مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

ومنها : لزوم العسر والحرج في الاقتصار على تقليد الأفضل ، خصوصا إذا كان المراد به من كان أفضل عصره ، كما لعلّه الظاهر من كلام المانعين.

وفيه : أنّ العسر المدعى به إمّا أن يكون في تشخيص الأعلم ، أو في الرجوع إليه من البلدان النائية ، أو في العمل بفتاويهم. والجميع كما ترى قول ظاهريّ غير أصيل :

أمّا الأول ، فلأنّ تشخيص الأعلم ليس إلاّ كتشخيص أصل المجتهد ، فكما أنّ معرفة أصل الاجتهاد في تشخيص المجتهد ليس فيها العسر والحرج ، كذلك معرفة أعلميّته من غيره. وحلّه : أنّ الأعلميّة موضوعة (١) من الموضوعات المعروفة كالاجتهاد ، يمكن إحرازها بالرجوع إلى أهل الخبرة ، خصوصا بعد ملاحظة اعتبار مطلق الظن في تشخيص الأعلميّة دون الاجتهاد ، كما سيأتي.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الرجوع إلى الأعلم يتقدّر بقدر الإمكان الغير البالغ حدّ العسر والحرج ، فإن اقتدر على أخذ فتاوى الأعلم المطلق من غير عسر بلا واسطة الرسالة أو العدول ـ كما هو الغالب بعد فتح باب تأليف الرسائل وإيصالها إلى البلدان النائية ـ تعيّن الأخذ بها ، وإلاّ تعيّن الرجوع إلى غيره مراعاة للأفضل فالأفضل.

والحاصل : أنّ المراد بالأفضل وإن كان أفضل أهل عصره إلاّ أنّ المناط مطّرد في الأفضل الإضافي بعد تعذّر الأخذ من المطلق ، فلا حرج حينئذ في شيء.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : الموضوع.

٦٦١

وأمّا الثالث ، فلأنّ الأعلميّة لا تقتضي صعوبة العمل بالفتوى ، بل ربّما يكون العمل بفتاوى غير الأعلم أصعب ، لكثرة إفتائه بالاحتياط باعتبار عدم اقتداره على استخراج حكم المسألة مثل الأعلم ، خصوصا إذا كان خائضا في بحر التقوى والورع ، وهذا واضح.

وقد استدلّ على الجواز بوجوه أخر ضعيفة أعرضنا عنها ؛ لأنّ فيما ذكرنا غنية عن غيره.

[ وجوه القول بوجوب تقليد الأفضل ] :

حجّة المختار ـ زيادة عمّا سمعت من الأصل السالم عن المعارض ، والإجماعات ـ : الأخبار والاعتبار :

أمّا الأخبار : فمنها مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشايخ الثلاثة ، « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ـ إلى أن قال ـ : فإنّ كلّ واحد منها اختار رجلا من أصحابنا فتراضيا أن يكونا ناظرين في حقّهما ، فاختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر ... » (١).

دلّت على تقديم قول الأفقه والأصدق في الحديث على قول غيرهما عند الاختلاف في حكم الله تعالى.

لا يقال : المراد بالحكم هو فصل الخصومة بقرينة السؤال في منازعة الرجلين في دين أو ميراث ، فلا دلالة لها على تقديم فتوى الأفقه.

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ، الحديث ١٠ ، ومن لا يحضره الفقيه ٣ : ٨ ، الحديث ٣٢٣٣ ، والتهذيب ٦ : ٣٠١ ، الحديث ٨٤٥ ، وعنها في الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

٦٦٢

لأنّا نقول :

