مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

إذا أمر بشيء وطلب وقوعه من المأمور إنّما يأمر ويطلب شيئا معلوما عنده على وجوه اختلافه ، فإن كان مطلقا فيطلبه كذلك ، وإن كان مقيّدا فيطلبه على تقييده ، فإنّ إنشاء الأمر والطلب تابع إطلاقه وتقييده بالزمان والمكان والحال والوصف والشرط والإضافة وغيرها من الأمور المتعلّقة بالأفعال التي تختلف باختلافها وتتكثّر بتكثّرها لإطلاق الفعل الذي اقتضت المصلحة الكامنة فيه بالأمر به وتقييده بالأمور المذكورة ، وذلك مشاهد من الأوامر المختلفة على وجوه شتّى في العرف والشرع ، فربّما يكون الشيء واجبا عينيا مضيّقا وأخرى موسّعا ، وتارة كفائيا على الوجهين ، وأخرى شرطيا ، وتارة تعليقيا ، ومرّة تخييريا ، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف ، فاختلاف الأمر في هذه الأفعال بواسطة اختلاف ضروب المصالح الموجودة فيها.

وإذ قد تحقّقت هذه الجملة تحقّق عندك عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية عند الشكّ في كيفية الحكم ومدخلية شيء في ذلك ، وتوضيحه أنّه إذا ثبت وجوب شيء في زمان ، ثمّ شكّ في زمان آخر في بقائه ، فالمستصحب إن أراد به إبقاء الإنشاء الصادر من الآمر حين الشكّ ، فهو غير معقول ؛ لأنّ الإنشاء لا يراد به (١) إلاّ الإرادة الحتمية ، ولا شبهة في كونها آنية غير متقرّرة في الوجود ، فيستحيل بقاؤها.

وإن أراد به إبقاء الأثر الحاصل من الإنشاء المتعلّق بالفعل المنشأ فيه الوجوب الذي يعبّر عنه بالمطلوبية والمحبوبية ، فلا يجوز استصحابه ، فإنّ الإنشاء إن كان متعلّقا بالفعل في الزمان فالحالة المذكورة تنعدم بعد مضيّ الزمان الأوّل ، وإن كان متعلّقا به من دون اعتبار زمان فيه أو مع اعتبار زمان أطول منه فالحالة المذكورة باقية قطعا ، ولا شكّ في عدم جريان الاستصحاب على التقديرين ؛ للقطع بالارتفاع في الأوّل ، وبالبقاء في الثاني ، وإن كان وجه تعلّق الإنشاء بالفعل مشكوكا ، فلا يجري الاستصحاب أيضا ؛ لأنّه عبارة عن إبقاء الحكم في الزمان الثاني فيما كان (٢) فيه الحكم

__________________

(١) « ج ، م » : ـ به.

(٢) « ز ، ك » : فيما لو كان.

١٢١

في الزمان الأوّل على وجه كانت القضيّة المعلومة متّحدة مع القضيّة المشكوكة ، وعند الشكّ لا يعلم بالاتّحاد ؛ لعدم العلم بالموضوع في القضيّة الأولى التي هي معلومة ، إذ المفروض إمكان اختلاف موضوعه بطريان العوارض وعروض الحالات والحوادث الزمانية وغيرها من الأمور التي يصير منشأ لاختلاف الحسن والقبح اللذين (١) هما منشآن للأمر والنهي على ما قرّرنا ، ومع الشكّ في الاتّحاد والاختلاف لا مجرى للاستصحاب ؛ إذ ليس هو إثبات حكم فرد لفرد آخر.

فلو شكّ في وجوب شيء في زمان فعلى ما ذكرنا لا بدّ من أن يقال : إنّ الشكّ فيه في الزمان الثاني إمّا شكّ في الوجوب النفسي بمعنى إفادته البراءة (٢) على تقدير عدم كفاية دليل عنه يكفي في الحكم بعدم الوجوب.

وإمّا شكّ في الوجوب التخييري كما لو أمر بالصلاة وشكّ في أنّ وقتها إلى سقوط القرص أو زوال الحمرة المشرقية ، فإنّه يرجع الشكّ فما بين الزمانين إلى الشكّ في الوجوب التخييري ، والمرجع فيه إلى الاشتغال بمعنى الحكم بالضيق ؛ لأنّها به عدم المطلوبية (٣).

وإمّا شكّ في الوجوب الغيري ، فلا بدّ من ملاحظة القول بجريان البراءة وعدمه في الواجبات الغيرية ، وليس لك القول بالاستصحاب نظرا إلى أنّ الوجوب (٤) السابق هو بعينه مستصحب ، وليس الوجوب الثاني فردا آخر حتّى يدفع بأصالة البراءة ؛ إذ احتمال الاختلاف (٥) مع وجود ما يحتمل أن يكون هو الوجه في الاختلاف كاف في عدم جريان الاستصحاب ، وقد عرفت أنّ الفعل يمكن اختلاف وجوهه ومصالحه

__________________

(١) « ج ، ك » : الذين.

(٢) « ج » : في الوجوب اليقيني فأدلّة البراءة.

(٣) المثبت من « ز ، ك » وهامش « م » ، وفي « م » : لأنّها لعدم المطلوبية ، وفي « ج » : أصالة عدم المطلوبية.

(٤) المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الواجب.

(٥) « ك » : الخلاف.

١٢٢

باختلاف القيود والطواري العارضة له ، فلا يعلم ببقاء الموضوع ، وعلى قياسه الكلام في سائر الأحكام من التحريم والاستحباب والكراهة والإباحة. لكن هذا كلّه بملاحظة ما تقتضيه (١) الدقّة ، ولا أظنّ ابتناء أمر الاستصحاب عندهم عليها ، فلعلّ جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية عندهم موقوف على المسامحة ، فإنّ الوجوب السابق مستصحب كما في الحرمة السابقة ، واحتمال اختلاف الوجوب والحرمة باختلاف الطواري العارضة للفعل ملغى عن أصله ، فإنّ هذه الطواري لا تعدّ قيودا للفعل عرفا ، سيّما في النهي على ما نبّهنا عليه ، فالزمان وما يقرب منه من متعلّقات الفعل مأخوذ ظرفا على وجه لا يختلف المظروف باختلافه ، وستطّلع على زيادة (٢) تحقيق لذلك في بعض الهدايات الآتية (٣) إن شاء الله (٤).

