مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

بذلك ، وأمّا الثاني : فيظهر منه فيما أورده على وجه السؤال بقوله : « هل الشكّ في كونه إلخ » فإنّ لازم تضعيف أدلّة الاستصحاب والحكم بإجمالها حجّيته في الصورتين اللتين نبّه عليهما فقط : الأولى : الشكّ في وجود الغاية المعلومة أو المزيل المعلوم ، الثانية : الشكّ في صدق الغاية على شيء ، فالأوّل كما إذا شكّ في وجود الليل (١) بعد كونه غاية للصوم ، أو في حدوث البول بعد العلم بكونه مزيلا للطهارة ، و (٢) الثاني كالشكّ في صدق النوم المزيل على الخفقة والخفقتين (٣) مثلا ، ويجمعهما الشكّ من جهة الاشتباه في الأمر الخارجي بعد العلم بالحكم الشرعي ، وأمّا إذا كان الشكّ في نفس الحكم الشرعي كالشكّ في مانعية المذي للطهارة بعد العلم بعدم صدق المزيل المعلوم المزيلية وهو البول عليه ، وكالشكّ في إزالة النجاسة بالتمسيح بحجر واحد ذي ثلاث شعب بعد العلم بعدم كونه من مصاديق ثلاثة أحجار ، فالاستصحاب ليس حجّة عنده فيه وإن كان من أقسام الشكّ في المانعية ؛ لأنّه لو فرض عدم الشكّ لا يلزم منه اليقين كما أخذه معيارا في مجاري استصحابه.

وأمّا التمسّك بنفس الخطاب الدالّ على الحكم ، فلا وجه له عنده أيضا ؛ لعدم تعرّض دليل الوضوء لحال عروض المذي ، ولذلك لم يحكم بجريان قاعدة الاشتغال في هذه الصورة أيضا ، فجريان الاستصحاب فيها موقوف على ما يراه القوم فيه ولا يتمّ على ما ذكره.

هذا تمام الكلام في توضيح ما أفاده واستخراج مرامه من ألفاظه الشريفة فها أنا أشرع في الإيراد عليه متمسّكا بالعروة الوثقى والحبل المتين الذي أودعه الله ببركات مولانا الأمير في نفوسنا.

فأقول : إنّ خلاصة ما استدلّ به على مطلبه وجهان : أحدهما : الأخذ بقاعدة

__________________

(١) « ز » : الدليل ، وكذا في « ك » ثمّ غيّر بـ « الليل ».

(٢) « ز ، ك » : ـ و.

(٣) « ج ، م » : الخفقتان.

١٤١

الاشتغال ، وثانيهما : أخبار الاستصحاب.

ويرد على الوجه الأوّل وجوه من الإيراد : الأوّل : أنّه غير مطابق لما أخذه في عنوان مطلبه ، وتحقيق ذلك أنّ العبارة المنقولة منه ـ وهو قوله بعد نفيه لاستصحاب القوم واستظهاره حجّية الاستصحاب بمعنى آخر وهو أن يكون دليل شرعي على أنّ الحكم الفلاني بعد تحقّقه ثابت إلى حدوث حالة كذا ـ شاملة لصور عديدة لا مسرح لقاعدة الاشتغال فيها بوجه ، وتوضيحه أنّ الأحكام على ما ذكره على (١) ثلاثة أقسام : إمّا وضعية أو اقتضائية أو تخييرية ، ولمّا كان مرجع الأولى إلى أحد الأخيرين فينحصر فيهما ، وقد عرفت ما ذكرنا في توجيه التخييرية فلا نطيل (٢) بإعادته.

وأمّا الاقتضائية : فإمّا أمر أو نهي ، فالأمر الوارد في الشريعة يحتمل وجوها : فتارة : يكون رجوعه إلى واجبات عينية متعدّدة على حسب تعدّد الأزمنة التي يمكن وقوع المأمور به فيها على وجه لا يناط الوجوب في زمان به في زمان آخر ، كما لو قيل : اجلس في المسجد ـ مثلا ـ إلى زمان كذا ، فيما لو كان الجلوس في كلّ آن واجبا مستقلاّ ، ولا ريب في أنّ الوقت الذي يشكّ فيه أنّه مما أمر بالجلوس فيه أو لا الاشتباه فيه ليس بواسطة الاشتباه في الحكم الشرعي ، بل الشبهة موضوعية وجوبية صرفة ولا يكاد يعقل جريان الاشتغال في الموضوع المشتبه كما حقّقنا ذلك في محلّه بما لا مزيد عليه حتى أنّ الأخباري أيضا لم يحم حول الاحتياط في المقام ، ولا أظنّ أنّه يرضى بذلك أيضا.

وتارة أخرى : يقع على وجه يكون مرجعه إلى الواجبات التخييرية كما في الواجبات الموسّعة كما في قوله : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )(٣) فلو شكّ في زمان في حصول الغاية فالحكم كما ذكرنا (٤) البراءة أيضا ؛ إذ لا فرق في جريان

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ على.

(٢) « ج ، م » : يسهب.

(٣) الإسراء : ٧٨.

(٤) « ز ، ك » : فالحكم على ما ذكرنا.

١٤٢

البراءة بين (١) كون الواجب تخييريا أو تعيينيا ، ولا سيّما في الشبهة الموضوعية ، لكن ذلك بالنسبة إلى لزوم الفعل في الآن المشكوك فيه ، وأمّا بالنسبة إلى إتيان نفس الفعل فقضيّة القاعدة المذكورة هو وجوب إتيانه (٢) قبل مجيء الوقت المشكوك تحصيلا للفراغ اليقيني بعد العلم بالاشتغال. نعم يتمّ ذلك على تقدير استصحاب نفس الوقت نظرا إلى أصالة عدم دخول الغاية ، وهو هدم لما أسّس ؛ لرجوعه إلى استصحاب القوم.

