مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

أمّا أوّلا : فلأنّ المقصود بالوضوء ـ كما علم ذلك بالدليل ـ ليس إلاّ رفع الحدث ، وهي الحالة المانعة عن الدخول فيما هو مشروط بعدمها ، ولا شكّ أنّها بعد ارتفاعها بوضوء واحد لا يقبل المحلّ لوضوء آخر يقصد به رفع تلك الحالة ، فيكون ذلك من قبيل ما لا يقبل التكرار ، الخارج عن المتنازع فيه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إثبات المعرّفية في الوضوء لا يجدي في إثباتها في غيره إلاّ على وجه القياس ولا نقول به. سلّمنا أنّ الأسباب الشرعيّة معرّفات ، لكن ذلك يلازم تعدّد الأثر ؛ لامتناع توارد المعرّفات على معرّف واحد ، فتعدّد المعرّف كاشف عن تعدّد المعرّف. ولا ينافي ذلك عدم دلالة تعدّد اللوازم على تعدّد الملزومات ، حيث إنّ ذلك إنّما يكون فيما إذا لم يقصد بها الاستكشاف.

فإن قلت : نعم ، ولكنّه معرّف شأني. قلنا : ظاهر الدليل فعليّة المعرفيّة.

ومنه يظهر فساد ما أفاده في التعليقة : من أنّ السببيّة الشرعيّة لا تنافي عدم فعليّة التأثير ، لصدق السببيّة الشرعيّة مع شأنيّة التأثير قطعا ، كما في مسألة الأحداث (١). وجه الفساد : أنّه إن اريد بذلك الفرق بين الأسباب العاديّة والشرعيّة لعدم منافاتها للفعليّة في الثاني دون الأوّل ، فهو كلام خال عن التحصيل ، إذ لا يعقل الفرق بينهما. وإن اريد به منع ظهور دليل السببيّة في الفعليّة فقد يظهر فساده بالرجوع إلى العرف. فكيف كان ، فلا نعرف وجها للدعوى المذكورة عدا ما عرفت من مسألة تعاقب الأحداث وأشباهها ممّا لا دلالة فيها عليها.

نعم ، يظهر من بعض الأجلّة الاستناد إلى وجه آخر في الدعوى المذكورة ، حيث قال ـ في دفع ما استشكل على القول بحجيّة المنصوص العلّة من أنّه ينافي القول بأنّ « علل الشرع معرّفات » ـ : إنّ علل الشرع على ضربين ، الأوّل : العلل

__________________

(١) هداية المسترشدين ١ : ٧١٢.

٦١

المجعولة في الشرع عللا وأسبابا لأحكام مخصوصة ، كالأحداث للطهارة ، وأسباب الكفّارة والعقود والإيقاعات لما يترتّب عليها ، فإنّها معرّفات لها ، وليست عللا حقيقيّة ، لانحصارها في الأربع. وعدم كونها من الماديّة والصوريّة واضح ، وكذا عدم كونها من الفاعليّة ، لاستناد جعل الأحكام الشرعيّة إليه تعالى ، لا إلى تلك الأسباب ؛ وكذا عدم كونها الغائيّة ، لظهور أن ليس المقصود بوضع تلك الأحكام ترتّب تلك الأسباب عليها. الثاني : العلل التي هي منشأ حكم الحكيم وجهات حسن تشريعه وما يستند إليه مطلوبيّة الفعل أو مبغوضيته ، كإسكار الخمر الموجب لمبغوضيّتها. وهذه العلل علل حقيقيّة ، إذ مرجعها إلى العلّة الغائيّة ، فإنّ المقصود من تحريم الخمر حفظ المكلّف عن السكر وفساد العقل. ثمّ حمل قولهم بأنّها معرّفات على القسم الأوّل ، وجعل مبنى القول بحجيّة المنصوص العلّة (١) القسم الثاني (٢). انتهى كلامه ـ رفع مقامه ـ ملخّصا.

وفيه أوّلا : أنّه لا وجه للإشكال المذكور ، إذ القول بالمعرّفيّة لا ينافي الحجيّة ، إذ لا ضير في كون الإسكار كاشفا عن علّة التحريم مع اطّراد الحكم. نعم ، لو قيل بكونها عللا ناقصة تمّ الإشكال المذكور ، ولا مدفع له.

وثانيا : أنّ ما استند إليه في نفي كونها عللا حقيقيّة من انحصارها في الأربع غير مستقيم ؛ أمّا أولا : فلأنّ دعوى الانحصار فيها باطلة ، كما أذعن به جماعة ، منهم شارح المقاصد حيث قال ـ بعد تقسيم الخارج إلى ما به الشيء وهي الفاعليّة ، وإلى ما لأجله الشيء وهي الغائيّة ـ : لا دليل على انحصاره فيهما سوى الاستقراء (٣) ، وهو أيضا ممنوع ، فإنّ موضوع العرض خارج لا فاعل ولا غاية.

__________________

(١) في ( ع ) زيادة : « على ».

(٢) الفصول : ٣٨٥.

(٣) إلى هنا تمّ كلام شارح المقاصد ، راجع شرح المقاصد ٢ : ٧٨.

٦٢

ثانيا : سلّمنا الانحصار ، ولكنّا نقول : إنّها علل فاعليّة كما أنّ حركة اليد علّة فاعليّة لحركة المفتاح ، بل ولا بدّ من تعميم العلّة الفاعليّة على وجه يدخل فيها الشروط والآلات ، كما صنعه بعضهم (١).