تنبيه

ولعلّ عدّ الفاضل المذكور في عداد المفصّلين ليس على ما ينبغي ، فانّ المنع الصغروي ليس تفصيلا بعد تسليم الكبرى ، فإنّه لم يظهر منه مناقشة في دلالة الأخبار (٥) فهو قائل بمفاد هذه الأخبار على وجه الكلّية كما يشعر بذلك حصره الاستصحاب المختلف فيه فيما تخيّله ، فمورد النفي والإثبات عنده هو هذا الاستصحاب.

__________________

(١) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : « يقتضيه ».

(٢) « ج » : رائحة.

(٣) انظر ص ١٩٣ ـ ١٩٤ وص ٣٨٧.

(٤) « ز ، ك » : ـ إن شاء الله.

(٥) « ز ، ك » : الدلالة للأخبار.

١٢٣
١٢٤

هداية شريفة في تحقيق مقالة منيفة

[ في اختصاص الأخبار بالشكّ في الرافع ]

قد اشتهر ذهاب أستاد الكلّ في الكلّ المحقّق الخوانساري إلى حجّية الاستصحاب فيما إذا ثبت حكم وعلم استمراره إلى حالة أو غاية معيّنة ، ثمّ شكّ فيه من جهة احتمال حدوث الحالة أو حصول الغاية أو من جهة كون الحادث مندرجا تحت المزيل ، وإلى عدمها في غير ما ذكر من سائر أصناف الشكوك.

والظاهر من كلامه في المشارق هو نفي الحجّية مطلقا ، نعم يظهر منه اعتبار قاعدة أخرى منطبقة لاستصحاب القوم في الموارد المذكورة ، قال في شرح قول الشهيد ـ ويجزي ذو الجهات الثلاث ـ : حجّة القول بعدم الإجزاء الروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ، والحجر الواحد لا يسمّى ثلاثة أحجار ، واستصحاب حكم النجاسة حتّى يعلم المطهّر الشرعي (١) ، وبدون المسح بثلاثة أحجار لم يعلم المطهّر الشرعي (٢). إلى أن ساق الكلام إلى منع حجّية الاستصحاب ، ثمّ قال : اعلم أنّ القوم ذكروا أنّ الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه ، وهو ينقسم إلى قسمين باعتبار انقسام الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره ، فالأوّل مثل ما إذا ثبت حكم الشرع (٣) بنجاسة ثوب أو بدن ـ مثلا ـ في زمان ، فيقولون إنّ بعد ذلك الزمان

__________________

(١) في المصدر : لها مطهّر شرعا.

(٢) في المصدر : المطهّر شرعا.

(٣) في المصدر : حكم شرعي.

١٢٥

أيضا يجب الحكم بالنجاسة إذا لم يحصل اليقين بما يرفعها ، والثاني مثل ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان ، فبعد ذلك الزمان أيضا يحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف ، وذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ، وبعضهم إلى حجّية القسم الأوّل فقط.

واستدلّ كلّ من الفريقين بدلائل مذكورة في محلّها كلّها قاصرة عن إفادة المرام كما يظهر عند التأمّل (١) فيها ، ولم نتعرّض لذكرها هنا ، بل نشير إلى ما هو الظاهر عندنا في هذا الباب فنقول : الظاهر أنّ الاستصحاب بهذا المعنى لا حجّية فيه أصلا بكلا قسميه ؛ إذ لا دليل عليه تامّا ، لا عقلا ولا نقلا.

نعم الظاهر حجّية الاستصحاب بمعنى آخر وهو أن يكون دليل شرعي على أنّ الحكم الفلاني بعد تحقّقه ثابت إلى حدوث حال كذا أو وقت كذا ـ مثلا ـ معيّن في الواقع بلا اشتراطه بشيء أصلا ، فحينئذ إذا حصل ذلك الحكم فيلزم الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلا له ، ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشكّ في وجوده (٢) ، انتهى.

وصراحة نفيه الاستصحاب المتنازع فيه (٣) بين القوم كافية عن تقريب دلالته على ما ذكرنا ، والوجه فيه أنّ ما أفاده منطبق على بعض موارد الاستصحاب ، وهذا لا يوجب التفصيل فيه ، وذلك نظير ما لو توافق الاستصحاب مع البراءة ، فالقول بالبراءة لا يعدّ تفصيلا في الاستصحاب بعد اختلاف المناط ، فإنّ مناط الاستصحاب هو الوجود السابق ، ومناط ما أفاده هو نفس الشكّ في الفراغ بعد تيقّن الاشتغال ، غاية الأمر جريان الاستصحاب في المقام (٤) أيضا.

وتوضيح المطلب : إذا ورد من الشارع أمر بصوم الغد إلى الليل وشكّ في تحقّق الغاية ووصول الليل ، فتارة : يؤخذ لوجوب الإمساك في الوقت المشكوك بالاستصحاب كما عليه القوم ، وتارة : بالاشتغال كما عليه المحقّق ، وأخرى : يؤخذ

__________________

(١) « ز ، ك » : يظهر للمتأمّل.

(٢) مشارق الشموس : ٧٥ و ٧٦.

(٣) « ج ، م » : ـ فيه.

(٤) « ز ، ك » : ـ في المقام.

١٢٦

بنفس الخطاب والأمر كما عليه الأخبارية من تحكيم العامّ في الشبهة الموضوعية ، ومن المعلوم عدم ارتباط أحد الوجوه بالآخر ، فإنّ قضيّة الاشتغال وجوب الصوم والإمساك في زمان الشكّ من غير ملاحظة تبعية بعض الآنات للآخر على وجه لو فرض اجتماع تلك الآنات لكان الحكم فيها وجوب الإمساك بمقتضى القاعدة ، بخلاف الاستصحاب فإنّ الحكم في الزمان الثاني تابع له في الزمان الأوّل كما هو ظاهر ، فتدبّر ، كذا أفاد الأستاد (١) سلّمه الله تعالى.