وتارة أخرى : يقع على وجه لا يرجع إلى واجبات عينية تخييرية ، فيكون الفعل في تمام الوقت واجبا عينيا مستقلاّ ، والوجوب في أجزاء الوقت راجع (٣) إلى الوجوب الغيري كما لو قال : صم إلى الليل ، على أن يكون الإمساك في تمام النهار واجبا مستقلاّ لا واجبات متعدّدة. ففي زمان يشكّ (٤) فيه في انقضاء المدّة ودخول الغاية هل يحكم بوجوب الإمساك عملا بالاشتغال أو يؤخذ بالبراءة؟ فيه تفصيل ، فإنّ ما بعد الغاية قد يكون الإمساك فيه محرّما أو موجبا (٥) لفساد العمل فيما قبل الغاية ، وقد لا يكون حراما ولا موجبا لفساد العمل على وجه (٦) ، فعلى الأوّل ففي زمان الشكّ يدور الأمر (٧) بين المحذورين : فإمّا يؤخذ بجانب الحرمة لكونها دفعا (٨) ، دون الوجوب لكونه جلبا (٩) ، أو يقال بالتخيير ، وعلى التقديرين لا مجال للاحتياط فيه. وعلى الثاني فهو مورد الاحتياط عند التحقيق وإن احتمل بعضهم البراءة ؛ لكون الشبهة مصداقية مع دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، فيصحّ ما أفاده في هذه الصورة خاصّة على التحقيق.

وأمّا على الاحتمال الآخر فلا وقع لكلامه أصلا إلاّ على تقدير استصحاب الوقت وقد عرفت أنّه لا يتمّ إلاّ على مذاق القوم ، مضافا إلى أنّ هذه الصورة خارجة عن

__________________

(١) « ج » : في.

(٢) « م » : إثباته.

(٣) « ز » : الراجع ، وسقطت من نسخة « ك ».

(٤) « ج » : الشكّ.

(٥) « ج » : محرّمة أو موجبة.

(٦) « ج ، م » : ـ على وجه.

(٧) « ج ، م » : فالأمر دائر.

(٨) « ج ، م » : دفع.

(٩) « ج ، م » : جلب.

١٤٣

عنوان كلامه ؛ لأنّ الحكم في وجوب الصوم ليس مغيّا بغاية ، بل متعلّقه ـ وهو الصوم ـ كذلك ، ولا دخل لأحدهما بالآخر.

وعلى هذا القياس فيما لو كان الحكم الاقتضائي نهيا من (١) غير فرق بين قسميهما.

وبالجملة : فإن أراد من كلامه ـ على ما هو ظاهره ـ ما يشمل جميع هذه الصور فالمناقشة عليها بما مرّ ظاهرة ، وإن أراد خصوص الصورة المفروضة فبعد عدم انطباقها بعنوانه كما عرفت فهو خلاف قاعدة التعبير ، سيّما (٢) من مثله.

ولقد أورد عليه السيّد الشارح ـ بعد نقل كلامه ـ : أوّلا : بأنّ (٣) الدليل جار فيما إذا ثبت تحقّق حكم في الواقع مع الشكّ في تحقّقه بعد انقضاء زمان لا بدّ للتحقّق منه ، وهذا هو الذي أجرى القوم فيه (٤) الاستصحاب ، قال : بيانه أنّا كما نجزم في الصورة التي فرضها بتحقّق الحكم في قطعة من الزمان ونشكّ أيضا حين القطع في تحقّقه في زمان يكون حدوث الغاية وعدم حدوثها (٥) متساويين عندنا ، كذلك نجزم بتحقّق الحكم في زمان لا يمكن تحقّقه إلاّ فيه ونشكّ أيضا حين القطع في تحقّقه في زمان متّصل بذلك الزمان ؛ لاحتمال وجود رافع لجزء من أجزاء علّة الوجود وعدمه ، فكما أنّ في صورة الشكّ في الصورة الأولى يكون الدليل محتملا لأن يراد منه وجود الحكم في الزمان الذي يشكّ في وجود الحكم فيه وأن يراد منه عدم وجوده فيه ، كذلك حال الدليل في الصورة التي فرضناها ، وعلى هذا القول (٦) لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة ، ولو امتثل لحصل القطع به ؛ لأنّه في زمان الشكّ إن كان الواقع وجود الحكم فقد فعلنا ما كان علينا من التكليف ، وإن كان الواقع عدمه فقد خرجنا بما فعلنا في زمان القطع عن العهدة.

__________________

(١) « ج ، م » : مع.

(٢) « ج ، م » : ـ سيّما.

(٣) في المصدر : + هذا.

(٤) « ز ، ك » : فيه القوم.

(٥) في المصدر : حدوثه.

(٦) في المصدر : نقول.

١٤٤

وثانيا : بأنّ تحصيل القطع أو الظنّ بالامتثال إنّما يلزم مع القطع أو الظنّ بثبوت التكليف ، وفي زمان الشكّ ليس شيء منهما حاصلا ولو تمسّك بأنّ الشكّ إنّما هو في أوّل النظر ، وأمّا مع ملاحظة اليقين السابق فالحاصل هو الظنّ ببقاء التكليف ، فيكون المرجع هو ما قاله القوم ، ونحن كما نطالبهم بدليل التعويل على مثل هذا الظنّ نطالبه قدس‌سره أيضا ، والظاهر أنّ بناء كلامه رحمه‌الله (١) على أنّ اليقين بشغل الذمّة إذا حصل فلا بدّ من اليقين أو الظنّ بالبراءة ولا أقلّ من الظنّ وإن صار يقين شغل الذمّة بعد عروض الشكّ بالبراءة (٢) مشكوكا فيه أيضا ، وقد ادّعى الإجماع على هذا أيضا (٣) ، انتهى ما أورده السيّد على المحقّق المذكور.