قوله (٢) : « لاستناد جعل الأحكام إليه تعالى ، لا إلى تلك الأسباب ».

فيه من الخلط ما لا يخفى ، سيّما على ما زعمه من مجعوليّة الأحكام الوضعيّة بنفسها ، فإنّه تعالى جاعل لسببيّة تلك الأسباب ، وأين ذلك من استناد المسبّبات لتلك الأسباب إليها ، فإنّ شرعيّة السبب لا تنافي استناد المسبّب إليه بعد تشريع السببيّة.

ثمّ لا يخفى ما فيما أفاده من نفي كونها من الغائيّة.

ثمّ إنّ ما أفاده في القسم الثاني من أنّها علل حقيقيّة ، لا وجه له على ما زعمه.

قوله : « إذ مرجعها إلى العلّة الغائيّة ».

فيه : أنّه لا يعقل أن يكون الإسكار غاية لحرمة الخمر. وكون المقصود من تحريم الخمر حفظ المكلّف عن فساد العقل ممّا لا ربط له بالمقام لظهور الفرق بين داعى التحريم وهو الحفظ وبين غاية الحرمة التي هي معلول الإسكار.

وتوضيحه : أنّ العلّة الغائيّة هي علّة فاعليّة الفاعل وسبب ترجيح الفاعل أحد طرفي المقدور ، فمعلولها لا بدّ أن يكون فعلا من الأفعال. وما ذكره إنّما يصحّ غاية للتكليف الذي هو فعل المكلّف ، ولا دخل له بما نحن بصدده من فرض علّيّة الإسكار للحرمة التي هي من الأوصاف دون الأفعال ، وذلك ظاهر في الغاية.

__________________

(١) وهو التفتازاني في شرح المقاصد ٢ : ٧٨.

(٢) أي : صاحب الفصول.

٦٣

ثمّ انّ هذا المستدلّ ذكر في خلال بيان اجتماع العلل ما ملخّصه : ولو لم يكن الحكم قابلا للشدّة والضعف أو كان وعلم عدم الاشتداد بدليل جاز أن يكون علّيّة الثاني مشروطة بعدم سبق المتقدّم فيكون الثاني معرّفا وكاشفا محضا (١) ، انتهى.

أقول : ولعلّه أخذه من أخيه البارع في تعليقاته حيث قال ـ على ما تقدّم نقله ـ : لا مانع من كون المسبّب (٢) الثاني معرّفا وكاشفا عن المسبّب الأول (٣). وما أفاده ليس في محلّه ؛ فإنّه لا يعقل القول بأنّ الشيء إذا لم يكن مسبوقا بمثله فهو سبب وإذا كان فهو معرّف ؛ لاستواء الحالتين بالنسبة إلى دليل السببيّة ، فإن اقتضى السببيّة فالقول بالمعرفيّة لا وجه له ، وإن اقتضى المعرفيّة فلا وجه للقول بالسببيّة.

وتوضيح ذلك : أنّ الأسباب الشرعيّة ليست إلاّ كالأسباب العقليّة سواء كانت من جنس واحد أو من أجناس مختلفة ، لرجوع الكلّ إلى سببيّة القدر المشترك ، ضرورة امتناع اجتماع العلل على معلول واحد ، فإذا تواردت على شيء واحد غير قابل للتعدّد يمتنع تأثير الثاني ، لامتناع تحصيل الحاصل لو كان الأثر هو الأثر الحاصل بالأوّل ، وامتناع اجتماع الأمثال لو كان غيره ، فعدم تأثير السبب الثاني ليس بواسطة تصرّف لفظي في دليل السببيّة كما هو المشاهد في الأسباب العقليّة ، بل بواسطة عدم قابليّة المحل لحصول الأثر ، وذلك لا يقضي بالكاشفيّة (٤) ، فلا وجه للقول بأنّ السبب كاشف. نعم ، هو سبب شأنيّ لمقارنته

__________________

(١) الفصول : ٣٨٥.

(٢) في ( ع ) و ( ط ) : « السبب » وما أثبتناه من المصدر.

(٣) تقدّم في الصفحة : ٥٩.

(٤) في ( ع ) : « لا يقتضي الكاشفيّة ».

٦٤

وجود المانع عن التأثير ، وهو حصول الأثر في المحل. وكيف كان ، ففساد هذه الدعوى ظاهر لمن تأمّل الأسباب العقليّة والعاديّة.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما زعمه أخيرا من احتمال عدم اشتراط السبق ، كما أفاده أوّلا ، حيث قال : وجاز أن لا تكون مشروطة به فيشترط حينئذ استدامة التأثير به ، فيكون العلّة بعد تحقّقه هو والسابق ، كما في صورة التوارد في زمان واحد. والأسبقيّة لا تصلح للترجيح حينئذ ، لأنّ العلّيّة إذا كانت مستدامة كانت بالنسبة إلى كلّ زمان كالعلّة الابتدائيّة (١). والظاهر أنّه أراد بما أفاده أنّه يلتزم بتعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب المتعاقبة ، لكن بواسطة اعتبار الزمان جزءا من المسبّب ، فالحدث الحاصل في القطعة الاولى من الزمان مسبّب عن النوم الأوّل مثلا وفي الثانية عن الثاني وهكذا ... وإن كانت العبارة غير خالية عن حزازة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وجه الفساد : أنّ بعد ما عرفت من العلاج لا حاجة إلى هذه التكلّفات التي لا يساعدها اعتبار ، فإنّ استفادة هذه التقييدات من دليل السببيّة فيما إذا كان لفظا ممّا لا سبيل إليها ، وإذا كان عقلا ـ كما في الأسباب العقليّة ـ يلزم تخلّف المعلول عن العلّة ، إذ المفروض أنّ السبب الأوّل إذا لم يتعاقبه السبب الثاني يكفي في الاستدامة أيضا ، فلحوق الثاني لا يترتّب عليه شيء قطعا ، وذلك ظاهر.

