مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

في معلوفة الإبل (١) ـ أو لا يجري كما يظهر من جماعة؟ الظاهر هو الثاني ، حيث إنّ المطابقة بين المنطوق والمفهوم ـ كما عرفت وستعرف ـ من الشروط ، واختلاف الموضوع من أشدّ أنحاء عدم المطابقة. نعم ، يتمّ ذلك فيما لو قلنا بأنّ الوصف علّة مستقلّة كما في منصوص العلّة ، فيخرج بذلك عن مفهوم الوصف.

ومن هنا يظهر حال المحكيّ عن العلاّمة (٢) حيث فصّل بين ما كان الوصف علّة وبين غيره ، فإنّ مجرّد العلّيّة إنّما يقضي بعدم التخلّف في موارد الوجود كما في منصوص العلّة ، وأين ذلك من الانتفاء عند الانتفاء المطلوب في المقام؟ اللهم إلاّ أن يقال بأنّه يلزم ذلك فيما لو علم انحصار العلّة. وهو كذلك إلاّ أنّه خروج عن محلّ النزاع ؛ فإنّ الكلام مع قطع النظر عن القرائن المفيدة للمفهوم مثل الأوصاف الواقعة في الحدود والتعاريف ، حيث إنّها يقصد بها الإصلاح طردا وعكسا الملازم لإرادة المفهوم ، كما لا يخفى.

ومن أوضح القرائن على إرادة المفهوم ما إذا كان الوصف عدميّا ، كقولك : « أكرم رجلا لا يكون جاهلا » أو قولك : « غير جاهل » وأشباه ذلك ، فالتفصيل بين هذه المقامات غير واقع في محلّه ، كما صدر عن الفاضل النراقي (٣).

ثم إنّ المراد بالمفهوم في المقام هو ما نبّهنا عليه في مفهوم الشرط من أنّ المقصود ـ على القول بالمفهوم ـ ليس رفع الحكم الشخصي الثابت بالكلام ، فإنّ ذلك ليس من المفهوم في شيء ، فإنّ قولك : « أكرم زيدا » لا يدلّ إلاّ على وجوب

__________________

(١) تخريج أحاديث اللمع في اصول الفقه : ١٤٠ ، وفيه : ومن أصحابنا من قال : يدلّ على نفيها عمّا عداها في جميع الأجناس.

(٢) حكاه في هداية المسترشدين ٢ : ٤٩٨ ، والمفاتيح : ٢٢٠.

(٣) انظر مناهج الأحكام : ١٣٠.

٨١

إكرام زيد ، وغير زيد لا يكون فيه ذلك الحكم قطعا بالخطاب المذكور ، بل المقصود رفع سنخ الحكم عن غير محلّ الوصف ، على وجه يكون القضيّة المشتملة على الوصف منحلّة إلى عقد إيجابيّ وهو الثبوت في محلّ الوصف ، وعقد سلبيّ في غير محلّه مثلا.

وبهذا اندفع ما توهّمه بعض (١) من التنافي بين ما ذهب إليه المشهور من عدم المفهوم في الوصف ، وبين ما قالوا بالتخصيص في مباحث العامّ والخاصّ ، كقولك : أكرم العلماء الطوال ، فإنّه لا يجب إكرام القصار ، لا من حيث إنّ تقييد العلماء بالوصف دلّ على عدم الحكم في القصار حتّى يكون من المفهوم ، بل من حيث إنّ وجوب الإكرام في غير المنصوص بوجوبه يحتاج إلى دليل ، والنصّ مختصّ بمحلّ الوصف ، فلا يعارض ما دلّ الدليل على وجوبه أيضا.

وأغرب من ذلك! جواب البعض (٢) من التنافي : بأنّ الحيثيّات مختلفة ، فإنّ الوصف تارة يعتبر من حيث كونه مقتفيا بالعامّ واخرى من حيث نفسه ، فهما لمّا كانا مختلفين موضوعا ، فلا إشكال لو اختلفا حكما.

وأفسد من ذلك! ما اجيب أيضا (٣) : بأنّ ذلك من جهة تعليق الحكم على العامّ الموصوف ، والكلام إنّما هو فيما إذا كان الحكم على نفس الصفة. فانّ هذه كلمات صدرت عن غير تأمّل.

ونظير ذلك ما أورده شيخنا البهائي : من أنّ القائلين بعدم حجيّة مفهوم الصفة قد قيّدوا بمفهومها في نحو « أعتق في الظهار رقبة مؤمنة » فإذا لم يكن

__________________

(١) نقله عن بعض مشايخه المحقّق الكلباسي في إشارات الاصول : ٢٤٤.

(٢) وهو المحقّق الكلباسي في الإشارات ، الورقة : ٢٤٤.

(٣) المصدر السابق.

٨٢

مفهوم الصفة حجّة عندهم كيف يقيّدون بها ، فما هذا إلاّ التناقض؟ وأجاب عن ذلك : بأنّ مفهوم الوصف إمّا أن يكون في مقابله مطلق ـ كما في المثال المذكور ـ أو لا ، ففي الأوّل قالوا بالحجيّة ، وفي الثاني قالوا بعدم الحجّيّة ، فلا تناقض (١).

وفيه : أنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما هو من جهة المنطوق من غير ملاحظة المفهوم ، بل لو فرض اعتبار المفهوم فلقائل أن يقول بعدم الجمل.