وفيه : أنّ ما ذكره في الوجه الأوّل في الإيراد ـ وإن كان وجيها في بادئ الأنظار ، فإنّ المورد إذا كان من موارد الاشتغال كالصوم المعتبر فيه الارتباط بين الأجزاء ، فلا فرق في جريان القاعدة بين أن يكون الخطاب مغيّا بغاية كقوله : « صم إلى الليل » أو لم يكن كما إذا قال : « صم » من دون أخذ الغاية ، فيعمّ الدليل غير المطلوب ـ إلاّ أنّ من المقرّر في مقامه ـ كما يقتضيه النظر الدقيق ـ عدم ورود هذا الإيراد على المحقّق المذكور ؛ لأنّ الحكم الشرعي قد يعلم تعلّقه بعنوان معلوم كوجوب الصوم إلى مجيء الليل مثلا ، وإنّما يكون الشكّ في امتثال هذا العنوان ، فيشكّ في تحقّق الصوم من زمان كذا إلى غاية كذائية ، وحينئذ لا بدّ من الاحتياط ، ومثل ذلك ما لو نذر صوم بين هلالي رجب وشعبان وشكّ في يوم أنّه من أيّ الشهرين ، فإنّه لا بدّ من صيامه عملا بالاحتياط اللازم. وقد يعلم تعلّقه بعنوان غير معلوم المراد كما إذا تعلّق الوجوب بالصوم النهاري وشكّ في أنّه هل هو يتمّ عند سقوط القرص أو عند ذهاب الحمرة المشرقية لغة؟ كما في الأقلّ والأكثر الارتباطيين في الشبهة الحكمية على ما سبق تحقيق القول فيها ،

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ رحمه‌الله.

(٢) في المصدر : في البراءة.

(٣) شرح الوافية ( مخطوط ) ١٣٢ / ب ـ ١٣٣ / أ.

١٤٥

وحينئذ فلا دليل على وجوب الاحتياط ، بل التحقيق هو الأخذ بالبراءة. ولازم هذه المقدّمة ثبوت الفرق بين موارد الاستصحاب على ما ذكره القوم وبينه (١) على ما ذكره ، ومن هنا يظهر وجه الضعف في الوجه الثاني أيضا ، ولعلّه تنبّه بضعفه (٢) المورد أيضا كما أشعر بذلك (٣) في قوله : « والظاهر أنّ بناء كلامه » وإلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده المحقّق القمي في دفع (٤) ما أورده السيّد ، فلا مساس لما أورده بعض الأجلّة في الاعتراض عليه بكلامه ، فلاحظ وتأمّل تهتدي إلى ما هو الحقّ بإفاضة من الموفّق الهادي.

ويرد على الوجه الثاني من وجهي استدلاله : أنّ قوله في معنى الرواية : ـ إنّ المراد منها عدم جواز النقض عند التعارض ، وجعله معنى التعارض أن يكون هناك شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، وحسبانه أنّ هذا المعنى لا ينطبق على استصحاب القوم ، بل هو مختصّ بما أفاده ـ ممّا لم يظهر له وجه وجيه ، بل لعلّه ممّا لا يستقيم بوجه ، أمّا حمله الرواية على المعنى المذكور فالوجه فيه هو ما عرفته من استفادة ذلك من مادّة النقض والدفع والدخل ، والجواب عن ذلك أنّ الأقربية وإن اقتضت حمل الرواية على ما ذكره إلاّ أنّ هناك قرائن أخر توجب حملها على ما هو متفاهم القوم من إرادة ترتيب مطلق الآثار التي يترتّب على المتيقّن ممّا هي لا يترتّب على نفس صفة العلم كما ستعرف الوجه في هذا التقييد ، ففيما لو شكّ في ثبوت الشفعة أو الخيار في زمان بعد العلم بهما في الجملة لا بدّ من الأخذ بالاستصحاب جريا على طريقة القوم.

أمّا أوّلا : فلأنّ المعنى المذكور من الرواية ممّا لا ينساق عرفا بعد العرض على الأفهام المستقيمة الخالية عن شوائب الأوهام ؛ لظهور ابتنائه على الدقّة التي لا تصل إليها إلاّ الأوحدي ، ومن البعيد في الغاية حمل الروايات التي هي منساقة على متفاهم العرف على مثل هذه الوجوه البعيدة عن أذهانهم ، فإنّ الذهن (٥) لا يكاد يلتفت إلى هذا

__________________

(١) « م » : وفيه.

(٢) « ز ، ك » : لضعفه.

(٣) « ز ، ك » : به.

(٤) « م ، ك » : رفع.

(٥) « م » : الناس.

١٤٦

المعنى أصلا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مورد الرواية من استصحاب القوم ، فإنّ قول الإمام : « إذا لم يدر في ثلاث هو أو أربع وقد أحرز الثلاث ، قام وأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه » (١) تمسّك منه بأصالة عدم وقوع الركعة المشكوكة واستصحاب لعدمها ، وليس من استصحاب المحقّق كما هو ظاهر ؛ لانتفاء التعارض على ما زعمه.

وأمّا ثالثا : فلأنّ قوله عليه‌السلام في الرواية بعد قوله : « ولكن ينقض الشكّ باليقين ويبنى عليه » من أوضح القرائن على أنّ المراد بالنقض هو عدم ترتيب الآثار المترتّبة على المتيقّن ؛ لأنّ الظاهر وروده مفسّرا لسابقه كقوله : « ولا يعتدّ بالشكّ » وقوله : « ولا يختلط أحدهما بالآخر » والكلّ ظاهر في ترتيب مطلق الآثار ، ولا يتصوّر فيها القول بأنّ المراد عدم النقض فيما إذا كان شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، ففيما إذا شكّ في الخيار أو الشفعة فلو لم يؤخذ باليقين لصدق أنّه ما بنى على اليقين وأنّه نقض يقينه بالشكّ وبنى على شكّه. وبما (٢) ذكرنا من ورود بعض هذه الفقرات مفسّرا للآخر ينقطع ما عسى أن يتوهّم : أنّ جعل النقض قرينة لهذه الفقرات بصرفها (٣) عن ظاهرها (٤) إلى ما هو المراد منه أيضا محتمل ، فلا وجه للعكس كما هو مبنى الإيراد ، مضافا إلى بعده في نفسه كما ذكرنا ، ويتّضح ما ذكرنا في الغاية بعد ملاحظة قوله عليه‌السلام في رواية الخصال : « فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ » (٥) فإنّ الظاهر من الإمضاء البناء (٦) على شيء والعمل عليه ، فيصير قرينة على أنّ المراد بالدفع أو النقض الواردين في العلّة هو ما يساوي الإمضاء ، والقول بأنّ عموم الإمضاء يدفع باختصاص العلّة ـ كما هو ديدنهم في الأخذ بعموم العلّة وخصوصها في نظائر المقام ـ ممّا لا يصغى إليه بعد

__________________

(١) تقدّم في ص ٩٨ وكذا الفقرات الآتية جزء منها.

