مطارح الأنظار - ج ٤

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-37-3
الصفحات: ٧٨١

سهوا وعمدا.

ومنها : موثّقة عمّار الساباطي رواها الصدوق في الفقيه عن إسحاق بن عمّار أنّه قال : [ قال لي : ] أبو الحسن الأوّل : « إذا شككت فابن على اليقين » قال : قلت : هذا أصل؟ قال : « نعم » (١).

ودلالتها ظاهرة لا غبار عليها ؛ لعدم ما يصلح لصرف اللام عن حقيقتها ، وإيرادها في الصلاة لا ينافي عمومها ، نعم يرد عليه (٢) أنّه يخالف مذهب الشيعة من البناء على اليقين على وجه العموم ، إلاّ أنّ الأخذ بعمومها في غير موارد المخالفة أيضا مشكل ، فإنّه ليس بمنزلة إحدى الفقرتين في الروايات المشتملة على فقرات كثيرة ، فالأولى حملها على لزوم البناء على اليقين الفعلي كما هو أحد احتماليه ، فيسقط الاستدلال بها أيضا ، بل لعلّه هو الظاهر منها ، فيكون مفاد الرواية مفاد قوله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (٣) ودعوى ظهور دلالته على الاستصحاب ، ممنوع (٤).

ومنها : ما رواه الشيخ في التهذيب في كتاب الصوم عن محمّد بن الحسن الصفّار عن عليّ بن محمّد القاساني (٥) قال كتبت إليه ـ وأنا بالمدينة ـ عن اليوم الذي يشكّ فيه (٦) من رمضان أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : « اليقين لا يدخل فيه الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » (٧).

وجه الدلالة ظاهر ولا يحتمل العهدية ولا يحتمل قاعدة الاشتغال أيضا نظرا إلى

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٥١ / ١٠٢٥ ، باب أحكام السهو والشكّ ؛ وسائل الشيعة ٨ : ٢١٢ ، باب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٢.

(٢) « ز ، ك ، م » : + من.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٠ و ١٧٣ ، باب ١٤ من أبواب صفات القاضي ، ح ٥٤ و ٦٣ ؛ بحار الأنوار ٢ : ٢٥٩.

(٤) « ز » : فممنوع ، ومن قوله : « بل لعلّه » إلى هنا سقط من « ك ».

(٥) « ج » : الكاشاني ، وكذا في الموارد الآتية.

(٦) « ك » : فيه أنّه.

(٧) التهذيب ٤ : ١٥٩ ، باب علامة أوّل شهر رمضان وآخره ، ح ١٧ ؛ وسائل الشيعة ١٠ : ٢٥٥ ، باب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح ١٣. وسيأتي في ص ١٣٢ و ١٥٥ و ٥٠١.

١٠١

قوله : « لا يدخل فيه الشكّ » فإنّ الظاهر منه هو اليقين السابق ، بل ولا يصحّ التفريع لو كان المراد باليقين هو الفعلي منه. أمّا قوله : « صم للرؤية » فظاهر عدم التفريع فيه ، وأمّا قوله : « وأفطر للرؤية » فهو أيضا كذلك ؛ لدوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، فلا يتمشّى فيه الاحتياط. فلا إشكال في الرواية من حيث الدلالة فيا ليتها كانت صحيحة السند ، فإنّها مكاتبة أوّلا ، ولم يصرّح النجاشي بوثاقة عليّ بن محمّد القاساني ثانيا.

قال النجاشي في ترجمته : إنّ عليّ بن محمّد بن شيرة القاساني أبو الحسن كان فقيها مكثرا من الحديث فاضلا ، غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى وذكر أنّه سمع منه مذاهب متكثّرة (١) ، وليس في كتبه ما يدلّ على ذلك ، له كتب أخبرنا عليّ بن أحمد بن محمّد بن طاهر وقال : حدّثني (٢) محمّد بن الحسن قال : حدّثنا سعد عن عليّ بن محمّد بن شيرة القاساني بكتبه (٣).

وعدم دلالته على التوثيق ظاهر ، ووصفه بالفقه والفضيلة يعارضه قوله : غمز عليه وسمع منه مذاهب متكثّرة ، نعم في رجال الشيخ أنّ عليّ بن شيرة ثقة من أصحاب الهادي عليه‌السلام (٤) إلاّ أنّه احتمل بعضهم (٥) أنّ قوله : « ثقة » تصحيف قوله : « يقال » بقرينة ما ذكره بعد ذلك بلا فصل أنّ عليّ بن محمّد القاساني ضعيف أصبهاني ، وعلى تقدير عدم التصحيف فالمعارضة بينهما ظاهرة (٦) إلاّ أن يقال بالتعدّد وأنّ عليّ بن شيرة غير القاساني كما لعلّه مؤيّد بما أفاده العلاّمة من أنّ عليّ بن محمّد القاساني وعليّ بن شيرة كانا من أصحاب أبي جعفر الثاني ، ولكن قيل عليه : إنّه سهو ؛ إذ لم نجدهما في الأصحاب ، مع تصريح النجاشي بالاتّحاد.

فكيف كان فلو لم يكن المدار في السند على الوثوق لم يكن وجه للاستدلال

__________________

(١) في المصدر : منكرة.

(٢) في المصدر : حدّثنا.

(٣) رجال النجاشى ٢٥٥ / ٦٦٩.

(٤) رجال الطوسى ٤١٧ / ٩.

(٥) انظر منتهى المقال ٥ : ٥٩.

(٦) « ج ، م » : ظاهر.

١٠٢

بالرواية ، ومع ذلك فالخطب سهل ؛ لحصول الوثوق على ما هو الإنصاف ، مضافا إلى ما ذكره المحقّق البهبهاني في التعليقة (١) من كونه معتمدا ، على أنّ اعتماد محمّد بن الحسن الصفّار على الرواية ممّا يعادل توثيق الراوي قطعا ، بل لا يبعد مشاهدته للمكاتبة بعينها كما هو الأغلب في المكاتبات ، فإنّ البناء على ضبطها وحفظها.