أمّا الأوّل ، فلأنّ محصّل الحمل هو أنّ المراد من المطلق هو المقيّد ، فيكون غير المقيّد في قولك : « اعتق رقبة مؤمنة » غير واجب ، بمعنى أنّ اللفظ المذكور والإنشاء الخاصّ لا يدلّ على وجوبه مطلقا ، سواء كان وجوبا عينيّا أو وجوبا تخييريّا. أمّا الأوّل فلأنّ الوجوب العيني إنّما هو متعلّق بالمقيّد فلا يكون المطلق وغيره من أفراده المخالفة للمقيّد واجبا عينيّا. وأمّا الثاني فلأنّ الوجوب التخييري إنّما هو من فروع تعلّق الوجوب العيني بالمطلق ، وقد فرضنا خلافه.

ولا ينافي ذلك ورود دليل آخر يدلّ على وجوب غير المقيّد عينا فيما إذا كان غير المطلق ؛ إذ على تقديره فلا بدّ من حمله أيضا ، إذ لا فرق بين تعدّد الأمر بالمطلق واتّحاده ، نعم يدلّ على عدم تعلّق الوجوب التخييري ، فلو دلّ دليل على ثبوته غير الإطلاق نقول بتعارضه. ولا سبيل إلى توهّم أنّ نفي الوجوب التخييري من جهة المفهوم ، فإنّ ذلك من مقتضيات الحمل ؛ ولذلك نقول به في اللقب أيضا ، كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فلأنّا لو قلنا بثبوت المفهوم للوصف كان التعارض بين المطلق والمقيّد من قبيل تعارض الظاهرين ، وقد تقرّر في مقامه : من أنّه لا بدّ في مثله من التوقّف والحكم بمقتضى الاصول العمليّة ، فلا سبيل إلى الحمل ؛ لأنّه فرع

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٨٣

عدم المعارضة كما هو التحقيق في وجه الحمل بناء على أنّ المطلق حقيقة في الماهيّة لا بشرط شيء ، أو دعوى أظهريّة المقيّد من ظهور المطلق كالعامّ والخاصّ بناء على ما هو المنسوب إلى المشهور ، كما ستطّلع على تفاصيله في محلّه إن شاء الله الرحمن.

وأمّا بيان اللزوم : فلأنّ الحمل على ذلك التقدير موقوف على أن يراد من الكلام المشتمل على الصفة نفي سنخ الوجوب ، سواء كان تخييريّا أو عينيّا ، إذ لو كان عينيّا فقط لا سبيل إلى الحمل ، لعدم المنافاة بين عدم الوجوب العيني والوجوب التخييري ، فإن قلنا بكفاية هذا المقدار في ثبوت المفهوم ؛ نظرا إلى لزوم اتّحاد القضيتين في المفهوم والمنطوق ، فلا شكّ في عدم اقتضائه الحمل. وإن قلنا بأنّ المعتبر في المفهوم نفي سنخ الوجوب ، سواء كان تخييريّا أو عينيّا ، فلا شكّ أنّ دلالة المقيّد عليه حينئذ بالظهور ، ولا ترجيح لهذا الظهور بالنسبة إلى ظهور المطلق في الوجوب التخييري ، بل قد يقال بأنّ الثاني أقوى ، نظرا إلى كونه مدلولا منطوقيّا ، إلاّ أن ذلك إنّما يتمّ على مذاق المشهور في المطلق.

وأمّا على مشرب الواقع عندنا ، فلا وجه لذلك ، بل اعتبار المفهوم يؤكّد وجه الحمل كما ستعرف في محلّه إن شاء الله. نعم ، يؤيّد الاعتراض ما لو قلنا بثبوت المفهوم من جهة العقل وصونا لكلام الحكيم عن اللغويّة ، فإنّ في ذلك يكفي رفع الوجوب العيني ، فتدبّر في المقام. وممّا ذكرنا يظهر فساد ما أورده رحمه‌الله في الجواب.

وممّا ذكرنا أيضا يندفع إشكال آخر ، وهو أنّ القائلين بعدم المفهوم متّفقون على أنّ الأمر وما يحذو حذوه ظاهر في الوجوب العيني ، وهو تناقض ؛ فإنّ مقتضى العينيّة عدم وجوب غير محلّ الوصف ، وهو معنى المفهوم.

ووجه الدفع : أنّه إن اريد مقتضى العينيّة نفي الوجوب العيني عن غير محلّ الوصف فهو غير سديد ؛ إذ لا ينافي ذلك ثبوت الوجوب العيني لغيره على القول بعدم المفهوم. وإن اريد أنّ مقتضاه نفي الوجوب التخييري لغيره

٨٤

فهو غير مفيد ؛ لأنّ ذلك من لوازم تعليق الوجوب العيني به وعدم تعلّقه بالمطلق الخالي عن الوصف.

وبالجملة ، فقد اختلف الأصوليّون في ثبوت المفهوم وعدمه على أقوال :

فنسب إلى كثير من الاصوليّين والفقهاء القول بثبوته.

ولعلّ المشهور بين أصحابنا هو العدم.

وحكي التفصيل بين ما كان في مقام البيان وغيره عن عبد الله البصري (١).