(٢) « ز » : مما ، وسقطت من « ك ».

(٣) « ز ، ك » : تصرّفها ، و « م » : لصرفها ( ظ ).

(٤) « ج ، م » : ـ ها.

(٥) تقدّم في ص ١٠٣.

(٦) في النسخ : على البناء.

١٤٧

مساعدة العرف على الأخذ بعموم الحكم كما يشاهد ما ذكرنا فيما لو اختصّ العامّ بالفرد النادر عند التعويل على تخصيصه بالعلّة.

وبالجملة : فأخبارهم بعضها يكشف عن بعض ، وبعد عدم مساعدة العرف على معنى في البعض فلا بدّ من الأخذ بما هو الظاهر من غيره وحمله عليه ، أمّا حسبانه اختصاص الرواية بموارد استصحابه دون استصحاب القوم نظرا إلى ما أفاده من معنى التعارض ، فمبنيّ على ما أوضحنا مراده عند نقل كلامه ، ومحصّله : أنّ في مورد (١) استصحابه مقتضي اليقين موجود وإنّما الشكّ من حيث احتمال وجود المانع ، بخلاف موارد استصحاب القوم فإنّ الشكّ فيه كما يحتمل من حيث احتمال وجود (٢) المانع من اليقين كذلك يحتمل من حيث احتمال انتفاء المقتضي ، فلا يتحقّق التعارض ؛ لأنّ المانع معارض للمقتضي كما تقدّم ، وبذلك دفعنا ما أورد عليه بعض المحقّقين من أنّ فرض عدم الشكّ في كلّ مورد يوجب اليقين كما صرّح به بعض الأجلّة (٣) أيضا ، إلاّ أنّ البناء على ذلك موجب لهدم ما أسّسه أيضا ، فإنّ ذلك غير موجود في شيء من موارد الاستصحاب ، لا على ما يراه ولا على ما يراه القوم.

بيان ذلك : أنّ الحكم إذا لم يكن ضروريا غير محتاج إلى علّة العلم فلا بدّ في حصول اليقين بذلك الحكم من واسطة ، ويمتنع عقلا على ما بيّن في محلّه حصول ذلك اليقين من مقدّمة واحدة ، بل لا بدّ من مقدّمتين ـ إحداهما تحكم باندراج الأصغر في الوسط ، والأخرى (٤) تحكم بثبوت الأكبر له ـ حتّى يمكن تعدّي الحكم منه إليه ، ولا يعقل حصول اليقين بدون إحدى المقدّمتين ، فمقتضى اليقين في كلّ حكم فرض هو الوسط في الإثبات فإنّه هو العلّة في ثبوت العلم ، فمتى وجدت العلّة حصل المعلول ، وإذا انتفت بانتفاء المقدّمتين كلتيهما أو بانتفاء إحداهما انتفى العلم ، ولمّا امتنع خلوّ المدرك الملتفت عن الشكّ أو اليقين لمكان التضادّ من غير ثالث بينهما ؛ إذ المراد بالشكّ

__________________

(١) « م » : موارد.

(٢) « ج » : احتمال انتفاء وجود.

(٣) انظر ص ١٥٢.

(٤) « م » : أخرى.

١٤٨

هو (١) ما عدا اليقين ، يحصل الشكّ لخلوّ (٢) المحلّ القابل عن المعارض ، فعدم الشكّ لا تأثير له في حصول اليقين ما لم يفرض وجود علّة العلم من الواسطة في الإثبات المركّب من المقدّمتين ، فانتفاء العلم دائما مستند إلى انتفاء أحد جزئي علّته وهي الصغرى تارة ، والكبرى أخرى ، لا إلى وجود المانع بعد إحراز المقتضي ؛ لأنّ ذلك لا يعقل في العلم.

وإذ قد عرفت هذه فنقول : إذا قيل : « صم » وشكّ في وقت معلوم في وجوب الصوم في ذلك الوقت ، فعدم العلم بهذا الحكم من جهة انتفاء الكبرى ؛ إذ المفروض عدم وجوب الصوم دائما أو موقّتا إلى وقت معيّن ، لإطلاق الأمر وإهماله ، وإن كانت الصغرى موجودة ؛ للعلم بوجود النهار في الفرض مع الشكّ في وجوب الصوم في تمام النهار ، وإذا (٣) قيل : « صم إلى غسق الليل » وشكّ في وقت أنّه هل هو من النهار أو لا؟ فعدم العلم بوجوب الصوم في الفرض من جهة انتفاء الصغرى مع العلم بالكبرى وهو وجوب تمام صوم النهار ، فلو فرض في الفرض الأوّل وجود (٤) كلمة (٥) تدلّ على وجوب صوم النهار لم يكن الشكّ معقولا ، كما أنّه لو فرض في الفرض الثاني ما يدلّ على أنّ الوقت المشكوك من النهار ما كان الشكّ في الوجوب معقولا ، فعدم العلم في المقامين مستند إلى فقد تمام المقتضي للعلم وانتفاء العلّة ، ولا يعقل وجود المانع من العلم بعد إحراز الصغرى والكبرى والعلم بهما ، فظهر من ذلك أنّ استصحاب القوم مع استصحابه مشتركان في عدم مقتضي اليقين ، فإنّ الفرض الأوّل من استصحاب القوم وانتفاء العلم فيه لانتفاء الكبرى ، والفرض الثاني من استصحابه وانتفاء العلم فيه لانتفاء الصغرى.

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ هو.

(٢) كذا. ولعلّ الصواب : بخلوّ.

(٣) « ج » : فإذا.

(٤) « ز ، ك » : ورود.

(٥) كتب تحتها في « م » : كلّه « نسخة » وفي « ج » : كلّية.