الثاني من الأمرين (٢) اللذين يمكن الاستناد إليهما في منع المقدّمة الاولى من الدليل المذكور : ما يمكن استظهاره ممّا قدّمنا.

__________________

(١) الفصول : ٣٨٥.

(٢) تقدّم أولهما في الصفحة : ٥٩.

٦٥

ومحصّله : أنّ قضيّة القواعد اللفظيّة فيما نحن بصدده وحدة الأثر والتكليف ؛ وذلك لأنّ اللفظ الواقع في الجزاء موضوع للطبيعة المرسلة التي لا يشوبها شوب التعدّد ـ كما هو المختار في وضع (١) اسم الجنس ـ ولا شكّ أنّ الماهيّة في تلك المرتبة واحدة فلا تتحمّل وجوبين ، إذ لا فرق في امتناع الأمثال بين أن يكون الوحدة شخصيّة أو نوعيّة ، فعند تعدّد الأسباب لا دليل على تعدّد الآثار والتكاليف ، لعدم صلاحيّة الفعل المتعلّق للتكليف المدلول عليه باللفظ المأخوذ في الجزاء للتعدّد ؛ ولذلك قلنا : عند تعدّد الأوامر الابتدائيّة لا دليل على ترجيح التأسيس على التأكيد ، فإنّ التأكيد (٢) بمقتضى اللفظ بعد كونه معنى انتزاعيّا.

لا يقال : إنّ كون الماهيّة في تلك المرتبة متّحدة لا يجدي في دعوى الاتّحاد ، لأنّ الوحدة أيضا خارجة عنها وإن كانت متّصفة بها حقيقة ، فمدلول اللفظ لا ينافي الكثرة.

لأنّا نقول : عدم دلالة اللفظ على الكثرة كاف في المدّعى ، لإثبات الوحدة بالأصل عند عدم الدليل على خلافها.

أقول : إنّ بعد الاعتراف بأنّ اللفظ الواقع في الجزاء إنّما هو موضوع لنفس الماهيّة الخارجة عنها الوحدة وغيرها من أوصاف الماهيّة ، لا ينبغي الارتياب في تعدّد الأثر والتكليف ؛ إذ الوحدة لا وجه لها حينئذ إلاّ الأصل ، وهو لا يقاوم الدليل ، وهو ظهور دليل السببيّة في الفعليّة ، ولازمها التعدّد في المحلّ القابل ، والمفروض قابليّة المحلّ أيضا ، لعدم مدخليّة الوحدة النوعيّة في الموضوع له.

__________________

(١) في ( ع ) : « موضوع ».

(٢) لم يرد « فإنّ التأكيد » في ( ع ).

٦٦

فإن قلت : على تقدير التعدّد لا بدّ من تقييد إطلاق المسبّب أيضا ، فإنّ المطلوب في الثاني ليس نفس المطلوب في الأوّل ، بل لا بدّ أن يكون مغايرا ، فيؤول الأمر إلى القول بأنّ المطلوب هو الفرد المغاير للفرد الأوّل المطلوب بالسبب الأوّل ، ولا شكّ أنّ ذلك تقييد ، وأصالة الإطلاق محكّمة عند الشكّ.

قلت : نعم ، ولكن ذلك التقييد ليس في عرض ظهور دليل السببيّة في الفعليّة ، بل إنّما يقضي به العقل بعد الأخذ بذلك الظهور.

وتوضيح المطلب : أنّ الاستناد إلى الإطلاق ليس بواسطة عدم البيان وانتفاء ما يقضي التقييد ، وبعد وجود ما يصلح له لا وجه للقول بمعارضة ظهور الإطلاق لظهور ذلك الصالح ، فإنّه بيان له كما قرّر في محلّه ، فبعد ما فرضنا من ظهور دليل السببيّة في الفعليّة لا بدّ من ذلك التقييد ، لأنّ ذلك الظهور دليل على التقييد.

ومن هنا يظهر أنّه لا يقاس حال الأوامر الابتدائيّة بما نحن بصدده ، فإنّ مجرّد قابليّة الفعل المتعلّق للأمر لا يقتضي التعدّد كما هو الحال فيها ، بل لا بدّ من أمر آخر يقضي به ، كما في تعدّد الأسباب ، فظهر الفرق وبطل القياس.

ومن الغريب! ما وقع عن بعض الاعلام (١) : من تسليم ظهور الأوامر الابتدائيّة في التعدّد دون ما نحن فيه ، مع ما عرفت من أنّ التحقيق على خلافه.

ثم إنّه بما ذكرنا أيضا يظهر فساد ما توهّم بعضهم (٢) : من أنّ المسبّب الثاني لا بدّ أن يكون مغايرا للمسبّب الأوّل ؛ إذ على تقدير التغاير يلزم استعمال اللفظ في

__________________

(١) وهو صاحب هداية المسترشدين كما سيجيء في الصفحة : ٧٢.

(٢) عوائد الأيام : ٣٠٠ ، العائدة ٣١.

