مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

١
٢

٣
٤

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في المفهوم والمنطوق

٧
٨

وتحقيق المطلب في طيّ هدايات :

هداية

في بيان امور ترتبط بالمقام :

الأوّل : الظاهر من موارد إطلاق اللفظين في كلمات أرباب الاصطلاح أنّهما وصفان منتزعان من المدلول ، لكن من حيث هو مدلول ، فنفس المعنى مع قطع النظر عن كونه مدلولا لا يتّصف بشيء منهما. ولا يقاس بالكلّية والجزئيّة ؛ لظهور اتّصاف المعنى بهما من حيث هو. ويشعر بذلك الحدود الآتية ، سيّما مع تفسير جماعة منهم الموصولة الواقعة فيها بـ « الحكم » ونحوه ، فإنّ الدلالة لا تعرّف بالحكم.

خلافا لظاهر العضدي (١) تبعا للحاجبي (٢) وللمحكيّ عن الشهيد الثاني (٣) ، حيث جعلوهما من الأوصاف الطارئة للدلالة. ولا وجه لذلك.

وأمّا ما قيل : من أنّ تقسيم الدلالة إليهما يدلّ على ذلك. ففيه : أنّ التقسيم المذكور لم نعثر عليه في كلام من يرى أنّهما من الأوصاف المنتزعة من المدلول. نعم ، عدّهم دلالة الإشارة من المنطوق دليل عليه. والظاهر إرادة دخول مدلولها فيه.

__________________

(١ و ٢) انظر شرح مختصر الاصول : ٣٠٦.

(٣) تمهيد القواعد : ١٠٨ ، وحكاه عنه وعمّا قبله في إشارات الاصول ، الورقة : ٢٣٣.

٩

وربّما يستشهد له أيضا بقولهم : هل المفهوم حجّة أو لا؟ حيث إنّه لا يعقل حجيّة المدلول بعد ثبوته.

وفيه : أنّه لا يعقل حجيّة (١) الدلالة بعد ثبوتها ، فالكلام على التقديرين في نفس الثبوت.

وأمّا كونهما من عوارض الدالّ ـ كالأوصاف اللاحقة للألفاظ من العموم والخصوص والحقيقة والمجاز ونحوها ـ فممّا لم يذهب إليه وهم ، ولا يساعده موارد استعمالهم لهما أيضا.

الثاني : أنّ مقتضى الحصر بين الدلالات انحصار استفادة المدلول فيها. وهل المدلول منحصر في المفهوم والمنطوق أو لا؟ ظاهر الأكثر ـ كما يظهر من الحدود الآتية ـ هو الأوّل ؛ لاعتبارهم النفي والإثبات فيهما.

ويظهر من محكيّ النهاية ثبوت الواسطة (٢) ، حيث جعل الإيماء والإشارة قسما ثالثا ، مع أنّ المشهور دخولهما في المنطوق ، خلافا للتفتازاني حيث جعلهما من المفهوم (٣).

فإن أرادا بذلك جعل اصطلاح جديد فلا ينبغي التشاحّ. وإن أرادا بيان ما هو المصطلح فالظاهر خلافه ، كما يظهر بالرجوع.

ثمّ إنّ المداليل المفردة ليست من المنطوق ، كما أنّ لوازمها العقليّة أو غيرها ليست من المفهوم ، فإنّ المقسم فيهما هو المدلول المركّب ، فلا يختلّ الحصر ، كما لا يخفى.

__________________

(١) في ( ع ) زيادة : « ثبوت ».

(٢) نهاية الوصول : ٢٠٠.

(٣) حاشية التفتازاني المطبوع مع شرح العضدي ٢ : ١٧١ ـ ١٧٢.

١٠

الثالث : الظاهر في مصطلحهم دخول المدلول المطابقي في المنطوق قطعا.

وأمّا التضمّني ، فظاهر الأكثر أيضا أنّه من المنطوق وإن وقع الخلاف (١) في صراحته. لكن لازم من زعم أنّ دلالة الجملة الشرطيّة على الحكم المفهومي إنّما هو بالتضمّن انقسامه إليهما.

وأمّا الالتزامي ، فعن بعض الأفاضل كونه مفهوما مطلقا (٢). ولازمه عدّ دلالة الأمر على الوجوب ووجوب المقدّمة وحرمة الضدّ من المفهوم ، فضلا عن مثل دلالة الإيماء والإشارة والتنبيه.