١٤٩

والقول بأنّ الكبرى مقتض للعلم والعلم بالصغرى بمنزلة عدم المانع ، بعد أنّه من المجازفات والخرافات ليس بأولى من العكس.

وبالجملة : فالقول بأنّ مقتضي اليقين باق في استصحابه دون استصحاب القوم ، تحكّم صرف ؛ لتساويهما في انتفاء المقتضي وهو علّة العلم ، لأنّ مقتضي العلم هو علّته ولا فرق بينهما في المقام ، والشكّ إنّما يحدث بعد انتفاء العلّة والمقتضي من حيث استحالة الخلوّ كما مرّ ، ولئن سلّمنا أنّ الشكّ مانع من حصول اليقين فالمفروض أنّه لا يحصل إلاّ بعد انتفاء إحدى المقدّمتين ، فوجود (١) المانع مسبوق بانتفاء المقتضي ، وعدم الشيء منسوب إلى عدم المقتضي لو اجتمع ذلك وجود المانع.

نعم ، ما ذكره يتمّ فيما لو قلنا بأنّ قولنا : « صم إلى الليل » كما يدلّ على وجوب الصوم في النهار يدلّ على أنّ المشكوك أيضا من النهار ، فيكون العمل على الفرض الباطل بالدليل ، ولا حاجة إلى التكلّف المذكور والتماس ذلك من الاشتغال وأخبار الاستصحاب كما استراح الأخبارية بذلك ، وممّا يوضح ما ذكرنا أنّ الخطاب المغيّى بغاية ينحلّ إلى عقد إيجابي وهو الوجوب قبل الغاية ، وعقد سلبي وهو عدم الوجوب بعد الغاية ، ونسبة المشكوك إلى القبل والبعد مساوية (٢) ، فالقول برفع الشكّ فيه بدخوله في العقد الإيجابي دون السلبي تحكّم صرف ومجازفة صريحة ، وذلك لا يتمّ إلاّ على ما ذكرنا من أنّ عدم الشكّ لا دخل له في حصول اليقين ، بل لا بدّ من إحراز موضوع أحدهما على وجه اليقين.

ثمّ إنّه بقي الكلام فيما أورده ذلك المحقّق الأستاد في التعليقة التي علّقها على قول الشهيد في الشبهة المحصورة ، ومحصّله هو الاستناد إلى وجه آخر في عدم حجّية الاستصحاب في موارده عند القوم ؛ لاستناد النقض فيها إلى اليقين وهو مقتضى قاعدة العدم.

__________________

(١) « ز ، ك » : وجود.

(٢) « ك » : متساوية.

١٥٠

وجوابه : تارة بالنقض بالاستصحاب في الموارد التي زعم جريانه فيها ، فإنّ زمان الشكّ مع كونه مشكوكا إن كان مشمولا للدليل فلا حاجة إلى الاستصحاب في انسحاب الحكم إليه كما هو المقرّر عند الأخبارية ، وإن لم يكن مشمولا للدليل فالمفروض عدم الدليل بالنسبة إلى زمان الشكّ. قولك : الدليل المغيّى بالغاية (١) ثابت بالفرض فلا يستقيم دعوى عدم الدليل ، غير مستقيم ؛ لأنّ المراد بالدليل إن كان حكم العقل بلزوم الامتثال بعد ملاحظة خطاب الشرع فلا يتمّ إلاّ في بعض الموارد على ما عرفت تفصيل ذلك ، ومع ذلك فهو خروج عن التمسّك بالاستصحاب وأخذ (٢) بالاشتغال ، وإن كان مجرّد الخطاب الشرعي فمن الظاهر أنّه لا مسرح للخطاب في زمن الشكّ ؛ إذ لا يعقل الشكّ مع ذلك ، وإن كان المراد هو أدلّة الاستصحاب على أبعد الوجوه فنسبتها إلى المقامين متساوية كما لا يخفى.

اللهمّ إلاّ أن يدّعى (٣) عدم صدق النقض في استصحاب القوم ، وقد عرفت جوابه.

وأخرى بالحلّ وهو أنّ معنى حجّية الاستصحاب هو إلغاء أحكام الشكّ في موارده ، ومنها الأخذ بالبراءة أو الاحتياط أو قاعدة العدم ، فإنّها أصول شرعية مقرّرة في مقام الشكّ ، فالاستصحاب حاكم على هذه الأصول ، وستعرف تفصيل ذلك في محلّه عن قريب إن شاء الله.

تذنيب

زعم بعض الأجلّة (٤) نهوض أخبار الباب على (٥) اعتبار الاستصحاب فيما إذا كان قضيّة الشيء المعلوم ثبوته في زمن الشكّ لو لا عروض المانع أو منع العارض. وبعبارة

__________________

(١) « م » : بغاية.

(٢) « ز ، ك » : الأخذ.

(٣) « م » : إلاّ بدعوى.

(٤) في هامش « م » : وهو صاحب الفصول فإنّه حقيق بأن يكون جليلا.

(٥) « م » : إلى.

١٥١

واضحة إذا كان الشكّ من جهة المقتضي فلا دلالة للأخبار على اعتبار الاستصحاب ، وإذا كان الشكّ من جهة الرافع فينهض الأخبار بإثبات الاستصحاب فيه ، وزعم أنّه مطابق لما نقلناه من (١) المحقّق الخوانساري إلاّ أنّه قد يكون أعمّ موردا ممّا ذهب إليه حيث أفاد ، ولقد أجاد المحقّق الخوانساري في فهم الرواية حيث قال : المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ هو عدم النقض عند التعارض (٢) ، ولكنّه ما أجاد في تخصيصها بالأحكام التي ثبت استمرارها إلى غاية معيّنة وشكّ في حصولها ، بل يجري في كلّ ما ثبت بقاؤه ما لم يمنع منه مانع (٣) ، انتهى.