وقد عرفت نسبة التفصيل إلى العلاّمة بين ما كان علّة وبين غيره ، كالتفصيل بين كون الوصف من قبيل قولك : « لا يكون » و « غير الجاهل » كما في المناهج (٢).

ولعلّ القول منحصر في الأوّلين. وأمّا التفاصيل ففي موارد إثباتها خارجة عن حريم النزاع ، لاستناد الدلالة إلى القرائن الخارجيّة ، كما أشرنا إليه إجمالا.

احتجّ النافي (٣) : بأنّه لو دلّ لكان بإحدى الثلاث ، والتالي باطل ، كما يشهد به العرف. وثبوته في الشرط لا يقضي به في الصفة (٤) ؛ لظهور الفرق بينهما : من دلالة الجملة الشرطيّة على علّيّة الشرط للجزاء على وجه الانحصار ، بخلاف المقام.

لا يقال : قد ملأ الأسماع قولهم : إنّ التعليق على الوصف يشعر بالعلّية ، فلا وجه للمنع.

لأنّا نقول ـ بعد الغضّ عن عدم اطّراده كما في قولك : « اشتر لي عبدا أسود » وتسليم أصل الإشعار ـ لا يثمر في المقام ؛ إذ الإشعار بالعلّية لا ينفي

__________________

(١) حكاه عنه المحقّق النراقي في مناهج الأحكام : ١٣٠ ، والآمدي في الإحكام ٣ : ٨٠.

(٢) مناهج الأحكام : ١٣٠.

(٣) احتجّ به صاحب الفصول في الفصول : ١٥٢ ، والمحقّق النراقي في المناهج : ١٣٠.

(٤) في ( ع ) : « لا يقتضي ثبوته في الوصف ».

٨٥

احتمال خصوصيّة المورد أيضا ، فلا إشعار على العلّيّة التامّة ، وعلى تقديره فلا ينفي احتمال التعدّد كما هو المقصود في إثبات المفهوم ، إلاّ أنّه لا ينافي ثبوت المفهوم في الجملة.

وأمّا وجه الإشعار المدّعى ، فيحتمل أن يكون كثرة الفائدة المذكورة من بين الفوائد التي تدعو إلى التوصيف لا على وجه تنهض لصرف اللفظ عمّا وضع له من المعنى الأعمّ كما لا يخفى. ونظير ذلك إجمال المطلق في بعض مراتب تشكيكه.

وإلى هذا الدليل يرجع قولهم : « إنّ الأوصاف ليست إلاّ مثل الجوامد » فكما أنّ أسماء الأجناس لا دلالة فيها على أزيد من الإثبات المذكور نفيا أو إثباتا فكذلك الأوصاف ، غاية ما في الباب أنّ « الغنم » مثلا موضوع للطبيعة مع قطع النظر عن اتّصافها بوصف (١) بخلاف « السائمة » فإنّها موضوعة للطبيعة الملحوظة مع بعض أوصافها ، وذلك لا ينهض دليلا على نفي الحكم عمّا عدا الملحوظة.

واستدلّ (٢) أيضا بالأصل. وتقريره : أنّ الأصل هو الاشتراك المعنوي فيما لو استعمل اللفظ في معنيين بينهما جامع قريب ، كما فيما نحن فيه.

احتجّ المثبتون بوجوه :

منها : التبادر عرفا ، فإنّ قول القائل : « اشتر لي عبدا أسود » يدلّ على عدم مطلوبيّة شراء العبد الأبيض ، على وجه لو اشتراه لم يكن ممتثلا.

وأجاب عنه الشهيد الثاني بما عرفت (٣) : من التزام المفهوم في القيود الواقعة في الإنشاء. وقد عرفت ما فيه.

__________________

(١) في ( ط ) : « بالوصف ».

(٢) أي : النافي.

(٣) راجع الصفحة : ٣٧.

٨٦

ومنه يظهر الوجه في فساد الدليل. وبيانه : أنّ عدم مطلوبيّة شراء الأبيض إنّما هو بواسطة المطلوبيّة بالأسود في الإنشاء الخاص ، والكلام ليس فيه. نعم ، لو كان مفاده عدم مطلوبيّته مطلقا كان ذلك وجها.

وربّما يؤيّد التبادر المذكور بدعوى غلبة إرادة المفهوم في كلمات البلغاء ، وهي على تقديرها تنهض وجها للإشعار المدّعى في المقام. وأمّا الزائد فلا نسلّم الغلبة ، كما لا يخفى.

ومنها : أنّه لولاه لزم اللغو في كلام الحكيم ، والتالي باطل. وأمّا الملازمة ، فلأنّه لا فائدة في التقييد إلاّ ذلك وعند انتفائها يلزم اللغو ، وهو المذكور في التالي.

هذا فيما إذا اعتمد الوصف على الموصوف.

وأمّا إذا كان الحكم محمولا على الوصف ـ كما في آية النبأ ـ فقد قرّروا الدليل : بأنّه قد اجتمع فيه وصفان ، أحدهما ذاتيّ وهو كونه خبر الواحد ، والآخر عرضيّ وهو كون مخبره فاسقا ، والمقتضي للتثبّت هو الثاني ، فإنّ الفسق يناسب عدم القبول ، فلا يصلح الأوّل للعلّية ، وإلاّ لوجب الاستناد به ؛ إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلّيّة أولى من التعليل بالعرضي ، لحصوله قبل حصول العرضيّ ، فيكون الحكم قد حصل قبل حصول العرضيّ.