ومنها : ما ذكره غوّاص البحار فيها عن الخصال عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمّد بن عيسى اليقطيني عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين » (٣) وفي الخصال أيضا في حديث (٤) الأربعمائة عن الباقر عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام من الملك العلاّم (٥) : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ » وإرسال الرواية على الثاني معلوم ، فالاعتماد على الأوّل ، وعليه فالقاسم ضعّفه ابن الغضائري وتبعه العلاّمة (٦) ، ويكفي في ضعف الحديث عدم ثبوت وثاقة الراوي على تقدير عدم الاعتداد بالتضعيف المذكور ، إلاّ أنّ اعتماد اليقطيني عليها مع ظهور حاله في الرواية كاف في حصول الوثوق بها ، فإنّه من أكابر القميين ، وقد أخرج البرقي منه لاتّهامه في الرواية ، مضافا إلى اعتماد الكليني بالرواية وذكر أجزائها متفرّقة ، وقد أفاد العلاّمة المجلسي بأنّها في غاية الوثاقة على طريقة القدماء وإن كانت ضعيفة (٧) بزعم المتأخّرين (٨) ،

__________________

(١) تعليقة منهج المقال : ٢٣٨ نقلا من هامش منتهى المقال.

(٢) « م » : صلوات الله عليه.

(٣) بحار الأنوار ٨٠ : ٣٥٩ ؛ الخصال ٦١٩ ، ح ١٠٩ ؛ وسائل الشيعة ١ : ٢٤٧ ، باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٦.

(٤) « ز ، ك » : الحديث.

(٥) « ز ، ك » : عليه‌السلام.

(٦) الخلاصة ٢٤٨ / ٦.

(٧) « ج » : كان ضعيفا.

(٨) بحار الأنوار ١٠ : ١١٧ ، وعنه في القوانين ٢ : ٦٢ ، وفيهما : وإن لم يكن صحيحا بزعم المتأخّرين.

١٠٣

فسندها لعلّه ممّا لا غبار عليه فيا ليتها كانت متّضحة الدلالة على المقصود ، فإنّه يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّ من كان على يقين فشكّ في ارتفاع ما تيقّنه ، فليمض على ثبوت ما تيقّنه (١) بترتيب الآثار المترتّبة على المتيقّن على المشكوك ، فمتعلّق اليقين هو ثبوت المتيقّن ، ومتعلّق الشكّ هو بقاؤه ، فيدلّ على القاعدة المطلوبة كما هو المقصود ، فإنّ ذلك هو بعينه (٢) الاستصحاب.

وثانيهما : أنّ من كان على يقين وقطع بثبوت (٣) شيء فشكّ في ثبوت ذلك الشيء أوّلا وتردّد في صحّة يقينه ، فليمض على يقينه بترتيب الآثار المترتّبة على اليقين حال الشكّ في صحّة اليقين ، فمتعلّق الشكّ هو الثبوت كمتعلّق اليقين ، فيكون مفاد الخبر قاعدة أخرى من فروع قاعدة الشكّ بعد الفراغ ولا ربط له بالاستصحاب في وجه.

وإذا احتمل الأمران فلا وجه للاستدلال مع احتمال ظهور الثاني لاتّحاد موردي الشكّ واليقين ، مضافا إلى ظهور الدفع والنقض في التناقض بين الشكّ واليقين وهو لا يتحقّق إلاّ على الاحتمال الأخير ؛ ضرورة إمكان الجمع بينهما في الاستصحاب ، ولمثل ذلك سلك المحقّق الخوانساري غير ما سلكه القوم كما ستقف (٤) عليه إن شاء الله.

إلاّ أن يقال : إنّ قوله : « فليمض » ظاهر في الاحتمال الأوّل ، وربّما يؤيّده عدم لزوم التخصيص أيضا ، فإنّه على التقدير الثاني لا بدّ من تخصيصه بما إذا لم يعلم فساد مدرك اليقين السابق ، كذا أفاد.

قلت : لزوم التخصيص مشترك الورود كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في الأخبار العامّة ، وقد يتمسّك لإثبات حجّية الاستصحاب (٥)

__________________

(١) « ج » : تتيقّنه.

(٢) « ج » : يفيد ، وفي « م » : هو بعينه هو.

(٣) « م » : ثبوت.

(٤) ستقف عليه في الهداية الخوانسارية ص ١٢٥ وما بعدها.

(٥) « ز ، ك » : حجّيته.

١٠٤

بالإجماعات القائمة (١) في موارد مخصوصة على وجوب الأخذ بالحالة السابقة كما في استصحاب الطهارة والنجاسة والحدث ودخول الليل والنهار والحياة والوكالة ، فحكموا (٢) بجواز الدخول في الصلاة في الأوّل ، وعدمه في الثاني على تقدير عدم العفو ، ووجوب التطهير كما في الثالث ، وجواز الأكل وعدمه في الرابع والخامس ، وعدم جواز قسمة أمواله بين ورثته وعدم جواز نكاح زوجته واستحقاقها النفقة ووجوب إحراز حصّة من مال مورّثه وجواز عتقه لو كان عبدا فيجزي عن الكفّارة في السادس ، وجواز التصرّف في السابع ، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة المتشتّتة في أبواب الفقه عبادة ومعاملة ، فإن أريد أنّ ملاحظة هذه الموارد يفيد القطع بأنّ المناط على الحالة (٣) السابقة الموجودة في غيرها ، فخلافهم في باب الاستصحاب يكشف عن اختصاص كلّ واحد لعلّة غير جارية في الآخر ، وإن أريد الظنّ فهو القياس الباطل ، وإن أريد كثرتها على وجه يلحق المشكوك فهو في محلّ من المنع ، وعلى تقديره فهو أيضا من القياس كما هو ظاهر.

وقد يتمسّك بأخبار خاصّة واردة في مقامات خاصة :

أحدها : ما رواه الشيخ عن ابن بكير [ عن أبيه ] قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : « إذا استيقنت أنّك قد توضّأت فإيّاك أن تحدث وضوء أبدا حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت » (٤) ودلالته على الاستصحاب في خصوص الوضوء واضحة جليّة غير قابلة للإنكار.