قلت : والتفصيل المذكور المنسوب إليه في محلّه كما يؤذّن بذلك تمسّكه بأخبار الاستصحاب ، غاية الأمر جريان الاشتغال في موارد الاستصحاب الذي عنده حجّة ، فإنّ التمسّك بخبر الشكّ واليقين دليل على أنّ ثبوت الحكم عنده في زمان الشكّ بواسطة ثبوته في الأوّل وإن كان مجرّد الشكّ أيضا كافيا في جريان دليله الأوّل كما لا يخفى ، فتدبّر ، فالنسبة المذكورة مساهلة ظاهرة.

ثمّ قال روّح الله (٢) روحه الشريف من غير فصل : والدليل على حجّيته أمران : الأوّل : أنّ ذلك الحكم إمّا وضعي أو اقتضائي أو تخييري ، ولمّا كان الأوّل أيضا عند التحقيق يرجع اليهما فينحصر في الأخيرين ، وعلى التقديرين يثبت ما ذكرنا ، أمّا على الأوّل فلأنّه إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية ـ مثلا ـ فعند الشكّ بحدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظنّ لم يحصل الامتثال ، فلا بدّ من بقاء ذلك التكليف حال الشكّ أيضا ، وهو المطلوب. وأمّا على الثاني فالأمر كذلك (٣) كما لا يخفى (٤) ، انتهى.

وتوضيح ما أفاده في المقام أنّه إذا وجب الإمساك من الفجر إلى غسق الليل فلو شكّ المكلّف في الجزء الآخر أنّه هل هو من الليل أو من النهار؟ يجب عليه

__________________

(١) « ج ، م » : ـ الأستاد.

(٢) « ز ، ك » : ـ الله.

(٣) في المصدر : فالأمر أظهر.

(٤) المشارق : ٧٦.

١٢٧

الإمساك (١) المشكوك تحصيلا لليقين بالفراغ بعد العلم بالاشتغال ، والتعبير بالظنّ في كلامه لعلّه مقيّد بالظنّ المعتبر شرعا ، وإلاّ فلا نرى له وجها ، وذلك في الأمر والنهي ظاهر جدا ، بل القول بالاشتغال في المقام في بعض موارده هو الحقّ الذي لا محيص عنه ، بل يمكن دعوى الاتّفاق عليه (٢) ، والمحقّق القمي مع مبالغته في نفي الاشتغال قد أذعن به في المقام ، إلاّ أنّ اتّكال المحقّق المذكور على عدم الخفاء في جريان قاعدة الشغل (٣) في الإباحة ممّا لم نقف له على وجه فيا ليته لم يتّكل عليه ؛ لأنّ الوجه فيه في غاية الخفاء والغموض ، بل ممّا لا وجه له ، وغاية ما يمكن أن يوجّه به هو ما أفاده المحقّق القمي حيث قال : وأمّا في الإباحة وما يستلزمه (٤) من الأحكام الوضعية ، فلأنّ عدم اعتقاد إباحته يوجب عدم امتثال أمر الله تعالى ، فإنّ الاعتقاد بما سنّه (٥) واجب ، واجبا كان أو مباحا أو غيرهما (٦) ، وسقوطه ظاهر ، فإنّ وجوب الاعتقاد على ما سنّه على تقدير تسليمه لا يقضي بالاعتقاد إلى الغاية المعيّنة ؛ لأنّ ذلك واجب مطلقا قبل الغاية وبعد الغاية وعند الغاية من غير فرق في ذلك ، فإنّ الاعتقاد ليس وجوبه مغيّا بالغاية ، والمعتقد لا يؤثّر في الاعتقاد ، فإذا حكم الشارع بإباحة العصير قبل الغليان وشكّ في حصوله في زمان ، يحكم بوجوب اعتقاد الإباحة إلى حصول الغليان ، وذلك لا يوجب الحكم بكون المشكوك فيه ممّا وجب الاعتقاد فيه بالإباحة كما هو المطلوب ، مضافا إلى أنّ غاية الإباحة لا يعقل أن يكون إباحة ، بل لا بدّ أن يكون حكما اقتضائيا ، والمفروض وجوب الاعتقاد به أيضا ، فالحكم بوجوب الاعتقاد بالإباحة قبل الغاية دون ذلك الحكم تحكّم ، على أنّ المفروض أنّ المكلّف شاكّ في

__________________

(١) « ج ، م » : إمساك.

(٢) « ج ، م » : ـ عليه.

(٣) « ج » : العمل؟

(٤) في المصدر : يستلزمها. ومن قوله : « وأمّا في الإباحة » إلى قوله : « الأحكام الوضعية » سقط من المصدر الذي طبع في المجلّدين.

(٥) في المصدر : سنّنه.

(٦) القوانين ٢ : ٦٧ وفي ط : ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

١٢٨

الإباحة فلا يحصل الاعتقاد ؛ لعدم (١) اجتماع الاعتقاد والشكّ في مورد واحد.

قلت : هذا ما أفاده أستادنا المحقّق في المقام ، ويمكن أن يقال : إنّ بقاء الإباحة في صورة الإباحة موقوف على أصالة البراءة ، فإنّ المفروض أنّ غاية الإباحة هو الوجوب والحرمة ، فالشكّ في حصول الغاية شكّ في التكليف التحريمي أو الوجوبي والأصل البراءة ، فثبت (٢) الإباحة ، فالأحكام الاقتضائية ثبوتها في زمان الشكّ عنده مستند (٣) إلى الاشتغال ، والإباحة إلى البراءة (٤) ، إلاّ أنّ ذلك بعد عدم ظهوره من كلامه لا يتمّ فيما كانت الغاية مندوبة أو مكروهة ، على أنّ البراءة لا يفيد عدا نفي العقاب ولا يفيد حكما ولو كان إباحة (٥) على ما برهن عليه في محلّه.