والجواب : منع الملازمة ؛ لاحتمال فائدة اخرى كالاهتمام بمحلّ الوصف ، كما في قوله « والصلاة الوسطى » أو لعدم احتياج السامع إلى غيره ، أو لدفع توهّم اختصاص الحكم بغيره ، أو لسبق ذلك ، أو لعدم المصلحة في بيان غيره ، أو للتوضيح والكشف ، ونحو ذلك من دواعي التوصيف. مع أنّ ذلك على تقدير تسليمه لا ينهض وجها للمطلوب ؛ لأنّ الكلام في الدلالة اللفظيّة على حدّ غيره من المباحث المتعلّقة بالظواهر اللفظيّة.

٨٧

ومنها : أنّ « أبا عبيدة » ـ مع كونه من أهل اللسان الذين ينبغي الرجوع إليهم في تشخيص المعاني ـ قد فهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « مطل الغنيّ ظلم » أنّ مطل غيره ليس بظلم ، ومن قوله : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته » أن ليّ غيره لا يحلّ.

والجواب : أنّه إن اريد التمسّك بفهمه مع قطع النظر عن ملاحظة ظهور اللفظ في ما فهمه وعدمه ، فهو على تقدير كونه منزّلا منزلة إخباره بالوضع ، اعتباره مبنيّ على اعتبار قول اللغوي في الأوضاع ، ونحن لا نرى ذلك فيما إذا كان واحدا ولم يكن ما ذكره مؤيّدا بالأمارات الّتي يعوّل عليها في المطالب اللغويّة ، كالتبادر العرفي ونحوه. وبالجملة ، ففي الموارد الغير المعلومة لا بدّ في قبول قول اللغوي من اعتبار شروط الشهادة. وإن اريد بذلك تأييد التبادر المدّعى ، فبعد عدم وجداننا له في العرف لا جدوى فيه.

واعترض عليه (١) : بالمعارضة بما ذكره الاخفش ، من أنّ الأصل في التوصيف التوضيح. وهو غير ثابت.

وفي المقام اعتراضات وأجوبة ركيكة. ونظيره الكلام فيما استدلّ بفهم ابن عبّاس في بعض الآيات (٢).

تنبيهات :

الأوّل : وممّا تقرّر عند القائل بثبوت المفهوم في الصفة أنّه يشترط

__________________

(١) اعترض عليه السيّد المجاهد في المفاتيح : ٢١٩ ، والمحقّق النراقي في المناهج : ١٣٠ ـ ١٣١.

(٢) للاطّلاع على تفصيل ذلك ، راجع الإحكام إلى اصول الأحكام للآمدي ٣ : ٨٣ ، وهداية المسترشدين ٢ : ٤٨٥ ـ ٤٨٧.

٨٨

أن لا يكون واردا مورد الغالب ، كما في قوله تعالى : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ )(١) فإنّ التوصيف في المقام لا يدلّ على انتفاء الحكم في الربائب اللاتي ليست في الحجور.

وعلّله الرازي ـ على ما حكي ـ : بأنّ الباعث على التخصيص هو العادة ، فإنّ الربيب غالبا يكون في الحجور ، وإذا احتمل أن يكون ذلك هو الوجه في التخصيص لم يغلب على الظنّ أنّ سببه نفي الحكم عمّا عداه (٢). وتبعه في ذلك جماعة (٣).

وما ذكره يناسب القول بأنّ التزام المفهوم إنّما هو لأجل إخراج الكلام عن اللغويّة ، أو القول بأنّ أصالة الحقيقة إنّما لا يعوّل عليها إذا لم تكن مفيدة للظنّ ، وإلاّ فعلى القول بالدلالة الوضعيّة مع عدم اعتبار الظنّ لا وجه له ، كما هو ظاهر.

وعلّله المحقّق القمّي : بأنّ النادر هو المحتاج حكمه إلى التنبيه ، والأفراد الشائعة تحضر في الأذهان عند إطلاق اللفظ المعرّى ، فلو حصل احتياج في الانفهام من اللفظ فإنّما يحصل في النادر ، فالعلّة في المذكور (٤) لا بدّ أن تكون شيئا آخر لا تخصيص الحكم بالغالب ، وهو فيما نحن فيه ـ يعني قوله تعالى : ( وَرَبائِبُكُمُ ) ـ التشبيه بالولد (٥).

__________________

(١) النساء : ٢٣.

(٢) التفسير الكبير ١٠ : ٣٣.

(٣) راجع تفسير روح البيان ٢ : ١٨٧ ، ذيل الآية ٢٣ من سورة النساء ، وروح المعاني ٤ : ٢٥٧ ، ذيل الآية ، ومجمع البيان ٢ : ٢٩ ، ذيل الآية أيضا.

(٤) في المصدر : « فالنكتة في الذكر ».

(٥) القوانين ١ : ١٨١.

٨٩

فإن أراد أن مجرّد انصراف المطلق إلى الأفراد الشائعة الغالبة ينهض وجها في عدم إرادة التخصيص من التوصيف مع إمكان إرادة التخصيص في الوصف الغالب أيضا ، فهو مطالب بالفرق بين المقامين ، حيث إنّه لا يعتبر التخصيص في الوصف الغالب ويعتبر في غيره مع إمكانه.

