى حصول حالة منتظرة إليها.

(٦) « ج ، م » : أنّ.

١٩

كحجّية أخبار الآحاد ، فإنّ بعد إثبات هذه القضيّة ليس للمقلّد أن يعمل بالخبر (١) ؛ إذ غاية الأمر أنّ المجتهد إنّما تصدّى لدفع المعارضات للحجّية ، وأمّا المعارضات لمدلول كلّ واحد من الأخبار ، فلدفعها محلّ آخر ، فلا بدّ من ملاحظة الأصول المعمولة (٢) في الأدلّة اللفظية من أصالة عدم الحذف والقرينة (٣) والنقل ونحوها (٤) ، وتشخيص الأوضاع للألفاظ (٥) الواقعة فيها من كون الأمر الواقع فيها للوجوب أو للندب (٦) ، إلى غير ذلك من وجوه الاختلافات التي ليس للمقلّد تشخيصها وتحقيقها كما هو ظاهر وإذ قد تمهّد هذه فنقول : إنّ تحقيق الكلام في مقامين :

المقام الأوّل

في تشخيص أصناف الاستصحاب

وجملة الكلام فيه أنّ الاستصحاب من المسائل الفرعية بالنسبة إلى الموضوعات الخارجية التي هي عندنا أعمّ من الموضوعات الصرفة ، كحياة زيد ، والرطوبة ، واليبوسة ، ونحوها ، ومن الأحكام الجزئية المتعلّقة بخصوصيات المكلّفين ، كوجوب الواجب على زيد ، وحرمة الحرام عليه ، ونحوها ، سواء اعتبرناه أمارة ظنّية فيها كالبيّنة ، أو تعبّدية ؛ لجريان الوجوه المميّزة فيه.

أمّا حديث الموضوع فلأنّه من عوارض جزئيات فعل المكلّف ولو بنحو من العناية في البعض ، ومنه يظهر صدق حدّ الفقه ، عليه وعدم صدق تعريف الأصول عليه ؛ إذ ليس من القواعد الممهّدة للاستنباط ، فإنّها ليست بأحكام شرعية. أمّا

__________________

(١) « م » : بالخبر الواحد.

(٢) « ز ، ك ، ل » : العملية.

(٣) « ز ، ل ، ك » : ـ والقرينة وفي « ج » : والجزئية.

(٤) « ز ، ك ، ل » : نحوهما.

(٥) « ز ، ك ، ل » : الأوضاع والألفاظ.

(٦) « ز ، ك ، ل » : الندب.

٢٠