ثمّ قال قدس الله نفسه الزكية : والثاني : ما ورد في الروايات من أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ (٦) ، فإن قلت : هذا كما يدلّ على حجّية المعنى المذكور كذلك يدلّ على المعنى الذي ذكره القوم ؛ لأنّه إذا حصل اليقين في زمان فينبغي أن لا ينقض في زمان آخر بالشكّ نظرا إلى الرواية ، وهو بعنيه ما ذكروه.

قلت : الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض به ، والمراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، وفيما ذكروه ليس كذلك ، لأنّ اليقين بحكم في زمان ليس ممّا يجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض الشكّ (٧) ، وهو ظاهر (٨) ، انتهى.

وتوضيح ما أفاده المحقّق المذكور هو أنّ هذه الأخبار إنّما هي مسوقة لبيان الحكم الظاهري وعلاج في الواقعة المشكوكة ، فلا يعقل أن يكون المأمور به في تلك الأخبار

__________________

(١) « ج » : بعدم.

(٢) « ج » : فيثبت.

(٣) « ك » : مستندة.

(٤) « ج » : لا إلى البراءة ، وفي « ك » : لا البراءة.

(٥) « ج » : الإباحة.

(٦) « ج ، م » : ـ بالشكّ.

(٧) « ز » : شك ، وفي المصدر : ليس ما يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض شكّ.

(٨) المشارق : ٧٦.

١٢٩

غير ممكن الحصول ، وعلى هذا التقدير فلا دلالة فيها على استصحاب القوم وتدلّ على الاستصحاب بالمعنى الذي ذكره.

فكلامه متضمّن لدعويين : الأولى : أنّ المراد بالرواية ليس النهي عن النقض مطلقا بل عند التعارض بالمعنى الذي فسّره وهو أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ. الثانية : أنّ هذه الرواية بعد ما عرفت المراد منها لا دلالة فيها على استصحاب القوم.

أمّا الأولى فلأنّ ظاهر لفظ النقض في اللغة والعرف هو كسر الشيء إذا كان متّصل (١) الأجزاء خلاف الإبرام ، ولا بدّ في تحقّق (٢) هذا المعنى من اجتماع الناقض والمنقوض ، فإنّ ذلك لا يحصل إلاّ بعد التصادم والتعاند ، ومنه قوله تعالى : ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً )(٣) ولا ريب في استحالة إرادة هذا المعنى من الرواية ؛ لامتناع اجتماع الشكّ واليقين فإنّ فرض أحدهما ينافي وجود الآخر ، وعلى تقدير إرادة هذا المعنى من أخبار الباب لا بدّ أن يكون اليقين أمرا متّصلا مستمرّا ، ثمّ ينقطع ذلك الأمر المستمرّ بحدوث الشكّ ، وبطلانه أمر بيّن ، فلا مناص من حملها على خلاف ما هو الظاهر من لفظ النقض على وجه يكون أقرب إلى معناه الحقيقي كما قرّر من لزوم ذلك عند تعذّر الحقيقة ، وأقرب الوجوه إلى المعنى الحقيقي هو أن يكون الشكّ متعلّقا على قضيّة تعلّق بها اليقين قبل حدوث الشكّ ، فيكون المعنى : إذا حصل اليقين بشيء ، ثمّ شكّ في صحّة ذلك اليقين ، فلا بدّ من الأخذ باليقين وعدم الاعتناء بالشكّ ، فإنّه على هذا التقدير (٤) تكون القضيّة المعلومة هي بعينها القضيّة المشكوكة من غير تغاير ، ولا ريب في أقربية هذا المعنى من معنى النقض ؛ لاجتماع الشكّ واليقين في مورد واحد من جميع الوجوه حتّى في الزمان أيضا بالنسبة إلى متعلّقهما وإن كان زمان حصولهما متغايرا.

__________________

(١) « م » : متّصلة.

(٢) « م ، ك » : تحقيق.

(٣) النحل : ٩٢.

(٤) « ز » : التقرير.

١٣٠

فتكون (١) الرواية دليلا على اعتبار أصالة الصحّة في الاعتقادات وتكون (٢) من وجوه الدليل على اعتبار استصحاب (٣) الساري ، إلاّ أنّ ملاحظة صدر الرواية وذيلها وعدم الارتباط بينها وبين التعليل المذكور في رواية الوضوء ـ كما ستعرف تفصيل ذلك في محلّه بعيد ذلك (٤) إن شاء الله ـ يوجب الإعراض عن هذا المعنى إلى معنى آخر أقرب إلى المعنى الحقيقي بين المعاني المحتملة ، وما يحتمل قريبا في الرواية وجهان : أحدهما يدلّ على استصحاب القوم ، والآخر على استصحاب المحقّق.

أمّا الأوّل : فهو أن يراد من النقض مطلق الأخذ بخلاف الأحكام والآثار المترتّبة على المتيقّن.

وأمّا الثاني : فهو أن يراد من النقض الأخذ (٥) بالآثار التي من شأنها البقاء (٦) لو لا الشكّ.

ولا شكّ أنّ الثاني أقرب إلى معنى النقض (٧) من الأوّل ، وتوضيحه أنّ صدق معنى النقض حقيقة موقوف على وجود أمرين في زمان واحد ، فيتحقّق (٨) التعارض والتعاند بينهما فينقض (٩) أحدهما بالآخر ، وإذا امتنع تحقّق هذا المعنى فالأقرب إليه أن يراد من اللفظ ما يتحقّق (١٠) فيه التعارض شأنا ، وذلك لا يصدق إلاّ مع بقاء مقتضي الحكم من زمان إلى زمان ، ثمّ يعرض في الوسط ما يحتمل كونه مزيلا أو احتمل عروض المزيل أو نحو ذلك ، وانطباق هذا المعنى على استصحاب (١١) المحقّق ظاهر ، وليس ما ذكرنا من

__________________

(١) « ج ، م » : فيكون.

(٢) في النسخ : يكون.

(٣) كذا. ولعلّ الصواب : الاستصحاب.

(٤) « ج » : ـ بعيد ذلك.

(٥) « ج ، م » : هو الأخذ.

(٦) سقطت عبارة : « وأمّا الثاني » إلى هنا من نسخة « ك ».