أوّلا : أنّ الظاهر عدم القول بالفصل بين الحكم والفتوى ، فكلّ من قال بتقديم حكم الأعلم قال بتقديم فتواه أيضا. وقد اعترف بهذا الإجماع صاحب المفاتيح (١) في ظاهر كلامه ؛ لأنّه اقتصر في المناقشة عليها : بأنّها لا تناول (٢) غير صورة اختلاف الحكمين فلا بدّ من ضميمة الإجماع المركّب ، وهو ممنوع. فلو كان التفصيل بين الفتوى والحكم ممكنا عنده لكان منع دلالتها على المدّعى في اختلاف الفتوى أولى بالمناقشة. اللهم إلاّ أن يكون الحكم المشتمل عليه الرواية عنده أعمّ من الفتوى ، فالمسألتان حينئذ من باب واحد متساويتا الأقدام في الاندراج تحت الحديث ، غير أنّ صورة عدم الاختلاف في الحكم الأعم من الفتوى يحتاج في ثبوت الحكم فيه إلى الإجماع المركّب الذي منعه. نعم ظاهر صاحب الإشارات (٣) عدم ثبوت الاجماع المركّب ، حيث حمل الحكم على الحكم المصطلح أعني القضاء. ثمّ استدلّ في تعارض الفتوى بالفحوى وتنقيح المناط ، وفي غير هذه الصورة لعدم (٤) القول بالفصل.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ إنكار هذا الإجماع مكابرة واضحة اعترف به شيخنا ( دام ظله العالي ) وهو كذلك. نعم ، الظاهر أنّه لا عكس ، فإنّ من يقول بوجوب تقليد الأعلم لعلّه لا يقول بوجوب المرافعة عند الأعلم وإن كان الحق خلافه كما ستعرف.

__________________

(١) مفاتيح الاصول : ٦٢٨ ، وانظر الصفحة ٦٣٢ أيضا.

(٢) كذا ، والأنسب : تتناول.

(٣) لم نعثر عليه.

(٤) كذا ، والمناسب : بعدم.

٦٦٣

وثانيا : أنّ المراد بالحكم في الرواية ليس ما هو المصطلح عليه عند الفقهاء أعني القضاء ، بل الظاهر أنّ المراد به المعنى اللغوي المتناول للفتوى مثل قوله تعالى في غير موضع : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ )(١) الآية. يدلّ على ذلك ـ زيادة على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ « الحكم » ـ : قول الراوي : « وكلاهما اختلفا في حديثكم » فانّ المتبادر كونه بيانا لاختلاف الحكم ، ومن الوضح : أنّ الاختلاف في نفس القضاء ليس اختلافا في الحديث. نعم الاختلاف في فتوى رواة عصر الإمام اختلاف في الحديث ؛ نظرا إلى اشتراك الفتاوى ورواياتهم في الاستناد إلى السماع عن الإمام عليه‌السلام عموما أو خصوصا ، فيكون الاختلاف في الفتوى اختلافا في الحديث ، وكذا يدلّ عليه قول الإمام عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أصدقهما في الحديث » فإنّ صدق الحديث إنّما يناسب ترجيح الفتوى التي هي بمنزلة الحديث ، دون القضاء. ودلالة في منازعة المتحاكمين على كون المراد به القضاء ؛ لأنّ المتنازعين ربما ينشأ نزاعهما من جهة الاشتباه في الحكم المشروع ، فيرجعان إلى من يحكم بينهما بالفتوى دون القضاء. والظاهر أنّ نزاع الرجلين كان من هذه الجهة ، لا من جهة الاختلاف في الموضوع ومرجعه إلى الادّعاء والإنكار ، وإلاّ لما كان لاختيار كلّ منهما حكما وجه ؛ فإنّ فصل الخصومة حينئذ يحصل من حكم واحد.

واعلم أنّ جمع الحكمين والحكّام في مسألة أو نزاع يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يكون المقصود من اجتماعهم صدور الحكم منهم أجمع.

والثاني : أن يكون المقصود صدور الحكم من أحدهم ، ويكون المقصود من حضور الباقين إعانتهم للحاكم في مقدّمات الحكم لئلاّ يخطأ.