وحيث إنّ المرجع في تشخيص هذه الامور الاصطلاحيّة ـ كما تقدّم ـ هو الرجوع إلى كلماتهم ، فالظاهر أنّ المقسم هو مطلق المدلول ، لكنّ المدلول المطابقي والتضمّني لا يكون إلاّ منطوقا ، والمدلول الالتزامي ينقسم إليهما. فتقسيم المداليل الثلاثة إلى القسمين باعتبار التوزيع والتداخل.

ثمّ إنّ الظاهر من كلماتهم أيضا أنّ التمييز بين القسمين ليس باعتبار الحيثيّات والاعتبارات ، بل هما تعبيران عن معنيين ممتازين في الواقع لا يتداخل أحدهما في الآخر. فما يظهر من بعضهم : من أنّ آيتي « الحمل » (٣) و « التأفيف » (٤) يحتمل جعل مدلولهما من المنطوق باعتبار ومن المفهوم باعتبار آخر ـ كما ستعرف ـ لا وجه له.

__________________

(١) راجع هداية المسترشدين ٢ : ٤١٢ ، والقوانين ١ : ١٦٨ ، وإشارات الاصول ، الورقة : ٢٣٣.

(٢) حكاه المحقّق النراقي في المناهج : ١٢٧ ، عن البيضاوي.

(٣) الأحقاف : ١٥ ، والبقرة : ٢٣٣.

(٤) الإسراء : ٢٣.

١١

الرابع : عرّف الحاجبي المنطوق بـ « ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق » ، والمفهوم بـ « ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق » (١). والظاهر أنّ لفظة « ما » موصولة ، فيدلّ على أنّ المنطوق وخلافه من أوصاف المدلول كغيره من الحدود الآتية. كما أنّ الظاهر اختصاصهما بالدلالة الوضعيّة ، فالدلالة العقليّة وإن كانت لفظيّة لا يعدّ مدلولها من المنطوق والمفهوم.

وفسّره العضدي بقوله : أي يكون حكما لمذكور وحالا من أحواله ، سواء ذكر ذلك الحكم ونطق به أم لا. والمفهوم بخلافه ، وهو : ما دلّ عليه اللفظ (٢) لا في محلّ النطق ، بأن يكون حكما لغير المذكور وحالا من أحواله (٣).

وتوجيهه ـ على ما زعم من كون لفظة « ما » مصدريّة ـ : أنّ المنطوق دلالة اللفظ على مدلوله حال كون ذلك المدلول يكون موضوعه ثابتا في محلّ النطق ، فيكون الظرف متعلّقا بالعامل المقدّر حالا عن الضمير المجرور باعتبار موضوعه ، فيكون من قبيل إجراء الصفة على غير من هي له.

وذلك مع كونه بعيدا ـ لما عرفت من أنّ الظاهر أنّ كلمة « ما » موصولة ، وأنّ استفادة المدلول من الدلالة ليكون مرجعا للضمير المجرور لا يخلو عن شيء ، وأنّ ظاهر التوصيف وما يجري مجراه من الحال ونحوه أن يكون جاريا على من هي له ـ اورد عليه (٤) :

أوّلا : بخروج بعض المفاهيم ، كمفهوم الشرط مثل قولك : « إن جاءك

__________________

(١) راجع شرح مختصر الاصول : ٣٠٦.

(٢) لم يرد « عليه اللفظ » في ( ع ) والمصدر.

(٣) شرح مختصر الأصول : ٣٠٦.

(٤) انظر هداية المسترشدين ٢ : ٤١٠.

١٢

زيد فأكرمه » فإنّ الموضوع في المفهوم هو « زيد » المذكور في المنطوق ، ومفهوم الغاية كقولك : « صم إلى الليل » فإنّه لا يجب فيه الصيام وهو مذكور ، ومفهوم الحصر كقولك : « إنّما زيد قائم » ، ومفهوم اللقب ، نحو قولك : « يجب إكرام غير زيد » ، وبنحو « فاسأل القرية » ، فيختلّ التعريفان طردا وعكسا.

وثانيا : أنّهم ذكروا أن الإيماء والإشارة من المنطوق ، ومثّلوا لهما بالآيتين (١) ؛ فإنّ دلالتهما على أن أقلّ الحمل ستّة بالمنطوق مع أنّ أقلّ الحمل الذي هو الموضوع غير مذكور.