وثانيها : رواية عبد الله بن سنان في الصحيح قال : سأل رجل (٥) أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا حاضر ـ : أنّي أعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ،

__________________

(١) « ز ، ك » : بإجماعات قائمة.

(٢) « ز ، ك » : فيحكمون.

(٣) « ز ، ك » : ـ الحالة.

(٤) التهذيب ١ : ١٠٢ ، باب صفة الوضوء ، ح ١١٧ ؛ وسائل الشيعة ١ : ٢٤٧ ، باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٧ وص ٤٧٢ ، باب ٤٣ من أبواب الوضوء ، ح ١.

(٥) في المصدر : أبي.

١٠٥

فيردّه عليّ ، فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه » (١) وهذه أيضا صريحة الدلالة على الاستصحاب في الطهارة مطلقا ، لمكان التعليل.

وثالثها : رواية ضريس في الصحيح قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام (٢) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ قال : « أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وأمّا ما لم تعلمه فكله حتّى تعلم أنّه حرام » (٣).

وفيه : أنّ (٤) استفادة القطع بمطلق الاستصحاب من هذه الأخبار دعوى لا شاهد عليها ، والظنّ بأنّ المناط فيها على الاستصحاب والحالة السابقة من استخراج العلّة ظنّا لا تعويل (٥) عليه ، على أنّ الرواية الأخيرة ممّا لا شاهد فيها على المقصود.

فإن قلت : إنّ مقتضى عموم العلّة وسرايتها كما هي منصوصة في الرواية الثانية اعتبار مطلق الاستصحاب ، لاعتبار القياس المنصوص.

قلت : وهذه غفلة واضحة ؛ لأنّ قضيّة تسرية العلّة إلى غير محلّ النصّ هو الاشتراك في ذلك الحكم الذي علّق على موضوعه معلّلا بالعلّة المذكورة لا الحكم بما هو نظير لذلك الحكم فيما وجد فيه العلّة كما يظهر من ملاحظة الحكم بالحرمة في النبيذ لوجود السكر المعلّل به الحرمة في الخمر ، والحكم بثبوت الخيار فيما إذا شكّ فيه قياسا على ثبوت الطهارة ، فإنّ نهاية ما يستفاد من تسرية الحكم في موارد العلّة هو الحكم بوجود مطلق الطهارة حين الشكّ فيها لا ثبوت الخيار ؛ لأنّ بقاء الخيار ليس معلّقا على الأصل حتّى يثبت في الفرع لوجود العلّة.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦١ ، باب ١٧ ، ح ٢٧ ؛ وسائل الشيعة ٣ : ٥٢١ ، باب ٧٤ ، ح ١.

(٢) « م » : عليه الصلاة والسلام.

(٣) التهذيب ٩ : ٧٩ ، باب الذبائح ، ح ٧١ ؛ وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، باب ٢٤ من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح ١ ؛ بحار الأنوار ٢ : ٢٨٢ ، باب ٣٢ ، ح ٥٧.

(٤) « ز ، ك » : ـ أنّ.

(٥) « ج ، م » : ولا تعويل.

١٠٦

وقد يستدلّ بأخبار أخر أيضا لا دلالة فيها على الاستصحاب في موردها أيضا ، كالرواية الأخيرة ، فإنّها ظاهرة في الشبهة الموضوعية الغير المسبوقة بالحالة السابقة كما هو محلّ البراءة ، ومثل رواية عبد الله بن سنان المذكورة في مباحث البراءة ، من قوله : « كلّ شيء [ يكون فيه حلال وحرام فهو ] لك حلال [ أبدا ] حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (١) وعدم ارتباطها بالمقام ممّا لا ينبغي الكلام فيه.

ومنها : ما قد اشتهرت روايته (٢) ولم نجدها في كتب الحديث على ما أفاده الأستاد ـ أديم ظلاله ـ من قوله : « كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٣) وقول الصادق عليه‌السلام في موثقة عمّار : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (٤) والتقريب فيهما أنّ كلمة « قذر » فعل ماض ، وحصول القذارة في الشيء مسبوق بالعلم بالطهارة ، فمفاد الروايتين طهارة كلّ ماء ونظافة كلّ شيء علم طهارته أو نظافته حتّى يحصل العلم بقذارته وأنّه حصل فيه وصف القذارة ، إلاّ أنّ ذلك غير معيّن ؛ لوجود احتمالات أخر في الرواية ، بل وهو (٥) أقبح الوجوه. والتحقيق أنّ الرواية الأخيرة يحتمل وجوها ، فإنّ لفظة « قذر » يحتمل الماضوية ، والوصفية ، وعلى الأوّل : يحتمل أن يكون المراد الشبهة الموضوعية فقط ، أو الحكمية فقط ، أو الأعمّ ، وعلى الأخير : يحتمل الشبهة الموضوعية الغير المسبوقة بالعلم بالطهارة ، أو الحكمية كذلك ، أو الأعمّ كذلك ، أو المسبوقة بالعلم بالطهارة في الموضوعات ، أو في الأحكام ، أو فيهما ، أو الأعمّ من المسبوقة بالعلم والغير المسبوقة على اختلاف احتمالاتها من الاختصاص بالموضوع ، أو الحكم ، أو الأعمّ منهما ، فيرتقى

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ ، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١ ، و ٢٤ : ٢٣٦ ، باب ٦٤ من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح ٢. وتقدّم في بحث البراءة ج ٣ ، ص ٣٥٩.

(٢) « م » : روايتها.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ١٣٣ ، باب ١ من أبواب الماء المطلق ، ح ٢ ، وفيه : « ... طاهر إلاّ ما علمت أنّه قذر » و ١٣٤ ، ح ٥ ، و ١٤٢ ، باب ٤ ، ح ٢ ، وفيه : « الماء كلّه طاهر ... ».

(٤) وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، باب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٥) « ز ، ك » : هذا.

١٠٧

الاحتمال إلى ستّة عشر احتمالا يجمع أكثرها وجوه ثلاثة :

الأوّل : ما مرّ من كون « قذر » فعلا وكون المراد من الشيء ما ثبتت نظافته ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية أو الأعمّ منهما.