والثالث : أن يكون الحكم مقصود الصدور من بعض ، ومن الباقين إنفاذ

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

٦٦٤

حكمه وإمضائه ، ولا ريب أنّ الفرض الغالب المتعارف من جميع الحكّام دائر بين الصورتين الأخيرتين.

وأمّا الصورة الاولى فبعيدة في الغاية ، ولم نسمع وقوع ذلك في شيء من الأزمنة.

ولو جهلنا الحكم في الرواية على الحكم المصطلح لم تكد تنطبق على شيء من الصور.

أمّا على الأخيرتين فواضح ؛ لأنّ صريح الرواية صدور الحكم من كلّ من الحكمين والمفروض في هاتين الصورتين عدم صدور الحكم إلاّ من أحدهم.

وأمّا على الصورة الاولى ، فمع ما فيه من تنزيل الرواية على فرض نادر ، ينافيه ما فيها بعد ذكر المرجّحات « قال : فقلت : إنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على صاحبه. قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه عند أصحابك » فإنّ الأمر بالنظر إلى مدرك الحكمين من الروايات والأخذ بالمشهور لا يلائم تعارض الحكم المصطلح من وجهين :

أحدهما : أنّ شغل المترافعين ليس النظر في مدرك الحكمين ، والاجتهاد في ترجيح أحدهما على الآخر إجماعا.

والثاني : أنّه إذا تعارض الحكمان ولم يكن في أحد الحاكمين مزيّة على الآخر في شيء من الأوصاف المزبورة ، فالمرجع حينئذ هو أسبق الحكمين ، بل لا يبقى في صدور الحكم من أحد الحكّام محلّ لحكم الآخر. ولو حمل الرواية على ما إذا كان الحكمان يتساقطان حينئذ فلا وجه للأخذ بالمرجّحات.

ومن هنا ظهر أنّ ما حكاه شيخنا ( دام ظلّه العالي ) عن الشهيد : من حمل الرواية على هذه الصورة إنكارا على من تمسّك بها لتقديم حكم الأعلم والأورع

٦٦٥

ليس في محلّه مع أنّه قدس‌سره اعترف في محكي المسالك (١) بدلالة الرواية نصّا على تقديم الأعلم في الفتوى لا بدّ من حمل الحكم المذكور على المعنى اللغوي ، أي الحكم بما أنزل الله ، وهو الفتوى ؛ فإنّها تنطبق على جميع الصور المزبورة في غاية الوضوح ، فإنّ اختلاف الفتاوى لا ينافي شيئا من المقاصد الثلاثة ، كما أنّ السبق واللحق في الفتاوى المتعارضة لا عبرة بهما جدّا ؛ ولذا تمسّك بهذه الرواية غير واحد من الأعاظم على تعيين الأعلم ، مثل الفاضل الهندي (٢) والفاضل المازندراني (٣) على ما حكي عنهما (٤).

ومنها : رواية داود بن حصين عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : ينظر إلى قول أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا ، وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر » (٥).

ومنها : خبر موسى بن أكيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « عن رجل يكون بينه وبين آخر منازعة في حقّ فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما؟ قال : وكيف يختلفان؟ قلت : كلّ منهما الذي اختاره الخصمان. فقال : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه » (٦).

والتقريب منهما ما قدّمناه في المقبولة.

__________________

(١) انظر المسالك ١٣ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

(٢) كشف اللثام ( الطبعة الحجرية ) ٢ : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٣) شرح الزبدة : ٢٦١.

(٤) حكاه عنهما في مفاتيح الاصول : ٦٢٧.

(٥) الوسائل ١٨ : ٨٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

(٦) الوسائل ١٨ : ٨٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥.

٦٦٦

ومنها : المروي عن نهج البلاغة (١) عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتابته (٢) إلى مالك الأشتر ، نقله صاحب المفاتيح وكان الذي يحضرني من نسخته مغلوطا ؛ ولذا أعرضنا عن ذكره ، والقدر المعلوم منه أمر المالك (٣) باختيار الأبصر والأفضل للحكم بين الناس.