فإن قلت : إنّ الوصف الغالب بمنزلة الوصف المساوي للموصوف ، فكما لا وجه لاعتبار التخصيص فيه كذلك فيما إذا كان الوصف غالبيّا.

قلت : يمكن تصحيح ذلك فيما لو قلنا بأنّ الانصراف في المطلق ينزّل منزلة التخصيص اللفظي ، فيكون الوصف مساويا حينئذ. وأمّا لو لم نقل به أو قلنا ولكن لا في جميع مراتب التشكيك ـ كما ستعرفه في محلّه إن شاء الله ـ فلا وجه لذلك ، لإمكان إرادة إخراج الفرد النادر عن مورد الحكم وإثبات خلاف الحكم له ، كما هو مقتضى المفهوم.

وإن أراد أنّ الوصف الغالبي مع إرادة التخصيص منه واختصاص محلّ الحكم في الموصوف لا وجه لاعتبار المفهوم فيه نظرا إلى أنّ النادر إنّما هو المحتاج حكمه إلى التنبيه ـ إلى آخر ما ذكره في التعليل ـ ففيه : ما أورده بعضهم بأنّ غاية ما يلزم من انصراف المطلق إلى الفرد الغالب اختصاص الحكم به ، وهو غير الدلالة على الانتفاء. فيمكن أن يكون التقييد بالوصف الغالب للدلالة على المفهوم على القول به في غيره ، بل المقام أولى به من غيره ، لانتفاء بعض الفوائد التي لأجل احتمالها طرحنا القول بالمفهوم ، كما لا يخفى.

لكنّ الإنصاف أنّ الظاهر من كلامه هو أنّ الغلبة في الوصف مانعة عن إرادة التخصيص به ، وبعد عدم إرادة التخصيص من الوصف لا يعقل ثبوت المفهوم ، لأنّ الانتفاء فرع الاختصاص ، إلاّ أنّه بعد مطالب بالفرق ، كما لا يخفى.

٩٠

الثاني : قد بسطنا لك القول في مفهوم الشرط ، من أنّ اللازم في أخذ المفهوم الأخذ بجميع مجامع الكلام وقيوده سوى النفي والإثبات ، فمفهوم الوصف في قولنا : « كلّ غنم سائمة فيه الزكاة » لا شيء من غير السائمة فيه الزكاة. وقد عرفت أنّ جماعة من الفحول تخيّلوا اختلافهما في الكمّ أيضا ، فمفهوم الموجبة الكلّيّة السالبة الجزئيّة.

وأنت بعد ما عرفت أنّ السور في القضايا إنّما هو آلة لملاحظة ما تعلّق به ولا يعتبر موضوعا فيها تحكم بفساد الخيال المذكور ، ولا حاجة إلى إطالة الكلام بعد ذلك.

الثالث : قد عرفت نسبة القول بالتفصيل بين ما كان الوصف علّة وبين غيره إلى العلاّمة رحمه‌الله. وقد عرفت أيضا أنّ مرجعه إلى القول بحجّيّة مفهوم العلّة (١). واستدلّ عليه في محكيّ النهاية : بأنّه لو لم يلزم من عدمه العدم لزم ثبوت المعلول بدون العلّة أو يلزم خروج الوصف عن كونه علّة ، لأنّ ثبوت الحكم مع عدمه لا بدّ له من مستند آخر ، فالوصف يكون إحدى العلّتين (٢). وظاهره دعوى ظهور اللفظ الظاهر في العلّية في الانحصار أيضا ، وإلاّ فلا وجه لما جعله تاليا في الشرطيّة. فلا يرد عليه ما قيل : من أنّ تعدّد العلّة في الشرعيات غير عزيز (٣). نعم ، يرد عليه منع الظهور في الانحصار في الوصف الظاهر في العلّية ، فتدبّر.

__________________

(١) انظر الصفحة : ٨١.

(٢) حكاه عنه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٢٢٠.

(٣) لم نعثر عليه.

٩١
٩٢

هداية

الحقّ ـ كما عليه كثير من أهل التحقيق ـ : أنّ الحكم المغيّا بغاية يرتفع بعد حصول الغاية على وجه لو قيل بثبوته بعدها كان مناقضا للدليل الأوّل. وهو المراد بمفهوم الغاية.

وتنقيح المبحث موقوف على رسم مقدّمة ، وهي :

أنّ لفظ « الغاية » قد يطلق ويراد به النهاية ، كما في قولك : « بلغ الغاية ». ولعلّ منه الغاية الداعية إلى الفعل والعلّة الغائيّة ، حيث إنّه يترتّب عليه بعد وصوله إلى نهايته ، كما لا يخفى.

وقد يطلق ويراد به المسافة ، كما صرّح به التفتازاني في قولهم : « من » لابتداء الغاية و « إلى » لانتهاء الغاية. قال في محكيّ التلويح : المراد بالغاية في قولهم : « من لابتداء الغاية » المسافة ؛ إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ ، فالغاية هي النهاية وليس لها ابتداء (١) ، انتهى.