٦٧

معنييه. بيان اللزوم هو : أنّ قولك : « إن سلّم عليك زيد فأكرمه » يراد من الإكرام طبيعة الإكرام عند انفراد السلام ، وإذا انضمّ إليه فرد آخر من السلام لا بدّ أن يراد منه الفرد المغاير ، وهو معنى مجازي للإكرام ، وهو المراد باللازم.

وجه الفساد : أنّ لفظ « الاكرام » لا يراد به إلاّ نفس الطبيعة ، وهذه التصرّفات ممّا يدلّ عليه العقل في مقام امتثال الأمر المتعلّق بتلك الطبيعة ، ألا ترى أنّه لو صرّح الآمر بأنّ المطلوب هو تعدّد الوجودات عند تعدّد الأفراد المندرجة في السبب ، لا يعدّ ذلك قرينة على الاستعمال المذكور ، ولو كان كما زعمه يلزمه وقوع ذلك الاستعمال في جميع الموارد التي ثبت فيها عدم التداخل ، ولا أظنّه راضيا بذلك.

هذا محصّل الكلام في إثبات المقدّمة القائلة بأنّ السبب الثاني لا بدّ وأنّ يكون مؤثّرا.

وأمّا المقدّمة الثانية (١) التي يطلب فيها مغايرة الأثر الحاصل من السبب الأوّل للأثر الحاصل من الثاني ، فمنعها جماعة ، منهم المحقّق النراقي.

قال في محكيّ العوائد ـ بعد ما نقلنا منه من دعوى معرّفيّة الأسباب الشرعيّة ، ولا ضير في تواردها نظرا إلى إمكان ذلك في الموجود الذهني ـ ما محصّله : إنّه لا شكّ في أنّ الأسباب الشرعيّة علل للأحكام المتعلّقة لأفعال المكلّف ، لا لنفس الأفعال ؛ ضرورة لزوم الانفكاك على تقدير علّيّتها لها لا لأحكامها ، فتعدّدها لا يوجب تعدّد الفعل ، وإنّما يوجب تعدّد معلولها وهو الوجوب ، وتعدّد الوجوب لا دلالة فيه على وجوب إيجاد الفعل متعدّدا ، لإمكان تعلّق فردين من حكم بفعل واحد ، كما في الإفطار بالحرام في نهار

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة : ٥٩.

٦٨

رمضان وقتل زيد القاتل المرتدّ (١) ، انتهى ملخّصا.

وأشعر به بعض الأعلام أيضا ، حيث قال : إنّ تعدّد التكليف بنفسه لا يقتضي تعدّد المكلّف به إلاّ أن ينضمّ إليه ظهور عرفي (٢). انتهى.

أقول : بعد تسليم أنّ الأسباب الشرعيّة أسباب حقيقيّة كالأسباب العقليّة والعاديّة لا وجه لما ذكره ، وتحقيقه : أنّا نلتزم بأنّ الأسباب الشرعيّة أسباب لنفس الأحكام لا لمتعلّقاتها ، ومع ذلك يجب تعدّد إيجاد الفعل في الخارج كما هو المطلوب ، فإنّ المسبّب حينئذ يكون هو اشتغال الذمّة بإيجاد الفعل ، ولا شكّ أنّ السبب الأوّل يقتضي ذلك ، فإذا فرضنا وجود مثله فيوجب استعمالا آخر ، إذ لو لم يقتض ذلك فإمّا أن يكون بواسطة نقص في السبب أو في المسبّب ، وليس شيء منهما. أمّا الأوّل : فلما هو المفروض ، وأمّا الثاني : فلأنّ قبول الاشتغال للتعدّد وعدمه إنّما هو تابع لقبول الفعل المتعلّق له وعدمه كما هو ظاهر للمتأمّل ، والمفروض قبوله للتعدّد ، إذ لا وحدة فيها لا شخصا ولا نوعا ، كما قرّرنا.

قولك : « يمكن تعلّق فردين من حكم بفعل واحد ».

نقول : ذلك إنّما هو بواسطة وحدة المحلّ وعدم قبوله للتعدّد ، فإنّ الإفطار بالحرام فعل خاصّ لا يحتمل التعدّد فلا يتحمّل وجوبين إلاّ على وجه التأكيد واضمحلال الضعيف في الشديد على وجه لا يكون هناك فردان من الوجوب ، لامتناع اجتماع الأمثال ، فلا يقاس ذلك بما إذا كان المحلّ قابلا.

__________________

(١) عوائد الأيام : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٢) الظاهر أن المراد من بعض الأعلام هو صاحب هداية المسترشدين ، كما عبّر عنه في الصفحة ٧٢ وغيرها ، ولكن لم نعثر على العبارة بعينها في الهداية ، نعم يوجد ما يفيد ذلك ، راجع هداية المسترشدين ١ : ٧٠٨ ـ ٧١٢.

٦٩

فإن قلت : إذا كان التأكيد معقولا فلا مانع من احتماله في المحلّ القابل أيضا ، فعلى المستدلّ رفع ذلك الاحتمال بالدليل.