(٧) « ز ، ك » : إلى النقض معنى.

(٨) « ز » : فيحقّق.

(٩) « ج » : فينتقض.

(١٠) « ج ، م » : اللفظ تحقّق.

(١١) « ز ، ك » : الاستصحاب.

١٣١

الأقربية مخصوصا بالرواية المشتملة على لفظ النقض كما توهّمه جماعة ، بل لفظ الدفع كما في رواية العلوي « أنّ اليقين لا يدفع بالشكّ » (١) أيضا الظاهر منه ما ذكرنا كالرواية المشتملة على قوله : « اليقين لا يدخله الشكّ » فإنّ قوله : « لا يدخله » أيضا مثل قوله : « لا تنقض » ظاهر فيما ذكرنا (٢) بعد امتناع إرادة المعنى الحقيقي منها.

وأمّا الثانية : فقد ظهر ضعفها (٣) في خلال تقريب الأولى فلا حاجة إلى إطالة الكلام في تقريرها ، فإنّ التعارض لا يحصل إلاّ فيما ذكره دون ما ذكره القوم.

فإن قلت : إنّ الأمر في استصحاب القوم أيضا كذلك ؛ إذ ليس الكلام في الأحكام الموقّتة التي تزول بزوالها ، ولا فيما تنعدم بعد وجودها آناً ما ، بل في الأحكام القابلة للبقاء والزوال حين الشكّ ، وحينئذ فلو فرض عدم الشكّ في البقاء لكان اليقين به في محلّه ، فإنّ عروض الشكّ لا يمكن إلاّ فيما احتمل انتفاء جزء من العلّة المقتضية للحكم ، فعند عدم الشكّ فلا بدّ من القطع ببقاء العلّة التامّة ، فتفرّع عليها القطع ببقاء الحكم ، فاليقين حاصل لو لا الشكّ.

قلت : نعم ولكن لا بدّ أن يعلم أنّ مراد المحقّق ـ على ما يظهر في الحاشية التي علّقها على غير المقام على ما حكاه السيّد الشارح في شرح الوافية ـ هو وجود المقتضي للحكم المعمول به عند عدم الشكّ قطعا ، لامجرّد عدم الشكّ فإنّه وإن كان يلازم اليقين لكنّه بواسطة انتفاء الواسطة بين الشكّ واليقين ، فإنّ المراد بالشكّ ما عدا اليقين في المقام وذلك لا ينافي الشكّ في وجود المقتضي أيضا بخلاف ما ذكره فيما فسّر التعارض بأن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، فالمفروض عنده وجود خطاب يقضي بالحكم لو لا معارضة الشكّ ، ولا ريب في أنّه إذا فرض ارتفاع المعارض بانتفاء احتمال المانع وجب الأخذ بالمقتضي فإنّه يؤثّر (٤) أثره على تقدير عدم المانع.

__________________

(١) تقدّم في ص ١٠٣.

(٢) « ز ، ك » : ذكر.

(٣) « ج ، م » : صدقها.

(٤) « ز ، ك » : لا يؤثّر.

١٣٢

لا يقال : إنّ ارتفاع الشكّ لا يوجب اليقين بالبقاء دائما ؛ لإمكان ارتفاعه باليقين بالعدم ، فارتفاع الشكّ لا يوجب اليقين كما هو المقصود.

لأنّا نقول : المفروض وجود المقتضي للحكم في استصحابه ، فالقطع بالعدم لا يتصوّر إلاّ بواسطة القطع بوجود المزيل ، وخروجه عن مفروضه معلوم مفروض.

ثمّ قال طيّب الله رمسه اللطيف (١) : فإن قلت : هل الشكّ في كون شيء مزيلا للحكم مع اليقين بوجوده كالشكّ في وجود المزيل أو لا (٢)؟

قلت : فيه تفصيل ؛ لأنّه إن ثبت بالدليل أنّ ذلك الحكم مستمرّ إلى غاية معيّنة في الواقع ، ثمّ علمنا صدق تلك الغاية على شيء وشككنا في صدقها على شيء آخر (٣) أم لا ، فحينئذ لا ينقض اليقين بالشكّ ، وأمّا إذا لم يثبت ذلك ، بل إنّما ثبت أنّ ذلك الحكم مستمرّ في الجملة ومزيله الشيء الفلاني وشككنا في أنّ الشيء الآخر مزيله أم لا ، فحينئذ لا ظهور في عدم نقض الحكم وثبوت استمراره ؛ إذ الدليل الأوّل ليس بجار فيه ، لعدم ثبوت حكم العقل في هذه الصورة (٤) ، خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالّة على عدم المؤاخذة بما (٥) لا يعلم ، والدليل (٦) الثاني الحقّ أنّه لا يخلو عن إجمال ، وغاية ما يسلّم منه إفادته (٧) الحكم في الصورتين اللتين ذكرناهما وإن كان فيه بعض المناقشات (٨) ، لكنّه لا يخلو من (٩) تأييد للدليل الأوّل ، فتأمّل (١٠) ، انتهى.

وسوق كلامه هذا لبيان الحكم فيما إذا جاء الشكّ من جهة الشك في مزيلية

__________________

(١) « ز ، ك » : الشريف.

(٢) « ز ، ك » : أم لا.

(٣) في المصدر : ثمّ علمنا حصولها عند حصول شيء وشككنا في حصولها عند حصول شيء آخر.

(٤) في المصدر : في مثل هذه الصورة.

(٥) المثبت من « ج » وهو موافق للمصدر ، وفي سائر النسخ : « عمّا ».

(٦) « م » : دليل.

(٧) في المصدر : إفادة.

(٨) « ج » : المنافيات.

(٩) « ز ، ك » : عن.

(١٠) المشارق : ٧٦.