وأمّا الدليل الاعتباري العقلي ، فهو أنّ الظنّ الحاصل من قول الأعلم أقوى من قول غيره ، فيجب العمل به عينا ؛ لأنّ العدول من أقوى الأمارتين إلى أضعفهما غير جائز.

أمّا الصغرى فوجدانيّة ؛ لأنّ لزيادة العلم تأثيرا آخر في إصابة الواقع.

وأمّا الكبرى ، فمع إمكان دعوى الاتّفاق عليها ـ كما يظهر من تتبع أقوال العلماء في تعارض الأخبار ـ يشهد بها بداهة العقل. وقد يتمسّك بهذه الحجّة في محكي النهاية (٤) والتهذيب (٥) والمنية (٦) والمعالم (٧) وكشف اللثام (٨) وشرح الزبدة للفاضل المازندراني (٩).

__________________

(١) نهج البلاغة : ٤٣٤ ، الكتاب ٥٣.

(٢) كذا في المصدر.

(٣) كذا ، والأنسب : مالك ، ولعلّه اخذ بمعناه الوصفي ، كما هو المألوف في تعبيراتهم : كالتقي والمحسن والمرتضى ، ونحوها.

(٤) نهاية الوصول : ٤٤٧.

(٥) تهذيب الوصول : ١٠٥.

(٦) منية اللبيب : ٣٦٩.

(٧) معالم الدين : ٢٤٦.

(٨) كشف اللثام ( الطبعة الحجرية ) ٢ : ٣٢٠ ـ ٣٢١ ، حكاه عنه في المفاتيح : ٦٢٦.

(٩) شرح الزبدة ( المخطوط ) : ٢٦١.

٦٦٧

واورد عليه :

تارة بمنع الصغرى ، واخرى بمنع الكبرى.

أمّا منع الصغرى ، فقد صدر عن جماعة من المحقّقين : كالنراقي (١) ، والقمّي (٢) ، وصاحب المفاتيح (٣) ، والفصول (٤). وقد سبقهم على ذلك الشهيد الثاني في محكي المسالك (٥) ، حيث قال ـ بعد تقرير الدليل المزبور ـ :

وفيه نظر ؛ لمنع كون الظن بقول الأعلم مطلقا أقوى ؛ فإنّ مدارك الظن لا تنضبط ؛ خصوصا في المسائل الشرعيّة ، فكثيرا ما يظهر رجحان ظنّ المفضول على ظنّ الفاضل في كثير من المسائل الاجتهادية. وفرق بين أقوال المفتين وأدلّة المستدل ؛ لأنّ المستدلّ يمكنه ترجيح بعض الأدلّة على بعض ، بخلاف العامي بالنسبة إلى الأقوال ، انتهى.

وربّما يلوح ذلك من الأردبيلي أيضا في محكي مجمع البرهان ، حيث قال : لا شكّ أنّه لو قطع النظر عن جميع الامور الخارجيّة يحصل الظن بقول الأعلم (٦) ؛ فإنّ التقييد بقطع النظر عن الامور الخارجيّة يدلّ على أنّه بملاحظتها ربّما يتعاكس الأمر فيحصل القوّة في الظنّ الحاصل من قول غير الأعلم ، ولعلّ هذا مراد غيره من النافين أيضا ، فإنّهم لا ينكرون كون الأعلميّة مستلزمة للظن الأقوى في ذاتها

__________________

(١) مناهج الأحكام والاصول : ٣٠٠.

(٢) القوانين ٢ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

(٣) مفاتيح الاصول : ٦٢٦.

(٤) الفصول : ٤٢٣ ـ ٤٢٤.

(٥) المسالك ١٣ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٢١.