قلت : إنّ ملاحظة الأسباب العقليّة رافعة لهذا الاحتمال ، فإنّه إذا فرضنا سببيّة كلّيّ لكلّيّ آخر قابل للتعدّد لا يعقل التأكيد ، إذ على تقديره لا دليل على وجود الأفراد المتعدّدة ، مع أنّه مشاهد بالعيان في الأسباب العقليّة. فظهر أنّ المانع إنّما هو اعتبار وحدة المحلّ سواء كانت الوحدة شخصيّة أو نوعيّة. والحاصل أنّ السبب الأوّل يقتضي اشتغال ذمّة المكلّف بإيجاد الطبيعة المهملة ، والمفروض مماثلة السبب الثاني للأوّل في التأثير والمسبّب ، فيقتضي اشتغال الذمّة تارة اخرى ، كما في الأسباب العقليّة.

نعم ، ما ذكره يتمّ في الأوامر الابتدائيّة مع قبول المحلّ أيضا ، لأنّ مجرّد القابليّة غير قاضية بالتعدّد ، بل إنّما يحتاج إلى ما يقتضيه ، والاشتغال الحاصل بالأمر الثاني فيها لا نسلّم مغايرته للأمر الأوّل حتّى يكون مقتضيا للتعدّد ، لاحتمال التأكيد الموافق لظاهر الأمر بالطبيعة ، كما أشرنا إليه سابقا.

هذا إن اريد من التأكيد المحتمل في المقام تأكيد مرتبة الطلب والوجوب وإن كان حصوله بواسطة لحوق جهة مغايرة للجهة الاولى ، كما في التأكيد الحاصل بالتحريم للإفطار في نهار رمضان من جهتين. وإن اريد التأكيد نحو الحاصل في الأوامر المتعدّدة الابتدائيّة كالأوامر المتعلّقة بالصلاة في الكتاب والسنّة ، ففساده أظهر من أن يخفى وإن كان يوهمه بعض عباراتهم ويتعاطونه طلبة عصرنا ، فإنّ الأمر الثاني مرتّب على الأمر الأوّل ووارد في مورده في التأكيدات ، كما هو ظاهر. وذلك بخلاف ما نحن فيه ضرورة حصول الاشتغال والوجوب على وجه التعدّد قبل وجود السبب بنفس الكلام

٧٠

الدالّ على السببيّة ، فتكون تلك الوجوبات كلّ واحد منها في عرض الآخر ، فهناك إيجابات متعدّدة في موارد متعدّدة بواسطة الكلام الدالّ على السببيّة ، ويتفرّع عليها وجوبات متعدّدة على وجه التعليق ، وبعد حصول المعلّق عليه ـ وهو وجود السبب ـ يتحقّق الاشتغال بأفراد متعدّدة. ويمكن أن يجاب بالتزام أنّها أسباب لنفس الأفعال لا لأحكامها.

قوله : « ضرورة لزوم الانفكاك » (١).

قلنا : إنّ الجنابة ـ مثلا ـ سبب جعليّ لا عقليّ ولا عاديّ ، ومعنى السبب الجعلي هو أنّ لها نحو اقتضاء في نظر الجاعل للغسل مثلا على وجه لو انقدح في نفوسنا لكنّا جازمين بالسببيّة ، يكشف عن ذلك ملاحظة قولك لعبدك : « إذا جاء زيد من السفر فأضفه » فإنّ للضيافة نحو ارتباط بالمجيء ، فالقول بأنّها ليست بأسباب لنفس الأفعال ، لا وجه له ؛ ولذا اشتهر في الأفواه والألسن : أنّ أسباب الغسل والوضوء كذا. إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا يسمن (٢) فإنّ معنى جعليّة السبب ليس إلاّ مطلوبيّة المسبّب عند وجود السبب.

والارتباط المدّعي بين الشرط والجزاء حيث يكون الجزاء (٣) من الأفعال الاختياريّة هو كون الشرط موردا لانتزاع أمر يصحّ جعله غاية للفعل المذكور ، كما يظهر بملاحظة قولك : « إذا قدم زيد من السفر فأضفه » فإنّ السفر مورد لما هو الغاية ولو على وجه انتزاعي كما لا يخفى ، فالتعويل في دفع المنع المذكور على ما ذكرنا.

__________________

(١) أي : قول المحقّق النراقي المتقدّم في الصفحة : ٦٨.

(٢) في ( ع ) : « لا يثمر ».

(٣) في ( ع ) : « الفعل ».

٧١

وأمّا الكلام في المقدّمة الثالثة (١) القائلة بأنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل ولا يكفي إيجاد فعل واحد في مقام فعلين ، فلم أر مصرّحا بدعوى الكفاية بعد تسليم المقدّمتين السابقتين.

نعم ، لا يبعد حمل كلام المحقّق الخوانساري (٢) على ذلك وإن احتمل رجوعه إلى منع الثانية أيضا ، حيث قال : إنّ الظاهر اقتضاء كلّ من الأسباب مسمّى الغسل ، وهو متحقّق في ضمن فرد واحد. ولا يخفى احتماله للوجهين.

وربما يمكن استفادته من بعض الأعلام أيضا ، فإنّه عوّل في استفادة التعدّد في الأوامر الابتدائيّة على ما هو خارج عن مقتضى اللفظ ، حيث أجاب عمّا أورد على نفسه : من أنّ قضيّة إطلاق المادّة عدم التعدّد لكفاية المسمّى فمن أين يجيء التقييد؟ بقوله : يمكن استناد ذلك إلى ضمّ أحد الأمرين إلى الآخر (٣) ، فإنّ الفرق بين الأوامر الابتدائيّة والمسبوقة بالأسباب من هذه الجهة غير معقول ، وإن كان يظهر منه الفرق لكن بدعوى ظهور الابتدائيّة في التعدّد دون العكس ، كما أشرنا إليه.