الثاني : أن يكون « قذر » صفة ويكون المراد بالشيء الموضوعات الخارجية مع عدم سبقها بالعلم ، فيكون المعنى : كلّ شيء من الأمور الخارجية التي يشكّ في نجاستها وطهارتها فيحكم فيها بالطهارة حتّى تثبت فيها النجاسة ، فتدلّ الرواية حينئذ على اعتبار العلم في الحكم بالنجاسة في الشبهات الموضوعية الخارجية ، ولا دخل لها بالاستصحاب كما هو ظاهر ، وكذا لو [ كان ] قذر أعمّ من المسبوق وغير المسبوق ، فإنّ الحكم بعدم النجاسة فيما لم يعلم نجاسته أعمّ من الحكم بوجوب الأخذ بالحالة السابقة كما هو مفاد الاستصحاب ، ومجرّد انطباق بعض موارده لموارد الاستصحاب غير قاض باعتبار الاستصحاب ؛ لعدم دلالة عليه في الرواية ، بل ذلك (١) لعلّه ظاهر الاستحالة ، فإنّ الحكم في هذه الرواية مناطه مجرّد الشكّ ، وفي الاستصحاب هو الشكّ مع الحالة السابقة ، فدليل أحد الحكمين لا يمكن أن يستفاد منه الآخر ، ولذلك لا يصحّ (٢) التمسّك بأدلّة البراءة أو بغيرها من أدلّة الأصول التي تنطبق مواردها في بعض الأحيان لمورد الاستصحاب لاعتبار الاستصحاب.

الثالث : أن يكون المراد من الشيء العناوين الكلّية القابلة للحكم عليها بالطهارة كابن آوى (٣) وكلب الماء والأرنب مثلا ، أو النجاسة ، فعند عدم العلم بحكمها الشرعي الواقعي لا بدّ من معاملة الطهارة معها حتّى يعلم شرعا أنّها قذر فيجتنب عنها ، فتكون الرواية مختصّة بالشبهة الحكمية ، ويحتمل الوجهين من المسبوقية وعدمها بالعلم بالطهارة إلاّ أنّه لا يدلّ على تقدير التعميم على الاستصحاب ؛ لما عرفت من

__________________

(١) « ز ، ك » : وذلك.

(٢) « ج ، م » : ما صحّ.

(٣) يسمّى بالفارسية « شغال » الصحاح ٤ : ٢٢٧٤.

١٠٨

اختلاف مناط القاعدتين ، والفرق بين هذا الاحتمال وسابقه ممّا لا يخفى ، فإنّ الرافع للجهل في السابق هو معرفة ذات الشيء من الرجوع إلى الواقع أو السؤال عن أهل الخبرة ، بخلاف هذا الاحتمال فإنّ رافع الاشتباه هو الدليل الشرعي كما مرّ غير مرّة.

ثمّ إنّ هذه الوجوه المحتملة كلّها مشتركة في أنّ الحكم المأخوذ فيها هو الحكم الظاهري لمكان الغاية وإن اختلفت في أنّ مفاد الأوّل هو اعتبار قاعدة الاستصحاب ، ومفاد الثاني والثالث هو اعتبار العلم في الحكم بالنجاسة ، فيكفي في الحكم بالطهارة عدم العلم بالنجاسة والشكّ فيها وإن اختلفا أيضا في اختصاص الثاني بالموضوعية (١) ، والثالث بالحكمية.

وهل يمكن إرادة المعاني الثلاثة من الرواية بأخذ معنى عامّ شامل للوجوه الثلاثة مع ما عرفت في الأخيرين من الاحتمال ، أو لا؟ وجهان : ذهب المحقّق القمي (٢) إلى العدم نظرا إلى اختلاف الشبهة الحكمية والموضوعية في لزوم الفحص وعدمه ، وفي رفع الجهل فيهما ، فإنّ الحكمية جهلها يرتفع بالدليل دون الموضوعية ، وعدم حصول العلم الوجداني في الأحكام دون الموضوعات ، فاستعمال الرواية فيها يوجب إرادة أكثر من معنى واحد مع عدم الجامع من اللفظ.

وزعم بعض الأجلّة إرادة المعاني الثلاثة من الرواية فقال : إنّا لا نلتزم بأنّها مستعملة في كلّ واحد من المعاني المذكورة على الاستقلال حتّى يلزم ما ذكره ، بل في القدر المشترك بينهما كما بيّناه (٣) ، انتهى.

فالمراد من الرواية أنّ الجزئيات الخارجية المجهولة حكما أو موضوعا ، سواء كانت مسبوقة بالعلم أو لا ، يحكم فيها بالطهارة حتّى يرتفع الجهل ويحصل العلم في كلّ واحد بحسبه ، ففي الموضوعات بالرجوع إلى أهل الخبرة ، وفي الأحكام بالرجوع إلى

__________________

(١) « ز ، ك » : في الاختصاص بالموضوعية.

(٢) القوانين ٢ : ٦٤ وفي ط : ص ٢٧١.

(٣) الفصول : ٣٧٣.

١٠٩

الأدلّة ، وفي الشبهة البدوية يرتفع الجهل ، وفي المسبوقة بالعلم يحصل اليقين بالخلاف ، هذا على ما ذكره الزاعم المذكور.

والتحقيق على ما عرفت عدم جواز إرادة المعاني الثلاثة من الرواية مع جواز إرادة المعنيين الأخيرين منها.

أمّا الأوّل : فلانتفاء القدر الجامع بين المعاني الثلاثة ؛ لما عرفت من أنّ مجرّد انطباق أحد الأصول للآخر موردا لا يصير منشأ لإرادة مفهومه من دليل الآخر بعد اختلاف مناطهما ، وما ذكره الزاعم المذكور وإن كان صحيحا إلاّ أنّه لا يفيد إلاّ الانطباق بحسب المورد (١) ، وبعد اختلاف المناط لا يمكن إلقاء كلام واحد مفيد للمعنيين فإنّ الكلام في قاعدة الاستصحاب لا بدّ أن يكون مسوقا إلى بيان حال الطهارة السابقة واستمرارها لا لبيان الشكّ فيها من حيث كونه شكّا فقط على ما هو مناط الثاني.