٦٦٨

مع قطع النظر عن الامور الخارجيّة ، قال في محكي المفاتيح (١) : إنّ إطلاق كون الظنّ بقول الأعلم ممنوع إذ مع كون قول غير الأعلم موافقا لقول مجتهد آخر حيّ أو ميّت أو أكثر سيّما إذا زعمهم المقلّد أعلم ، فكيف يحصل الظنّ الأقوى من قول الأعلم ، بل مع تجويزه موافقة بعض المجتهدين للأدون لا يصير الظنّ بقوله أدون. وكذلك لو لم يكن ذلك الموافق للأدون أعلم من الأعلم ، بل ولا المتساوي أيضا. ومن هذا يظهر عدم ترتّب فائدة على التمسّك بعدم أعلميّة الغير ، مع أنّه لا يمكن هذه الدعوى إذا لوحظت فتاوى الأموات ، انتهى.

ويقرب منه ما ذكره رحمه‌الله في القوانين (٢) ، حيث قال ـ بعد أن ذكر الدليل المزبور وادّعى كون تشبيههم المقام بأمارتي المجتهد قياسا ـ : والتحقيق : أنّهم إن أرادوا أنّ عمل المقلّد بظنّ مجتهده إنّما هو لأجل أنّه محصّل للظن بحكم الله الواقعي ، والمجتهدان المختلفان أمارتان على ذلك الحكم كأمارتي المجتهد عليه.

ففيه : أنّه لا يتمّ على الإطلاق ؛ فإنّ مقلّدا كان في بلده مجتهدان : أحدهما أعلم من الآخر وهما مختلفان في الفتوى وفرض في عصره وجود مجتهدين آخرين في بلاد آخر ، فكيف يحصل الظنّ بأنّ قول أعلم المجتهدين في بلده هو حكم الله الواقعي دون من هو أدون منه؟ مع احتمال أن يكون بعض المجتهدين الذين في البلاد الآخر مخالفا لذلك الأعلم وموافقا للأدون مع كونه مساويا للأعلم

__________________

(١) لم نعثر عليه في المفاتيح ، بل هو موجود في مناهج الأحكام والاصول : ٣٠٠ ، والظاهر أنّه سهو القلم ويؤيّد ذلك ما جاء في الصفحة : ٦٧١ ، قال : وأمّا ما ذكر الفاضلان النراقي والقمّي ...

(٢) القوانين ٢ : ٢٤٦.

٦٦٩

في العلم ، أو أعلم منه؟ إلى آخر ما قال وأطال في إثبات هذا المرام ، أعني : إمكان حصول الظنّ الأقوى من قول الأدون بملاحظة المرجّحات الخارجيّة ، كموافقة أعلم آخر ، أو المشهور ، أو غير ذلك.

وقال في الفصول : إنّ المقلّد قد يقف على مدارك الفريقين فيترجّح في نظره فتوى المفضول (١).

والجواب : أنّهم إن أرادوا من منع الصغرى إثبات التسوية بين الأعلم والأدون من حيث الظنّ في حدّ ذاتهما مع قطع النظر عن الامور الخارجيّة ، فهذه مكابرة واضحة تشهد بخلافها البداهة والوجدان ؛ إذ لا شكّ في أنّ لزيادة العلم والبصيرة بمدرك المسألة ومعارضاتها وطريق الاستنباط زيادة تأثير في إصابة الواقع ، كما اعترف به المولى الأردبيلي ، وإلاّ لم يتفاوت بين العالم والجاهل أيضا ، كما لا يخفى.

وإن أرادوا أنّ قول الأدون ربما ينضمّ إلى الظنّ الحاصل منه بعض الظنون الاخرى المستندة إلى امور خارجيّة فيقوى لأجل ذلك ، بحيث يفوق على الظنّ الحاصل من قول الأعلم ويساويه.