١٣٣

الحادث ، وحاصله التفصيل بين ما إذا كان الشكّ راجعا إلى الشكّ في الدليل المثبت لليقين في السابق الموجب لإجماله ، وبين ما لم يكن راجعا إلى الشكّ فيه وموجبا لإجماله ، فيحكم ببقاء التكليف على الأوّل دون الثاني ، ودليله في المقام هو ما ذكره فيما إذا كان الشكّ في حصول المزيل وبلوغ الغاية ، فانّ قاعدة الاشتغال جارية (١) بعد العلم بالتكليف من دون إجمال في المكلّف به مفهوما ، بخلاف ما إذا كان مفهومه مجملا فلا يجري عنده القاعدة المذكورة. نعم دليله الثاني لا يقضي (٢) بالفرق كما نبّه عليه أيضا.

والحاصل أنّ تفصيله في المقام راجع إلى تفصيله سابقا من أنّ الشكّ إن كان من جهة إجمال الدليل المقتضي لليقين السابق فلا يحكم ببقاء التكليف ، وإن لم يكن كذلك بأن يكون الدليل مسبّبا فيحكم بالبقاء.

ثمّ قال قدس الله لطيفه (٣) : فإن قلت : الاستصحاب الذي يدّعونه (٤) فيما نحن فيه وأنت قد منعته الظاهر أنّه من قبيل ما اعترفت بحجّيته ؛ لأنّ حكم النجاسة ثابت ما لم يحصل الظنّ (٥) المعتبر شرعا بوجود المطهّر ، لأنّ حسنة ابن المغيرة وموثّقة ابن يعقوب ليستا حجّتين شرعيتين (٦) خصوصا مع معارضتهما بالروايات كما تقدّم ، فغاية الأمر حصول الشكّ بوجود المطهّر وهو لا ينقض اليقين كما ذكرت ، فما وجه المنع؟

قلت : كونه من قبيل الثاني ممنوع ؛ إذ لا دليل على أنّ النجاسة ثابتة ما لم يحصل مطهّر شرعي ، وما ذكروه (٧) من الإجماع غير معلوم ؛ لأنّ غاية ما أجمعوا عليه أنّه (٨) بعد التغوّط لا يصحّ الصلاة ـ مثلا ـ بدون الماء والتمسّح رأسا بثلاثة أحجار متعدّدة ولا بشعب حجر واحد ، وهذا الإجماع لا يستلزم الإجماع على ثبوت الحكم والنجاسة (٩)

__________________

(١) « ز ، ك » : هي جارية.

(٢) « ج » : لا يقتضي.

(٣) « ج » : روحه.

(٤) « ز ، ك » : ندّعونه.

(٥) في المصدر : ما لم يحصل مطهّر شرعي إجماعا وهاهنا لم يحصل الظنّ.

(٦) في النسخ والمصدر : حجّة شرعية.

(٧) في المصدر : ذكره.

(٨) « ج ، م » : أنّ.

(٩) في المصدر : ثبوت حكم النجاسة.

١٣٤

حتّى يحدث شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا قد اعتبره الشارع مطهّرا ، فلا يكون من قبيل ما ذكرنا.

فإن قلت : هب أنّه ليس داخلا تحت الاستصحاب المذكور ، لكن نقول : إنّه قد ثبت بالإجماع وجوب شيء على المتغوّط في الواقع ، وهو مردّد بين أن يكون المسح بثلاثة أحجار متعدّدة أو الأعمّ منه ومن المسح بجهات حجر واحد ، فما لم يأت بالأوّل لم يحصل اليقين بالامتثال والخروج عن العهدة ، فيكون الإتيان به واجبا.

قلت : الإجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مبهم في نظرنا عليه (١) بحيث لو لم يأت بذلك الشيء المعيّن لا يستحقّ العقاب (٢) ، ممنوع ، بل الإجماع على (٣) ترك الأمرين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فيجب أن لا يتركهما ، والحاصل أنّه إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن (٤) ـ مثلا ـ معلوم عندنا أو ثبوت حكم إلى غاية معلومة عندنا ، فلا بدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ بوجود ذلك الشيء المعلوم حتّى يتحقّق الامتثال ولا يكفي الشكّ في وجوده ، وكذا يلزم الحكم ببقاء ذلك الحكم إلى أن يحصل العلم أو الظنّ بوجود تلك الغاية المعلومة ولا يكفي الشكّ في وجودها في ارتفاع ذلك الحكم ، وكذا (٥) إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد عندنا بين أشياء (٦) ونعلم أيضا عدم اشتراطه بالعلم ـ مثلا ـ يجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّدة بينها (٧) في نظرنا وبقاء ذلك الحكم إلى حصول تلك الأشياء أيضا ، ولا يكفي الإتيان بشيء واحد منها في سقوط التكليف ، وكذا حصول شيء واحد في

__________________

(١) في المصدر : في الواقع منهم في نظره عليه.

(٢) في المصدر : العقاب به.

(٣) في « ك » والمصدر : على أنّ.

(٤) في المصدر : ـ معيّن.

(٥) في المصدر : كذلك.

(٦) في المصدر : مردّد في نظرنا بين أمور ويعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشيء ـ مثلا ـ أو على ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء.

(٧) في المصدر : فيها.

١٣٥

ارتفاع الحكم ، سواء (١) في ذلك كون ذلك الواجب شيئا معيّنا في الواقع مجهولا عندنا ، أو أشياء كذلك ، أو غاية معيّنة في الواقع مجهولة عندنا ، أو غايات كذلك ، وسواء أيضا تحقّق قدر مشترك بين تلك الأشياء والغايات ، أو تباينها بالكلّية ، وأمّا إذا لم يكن كذلك وورد (٢) نصّ ـ مثلا ـ على أنّ الواجب الشيء الفلاني ونصّ آخر على أنّ ذلك الواجب شيء آخر وذهب بعض الأمّة إلى وجوب شيء والآخرون إلى وجوب شيء آخر دونه وظهر بالنصّ أو الإجماع في الصورتين أنّ ترك ذينك (٣) الشيئين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فحينئذ لم يظهر وجوب الإتيان بهما معا حتّى يتحقّق الامتثال ، بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما ، سواء اشتركا في أمر ، أو تباينا كلّية (٤) ، وكذلك الحكم في ثبوت الحكم إلى غاية (٥).