وأمّا الثاني : فلوجود القدر المشترك بين المعنيين ، فالمراد بالشيء مطلق مجهول الحكم ، سواء كان الجهل باعتبار شبهة خارجية أو شبهة حكمية ، فالمعنى أنّ كلّ شيء لم يعلم حكمه من الطهارة والنجاسة من أيّ قسم كان فهو محكوم بالطهارة الظاهرية إلى حصول العلم بنجاسته ، وعمومه للمعنيين ظاهر ، وما ذكره المحقّق مانعا خارج عن طريقة استكشاف المرادات من الألفاظ كما لا يخفى.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو بحسب إمكان الإرادة ، وأمّا أنّه هل هي ظاهرة (٢) في المعنى الأوّل أو في الثاني أو في الأخيرين؟ فالظاهر ظهورها (٣) في المعنى الثاني ؛ لأنّ جهل (٤) الحكم وإن كان يسري إلى جهل الموضوع إلاّ أنّه خلاف الظاهر ، مضافا إلى أنّ المعصوم على ما هو (٥) الظاهر من مساق الرواية إنّما هو في مقام إقعاد قاعدة يرجع إليها

__________________

(١) « ك » : لا يفيد الانطباق إلاّ بحسب الموارد.

(٢) « ز ، ك » : هو ظاهر.

(٣) « ج ، م » : هو ظهورها.

(٤) « ز ، ك » : ـ جهل.

(٥) « ز ، ك » : المعصوم كما هو.

١١٠

ولو عند حضوره عليه‌السلام ، والغالب هو الشبهة الموضوعية ، فإنّ الجهل الحكمي غالبا يرتفع بالسؤال عنهم عليهم‌السلام ، وأمّا إرادة المعنى الأوّل ففي غاية البعد كما لا يخفى ، هذا تمام الكلام في الرواية الأخيرة.

وأمّا الرواية الأولى فاحتمل المحقّق القمي (١) فيها الوجوه المذكورة ، إلاّ أنّه يمكن أن يقال : إنّه غير مستقيم ؛ لأنّ القاعدة إنّما يحسن جعلها لموارد (٢) الاشتباه ، ومن المعلوم بداهة عدم الاشتباه في الماء ، لا في طبيعة الماء (٣) ولا في أفراده ، فلا بدّ من الحمل على بيان الحكم الظاهري من جهة الشكّ في عروض المزيل ، فينطبق (٤) على الاستصحاب. وفيه : أنّ الاشتباه لا ينحصر (٥) فيما يزعمه (٦) ؛ إذ قد يحصل باعتبار العوارض ، فإنّ له أفراد (٧) مختلفة بحسب ما يعرضه من الحالات من ملاقاته بالنجس مغيّرا له أو غيره ، ومن كونه قليلا أو كثيرا ، جاريا أو محقونا ، ويشاهد ذلك في الكرّ المتنجّس إذا شكّ في تطهيره بإلقاء كرّ عليه ، فإنّ قضيّة (٨) القاعدة هو الحكم بالطهارة وإن كانت (٩) قضيّة الاستصحاب خلافه. ثمّ إنّ الماء الذي هو مسبوق بالعلم بالنجاسة عند الشكّ في طهارته ونجاسته هل هو داخل فيما بعد الغاية نظرا إلى أنّ العلم أعمّ من الحاصل قبل الشكّ وبعده كما لعلّه يظهر من سيّد الرياض ، أو فيما قبله ؛ لأنّ الرواية منساقة إلى بيان حكم المشكوك ، فتشتمل (١٠) موارد الشكّ بأجمعها وهو الظاهر؟ وجهان ، إلاّ أنّ الاستصحاب حاكم على الأصل المذكور كما ستعرف إن شاء الله في محلّه (١١).

فتلخّص من جميع ما مرّ أنّ هذه الروايات لا دلالة فيها على الاستصحاب في

__________________

(١) القوانين ٢ : ٦٣ ـ ٦٤ وفي ط : ص ٢٧١ ـ ٢٧٢.

(٢) « ك » : في الموارد.

(٣) « ز ، ك » : طبيعته.

(٤) « ج ، م » : فتطبق.

(٥) « ج ، م » : لا تنحصر.

(٦) « ج ، ك » : زعمه.

(٧) كذا في النسخ ولعلّ الصواب : أفرادا.

(٨) « ز ، ك » : مقتضى.

(٩) « ج ، م » : كان.

(١٠) « م » : فيشتمل ، وفي « ز ، ك » : فتشمل.

(١١) « ز ، ك » : ـ في محلّه.

١١١

مواردها فكيف بإثبات القاعدة الكلّية. هذا ما أفاده الأستاد في الاحتجاج بالروايات العامّة والخاصّة على حجّية الاستصحاب.

قلت : وينبغي القطع بدلالة هذه الأخبار على اعتبار الاستصحاب ، فإنّ غاية ما احتمله سلّمه الله في الروايات (١) هو احتمال العهد ، والإنصاف على ما هو ظاهر لمن جانب الاعتساف ظهورها (٢) في الجنس ، فيتمّ المقصود. وبهذه الأخبار تنقطع أصالة عدم الاعتبار والآيات الناهية عن العمل بغير العلم وعدم جواز الافتراء على الله ، فإنّ الحكم في الزمان الثاني ثبوته ليس افتراء ولا قولا بغير علم ، بل هو إثبات للحكم بقوله : « لا تنقض » وعليك بإمعان النظر في دلالة الأخبار ، فلعلّها بعد تأمّل ما ظاهرة.

__________________

(١) « ز ، ك » : احتمله الأستاد فيها.

(٢) « ز ، ك » : هو ظهورها.