والظاهر أنّ المراد من « المسافة » ليس خصوص المكان والزمان وإن كان يعطيه ظاهر بعض الكلمات في بعض المقامات ، بل المراد مطلق الامتداد الحاصل في غير المكان والزمان أيضا ، كما في قولك : « أنشدت القصيدة من أوّلها إلى آخرها » فإنّ المسافة المعقولة في ذلك ليست مكانيّة ولا زمانيّة ، كما لا يخفى.

__________________

(١) شرح التلويح على التوضيح ١ : ٢٨٧.

٩٣

ثمّ إنّ ظاهر التفتازاني : أنّ استعمال الغاية في المسافة إنّما هو مجاز عن النهاية.

واعترض عليه : بأنّ نهاية الشيء هو ضدّه ، وضدّ الشيء لا يكون جزءا منه ، فلا وجه لقوله : « إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ ».

وأجاب عنه الچلبي : بأنّ الجزء المجاور للنهاية اطلق عليه « النهاية » من باب علاقة المجاورة ، ثم اطلق ذلك الاسم على الكلّ ، فيكون مجازا بمرتبتين ، وهو غير عزيز. ثمّ وجّه الاستعمال المذكور : بأنّ المراد من الغاية هو الحدّ وإضافة الابتداء والانتهاء إليه بيانيّة ، من قبيل إضافة الفرد إلى الجنس (١).

وفيه ما لا يخفى ؛ لأنّ انسباك المجاز عن مثله على تقدير جوازه عزيز الوجود جدّا ، مع أنّ الظاهر في الإضافة أن تكون لاميّة ، مضافا إلى أنّ استعمال الغاية في مطلق الحدّ الشامل للابتداء ممّا لم نقف عليه إلى الآن.

فالأولى في دفع الاعتراض عمّا أفاده التفتازاني : المنع من أنّ نهاية الشيء هو ضدّه ، بل النهاية ليست إلاّ أمرا اعتباريّا يصحّ انتزاعه من الشيء بعد فرض انقطاعه بملاحظة ما يغايره ويضادّه ، كالبداية ، فإنّها أيضا أمر منتزع من الشيء الممتدّ في أوّل أجزاء وجوده بملاحظة ما يغايره قبله. وهذا الأمر المنتزع وإن لم يكن جزءا من الشيء ، إلاّ أنّ منشأ انتزاع جزء منه كمنشإ انتزاع البداية أيضا. نعم ، حيث إنّه قلنا بامتناع الجزء الجوهري فلا بدّ أن لا يكون منشأ الانتزاع موجودا فعليّا في ذلك الممتدّ ، بل يجب أن يكون مفروضا كما في سائر الأقسام الفرضيّة.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٩٤

ومع ذلك فلا يخلو ما ذكره التفتازاني عن شيء ؛ نظرا إلى ظاهر كلام القاموس والصحاح ، حيث جعلا من معاني الغاية مدى الشيء ، فلا حاجة إلى ارتكاب التأويل فيها. ولو قلنا بأنّه لا يزيد على مجرّد الاستعمال فالظاهر أنّه من توابع استعمال الغاية فيما هو المقصود ؛ نظرا إلى أنّ غاية الشيء إنّما هي مقصودة ، فتدبّر في المقام.

ثمّ المقصود فيما نحن بصدده يحتمل أن يكون النهاية ، كأن يقال : إنّ الحكم المفروض نهايته بإحدى آلات النهاية ـ مثل لفظ « حتّى » أو « إلى » ـ ينتفي بعد حصول النهاية أو لا؟ ويحتمل أن يكون المراد منه مدخول لفظ « إلى » و « حتّى ».

والفرق بينهما : أنّ مدخول لفظ « إلى » و « حتّى » لا يلزم أن يكون نهاية على الحقيقة ، فإنّ مدخول تلك الآلات قد يكون ممّا يشتمل على أجزاء من الامور الممتدّة كالكوفة في قولك : « سر من البصرة إلى الكوفة » والليل في قوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(١) وقد لا يكون كذلك. فظهر أنّ مدخول الأداة لا يجب أن يكون نهاية.

ثمّ إنّ على الثاني لا إشكال. وعلى الأوّل فقد وقع الخلاف بينهم في أنّ الحكم المنطوقي الثابت لما قبل الغاية هل هو ثابت لنفس الغاية أو لا؟ ولا وجه لما زعمه البعض : من أنّه لو قيل بخروج الغاية كان النزاع المذكور في العنوان أوّلا غير متصوّر ، لأنّ اللفظ إذا دلّ على نفس الغاية كان ما بعدها أولى بالخروج ، فإنّ ذلك خلط بين النزاع في ثبوت المفهوم للغاية وبين دلالة المنطوق على ثبوت الحكم لنفس الغاية ، ولعلّه ظاهر.

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

٩٥

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ لفظ « الغاية » في النزاع الثاني لا يحتمل إلاّ الوجه الثاني. وزعم بعض الأجلّة اتّحادهما (١). ولا وجه له كما عرفت.

إذا تمهّد تلك المقدّمة نقول : إنّ لهم في المقام نزاعين :

أحدهما : أنّ الغاية هل تدخل في المغيّا أو لا؟

والثاني : أنّ الحكم المغيّا هل ينتفي بعد حصول الغاية أو لا؟

ولنذكر كلّ واحد في مقام.