هذا مجمل القول (٦) في هذا المقام وعليك بالتأمّل في خصوصيات الموارد واستنباط أحكامها عن (٧) هذا الأصل ورعاية جميع ما يجب رعايته عند تعارض المعارضات ، والله الهادي إلى سواء الطريق (٨) ، انتهى كلماته الشريفة قدّس الله سرّه (٩).

وللمحقّق المذكور كلام (١٠) آخر في الحاشية على ما حكاه السيّد الشارح مربوط بالمقام لا بأس بإيراده كي ينقّح (١١) المرام فقال ـ عند شرح قول الشهيد رحمه‌الله (١٢) : ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه ـ : توضيحه (١٣) أنّ الاستصحاب لا دليل على حجّيته عقلا ، وما تمسّكوا به ضعيف ، وغاية ما يتمسّك فيها ما ورد في بعض الروايات (١٤)

__________________

(١) في المصدر : وسواء.

(٢) في المصدر : بل ورد.

(٣) في المصدر : ذلك.

(٤) « ز ، ك » : كلّيا ، وفي المصدر : بالكلّية.

(٥) في المصدر : الغاية.

(٦) « ج » : الكلام.

(٧) « ز ، ك » : من.

(٨) المشارق : ٧٦ ـ ٧٧.

(٩) « ز ، ك » : ـ قدّس الله سرّه.

(١٠) « ز ، ك » : ثمّ إنّ للمحقّق المذكور كلاما.

(١١) « ج ، م » : يتّضح.

(١٢) « ج ، م » : ـ رحمه‌الله.

(١٣) « ج » : وتوضيحه.

(١٤) « ز ، ك » : الأخبار.

١٣٦

الصحيحة : « أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ أبدا أو أنّه ينقضه بيقين آخر مثله » (١) وعلى تقدير تسليم صحّة الاحتجاج بالخبر في مثل هذا الحكم الظاهر (٢) أنّه من الأصول ويشكل التمسّك بالخبر الواحد في الأصول إن سلّم جواز التمسّك به في الفروع ، نقول : الظاهر أوّلا أنّه لا يظهر شموله للأمور الخارجية مثل رطوبة الثوب ونحوها ؛ إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم في مثل هذه الأمور الذي ليس حكما شرعيا وإن كان يمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي بالعرض ، ومع عدم الظهور لا يمكن الاحتجاج به فيها ، وهذا ما يقال : إنّ الاستصحاب في الأمور الخارجية لا عبرة به.

ثمّ بعد تخصيصه بالأحكام الشرعية نقول : الأمر على وجهين : أحدهما : أن يثبت حكم شرعي في مورد خاصّ باعتبار حال يعلم من الخارج أنّ زوال تلك الحالة لا يستلزم زوال ذلك الحكم ، والآخر : أن يثبت باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك.

مثال الأوّل إذا ثبت نجاسة ثوب خاصّ باعتبار ملاقاته للبول بأن يستدلّ عليها بأنّ هذا شيء لاقاه البول ، وكلّ ما لاقاه البول نجس ، فهذا نجس ، والحكم الشرعي النجاسة ، وثبوته باعتبار حال هو ملاقاة البول وقد علم من خارج ضرورة أو إجماعا أو غير ذلك بأنّه لا تزول (٣) النجاسة بزوال الملاقاة فقط.

ومثال الثاني ما نحن بصدده فإنّه ثبت وجوب الاجتناب عن الإناء المخصوص باعتبار أنّه شيء يعلم وقوع النجاسة فيه بعينه ، وكلّ شيء كذلك يجب الاجتناب عنه ولم يدلّ دليل (٤) من الخارج أنّ (٥) ذلك الوصف الذي يحصل باعتبار زوال المعلومية بعينه لا دخل له (٦) في زوال الحكم.

__________________

(١) تقدّم في ص ٨٨.

(٢) في المصدر : في مثل هذا الحكم وعدم منعها بناء على أنّ هذا الحكم الظاهر.

(٣) المثبت من « ك » وفي سائر النسخ والمصدر : « لا يزول ».

(٤) في المصدر : ولم يعلم بدليل.

(٥) في المصدر : + زوال.

(٦) « ج » : فيه.

١٣٧

وعلى هذا نقول : شمول الخبر للقسم الأوّل ظاهر ، فيمكن التمسّك بالاستصحاب فيه ، وأمّا القسم الثاني فلا ، فالتمسّك (١) فيه مشكل.

فإن قلت : بعد ما علم في القسم الأوّل أنّه لا يزول الحكم بزوال الوصف فأيّ حاجة إلى التمسّك بالاستصحاب؟ وأيّ فائدة فيما ورد في الأخبار بأنّ (٢) اليقين لا ينقض إلاّ بمثله؟

قلت : القسم الأوّل على وجهين : أحدهما : أن يثبت [ أنّ ](٣) الحكم بمثل النجاسة بعد ملاقاة النجس حاصل ما لم يرد عليه الماء على الوجه المعتبر في الشرع ، وحينئذ فائدته أنّ عند حصول الشكّ بورود الماء لا يحكم بزوال النجاسة ، والآخر : أن يعلم ثبوت الحكم في الجملة بعد زوال الوصف لكن لم يعلم أنّه ثابت دائما أو في بعض الأوقات إلى غاية معيّنة محدودة أو لا ، وفائدته حينئذ أنّه إذا ثبت الحكم فيستصحب إلى أن يعلم المزيل.

ثمّ لا يخفى أنّ الفرق الذي ذكرنا من أنّ إثبات مثل هذا بمجرّد الخبر مشكل ، مع انضمام أنّ (٤) في القسم الثاني لم يبلغ مبلغه في القسم الأوّل وأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ، قد يقال : إنّ ظاهره أن يكون اليقين حاصلا لو لا الشكّ باعتبار دليل دالّ على الحكم في غير صورة ما شكّ فيه ؛ إذ لو فرض عدم دليل عليه لكان نقض اليقين حقيقة باعتبار عدم الدليل الذي هو دليل العدم لا الشكّ كأنّه يصير قريبا ، ومع ذلك ينبغي الاحتياط في كلّ من القسمين ، بل في الأمور الخارجية أيضا (٥) ، انتهى كلامه الشريف في التعليقة.