ومن الغريب! قوله في جواب السؤال المذكور : بل لا يبعد القول في المقام بإسناد الفهم المذكور إلى خصوص كلّ من الأمرين ، لقضاء كلّ منهما باستقلاله في إيجاب الطبيعة ووجوب الإتيان بها من جهته ، وقضيّة ذلك تعدّد الواجبين المقتضي للزوم الإتيان بهما كذلك (٤). فإنّ دعوى ذلك في غير ذوات الأسباب لا أعرف الوجه فيها.

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة : ٥٩.

(٢) مشارق الشموس : ٦٨.

(٣ و ٤) هداية المسترشدين ١ : ٧٠٤.

٧٢

وكيف كان ، فيحتمل رجوع هذه الكلمات إلى المقدّمة الثانية ، كما يحتمل رجوعها إلى الثالثة ، وعلى الأوّل فقد استوفينا ما عندنا ، وعلى الثاني نقول : قد قرّرنا في المقدّمة السابقة أنّ متعلّق التكاليف حينئذ هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل ، ولا يعقل تداخل فردين من ماهيّة واحدة ، بل ولا يعقل ورود دليل على التداخل أيضا على ذلك التقدير ، إلاّ أن يكون ناسخا لحكم السببيّة.

وأمّا تداخل الأغسال فبواسطة تداخل ماهيّاتها ، كما كشف عنه رواية الحقوق (١) ، مثل تداخل الإكرام والضيافة فيما إذا قيل : « إذا جاء زيد فأكرم عالما وإن سلّم عليك فأضف هاشميّا » فعند وجود السببين يمكن الاكتفاء بإكرام العالم الهاشمي على وجه الضيافة فيما لو قصد امتثال الأمرين في التعبّديّات ، وأين ذلك من تداخل الفردين؟

لا يقال : إنّ تعدّد الأسباب يحتمل أن يكون كاشفا عن تعدّد ماهيّات المسبّبات أيضا ، فيصحّ دعوى الاكتفاء.

لأنّا نقول : ظهور لفظ المسبّب في ماهيّة واحدة ممّا لا يقبل الإنكار. ولو سلّمنا فلا يجدي ، لعدم العلم بالتصادق لإمكان المباينة ، فالقاعدة قاضية بالتعدّد.

وما ذكرنا محصّل الدليل المذكور. ولهم وجوه أخر كلّها مزيّفة لا فائدة في إيرادها ، فليراجع الى فوائد السيّد السند بحر العلوم (٢). وممّا ذكرنا يظهر احتجاج القائل بالتداخل أيضا من الأصل وغيره ، فلا نطيل بالإعادة.

__________________

(١) راجع الوسائل ١ : ٥٢٦ ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث الأوّل.

(٢) الفوائد الاصوليّة : ١١٩.

٧٣

واحتجّ ابن إدريس رحمه‌الله على ما ذهب إليه من التفصيل ـ من التعدّد عند اختلاف الأجناس وعدمه عند الاتّحاد ـ بدعوى الصدق على الثاني ، وبإطلاق السببيّة على الأوّل.

قال في محكيّ السرائر في مسألة تكرّر الكفّارة عند تكرّر وطء الحائض ـ بعد أن اختار العدم ـ : الأصل براءة الذمّة ، وأمّا العموم فلا يصحّ التعلّق به في مثل هذه المواضع ، لأنّ هذه أسماء أجناس (١). وقال في بحث السجود ما يظهر منه الوجه المذكور ـ إلى أن قال ـ : فأمّا إذا اختلف الجنس فالأولى عندي بل الواجب الإتيان عند كلّ جنس بسجدتي السهو ، لعدم الدليل على تداخل الأجناس (٢) ، انتهى.

والإنصاف أنّه لا وجه للتفصيل المزبور ؛ إذ بعد الإذعان بامتناع توارد الأسباب والعلل على معلول واحد ، لا بدّ من القول بأنّ العلّة هو القدر المشترك بين تلك الأجناس المختلفة على وجه لا مدخليّة لخصوصيّات تلك الأجناس ، كما لا مدخليّة لخصوصيّات أفراد تلك الأجناس وأشخاصها ، على ما أشرنا إلى تحقيقه إجمالا. وحينئذ فإمّا نقول بعدم التداخل نظرا إلى الدليل المذكور ، أو لا نقول بواسطة تطرّق المنع إلى إحدى مقدّماته. وعلى التقديرين لا وجه للتفصيل ، فدعوى الصدق في متّحد الجنس تناقض دعوى الإطلاق في متعدّده.

__________________

(١) السرائر ١ : ١٤٤.

(٢) السرائر ١ : ٢٥٨.

٧٤

فائدتان

الأولى : قد سبق أنّ التداخل تارة سببيّ ومرجعه إلى : دعوى عدم تعدّد الأوامر والآثار والاشتغال والتكليف ، واخرى مسببيّ ومرجعه إلى : دعوى صدق الامتثال والاكتفاء بفرد واحد عند تعدّد التكاليف والاشتغالات.

فعلى الأوّل ، تعدّد الفعل في الخارج بقصد المشروعيّة غير جائز ، لعدم الدليل على ذلك حينئذ ، فيكون تشريعا محرّما.