أمّا المقام الأوّل ، فاختلف القوم فيه على أقوال :

فذهب نجم الأئمة إلى الخروج مطلقا (٢) ؛ نظرا إلى أنّ حدود الشيء خارجة عنه ، وحمل الموارد الّتي يظهر فيها الدخول على وجود القرينة فيها.

وقيل بالدخول مطلقا (٣).

وفصّل ثالث : بين « حتّى » و « إلى » ، فقال بالدخول في الأوّل وبعدمه في الثاني. اختاره الزمخشري على ما نسب إليه (٤).

وادّعى بعض النحاة الإجماع على الدخول في « حتّى » (٥). ولعلّه خلط بين العاطفة والخافضة ، كما نصّ عليه ابن هشام (٦).

__________________

(١) راجع الفصول : ١٥٣.

(٢) حكى عنه النراقي في المناهج : ١٣٢.

(٣) لم نعثر على القائل ، وقال السيّد المجاهد في المفاتيح ( الصفحة ١٠٠ ) : والقول بالدخول مطلقا شاذّ لا يعرف قائله.

(٤) شرح الكافية ٢ : ٣٢٤.

(٥) حكاه ابن هشام في المغني ١ : ١٦٨ ، عن شهاب الدين القرافي.

(٦) انظر المغني ١ : ١٦٨.

٩٦

وفصّل بعضهم : بين ما إذا كان ما قبل الغاية وما بعدها متّحدين في الجنس فقال بالدخول ، وبين غيره (١). وهنا أقوال أخر.

ولعلّ الأظهر بمقتضى لفظ « النهاية » الدخول مطلقا ، حيث قد عرفت من أنّها الأمر المنتزع عمّا نفرض جزءا أخيرا للشيء المفروض امتداده بملاحظة ما يغايره ويضادّه في الأغلب. ومنه يظهر حال الابتداء في كلمة الابتداء ، فإنّه أيضا ينتزع من الجزء الأوّل للشيء.

إلاّ أنّ ذلك لا يجدي فيما هو محلّ الكلام ؛ إذ لا يعقل النزاع المذكور فيما إذا كان مدخول « حتّى » أو « إلى » نهاية بالمعنى المذكور ، بل لا بدّ من أن يكون ذلك المدخول ممّا يفرض له أجزاء كثيرة ـ مثلا ـ كما نبّهنا عليه. وذلك لا يكون نهاية في الحقيقة ، بل هو تسامح في جعل ما ينتهي عنده الشيء المغاير له نهاية ، إذ من الواضح افتراق « ما به ينتهي الشيء » وهو النهاية و « ما ينتهي عنده الشيء » وهو الضدّ على ما زعمه المعترض المتقدّم.

وتوضيح المطلب : أنّ أدوات النهاية إنّما هي موضوعة لأن يلاحظ حال ما لحقت به من الأفعال على وجه النهاية ، ولا ريب في أنّ النهاية الحقيقيّة غير قابلة لأن ينازع في دخولها في ذيها ، لا نفسها ولا ما ينتزع منها. أمّا الأوّل فلكونه أمرا اعتباريّا. وأمّا الثاني فلبداهة دخول جزء الشيء فيه. وقد يستعمل تلك الأدوات فيما ليست نهاية حقيقيّة ، بل ولعلّ أغلب موارد استعمالها كذلك ، فيكون مدخول الأدوات نهاية تسامحيّة ، فيمكن أن ينازع فيه بالدخول وعدمه. إلاّ أنّ الأظهر خروج مثل هذه الغاية عمّا قبلها ، ولذلك ذهب إليه الأكثر واستظهره نجم الأئمة ، والتعليل الّذي استند إليه حينئذ في محلّه.

__________________

(١) نسبه في إشارات الاصول ١ : ٢٤٣ إلى المبرّد ، ومثله في هداية المسترشدين ٢ : ٥١٥.

٩٧

نعم ، حيث كان استعمال « إلى » و « حتّى » في مثل ذلك تسامحا ، فيمكن فرض الكلام على وجه يستظهر منه الدخول ـ كما في بعض الأمثلة ـ بواسطة القرائن ، وعند عدم القرينة فمع العلم بأنّ النهاية ليست نهاية حقيقيّة ، فلا بدّ من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في كلّ مورد. ولا وجه للرجوع إلى أصالة عدم الدخول ، فإنّه إن اريد بها عدم دخول الغاية في المغيّا موضوعا ، فذلك معلوم وجدانا كما هو المفروض. وإن اريد بها عدم دخولها فيه حكما فذلك ممّا يختلف فيه قضيّة الأصل بحسب اختلاف موارده. ومع عدم العلم بذلك فالظاهر أنّه يحكم بالدخول نظرا إلى أصالة الحقيقة لو قلنا بأنّ الأداة (١) موضوعة للنهاية الحقيقيّة ، كما هو الظاهر.

وأمّا المقام الثاني ، فاختلفوا في أنّ تقييد الحكم بالغاية هل يوجب انتفاء الحكم رأسا وسنخا عمّا بعد الغاية على وجه لو ثبت له مثل الحكم المذكور بدليل آخر كان معارضا لذلك التقييد أو لا يوجب؟ فالمشهور بل المعظم على الأوّل ، وذهب جماعة ـ منهم السيّد (٢) والشيخ (٣) ـ إلى الثاني. ولا ريب في أنّ اعتبار المفهوم في المقام على القول به إنّما هو مثل اعتباره في الشرط ، من انتفاء سنخ الحكم في جانب المفهوم ، وإلاّ فانتفاء الحكم الشخصي ثابت في اللقب والوصف أيضا ، بل وذلك ضروريّ ؛ ضرورة اختصاص كلّ حكم مختص بموضوع بذلك الموضوع.