١١٢

هداية

[ في حجّية الاستصحاب في الوضعيات دون الطلبيات ]

قد عرفت (١) في بعض الهدايات السابقة نسبة القول بحجية الاستصحاب في الوضعيات دون الطلبيات إلى الفاضل التوني ، والمتراءى منه في الوافية عدم جريان الاستصحاب وتعقّله في الطلبيات دون عدم الحجّية ، فإنّ ذلك ربّما لا ينافي التعقّل ، كما أنّ المتراءى منه أيضا هو جريانه في نفس الأسباب والشرائط ، والأحكام الوضعية عندهم السببية والشرطية لا نفس الأسباب والشرائط ، قال ـ بعد تحديده له وتحرير الخلاف وذكر أدلّة الفريقين من الأخبار وغيرها وتنويع الأحكام إلى الوضعية والتكليفية ـ : إذا عرفت هذا فإذا ورد أمر بطلب شيء فلا يخلو إمّا أن يكون موقّتا ، أو لا ، وعلى الأوّل يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر ، فالتمسّك حينئذ في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني بالنصّ لا بالثبوت في الزمان الأوّل حتّى يكون استصحابا وهو ظاهر ، وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر للتكرار (٢) ، وإلاّ فذمّة المكلّف مشغولة حتّى يأتي به في أيّ زمان كان ، ونسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كلّ جزء منها ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أو لا. والتوهّم بأنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباه غير خفيّ (٣) على المتأمّل ، فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شيء ولا

__________________

(١) انظر ص ٦٠.

(٢) في المصدر : التكرار.

(٣) « ج ، م » : مخفيّ.

١١٣

يمكن أن يقال بأنّ إثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته من الاستصحاب ، فإنّ هذا (١) لم يقل به أحد ولا يجوز إجماعا ، وكذلك الكلام في النهي ، بل هو أولى لعدم (٢) توهّم الاستصحاب فيه ؛ لأنّ مطلقه يفيد (٣) التكرار ، والتخييري كذلك ، فالأحكام الخمسة المجرّدة عن الأحكام الوضعية لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب.

وأمّا الأحكام الوضعية فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة ـ كالدلوك لوجوب الظهر ، أو الكسوف لوجوب صلاته ، والزلزلة لصلاتها ، والإيجاب والقبول لإباحة التصرّفات والاستمتاعات في الملك والنكاح وفيه لتحريم أمّ الزوجة ، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك ـ فينبغي أن ينظر إلى (٤) كيفية سببيته (٥) هل هي على الإطلاق كما في الإيجاب والقبول فإنّ سببيته على نحو خاصّ وهو الدوام إلى أن يتحقّق المزيل (٦) وكذا الزلزلة ، أو في وقت معيّن كالدلوك ونحوه ممّا لم يكن السبب وقتا وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السبب وقتا للحكم ، فإنّ السببية في هذه الأشياء على نحو آخر فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة ، وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ، فإنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة؟ وكذا الكلام في الشرط والمانع.

فظهر ممّا مرّ أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعية أعني الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة من حيث إنّها كذلك ، ووقوعه فيها إنّما هو بتبعيتها كما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه : بأنّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة ؛ لوجوبه قبل زوال تغيّره ، فإنّ مرجعه إلى أنّ النجاسة

__________________

(١) « ز ، ك » : « إذ » بدل « فإنّ هذا ».

(٢) في المصدر : بعدم.

(٣) في المصدر : لا يفيد.

(٤) « ج ، م » : ـ إلى.

(٥) في المصدر : سببية السبب.

(٦) في المصدر : مزيل.

١١٤

كانت ثابتة قبل زوال تغيّره فيكون (١) كذلك بعده ، ويقال في المتيمّم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة : إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان فكذا بعده (٢) ، والطهارة من الشروط.

قال : فالحقّ مع قطع النظر عن الروايات عدم حجّية الاستصحاب ؛ لأنّ العلم بوجود السبب والشرط والمانع (٣) في زمان لا يقتضي العلم ، بل ولا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت (٤) ، فالذي يقتضيه النظر بدون ملاحظة الروايات أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعية تعلّق الحكم بالمكلّف ، وإذا زال ذلك العلم بطروّ شكّ بل وظنّ به أيضا يتوقّف عن الحكم الثابت أوّلا (٥) ، إلاّ أنّ الظاهر من الأخبار أنّه إذا علم وجود شيء يحكم به (٦) حتّى يعلم زواله (٧) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

واعترض عليه المحقّق القمي ـ تبعا للسيّد الشارح ـ : بأنّه من غرائب الكلام ؛ إذ الشكّ قد يحصل في التكليف في الموقّت كمن شكّ في وجوب إتمام الصوم لو حصل له المرض في أثناء النهار مع شكّه في أنّه هل يصحّ له الإفطار (٨) أو لا؟ وكذلك في صورة التكرار وهو واضح (٩). ومحصّل الإيراد عليه أنّه لا ينحصر (١٠) أسباب الشكّ فيما تخيّله ، فإنّه (١١) قد يحصل في حصول الحدّ والوقت ، وقد يحصل في وجود المانع ، وقد يحصل في مانعية العارض ، ففي جميع هذه الصور يجري الاستصحاب من دون مانع ، ولا فرق في

__________________

(١) في المصدر : فتكون.

(٢) بعده في المصدر : أي كان مكلّفا ومأمورا بالصلاة بتيمّمه قبله فكذا بعده ، فإنّ مرجعه إلى أنّه كان متطهّرا قبل وجدان الماء فكذا بعده.

(٣) في المصدر : أو الشرط أو المانع.

(٤) بعده في المصدر : كما لا يخفى ، فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت؟!

(٥) في المصدر : عن الحكم بثبوت الحكم الثابت أوّلا.

(٦) في المصدر : فإنّه يحكم به.

(٧) الوافية : ٢٠١ ـ ٢٠٣.

(٨) في المصدر : هل يبيح له الفطر.

(٩) القوانين ٢ : ٥٣ ـ ٥٤ وفي ط : ٢٦٥.

(١٠) « ج » : لا تنحصر.

(١١) « ز ، ك » : لأنّه.

١١٥

ذلك بين الاحتمالات السابقة من (١) القول بالتكرار وغيره.