وعلى الثاني ، فإمّا يكون الفرد الذي يراد الاكتفاء به في مقام امتثال التكاليف مجمعا لعناوين الأفعال التي تعلّق التكليف بها ولو عند عدم إرادة اجتماع تلك العناوين ، كما فيما فرضنا من مثال العالم الهاشمي ، وإمّا أن لا يكون كذلك ، بل الاجتماع موقوف على القصد وإرادته. فعلى الأوّل أيضا لا يجوز إيجاد الفعل في الخارج متعدّدا إلاّ إذا كان أحدهما أو كلاهما عبادة مع عدم قصد الإطاعة فإنّه حينئذ يجب إيجاده متعدّدا لتوقّف الامتثال عليه. وعلى الثاني فالتعدّد وعدمه موقوف على القصد ، فمن قصد إيجاد عنوانين من عناوين الفعل لا يجوز له تكرارهما ، بخلاف العنوان الغير المقصود ، فإنّه يجوز ترك الفعل قصدا إلى ذلك العنوان. وإلى ذلك أشرنا في صدر المسألة (١) ، حيث قلنا : إنّ التداخل على الأوّل عزيمة وعلى الثاني رخصة.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون المسبّب من التوصّليّات أو من التعبّديّات ، إذ بعد ما عرفت من أنّ المطلوب هو تكرّر وجودات الفعل على تقدير عدم تداخل الأسباب ، لا بدّ من إيجاد الفعل التوصّلي مرّتين.

__________________

(١) راجع الصفحة : ٥٢.

٧٥

وما يتوهّم : من أنّه على تقدير التوصّليّة لا يجب ذلك لحصول المطلوب بالمرّة الاولى فيكون التداخل عزيمة ، فاسدة جدّا ؛ لأنّ قضيّة التوصّليّة ليست إلاّ عدم اعتبار قصد الامتثال فيه ، ولا مدخل لها في لزوم إيجاد الفعل مرّتين وعدمه كما هو المقصود في المقام.

نعم ، يثمر التوصّليّة فيما إذا كان هناك عنوانان ، أحدهما مسبّب والآخر مأمور به ابتداء ، كالوضوء المسبّب عن أحد أسبابه وغسل موضع الوضوء إذا كان نجسا ولم نشترط سبق الطهارة ، فإنّه يمكن القول بأنّ العنوان الابتدائي حيث كان توصّليّا يحصل في ضمن العنوان المسبّب ولا يجوز تكراره عزيمة.

ومن هنا يظهر أنّه لا وجه لجعل هذه المسألة من موارد تداخل الأسباب ، فإنّ أحد العنوانين من الأوامر الابتدائيّة.

وممّا ذكرنا أيضا يظهر أنّه في مورد التداخل وعدمه لا وجه للاحتياط من جهة حصول المأمور به وعدمه ، إذ على تقدير التداخل في السبب فالأمر ظاهر من هذه الجهة ، وأمّا احتمال عدم تداخل الأسباب فهو يورث احتياطا آخر من جهة اخرى. وعلى تقدير تداخل المسبّبات ففيما لم يتوقّف على القصد فالأمر أيضا ظاهر ، وفيما توقّف عليه لا بدّ منه عند إرادة الاكتفاء ، وعند عدمه يلزم التعدّد فلا يبقى محلّ الاحتياط. نعم ، يبقى من حيث إنّ امتثال هذه المسألة من الاجتهاديّات النظريّة ، فيحسن الاحتياط من جهة الخروج عن شبهة الخلاف.

الثانية : قد يتعدّد الأسباب الشرعيّة وتتوارد على مسبّب واحد غير الفعل ، مثل اجتماع عقدي الأب والجدّ على البنت لزوجين ، واجتماع بيع الوكيل والمالك في صيغة واحدة من شخصين ، واجتماع وصايا عديدة على مال واحد لأشخاص ، ونحو ذلك من الموارد المختلفة المتشتّتة.

٧٦

ويظهر من مطاوي كلماتهم تارة الحكم بالسقوط من الطرفين ، كما في المثالين الأوّلين. واخرى الحكم بالتشريك كما في المثال الأخير.

ولم يظهر لنا وجه في ذلك إلاّ ما قد يقال : من أنّه لا بدّ من إعمال السببين بقدر الإمكان نظرا إلى إطلاق دليل السببيّة في مورد يقبل التشريك ، فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق دليل السببيّة. وقضيّة ذلك التشريك في الوصايا ، وفي مورد لا يقبل ذلك يحكم بالسقوط ، كما في عقد الوليّين على الصغيرة.

إلاّ أنّه مع ذلك فلا يشفي العليل ، إذ ـ بعد الغضّ عن عدم الاطّراد ، كما يظهر لمن راجع كلماتهم ـ يرد عليه : أنّ قضيّة القاعدة السقوط في جميع الموارد ، إذ بعد ما هو المقرّر من امتناع اجتماع العلل المتعدّدة لا بدّ من القول بأنّ العلّة هو القدر المشترك ، وأفراده إنّما هي علّة إذ لم تكن مسبوقة بأمثالها ، نظرا إلى امتناع اجتماع الأمثال وتحصيل الحاصل ، فإذا تقارن فردان من ماهيّة السبب لا وجه للقول بكلّ واحد منهما أو أحدهما سببا مؤثّرا ، لمقارنة كلّ واحد منهما مع ما يمنع عن استناد الأثر إليه.

فإن قلت : فعلى ذلك لا بدّ من القول بالسقوط فيما إذا عقد الوليّان على الصغيرة لشخص واحد ، لعين ما ذكر من وجود المانع.