ففيه : أنّ الظنون التي تحصل للمقلّد بملاحظة الامور الخارجيّة ممّا لا عبرة به أصلا على القول بكون التقليد من الظنون الخاصّة الثابت حجّيتها من الأدلّة الشرعيّة ؛ وذلك لوجوه :

الأوّل : أنّه لا دليل على اعتبار هذه الظنون في مقام تقوية الأمارة وترجيحها على معارضها بعد أن كان مقتضى الأصل عدم الاعتبار ؛ فإنّ قوة

__________________

(١) الفصول : ٤٢٤.

٦٧٠

الأمارة إمّا تحصل باعتبار ما فيها نفسها من الأوصاف المقربة للواقع كالأعلميّة والأورعيّة والأوثقيّة ونحوها من المرجّحات الداخليّة والمفروض عدم كون هذه الظنون كذلك ، أو باعتبار تعاضدها بمثلها ، أو بأقواها من الأمارات المعتبرة الثابت حجّيتها بدليل قاطع ، والمفروض عدم كونها كذلك أيضا ؛ فإنّ الشهرة مثلا على القول بأنّ وظيفة المقلّد هو التقليد دون العمل بمطلق الظنّ ، ليس من الأمارات المعتبرة في حقّ المقلّد فمن أين يحصل بسببها قوّة في قول الأدون تتكافأ قوّة الظنّ الموجودة في قول الأعلم.

وأمّا ما ذكره الفاضلان النراقي (١) والقمّي (٢) رحمهما الله : من أنّ موافقة قول المفضول أحيانا لقول المجتهدين الآخر ربّما توجب القوّة في الظنّ الحاصل من قوله.

ففيه : أنّ ذلك المجتهد المفروض موافقة قوله لقول الأدون إن كان أعلم ممّن فرض أعلميّته عن الأدون أو لا تعيّن عليه العمل بقوله ، وإلاّ فلا أثر في موافقته جدّا ؛ لأنّ توافق أقوال المجتهدين ليس كتعارض الأخبار في الغلبة على المعارض ؛ لأنّ مناط القوّة والضعف في كلّ منهما شيء وراء المناط في الآخر ، فالمدار في قوّة الأقوال حسن نظر صاحبها ومهارته في تميّز (٣) الصواب والخطأ في الامور الاجتهادية ، ومناط قوّة الرواية تحرّز الراوي عن الكذب واكتناف الرواية بما يؤكّد الظنّ بصدورها ، فإذا توافق الأدونان لم يترتّب على موافقتهما شيء لا يترتّب على صورة المخالفة ، فالظنّ الحاصل من قول الأعلم المعارض

__________________

(١) المناهج : ٣٠٠.

(٢) القوانين ٢ : ٢٤٦.

(٣) كذا ، والمناسب : تمييز.

٦٧١

لهما حينئذ باقى أيضا على قوته الشأنية الذاتية والسرّ في ذلك : أنّ الأنظار المتقاربة والأفهام المتشابهة لا يحصل من توافقها ظنّ يترجّح على الظنّ الحاصل من قول أصوبهم في الإنكار.

ومن هنا انقدح الفرق بين تعاضد الأخبار وتوافق الأقوال ؛ فإنّ الأوّل ربّما يوجب تقديم المتعاضدين على معارضهما الأصحّ ، بخلاف الثاني ؛ فإنّ وجوده وعدمه سيّان في وجوب الأخذ بغيرهما إذا كان أقوى.

فإن قلت : قد ذكرت فيما تقدّم : أنّ الأصل في التخييرات العقليّة الأخذ بكلّ ما يحتمل كونه مرجّحا وإن لم يقم دليل دلّ على مرجّحيته ، وعليه بنيت تقديم قول الأعلم ، ولا ريب أنّ موافقة قول الأدون ؛ للامور الخارجيّة المفيدة للظنّ ممّا يحتمل كونه مرجّحا ، فلا وجه لعدم الأخذ بها.

قلنا : ما ذكرنا إنّما هو فيما إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين ، لا بين المتباينين كما في المقام.