والتحقيق : أنّ القولين مختلفان مفهوما وموردا ، فلا وجه لحسبان انطباق أحدهما على الآخر على الوجه المذكور ؛ لاختلاف مناطهما وتغاير ما هو الملاك فيهما ، فإنّ قول المحقّق يناط على ثبوت الخطاب الموجب لليقين في مورد الشكّ لو لاه من دون ملاحظة استعداد المستصحب للبقاء في زمن الشكّ لو لا المانع ، ومدار قول الزاعم إنّما هو ملاحظة حال المستصحب واستعداده من دون نظر إلى ثبوت الخطاب الموجب لليقين لو لا الشكّ ، فملاك الأوّل على ملاحظة حال الدليل ، وملاك الثاني على ملاحظة حال المستصحب.

نعم ، قد يكون المستصحب في مورد الخطاب الموجب لليقين ممّا قضيّته الثبوت عند الشكّ لو لا عروض المانع أو منع العارض كما في استصحاب بقاء الوضوء عند الشكّ في عروض البول.

وقد يكون المستصحب مقتضيا للبقاء مع انتفاء الخطاب الموجب لليقين كما في استصحاب بقاء النجاسة فيما إذا شكّ في مانعية التمسيح بحجر ذي ثلاث شعب ، وكما في استصحاب الطهارة عند عروض المذي ؛ إذ قد عرفت صراحة من المحقّق المذكور عدم

__________________

(١) « ز ، ك » : عن.

(٢) المشارق : ٧٦ ، سطر ١٨.

(٣) الفصول : ٣٦٧ و ٣٧١.

١٥٢

جريان الاستصحاب في المثال الأوّل.

وقد يكون الخطاب الموجب لليقين موجودا مع الشكّ في اقتضاء المستصحب للثبوت في زمن الشكّ كما في الخطاب الآمر بالصوم إلى الليل فيما إذا شكّ في آن أنّه من النهار أو من الليل ، فإنّ الظاهر أنّ الشكّ من جهة المقتضي.

فالقولان مختلفان مفهوما والنسبة بينهما موردا هو العموم من وجه.

نعم ، لو قلنا بأنّ مآل الشكّ في الغاية إلى الشكّ في المانع بعد إحراز المقتضي للمستصحب بتقريب أنّ الغاية توجب رفع الحكم وتمنع عن ثبوته كما هو الشأن في جميع الموانع ، ومرجع الشكّ في المانع إلى الشكّ في الغاية نظرا إلى أنّ المانع غاية لثبوت المعلول (١) ونهاية لوجوده ، فالقولان متلازمان مصداقا.

إلاّ أنّ ذلك بمكان من الضعف والسقوط ، أمّا الأوّل : فلأنّ الشكّ في الغاية لا يساوق وجود المقتضي دائما كما في قوله : « صم إلى الليل » إذ يحتمل أن تكون (٢) الغاية المذكورة في كلام الشارع كاشفة عن انتفاء المقتضي عند وجودها ، فوجود (٣) الليل في المثال يحتمل ظاهرا أن يكون كاشفا عن انتفاء السبب.

وأمّا الثاني : فلأنّ الظاهر من المحقّق المذكور أنّ المدار على الغاية المأخوذة غاية في كلام الشارع كما في قوله : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ )(٤) لا كلّ ما يمكن رجوعه إليها وإن لم يكن مأخوذة (٥) في كلام الشارع كما أشرنا إلى ذلك في السؤال الذي أورده على نفسه : هل الشكّ في المزيل؟

فظهر من ذلك أنّه ما أجاد فيما استجاد مشعرا بذلك تواردهما على مطلب واحد ، مع أنّ قوله : ولكنّه ما أجاد في تخصيصها إلخ ، ليس بجيّد ؛ إذ لا يستقيم ذلك إلاّ على

__________________

(١) « ج » : معنى المعلول.

(٢) « ج ، م » : يكون.

(٣) « ج » : ووجود.

(٤) البقرة : ١٨٧.

(٥) كذا.

١٥٣

تقدير أن يكون مذهب المحقّق اختصاص حجّية الاستصحاب بما إذا كان الشكّ في المزيل والرافع مع وجود المقتضي. وقد عرفت أنّ مناط الاستصحاب عنده على وجود الخطاب ، سواء كان المقتضى موجودا أو لا (١).

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ الزاعم المذكور إنّما أخذ في عنوان ما ذهب إليه استمرار الحكم لو لا الرافع ، وقضيّة ذلك عدم حجّية الاستصحاب في الموقّتات ، فلو شكّ في أثناء النهار ـ لعارض ـ وجوب إمساك اليوم عليه لا يقول (٢) بالاستصحاب مع أنّ ما يظهر منه عند الاستدلال هو اعتبار الاستصحاب فيما إذا شكّ في المانع ، وعدمه فيما إذا شكّ في المقتضي ، من غير أخذ الاستمرار في كلامه ، إلاّ أنّ مقصوده ظاهر فلا تغفل.

وملخّص ما استدلّ به على مرامه هو استحالة إرادة معنى النقض حقيقة ؛ لانتفائه بين اليقين والشكّ ، لعدم (٣) إمكان اجتماعهما ، وصدقه حقيقة موقوف على الاجتماع والتصادم ، فلا بدّ من المصير إلى معنى أقرب إلى المعنى الحقيقي ، ولا خفاء (٤) أنّ مع وجود المقتضي للبقاء صدق النقض أولى منه مع عدمه.

والجواب عن ذلك هو أنّ الأقربية الاعتبارية مسلّمة ، ولكنّها غير مجدية بعد عدم مساعدة العرف عليها ، والأقربية العرفية ممنوع ، بل الأقرب عرفا هو القول بأنّ المراد هو الأخذ بالأحكام التي تخالف حكم المتيقّن ، فإنّه إذا اختلف حكم الشيء في حالتي الشكّ واليقين يصدق أنّه نقض للسابق ، فالنقض تارة يلاحظ بالنسبة إلى المستصحب ، وأخرى بالنسبة إلى العمل ، مع أنّه يكفي في صدق النقض بالنسبة إلى المستصحب إمكان استمرارها كما في حقّ الشفعة والخيار ، مضافا إلى بعض القرائن المذكورة في الإيراد على المحقّق ، فإنّه يصلح (٥) لدفع القولين ، كقوله (٦) عليه‌السلام في رواية زرارة :

__________________

(١) « ز ، ك » : أم لا.

(٢) « م » : نقول.

(٣) « ج » : بعدم.