وثالثا : أنّ المداليل الالتزاميّة التي لا يعدّ عندهم من المفهوم في الأغلب لا يكون الموضوع فيهما مذكورا.

وقد يذبّ عن هذه الوجوه :

أمّا عن مفهوم الشرط ، فتارة : بأنّ الموضوع في المفهوم هو « زيد الغير الجائي » ، لا « زيد » مطلقا ، وهو ليس بمذكور. وأخرى : بأنّ الموضوع في المنطوق هو « المجيء » وفي المفهوم عدمه ، وهو ليس بمذكور.

وأمّا عن مفهوم الغاية : فبأنّ الموضوع في المفهوم هو أنّ « غير الليل ليست غاية » وهو ليس بمذكور.

وأمّا عن مفهوم الحصر : فبأنّ المراد نفي القيام عن غير زيد ، وهو ليس مذكورا. وإن اريد منه نفي غير القيام عن زيد فيؤول الأمر حقيقة إلى نفي اتّصاف زيد بشيء من الصفات ، و « الاتّصاف » ليس مذكورا.

__________________

(١) أي : آيتي « الحمل » : الأحقاف : ١٥ ، والبقرة : ٢٣٣ ، وراجع هداية المسترشدين ٢ : ٤١٠ ، والفصول : ١٤٦.

١٣

وأمّا عن مفهوم اللقب : فبأنّ الموضوع في المفهوم ليس زيدا بل هو « غير زيد » وهو ليس مذكورا وإن كان مصداقه وهو « زيد » مذكورا (١).

وأمّا عن خروج دلالة الإشارة عن المنطوق : فبأنّ الموضوع هو « الحمل » ، والمستفاد من الآيتين أنّ الحمل أقلّه ستّة ، وهو مذكور.

وأمّا عن نحو « فاسأل القرية » : فبأنّ الموضوع المقدّر في حكم المذكور.

وأمّا المداليل الالتزامية : فبأنّ وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ ونحوهما إنّما هو من أحكام الصلاة المذكورة في قولك : « صلّ » ، فالمستفاد منه أنّ الصلاة يجب مقدّمتها ويحرم ضدّها ... إلى غير ذلك.

ولا يخفى على من له خبرة أنّ هذه كلّها تكلّفات سخيفة وتوجيهات ضعيفة لا ينبغي ارتكابها ؛ فإنّ ذلك يوجب اختلاط مصاديق النوعين وامتيازها بحسب الوجوه والاعتبارات ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّ الظاهر منهم عدم اختلاط المفهومين كمصاديقهما ، فلا ينبغي الإصغاء إليها.

وقد يفسّر الحدّ المذكور ـ مع قطع النظر عن تحليل مفرداته ـ : بأنّ المنطوق هو المدلول الذي يفهم من اللفظ في محلّ النطق ، بأن يكون ناشئا من اللفظ ابتداء بلا واسطة المعنى المستعمل فيه ، بخلاف المفهوم.

وتوضيحه : أنّ المستفاد من قولك : « إن جاء زيد فأكرمه » حكمان يكفي في استفادة أحدهما ترجمة الألفاظ الواقعة في التركيب لغير أهل اللسان ، ويحتاج استفادة الثاني إلى ملاحظة اعتبار آخر في المدلول ، كما هو ظاهر. فالظرف متعلّق بـ « دلّ » ويكون المراد بالموصولة هو الحكم ونحوه. إلاّ أنّه لم يظهر بعد معنى لقولهم : « في محلّ النطق » إلاّ على وجه بعيد ، فتأمّل.

__________________

(١) كذا في النسخ. والمناسب هكذا : وأمّا عن مفهوم اللقب فبأنّ الموضوع في المفهوم ليس « غير زيد » بل هو « زيد » وهو ليس مذكورا وإن كان « غير زيد » مذكورا.

١٤

ويشعر به تعريف الآمدي للمنطوق بـ « ما فهم من اللفظ نطقا » (١) كتحديد العلاّمة بـ « ما دلّ اللفظ عليه بصريحه » (٢) فالمعيار في الفرق هو الاستفادة الابتدائيّة وعدمها.