فإن قلت : بناء الأصحاب في التعادل والتراجيح على ترجيح الأخبار بالمرجّحات الخارجيّة التي لم يقم دليل على حجّيتها إذا لم يكن قد قام الدليل على عدم اعتباره كالقياس ، وقول المجتهد أيضا طريق ظنّيّ للمقلّد ، فما الفارق بينهما؟

قلنا :

أوّلا : أنّ ترجيح الأخبار بمطلق المرجّحات أمر مستفاد من إشارات أخبار التراجيح وتلويحاتها ، ومثل هذه الأخبار مفقودة في المقام.

وثانيا : أنّ حجّية الأخبار إنّما هي لأجل إفادتها الظنّ في نظر العاملين بها كالمجتهدين ، وحيث اعتبر نظرهم في جعل الطريق الظنّي اعتبر نظرهم في طلب المرجّحات عند التعارض.

٦٧٢

وأمّا حجيّة أقوال العلماء للعوام فليست لأجل إفادتها الظنّ في نظر القاصرين ، بل لأجل غلبة مصادفتها للواقع نوعا ، فلا وجه لاعتبار نظرهم في طلب المرجّحات.

والحاصل : أنّ الشارع لمّا وجد العوام قاصري النظر في الامور العلميّة جعل لهم أقوال العلماء طريقا تعبّديا باعتبار ما فيها من غلبة المطابقة للواقع وأمرهم بالرجوع إليهم من غير النظر والفحص عن شيء ، فكأنّه صار نظرهم عنده ساقطا عن الاعتبار في جميع المقامات.

والثاني : أنّ ظنون المقلّد التي تحصل له من غير الطريق الشرعي المعيّن له ممّا لا يكاد ينضبط بضابط ، فربما يحصل له الظنّ من قول عاميّ آخر ، أو من الرمل والجفر والنجوم ونحوها ، وربّما يترجّح في نظره المفضول بملاحظة حسبه ونسبه واشتهاره بين العوام ، فإما نجوّز له الاعتماد على كلّ ظنّ خارج عن الطريق المخصوص في مقام الترجيح ، أو نمنع عن الاعتماد عليها مطلقا ؛ لأنّ المناط منقّح ، والفارق مفقود ولا سبيل إلى الأوّل لأدائه [ إلى ](١) مفاسد عظيمة في هذا الدين ، وإلى الهرج والمرج كما لا يخفى على المنصف فتعيّن الثاني.

والحاصل : أنّ تأكّد الظن الموجود في طرف الأعلم لا يعارضه شيء من الظنون الداخليّة ؛ لأنّ الكلام إنّما هو بعد فرض تساوي الفاضل والمفضول في جميع الجهات غير الفضل ، فيجب اتباعه بحكم العقل القاطع بوجوب العمل بأقوى الأمارتين.

__________________

(١) الزيادة اقتضاها السياق.

٦٧٣

الثالث : إمكان دعوى الاتّفاق على سقوط إنكار العوام والمقلّدين عن درجة الاعتبار في جميع المقامات ، حتّى الترجيح. نعم ، قضية ما أسّسه الفاضل القمّي رحمه‌الله من الأصل كون المقلّد كالمجتهد في الأخذ بالأمارات كائنا ما كان ، ولكنّه لم أجد موافقا له في ذلك ، كما مرّ غير مرّة ؛ فإنّ كلّ من أجاز التقليد جعله من الظنون الخاصّة الثابت حجيتها بالدليل ، لا من الظنون المطلقة الناشئة من الدليل الرابع في حق المقلد.