وخلاصته ما أورد على نفسه في الكلام المنقول عنه (٦) قبل الحاشية (٧) من قوله : فإن

__________________

(١) « ج » : فلأنّ التمسّك.

(٢) « ز ، ك » : من أنّ.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) « ك » : أنّ الظهور.

(٥) شرح الوافية ( مخطوط ) : ١٣٣ / ب ـ ١٣٤ / أ.

(٦) « ج ، م » : ـ عنه.

(٧) في ص ١٣٥.

١٣٨

قلت : هو إرجاع ما يكون الشكّ فيه من حيث احتمال مانعية الشيء شرعا ـ كالمذي والاستنجاء بحجر ذي ثلاث شعب ـ إلى ما يكون الشكّ فيه من جهة الصدق حتّى يقال بجريان الاستصحاب فيه ، وبيان الرجوع فبانتزاع مفهوم عامّ يشكّ في صدقه على المشكوك (١) المانعية كأن يقال : إنّ الوضوء باق إلى حدوث المزيل ، والنجاسة باقية إلى حدوث ما يرتفع بها ، ويشكّ في صدق المزيل على المذي كالرافع على الحجر المذكور فيؤخذ بالاستصحاب في دفع الشكّ.

وخلاصة ما أجاب به عن ذلك هو أنّه لا وجه للإرجاع المذكور ؛ إذ المناط على العناوين الموجودة في كلام الشارع وليس في كلامه ما يدلّ على بقاء النجاسة إلى حدوث ما به يرتفع (٢) قطعا ، فانّ الإجماع المدّعى على ذلك ممنوع ، نعم العقل قد انتزع هذا العنوان من قبل نفسه ولا يناط عليه كما هو ظاهر.

ونظير ما أورده في المقام ودفعه كثير (٣) كتوهّم البعض عدم جواز الأخذ بالعمومات والأصول الكلّية بعد العلم بوصول التخصيص بها إجمالا. وقد أجبنا عنه بأنّ العامّ المخصّص بالمجمل إنّما يقصر عن الحجّية فيما لم يكن الإجمال انتزاعيا عقليا كما إذا قال الشارع : « أكرم العلماء إلاّ بعضهم » وأمّا فيما مثل المقام (٤) فذلك يوجب الفحص على وجه لا يبقى معه العلم الإجمالي بالمخصص وبعد ذلك فظاهر العامّ محكّم ، ومنه حسبان بعضهم عدم جواز التمسّك بقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٥) عند الشكّ في وجوب الوفاء بعقد ؛ لتخصيصه بالعقود الجائزة قطعا ، فعند الشكّ لا يعلم بدخول المشكوك في عنوان المخصّص أو المخصّص ، والجواب عنه أيضا ما عرفت من عدم الاعتبار بعنوان المخصّص الانتزاعي. ومنه أيضا توهّم عدم جواز التمسّك بقوله : « صلّ » لإثبات صحّة صلاة مشكوكة ؛ إذ المراد بالأمر ما لا يكون فاسدا ، وفيه أيضا أنّ الصحّة والفساد

__________________

(١) كذا. ولعلّ الصواب : مشكوك.

(٢) « ج » : يرتفع به.

(٣) هذا هو الصواب وفي « ج ، م » : كثيرة ، وفي « ز ، ك » : كغيره.

(٤) « ز ، ك » : وأمّا في مثل المقام.

(٥) المائدة : ١.

١٣٩

أمران انتزاعيان وليسا ممّا جاءا من قبل الشارع ، فلا اعتداد بهما.

وأمّا ما أفاده أخيرا فمرجعه إلى جريان قاعدة الاشتغال فيما إذا علم بوجود المكلّف به بين أشياء مردّدة ، وعدم الأخذ بمقتضاها من القول بوجوب الموافقة القطعية بعد القول بحرمة المخالفة القطعية فيما إذا علمنا إجمالا بأنّ الحكم إمّا كذا وإمّا كذا ، من غير فرق في ذلك بين دوران الأمر بين المتباينين أو الأقلّ والأكثر.

وأمّا ما أورده في التعليقة فلعلّه مطابق لما حقّقه في المقام كما يظهر بالتأمّل ، إلاّ أنّه يظهر من قوله : ثمّ لا يخفى أنّ الفرق الذي (١) إلخ ، وجه (٢) آخر في الاستدلال على مرامه ، ومحصّله : أنّ الظاهر من الأخبار عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، ولا ريب أنّه إذا لم يعلم مقدار الاقتضاء ففي زمان الشكّ لا دليل على الحكم السابق ، فإنّ المفروض عدم شموله لزمان الشكّ ، ومن المقرّر في مقامه هو الأخذ بمقتضى « عدم ثبوت الحكم عند عدم دليل عليه ؛ لأنّه دليل العدم » ففي الزمان الثاني الذي يشكّ في (٣) ثبوت الحكم فيه لا مورد لقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » لأنّه نقض له باليقين ؛ لما حقّق في محلّه من حجّية « عدم الدليل دليل العدم » بخلاف ما إذا علمنا مقدار الاقتضاء فإنّ الدليل الأوّل شامل لزمان الشكّ ، فإذا حكمنا بخلافه فإنّما هو نقض لليقين بالشكّ لا لأجل عدم الدليل ؛ إذ المفروض وجود الدليل ، فالأخبار لا تشمل ما إذا كان الشكّ في مقدار زمان الحكم كما فرضه القوم.

فصار الحاصل من مذهب المحقّق المذكور أنّه إذا كان الحكم الشرعي محدودا إلى غاية معيّنة أو حالة كذلك ، فلا بدّ من الحكم ببقائه عند الشكّ في وجود الغاية أو الحالة المزيلتين ، وأمّا إذا لم يكن كذلك سواء كان الشكّ في وجود الدليل المقتضي للحكم أو كان الشكّ في مانعية الموجود ، أمّا الأوّل : فصريح كلماته المنقولة تنادي

__________________

(١) « ز ، ك » : ـ الذي.

(٢) « ج ، م » : وجها.

(٣) « ج ، م » : ـ في.

١٤٠