وحينئذ ينتقض الحدّان بناء على ما ذكرنا : من أنّ ظاهرهم دخول التضمّن في المنطوق ، وتقسيم الالتزام إليهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ المدلول التضمّني لا يستفاد من اللفظ ابتداء ؛ ضرورة تبعيّة التضمّن للمطابقة وإن انعكس الأمر في التحقّق ، فيدخل في حدّ المفهوم مع أنّه ليس منه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المداليل الالتزاميّة كلّها لا تتحقّق (٣) إلاّ بالواسطة ، ولا وجه لما يتوهّم من الفرق بين المداليل الالتزاميّة البيّنة وغيرها ، فإنّ وجوب المقدّمة من غيرها مع أنّه ليس من المفهوم كدلالة الإشارة ونحوها.

وقد يفرّق أيضا : بأنّ المداليل الالتزامية على قسمين ، أحدهما : ما يكون لازما لنفس المعنى لا مدخل للّفظ والوضع فيه أبدا إلاّ الكشف عن المعنى ، وذلك كوجوب المقدّمة وحرمة الضدّ وأمثالهما من اللوازم ، فإنّ الانتقال إليها لا يتوقّف على ملاحظة لفظ أو وضع أو غير ذلك ، بل يكفي في الانتقال إليها ملاحظة نفس المعنى الملازم وإن لم يكن بدون اللفظ ، ولذلك لا يفرّق بين ما إذا ثبت وجوب الواجب باللفظ أو بغيره في الحكم بوجوب المقدّمة. الثاني : ما يكون لازما للمعنى الموضوع له باعتبار الوضع له ، فكأنّ الواضع اعتبره في وضع اللفظ للمعنى الملازم. فالأوّل من المنطوق ، والثاني من المفهوم.

__________________

(١) الإحكام في اصول الأحكام ٣ : ٧٤.

(٢) نهاية الوصول : ٢٠٠.

(٣) في ( ع ) : « لا يتصوّر ».

١٥

وفيه : أنّ الفرق المذكور ممّا لا محصّل له ؛ فإنّ الملازمة واقعة بين المعاني في جميع الموارد ، فإنّ العلقة بين الشرط والجزاء تتصوّر على وجهين : أحدهما التوقّف الوجودي فقط ، والثاني التوقّف وجودا وعدما. وإنّما النزاع في أنّ الجملة الشرطيّة ـ مثلا ـ هل يستفاد منها العلقة على الوجه الأوّل ، أو على الوجه الثاني؟

ولا معنى لاعتبار الواضع اللزوم أو الملازمة في الوضع ، كما هو ظاهر لمن تدبّر.

ولا ينافي ذلك كون المبحث من مباحث الألفاظ كما في الأمر ؛ ولذلك لو ثبت المعنى الموجود في الجمل الشرطيّة ـ مثلا ـ بدليل غير اللفظ على الوجه المستفاد من اللفظ نقول بالانتفاء عند الانتفاء فيما إذا قلنا بثبوت المفهوم ؛ مضافا إلى ورود النقض بمفهوم الموافقة بعد ، فإنّا لا نفرّق بين الانتقال إلى حرمة الضرب من آية « التأفيف » وبين غيره من اللوازم.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ لوازم المداليل المفردة خارجة عن المقسم ، كما يشعر به أخذ « الحكم » جنسا في التعريفات السابقة.

وأمّا المداليل الالتزامية للمركّبات : فتارة يقصد دلالة اللفظ عليها ، وتارة يستفاد ولو مع عدم القصد. والثاني خارج عن المفهوم. وأمّا القسم الأوّل ، فإن كان الحكم المستفاد من الكلام المنطوق به مفاده مفاد قولك : « لا غير » كما في مفهوم المخالفة ، كما يقال : « زيد قائم غير عمرو » أو كان الحكم ثابتا للغير على وجه الترقّي ـ كما في مفهوم الموافقة ـ فهو المفهوم بقسميه ، وإلاّ فهو من المنطوق. فاستقرّ اصطلاحهم على تسمية هذا النوع من المدلول الالتزامي بالمفهوم ، وذلك شامل لجميع المفاهيم. أمّا مفهوم الشرط فلأنّ المقصود منه نفي تحقّق الجزاء عند غير الشرط ، كمفهوم الوصف واللقب والحصر ، سواء كان من قبيل قصر الصفة أو قصر الموصوف ، وكمفهوم الغاية فإنّ المقصود فيه نفي وجود الحكم فيما بعد الغاية ، فيكون الحكم ثابتا قبلها لا غير.