(٤) « ز ، ك » : + مع.

(٥) « م » : تصلح.

(٦) « ز ، ك » : كما في قوله.

١٥٤

« ولا ينقض اليقين بالشكّ ، بل يبنى على اليقين » (١) ويتمّ عليه كما مرّ ذلك مفصّلا ، ويختصّ بدفع القول هذا قوله عليه‌السلام في مكاتبة القاساني : « اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » (٢) فإنّ تفريع قوله : « صم للرؤية » وقوله : « وأفطر للرؤية » على القاعدة المزبورة من عدم دخول الشكّ في اليقين لا يتمّ إلاّ على حجّية الاستصحاب في الشكّ من حيث المقتضي.

وتوضيح ذلك أنّ المراد بهما إمّا استصحاب جواز الإفطار الثابت في شعبان واستصحاب وجوب الصوم الثابت في رمضان على أن يكون الاستصحاب وجوديا حكميا كما هو الظاهر ، وإمّا المراد استصحاب عدم وجوب الصوم من قوله : « صم للرؤية » وعدم جواز الإفطار من قوله : « أفطر للرؤية » على أن يكون الاستصحاب عدميا حكميا ، وإمّا المراد استصحاب نفس شعبان من الأوّل ورمضان من الثاني على أن يكون الاستصحاب موضوعيا ، وعلى التقادير لا يتمّ على ما ذكره.

أمّا على الأوّل : فلأنّ جواز الإفطار ووجوب الصوم ممّا لم يثبت الاستمرار فيهما ما لم يثبت المزيل ، بل التحقيق إنّهما حكمان موقّتان لا يجري فيهما الاستصحاب على ما هو المصرّح به (٣) في كلامه.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الاستصحاب العدمي في المقام منتزع من الاستصحاب الوجودي ، فلا يعقل تخلّفه عنه.

وأمّا على الثالث : فالأمر أوضح.

فالتفريع المذكور لا يتمّ إلاّ على استصحاب القوم.

فإن قلت : لنا أن نقول : إنّ الحصر المذكور غير حاصر ؛ لاحتمال أن يكون المراد استصحابا آخر ينطبق على موارد استصحاب المفصّل ، وهو أن يكون المراد بالأوّل

__________________

(١) تقدّم في ص ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) تقدّم في ص ١٠١.

(٣) « ج ، م » : ـ به.

١٥٥

استصحاب عدم دخول رمضان وعدم انقضاء شعبان ، ومن الثاني استصحاب عدم دخول شوّال وعدم انقضاء رمضان (١) على أن يكون الاستصحاب من الاستصحابات الموضوعية العدمية ، فإنّ الأعدام من الأمور المقرّرة الثابتة إلى ثبوت المزيل.

قلت : أمّا أوّلا : فوجوب الصوم ممّا لا يترتّب على عدم دخول شوّال أو عدم انقضاء رمضان ، كما أنّ جواز الإفطار ممّا لا يترتّب على عدم دخول رمضان أو عدم انقضاء شعبان ، بل الأوّل مترتب على دخول (٢) رمضان والثاني على شعبان كما يظهر من ملاحظة قوله : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(٣).

وأمّا ثانيا : فالأمور العدمية ليست مقرّرة ثابتة إلى ثبوت المزيل ؛ لأنّ ذات العدم لا يقضي (٤) بذلك ، أمّا على القول بعدم احتياجه إلى العلّة فالأمر واضح ، وأمّا على القول باحتياجه كالوجود إلى العلّة فلأنّ العلّة هو انتفاء علّة الوجود فبحصولها ترتفع علّة العدم ، فذهاب العدم بواسطة انتفاء استعداده والمقتضي له لا لوجود (٥) المانع ، ولذلك لا يحكم بأنّ وجود المال بعد فقده لا يعدّ ناقضا لعدمه ، وكذا سائر الموجودات المسبوقة بالأعدام.

لا يقال : لا ريب في أنّ العدم ممّا يستمرّ لو لا عروض ما يقضي بخلافه.

لأنّا نقول : إنّ مجرّد ذلك غير كاف في المقام ، فإنّ الدعوى في قوّة القول : بأنّ كلّ شيء لو فرض بقاء علّته التامّة فهو باق والوجود والعدم في ذلك متساويان.

فإن قلت : إنّه قد صرّح بجريان الاستصحاب في الأمور العدمية.

قلت : إنّ تصريحه بذلك لا يوجب عدم توجّه الإيراد عليه بما ذكرنا ؛ لأنّ الكلام فيما يقتضيه التحقيق على مذهبه لا فيما صرّح به.

__________________

(١) « ز ، ج » : شوّال.

(٢) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : « وجود ».

(٣) البقرة : ١٨٥.

(٤) « ج » : لا تقتضي.

(٥) « ج » : لا الوجود.

١٥٦

فكيف كان ، فهذه الرواية حجّة صريحة عليه في جريان الاستصحاب في غير ما ذهب إليه ، ولا تنهض قرينة لدفع ما ذكره المحقّق الخوانساري ، لكون الجواز مغيّا بغاية وكذا الوجوب كما هو ظاهر لا سترة (١) فيه ، وبناء على ما حقّقنا من أنّ انتفاء الأعدام بواسطة انتفاء المقتضي يمكن القول بأنّ رواية زرارة المرويّة في التهذيب (٢) قرينة على مذهب المشهور ، فإنّ الطهارة من الأمور العدمية فإنّها عدم القذارة كما لعلّه يشعر بذلك قوله تعالى : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) بعد قوله : ( لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ )(٣) وكذلك الرواية الواردة في باب السهو (٤) ، فإنّ استصحاب عدم الزيادة يصير (٥) قرينة على استصحاب القوم كما لا يخفى بملاحظة هذا التفصيل أيضا.

وعليك بإمعان النظر في المقام وكثرة (٦) التأمّل فيه ، فلعلّه يتّضح (٧) لك من ذلك وجوه (٨) أخر يمكن تأييد مذهب القوم بها (٩) ، فكن على بصيرة من ذلك ، والله الموفّق وهو الهادي (١٠).