ولناصر الفاضل أن يذبّ عنه هذه الإيرادات بأنّ المستصحب في هذه الموارد هو الحكم الوضعي ؛ لأنّه يستصحب فيها عدم المانع ، وأمّا نفس الحكم المعلّق على عدم المانع فلا يمكن استصحابه ؛ لأنّه إن كان معلوما بجميع قيوده المعتبرة فيه فلا يعقل فيه الشكّ لاحقا وجودا وعدما ، وإلاّ فلم يكن معلوما في السابق فلا يجري الاستصحاب كما ستعرف تفصيله.

مضافا إلى أنّ الفاضل المذكور ومن يحذو حذو الأخباريين عندهم قاعدة مقرّرة موسومة بعموم الدليل وهي أنّه إذا ثبت حكم إلى زمان أو حال ، ثمّ شكّ بعد ذلك في عروض ذلك الحال أو في مانعية الحادث ، فلا بدّ من الأخذ بالدليل الدالّ على ذلك الحكم ، ففيما إذا شكّ في وجوب إتمام الصوم لو حصل له المرض ـ لاحتمال المانعية أو لاحتمال عروض ما هو المانع واقعا ـ يجب الأخذ بما دلّ على وجوب الصوم في مقابل هذه الاحتمالات نظرا إلى أنّ الدليل دلّ على وجوب الصوم إلاّ في حال كذا ، فلا يجوز الإخلال به إلاّ فيما علم أنّه حال كذا ، وليس نظرهم في هذا الحكم إلى الاستصحاب وثبوت الحكم في الزمان الأوّل ، بل هم يستندون في ذلك إلى عموم الدليل إلى أنّ يعلم بالمخصّص ، وهذه القاعدة وإن كانت فاسدة في نفسها ـ لأنّ دليل نفس الحكم لا ينهض لدفع الشكّ في عروض المانع أو في مانعية العارض أو حصول حدّ المحدود كما هو ظاهر ، فإنّه لا يتّكل عاقل فضلا عن فاضل في دفع احتمال عروض الطهارة بأدلّة حصول النجاسة في الماء ، وفي دفع احتمال ناقضية المذي للوضوء بأدلّة الوضوء ، فإنّ الأخذ بالعموم إنّما يحسن فيما يحتمل التخصيص ، وأمّا احتمال التخصيص بتبدّل الموضوع فلا مسرح للعامّ فيه ـ إلاّ أنّها تجدي (٢) في دفع النقوض عنه.

__________________

(١) « ز ، ك » : « و » بدل : « من ».

(٢) في النسخ : يجدي.

١١٦

وبالجملة : فهذه القاعدة مقرّرة عند الأخبارية ، ففي موارد هذه الشكوك لا يستندون إلى الاستصحاب ، فموارد العمل بالاستصحاب عندهم هي مواضع الشكّ في المقتضي ، وبملاحظة هذه القاعدة تندفع النقوض المذكورة من كلامه ، فإنّ من (١) البعيد (٢) في الغاية عدم تفطّنه لمثل هذه الأمور الواضحة الجليّة ، كيف وهو من فحول الصناعة وبزل الفنّ؟

فالتحقيق في دفع ما أفاده الفاضل أن يقال : إنّ كلامه غير محصّل المراد ، فإنّ صدره يشعر بما نسب إليه من التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية على ما هو ظاهر ، وذيل إفاداته يؤذّن بتفصيل (٣) آخر وهو القول بحجّية الاستصحاب وجريانه في الأمور الخارجية والموضوعات التي يتعلّق بها الأحكام ، وعدمها في الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية ، على ما يظهر من قوله ـ بعد التقسيم المذكور في كلامه أوّلا وذكر الأسباب الشرعية ـ : وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ، وقوله : فظهر ممّا مرّ أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعية أعني الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة ، انتهى. وجريان الاستصحاب في نفس تلك الأحكام إنّما هو بتبعية جريانه فيها عنده.

وكيف كان فإن أراد الأوّل على ما يقتضيه ظاهر النسبة إليه فيرد عليه :

أوّلا : النقض بما إذا ثبت الحكم بدليل لبّي كالإجماع أو الشهرة على القول بها بعد العلم باستمراره في الجملة مع الشكّ في مقداره أو حصول معارض محتمل أو احتمال عروض ما هو المانع أو فى حصول الحدّ إذا كان محدودا ، وبما لو شكّ في النسخ ، وبما لو شكّ في صدق التكرار وعدمه عرفا بدون الإتيان بفرد ، وبما لو شكّ في الوجوب في الوقت إذا فقد المكلّف شرطا من شروطه كما إذا صار فاقد الطهورين ، وبما إذا دار

__________________

(١) « م » : ـ من.

(٢) « ج » : البعد.

(٣) « ج » : تفصيل.

١١٧

الأمر بين الفور والتراخي ، فإنّ هذه الصور كلّها محتاجة إلى الاستصحاب مع عدم دليل ينهض ثبوت الأحكام الثابتة فيها غير الاستصحاب ، فإنّ الأخذ بعموم الدليل في هذه الصور فيما لو كان لفظيا أيضا غير معقول ، ولا يتفوّه به في لسانهم أيضا ، فتدبّر.

ولو رام إلى ما أيّدنا به كلامه وانتصرناه (١) من أنّ الحكم إذا كان معلوما بجميع قيوده وموارده فلا يعقل الشكّ فيما سيأتي ، وإلاّ فلا علم به فيما مضى ، فينهدم الاستصحاب على التقديرين بانهدام أحد ركنيه ، قلنا : فينتقض بنفس الأحكام الوضعية ، فإنّ حكم الشارع بسببية شيء لو كان بجميع قيوده معلوما فلا شكّ ، وإلاّ فلا علم ، حرفا بحرف.

وثانيا بأنّ ما أورده من المثالين غير مطابق لما هو بصدده ، فإنّه ليس من استصحاب المانعية التي هي من الأحكام الشرعية ، بل هو استصحاب للموضوع الخارجي ؛ إذ لا شكّ في مانعية النجاسة وشرطية الطهارة حتّى يحتاج إلى الاستصحاب.