ومن ذهب إلى القول الأوّل ومع ذلك يقول يجوز أن يكون الحكم فيما بعد الغاية كالحكم فيما قبلها بالنظر إلى خطاب آخر ، فقد أتى بشيء عجيب! فإنّه إن

__________________

(١) في ( ع ) : « الأدوات ».

(٢) الذريعة ١ : ٤٠٧.

(٣) العدّة ٢ : ٤٧٨.

٩٨

أراد بالجواز المذكور إمكانه بالنظر إلى ترجيح في جانب الخطاب الآخر فهو جار في جميع المفاهيم ، إذ لا يمنع ترك الظاهر بواسطة ما هو أظهر منه. وإن أراد عدم المعارضة فهو ممّن لا يقول باعتبار المفهوم قطعا ، فلا وجه لعدّ نفسه منهم. ومن العجب! أنّه صرّح بأنّ مفهوم الغاية أقوى من مفهوم الشرط وصرّح بظهور الثمرة عند التعارض بتقديم الأقوى (١).

وأغرب من ذلك ما وجدناه في كلام بعض الأجلّة (٢) ، حيث قال : إنّ النزاع يتصوّر هنا في مقامين : الأوّل أنّ التقييد بالغاية هل يقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها مطلقا أو لا؟ الثاني أنّ التقييد بها هل يقتضي المخالفة بالنسبة إلى الحكم المذكور أو لا؟ فاختار في الأوّل العدم وفي الثاني اختار الدلالة مع اعترافه بأنّ ظاهر كلامهم هو الأوّل.

ثمّ استدلّ على مطلوبه في المقام الأوّل : بأنّ قول القائل : « صم إلى الليل » إنّما يقتضي عرفا ولغة تعلّق طلبه بالصوم المغيّا بالليل ، وظاهر أنّ هذا لا ينافي تعلّق أمره أيضا بصوم الليل إلى الصبح بطلب مستقلّ ، فإنّ مرجع الأمرين إلى طلب الصومين المحدودين. وهذا لا يستدعي خروجه عمّا يقتضيه ظاهر الأمر.

واستدل على الثاني : بأنّ المفهوم من قولك : « صم إلى الليل » انقطاع الصوم المأمور به بذلك الخطاب ببلوغ الغاية. ثمّ حقّق ما ذكره : بأنّ توابع الفعل من القيود اللاحقة للموضوع ، فيجري ذلك مجرى الوصف ، فكما لا نقول به فيه ، فكذلك فيما نحن فيه (٣).

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ١٨٦ ، وهداية المسترشدين ٢ : ٥٥٦.

(٢) وهو صاحب الفصول.

(٣) الفصول : ١٥٣ ـ ١٥٤.

٩٩

أقول : وما أفاده ممّا لا يرجع إلى طائل ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ الانتفاء في المقام الثاني ممّا لا حاجة فيه إلى تجشّم الاستدلال ، ضرورة ارتفاع الحكم بارتفاع الموضوع فلا يعقل توجيه النزاع فيه. وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره وجها في المقام الأوّل ممّا لا وجه له. وتوضيحه : أنّ تعليق الفعل بالغاية ، كما في قولك : « سر من البصرة إلى الكوفة » يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يلاحظ السير المبتدأ من البصرة المنتهى إلى الكوفة ويأمر به بواسطة اشتمال هذه القطعة من السير على مصلحة أو ينهى عنه مع قطع النظر عن سائر قطعات السير وجودا وعدما ، ومرجعه إلى طلب فعل واحد أوّله كذا وآخره كذا ، فالطلب إنّما تعلّق بالفعل المحدود ابتداء وانتهاء.

الثاني : أن يلاحظ السير المطلوب فعله أو تركه أوّلا ثمّ بعد اعتبار تعلّق طلبه به يلاحظ تحديده بداية ونهاية بما يصلح لذلك التحديد.

فعلى الأوّل لا وجه لاستعمال أداة الغاية والتعليق بها ، بل لو كان المراد ذلك فمن حقّه استعمال الغاية على جهة التوصيف ، إذ الكلام في أمثال المقام إنّما هو في الظهور.

وعلى الثاني فمن حقّه استعمال التركيب المتنازع فيه. ومجرّد إمكان رجوعه إلى التوصيف لا يجدي ، إذ لم يقم دليل على امتناعه في الشرط أيضا.

وبما ذكرنا يظهر فساد ما زعمه في توجيه ما صار إليه ، من أنّ توابع الفعل من القيود اللاحقة للمادّة لا للهيئة (١) ، نظرا إلى أنّ مفادها معنى حرفيّ ؛ فإنّ ذلك لا يقضي بما زعمه ، مضافا إلى عدم قدحه فيما إذا كان الطلب مثلا ، ولا ينافي ذلك كونه إنشاء لا إخبارا ، كما لا يخفى.

__________________

(١) انظر الفصول : ١٥٤.

١٠٠