١٦

ولا يرد النقض بدلالة الإشارة ، فإنّ المستفاد من الآيتين هو الحكم بأنّ أقلّ الحمل ستّة ، ولا دلالة فيهما على نفي الحكم عن الغير أو الإثبات له على وجه الترقّي ، ولا بدلالة الأمر على الوجوب أو على وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ. وكلّ ذلك ظاهر في الغاية.

ويمكن أن يعرّف المفهوم حينئذ بـ « أنّه حكم افيد لغير المذكور » سواء كان مغايرا في النفي والإثبات أو موافقا ، كما هو قضيّة إطلاق الحكم ، فيشمل لكلا قسمي المفهوم.

والوجه في تبديل « الدلالة » بـ « الإفادة » إخراج ما لا يكون مقصودا من اللوازم. والمراد بكونه حكما لغير المذكور هو كونه ثابتا له على أحد الوجهين المتقدّمين. والمراد بغير المذكور هو الموضوع الذي سيق له الحكم.

وتوضيحه : أنّ المراد بـ « الموضوع » في المقام وأمثاله ليس خصوص المبتدأ أو الفاعل في الجملة الخبريّة ، بل كلّ ما يتعلّق بالحكم من المتعلّقات : من الظرف والغاية والفاعل والمفعول ونحوها من الامور المذكورة في القضيّة التي يمكن الإخبار عنها بالحكم ، كأن يقال في الظرف : « إنّ الدار مضروب فيها » ونحو ذلك ، فقولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » يشمل على حكم هو الوجوب ، وموضوعات عديدة هي : المجيء ، والمخاطب ، وزيد ، والإكرام ، فإذا سيق الكلام المزبور لبيان نفي الحكم عن غير الإكرام ، يكون المراد به : إن جاءك زيد فلا يجب غير الإكرام ، وحينئذ يكون من مفهوم اللقب ، والموضوع « غير الإكرام » وهو غير مذكور. ومثله لو سيق الكلام لنفي الحكم عن غير زيد أو المخاطب. وإذا سيق الكلام المزبور لنفي الوجوب عند عدم المجيء يكون من مفهوم الشرط.

١٧

ومن هنا تعرف أنّه لو أريد من آية « النبأ » (١) نفي الحكم عن مجيء غير الفاسق يكون من مفهوم الوصف أو اللقب ، وإن اريد نفي الحكم عن عدم مجيء الفاسق يكون من مفهوم الشرط.

وبالجملة : فتشخيص الموضوع في القضايا موقوف على تشخيص ما سيق لأجله الكلام المذكور. ولعمري! إنّه غاية ما يمكن أن يقال ، إلاّ أنّه بعد إحالة على على المجهول.

والأولى أنّ الحدود المذكورة إنّما هي حدود لفظيّة لا عبرة بها بعد تميّز المعنى المقصود عن غيره ، كما ذكرنا وجه التميّز.

مع أنّه لا يكاد يظهر الثمرة في تشخيص مصاديق المفهوم عن المنطوق ، عدا ما قيل : من تقدّم المنطوق على غيره. وفيه : أنّ المناط في التقديم على قوّة الدلالة لا على التسمية ، والقوّة غير مخفيّة.

نعم ، تظهر الثمرة فيما لو اشتمل على أحد اللفظين عنوان من عناوين الأدلّة مع إرادة المعنى المصطلح ، ولكنّه لا يكاد يوجد.

الخامس : قسّموا المنطوق إلى صريح وغيره ، وعدّوا المدلول المطابقي من الأوّل اتّفاقا ، وألحق بعضهم (٢) التضمّني به.

فإن كان ذلك اصطلاحا منهم ، فلا مشاحة. وإن كان ذلك بواسطة حصول ما هو المناط في التسمية ، فالأولى إلحاقه بالالتزامي الغير الصريح ؛ ضرورة أنّ وجه الانتقال إلى المدلول التضمّني والالتزامي واحد ، وهو الملازمة بين المعنى المطابقي وغيره ، غاية الأمر أنّ اللازم في أحدهما داخل وفي الآخر خارج ، وذلك لا يوجب الاختلاف في الصراحة.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) انظر إشارات الاصول ، الورقة : ٢٣٣ ، وشرح مختصر الاصول : ٣٠٧.

١٨

ودعوى : أنّ الدلالة التضمّنية أظهر من الالتزاميّة ، ممنوعة. كيف! وبعض اللوازم أظهر من بعض المداليل التضمّنية ؛ فإنّ دلالة العمى على البصر أظهر من دلالة الإنسان على الحيوان أو الناطق.

١٩
٢٠