وثالثا : فبالحلّ ، وتحقيقه أنّ الحكم على قسمين عرفا : فتارة : يحتمل اختلافه باختلاف الزمان ؛ لاحتمال كونه مأخوذا فيه قيدا ، وأخرى : لا يحتمل ذلك ، وكذا (٢) الكلام في سائر القيود المأخوذة في الحكم حالا أو شرطا أو صفة أو غيرها. فعلى الأوّل فهو كما أفاده كما في الأحكام الوجوبية ، بخلاف الثاني فإنّ الحكم أمر واحد استمراري عرفا ولا يحتمل اختلافه باختلاف الزمان (٣) ، فيمكن تعلّق العلم به في الزمان الأوّل مع الشكّ فيه في ثاني الزمان كما في الأحكام التحريمية ، كذا أفاد.

قلت : فالشكّ غير معقول إلاّ بواسطة الرافع والمفروض رفعه بالعموم في كلامه.

__________________

(١) « ز ، ك » : انتصرنا.

(٢) « ز ، ك » : كذلك.

(٣) « ز ، ك » : ولا يحتمل اختلاف الزمان.

١١٨

وإن أراد الثاني فمرجع التفصيل في كلامه إلى التفصيل المنسوب إلى من هو من أهل مشربه من الأخباريين ، فيسقط عنه النقوض المذكورة وينطبق (١) مثاله لما هو بصدده ، ويبقى الكلام في تزييفه فيما ستعرفه في الهداية الأخبارية (٢) ، إلاّ أنّه مع ذلك فلا يخلو ما نقلناه من كلامه كغيره من وجوه النظر ، فإنّه جعل الأحكام الاقتضائية هو الواجب والمندوب والمكروه والحرام والأحكام التخييرية الدالّة على الإباحة مع أنّ الأحكام الاقتضائية هي نفس تلك الأوصاف لا الذات المأخوذة معها تلك الأوصاف ، والحكم التخييري هو مجرّد الإباحة لا الدالّ عليها. ودعوى الإجماع على عدم جريان الاستصحاب في الموقّت مع وجود المخالف ، باطلة قطعا ، غاية الأمر بطلان المذهب ، ولا ينافي وجود القول كما نفاه. وحكمه بعدم جريان الاستصحاب في النهي على وجه الأولوية قد عرفت أنّ جريانه فيه أولى. وحكمه بدوام السببية (٣) في الإيجاب والقبول ممّا لا دليل عليه ، غاية الأمر اعتبار الدوام في المسبب إذا حصل في الخارج ، وأمّا نفس السبب فقد يحتمل إهماله على بعض الوجوه ، ولذا يشكّ في جواز العقد بالفارسية بعد موت المفتي به مثلا. وقوله : فإنّ ثبوت الحكم في جزئه إلخ ، يستفاد منه اشتراط طبيعة الاستصحاب بعدم الدليل في الواقع في الزمان الثاني مع كفاية انتفائه عند الأخذ بالاستصحاب. وقوله : فظهر أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلاّ في الأسباب والشرائط والموانع من حيث إنّها كذلك ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيتها ، فيه أنّه لم يظهر منه جريانه لا في الوضعية ولا في التكليفية ، فلا يخلو من التهافت.

والقول بأنّ المستفاد من كلامه أنّ السببية تارة : دائمة ، وأخرى : وقتية ، فتبقى المهملة مجرى للاستصحاب ، ينافيه ظهور كلامه في الحصر بينهما ، على أنّه لو تمّ لجرى في الأحكام التكليفيّة ، فتأمّل في المقام فلعلّه لا يخلو عن شيء.

__________________

(١) « ج » : تنطبق.

(٢) انظر ص ١٩٠.

(٣) « ج » : السبب.

١١٩

ثمّ قد يؤيّد كلام الفاضل المذكور بوجه وجيه أفاده الأستاد أنار الله برهانه وملخّصه ما أشير إليه سابقا من أنّ الحكم الشرعي غير معلوم بجميع أنحائه وخصوصياته ، فيحتمل تقييده بمكان أو زمان ، وبعد ذلك فلا يجري الاستصحاب ، وتوضيحه وتنقيحه أنّ (١) ممّا برهنّا عليه في محلّه تبعية (٢) الأحكام الشرعية للصفات الكامنة والمصالح الموجودة في نفس الأفعال التي هي متعلّقات لتلك الأحكام ، ومن الواضح الجليّ اختلاف الصفات باختلاف وجوه الفعل واعتباراته كاختلاف نفس الفعل باختلاف الحركات والسكنات ، فإنّه ليس خارجا عنهما ، فقد يكون الفعل حسنا في زمان دون زمان أو في مكان دون مكان ، وقد يكون قبيحا إذا كان من فاعل كذا في مكان كذا في زمان كذا عن آلة كذائية ، وقد يكون قبيحا على وجه الإطلاق كما قد يكون حسنا كذلك ، فالفعل في كلّ هذه الصور ليس حاله متّحدا ؛ إذ يختلف بتلك الوجوه ، وهذه الاختلافات كما يلاحظ في الامساك فإنّه قد يعدّ قبيحا إذا لم يكن صاحب المال محتاجا مع احتياج الغير إليه (٣) حاجة شديدة ، وقد يعدّ واجبا إذا كان صرفه في الغير ـ سيّما مع عدم الحاجة إليه ـ موجبا لإهلاك نفسه ، وناهيك (٤) عن ذلك ملاحظة الأدوية التي يعالج بها الأمراض البدنية ، فإنّ تأثير الأفعال في تصحيح الأمراض النفسانية وتمريض النفوس الناسوتية ليس (٥) في محلّ تنال إليه يد الإنكار ، فإنّ برهان ذلك بعد حكومة الوجدان به على منار ، فربّ دواء يرطّب في مزاج ويجفّف في آخر ، ويبرّد في طبع ويسخّن (٦) في آخر ، فهما في الواقع مختلفان باعتبار وقوعهما في الحالتين ، فالأمر بأحدهما لا يوجب الأمر بالآخر. ولا ريب في أنّ (٧) الآمر

__________________

(١) « ز ، ك » : أنّه.

(٢) « ج ، م » : بتبعية.

(٣) « ج » : له.

(٤) في هامش « ز » : أي حسبك.

(٥) « ك » : التي ليس.

(٦) « ز ، ك » : يثخن.

(٧) « ج ، م » : ـ في.

١٢٠