__________________

(١) « ج ، م » : لأمره ( ظ ).

(٢) تقدّمت في ص ٩٥.

(٣) الأحزاب : ٣٣.

(٤) تقدّمت في ص ٩٨.

(٥) « ز ، ك » : تصير.

(٦) « ج ، م » : أكثر.

(٧) « ج » : ينفتح ، وفي « ز ، ك » : ينقّح.

(٨) « ج ، م » : وجوها.

(٩) في هامش « م ، ز » : قلت : ستعرف في بعض الهدايات الآتية تصريح الأستاد ( دام ظلّه العالي « م » ) على انطباق الروايات على هذا المذهب كما جنح ( احتجّ « م » ) إليه المحقّق الحلّي أيضا ، ويصرّح أيضا بأنّ الاستصحابات العدمية كلّها ـ سواء كانت معمولة في الألفاظ لتشخيص الأوضاع وتعيين المرادات أو في غير الألفاظ كأصالة عدم التذكية أو عدم انقضاء الشهر مثلا ـ منطبقة عليه ؛ لبقاء المقتضي والشكّ في الرافع ، فلعلّه رجع عمّا أفاد أوّلا في المقام ، وإلاّ فهو بريء عن الغفلة على [ كذا ] هذا ( بهذا « ز » ) الوجه ، فتدبّر. منه ( عفي عنه « ز » ).

(١٠) « ج ، م » : ـ والله ... الهادي.

١٥٧
١٥٨

هداية استطرادية

[ في الأحكام الوضعية ]

قد عرفت فيما تقدّم تقسيم الحكم إلى الوضعي والتكليفي في كلام المحقّق الخوانساري ورجوع الأوّل إلى الثاني ، حيث أفاد أنّ الأحكام الوضعية عند التحقيق ترجع (١) إلى الأحكام التكليفية (٢). وأورد عليه بعض من تأخر عنه (٣) بأنّه ليس بشيء ، فإنّ كون الشيء سببا لآخر أو شطرا أو شرطا أو مانعا والصحّة والبطلان وغيرها ، متعلّقات الخطابات والأدلّة ، وأحكام صدرت من الشارع ، ولها عوارض وخواصّ ، وممّا يهتمّ به (٤) ، وكلّ حكم مغاير للخمسة المعروفة لا وجه لإرجاعه (٥) إليها بالتكلّف ؛ لاختلافهما (٦) مفادا وشرطا ودليلا ومحلاّ ، مع أنّه لو صحّ لزم انحصار الأحكام في الثلاثة ؛ لرجوع الحرمة والوجوب إلى حكم واحد كالندب والكراهة. إلى أن قال : مع أنّ اختلاف الوضعي والتكليفي في كثير من المقامات ضروري كحرمة شرب الخمر ومانعيتها من الصلاة (٧) ، فإنّ أحدهما مباين (٨) للآخر منفكّ عنه كوجوب الطهارة

__________________

(١) « ج ، م » : يرجع.

(٢) تقدّم في ص ١٢٧.

(٣) هو الكلباسي في اشارات الأصول.

(٤) بعده في المصدر : ولا سيّما الأخيرين فإنّ المقصد الأهمّ في الفقه ، ولا سيّما في المعاملات إنّما هو البحث عنهما.

(٥) في المصدر : لإرجاعها.

(٦) في المصدر : لاختلافها!

(٧) في المصدر : للصلاة.

(٨) « ج » : متباين.

١٥٩

وشرطيتها للصلاة ، فإنّ شرطيتها تجتمع (١) مع الوجوب والندب ، وكذا اختلاف لوازمهما كجريان لزوم التكليف بما لا يطاق في الحكم التكليفي وعدمه في الوضعيات التعليقية ، وأيضا في الخطابات التكليفية لا بدّ من العلم والشعور والقدرة ، وفي الوضعي ما (٢) لا يشترط فيه (٣) ذلك ، كما إذا مات قريب الإنسان وهو لا يشعر به ، فإنّ التركة تنتقل إليه ، وإن كان فيها من ينعتق عليه عتق ، وكذا يجب الضمان بإتلاف النائم وما في حكمه (٤) ، انتهى.

وتحقيق المقام مع خروجه عن المبحث يقتضي بسطا في الكلام فنقول : ذهب العلاّمة رحمه‌الله في التهذيب (٥) والعضدي (٦) والآمدي في الإحكام (٧) وجماعة من الفريقين إلى ثبوت الأحكام الوضعية ، بل وعليه المشهور على ما (٨) نبّه عليه المورد المذكور ، والحقّ ـ كما عليه المحقّقون ـ عدم ثبوتها ، بل هي أمور تابعة للأحكام التكليفية ، بل في شرح الفاضل على الزبدة : هذا هو المشهور (٩) ، وصرّح السيّد الشارح في بحث الاستصحاب : أنّه قد استقرّ رأي المحقّقين على أنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي (١٠) ، بل وذلك هو ظاهر من عرّف الحكم الشرعي بالخطاب المتعلّق بأفعال المكلّفين اقتضاء وتخييرا من دون تعرّض للحكم الوضعي ، ثمّ إنّ المثبتين بين من حصرها في

__________________

(٩) المثبت من « ك » وهو موافق للمصدر ، وفي سائر النسخ : يجتمع.

(١٠) « ز ، ك » : ـ ما.

(١١) « ز ، ك » : ـ فيه.

(١٢) اشارات الأصول ( قسم الأدلّة العقلية ) : ٣ ـ ٤.

(١٣) تهذيب الوصول : ٥٠.

(١٤) شرح مختصر المنتهى : ٨١.

(١٥) الإحكام ١ : ٩٦.

(١٦) « ز ، ك » : كما.

(١٧) غاية المأمول فى شرح زبدة الأصول ( مخطوط بخطّ المؤلّف ) ٣٥ / أ ، وفي نسخة أخرى ٨٨ / ب. قال : الخطاب الوضعي ممّا اختلف في كونه حكما ، فالمشهور ـ وهو الحقّ ـ أنّه ليس بحكم وإنّما هو مستلزم له.

(١٨) شرح الوافية ( مخطوط ) ١٣ / ب.

١٦٠