قلت : السبب على ما عرفت هو القدر المشترك ، ولا عبرة بخصوص الوجودات ، ولا تعدّد في القدر المشترك ، فالوجودات الخاصّة مظاهر له ، فلا وجه للقول بالسقوط. اللهم إلاّ أن يقال : إنّ بناء العرف والعقلاء على التشريك فيما يقبل ذلك ، ونحن لم نحقّقه (١). إلاّ أنّ التشريك في خصوص الوصيّة لا يبعد الالتزام به ،

__________________

(١) كذا ، والمناسب : لم نتحقّقه.

٧٧

لظهور الفرق بينها وبين عقد الوليّين على صيغة واحدة من (١) شخصين ، فإنّ تعدّد الوصايا وإنشائها إنّما يكون على وجه التعدّد والاستقلال لأشخاص متعدّدة من دون أولها إلى رجوع غير معقول ، وحيث إنّ الموصي إنّما يكون في مقام الإفادة وليس لاغيا فيصرف إلى إرادة التشريك ، ولا يضرّ ذلك عدم صراحة اللفظ في التشريك لوسعة الدائرة في الوصيّة. نعم ، لو كان ذلك في البيع لم يكن البيع نافذا ، لاشتراطهم صراحة اللفظ في عقد البيع وغيره من العقود. فتأمّل في المقام ، فإنّه بعد محتاج إليه.

__________________

(١) في ( ع ) بدل « من » : « على ».

٧٨

هداية

الحقّ ـ كما عليه المشهور ـ أنّ إثبات حكم لذات مأخوذة مع بعض صفاتها لا يستلزم انتفاء ذلك الحكم عند انتفاء تلك الصفة.

وما ذكرنا في العنوان أولى ممّا ذكره غير واحد ، منهم الآمدي حيث قال : « اختلفوا في الخطاب الدالّ على حكم مرتبط باسم عامّ مقيّد بصفة خاصّة ... » (١).

وجه الأولويّة : أنّ ما ذكره لا يشمل ما إذا كان الموضوع وصفا من الأوصاف كأن يقال : « أكرم عالما » ودخوله فيما ذكرنا ظاهر ، حيث يصدق عليه أنّه إثبات حكم لذات ، سواء قلنا باعتبار الذات في المشتق أم لا ، وعلى الأوّل ظاهر ، وأمّا على الثاني فلأنّ النزاع يجري فيه على ذلك التقدير أيضا ، كما لا يخفى.

كما أنّ عنوان الآمدي أولى من عنوان غيره : من أنّ تعليق الحكم بالصفة لا يدلّ على انتفائه بانتفائها ؛ كما صنعه المحقّق القمّي رحمه‌الله (٢) ؛ لظهور أنّ اعتبار التعليق إنّما يناسب مفهوم الشرط ونحوه.

وقد يقال بخروج المثال المذكور عن محلّ النزاع. ولم يظهر وجهه. بل قيل بدخول الوصف الضمني في النزاع (٣) ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لأن يمتلئ بطن الرجل قيحا

__________________

(١) الإحكام في اصول الأحكام ٣ : ٨٠.

(٢) القوانين ١ : ١٧٨.

(٣) قاله صاحب هداية المسترشدين ٢ : ٤٦٩ ، وراجع مناهج الأحكام : ١٣٠ ، والقوانين ١ : ١٧٨ أيضا.

٧٩

خير من أن يمتلئ شعرا » (١) فإنّ امتلاء البطن كناية عن الشعر الكثير ، فيدلّ بمفهومه على عدم البأس بالشعر القليل. وهو ليس ببعيد ، لجريان مناط الأقوال فيه كما في الكلمات المتضمّنة معنى الشرط في النزاع السابق.

وهل الحال داخل في النزاع أو لا؟ صرّح بدخوله بعض الأفاضل (٢) إلاّ أنّ الظاهر من كلماتهم اختصاص النزاع بما كان قيدا للموضوع لا الحكم ، بل يحتمل إلحاقه بمفهوم الشرط ، فإنّ قولك : « اضرب زيدا قائما » بمنزلة قولك : « إن كان قائما فاضربه ».

والإنصاف أنّ مناط الأقوال موجود فيه ، بل ربما يحكى عن بعضهم (٣) عدّ جميع جهات التخصيص منه ، فالمعدود والمحدود موصوفان بالعدّ (٤) والحدّ ، إلاّ أنّ وجود المناط ممّا ينهض وجها للإلحاق لا للإدخال.

ولا فرق فيما ذكرنا بين اعتبار الوصف في كلام إنشائي أو خبري ، وما يوجد في بعض كلماتهم من الاختصاص فمحمول على المثال.

ثمّ إنّ الوصف قد يكون مساويا للموصوف ، وقد يكون أخصّ مطلقا ، وقد يكون أخصّ من وجه. فعلى الأوّل لا وجه للنزاع المذكور ، لعدم تحقّق موضوعه ، كما إذا كان أعمّ. وعلى الثاني فالنزاع جار. وعلى الثالث فهل يجري فيه النزاع بالنسبة إلى الافتراق من جانب الوصف كما يظهر من بعض الشافعيّة ـ حيث قال : إنّ قولنا : « في الغنم السائمة زكاة » يدلّ على عدم الزكاة

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٨٣ ، الباب ٥١ من أبواب صلاة الجمعة ، الحديث ٣.

(٢) وهو صاحب هداية المسترشدين ٢ : ٤٦٩.

(٣) لم نعثر عليه.

(٤) في ( ع ) : « بالعدد ».

٨٠