وبالجملة ، ما ذكره الجماعة في منع صغرى الدليل المزبور بعد تسليمه مما لا يقدح في تماميّته ؛ لأنّ حصول الأقوى من الأدون بملاحظة موافقته لبعض الامور وعدمه سيّان في عدم مصادمته ومقاومته لقول الأعلم. نعم ، يمكن المناقشة في الصغرى بوجه آخر ؛ لأنّ قول المفضول ربما يكون مفيدا للظنّ الأقوى من حيث الأمور الداخلية ، مثل أن يكون قوّة الظن مستندة إلى فحصه وبذل جهده زيادة عمّا يعتبر في اجتهاد المجتهدين من الفحص ؛ فإنّ هذا الظن مستند إلى قول المفضول نفسه ، فيكون معتبرا لحصوله من الطريق الشرعي.

ولا يتوهم : أنّ الأعلميّة تنافي نقصان فحص الأعلم عن فحص المفضول ؛ لأنّ التعدّي عن المقدار المعتبر من الفحص ليس بواجب على المجتهد ؛ فقد يقتصر الأعلم على ذلك المقدار ويتعدّى المفضول عنه فيحصل الظن من قوله أقوى من الظن الحاصل من قول الأعلم المقتصر على القدر الواجب من الفحص ؛ لأنّ ذلك غير مناف أيضا للأعلميّة ؛ فإنّ زيادة العلم إنّما تجدي عند التساوي من جميع الجهات الداخلية المفيدة للظن. وستعرف الكلام في هذا الفرض وأنّه يحتمل فيه وجوه ثلاثة.

وربّما اجيب عن منع الصغرى :

٦٧٤

أوّلا : بأنّ فرض حصول الظن من قول الأدون نادر في الغاية وإن كان ممكنا سيّما في حقّ المتجزّي ومن دونه من المحصلين البالغين رتبة من العلم ، وبناء الشرع على الغالب ، فينزل عليه ما دلّ على وجوب الأخذ بأقوى الأمارتين.

وفيه : أنّ دليله المعتمد عليه إنّما هو العقل ، وهو غير فارق بين الغالب والنادر.

وثانيا : أنّه إذا ثبت وجوب تقليد الأعلم يحصل الظنّ الأقوى من قوله ، فيثبت فيما عداه من الصور ؛ لعدم القول بالفصل. ثمّ قال : لا يقال : يمكن معارضة هذا بمثله فيما لو حصل الظنّ الأقوى من قول المفضول.

لأنّا نقول : هذا حسن لو لم ينعقد الإجماع على عدم تعيين تقليد المفضول مطلقا ، وأمّا معه كما هو الظاهر ، فلا.

سلّمنا ، لكن نقول : حيث حصل التعارض وجب الرجوع إلى الترجيح ، ومعلوم أنّه (١) مع ما دلّ على وجوب العمل بقول الأعلم.

وأمّا منع الكبرى ، فهو صريح القوانين والمفاتيح ، وربّما نقل عن مناهج النراقي (٢) أيضا.

وحاصله : أنّ تعيين الأعلم لقوّة الظنّ الحاصل من قوله ، إنّما يتمّ إذا كان المناط في التقليد حصول الظنّ لا التعبّد ، فعلى تقدير كونه تعبّدا محضا راجعا إلى نحو من السببيّة المطلقة ـ كالعمل بالبيّنة عند القائلين بها تعبّدا ـ فلا وجه لملاحظة قوّة الظن وضعفه ، بل بحسب الاعتماد على أحدهما تخييرا كما في البيّنة

__________________

(١) أي الترجيح.

(٢) انظر القوانين ٢ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ، ومفاتيح الأصول : ٦٢٦ ، ومناهج الأحكام والاصول : ٣٠٠.

٦٧٥

المتعارضة. وإلى هذا أشار في القوانين حيث قال بعد منع الصغرى : ودعوى كون المدار على ظنّ المقلّد الحاصل من أيّ شيء وإن أرادوا أنّ ذلك ـ مشير (١) إلى التقليد ـ حكم آخر ينوب مناب الحكم الواقعي تجوّز العمل بالظنّ وإن لم يحصل الظن بالحكم الواقعي كالتقيّة النائية عن مرّ الحق ، فلا دليل على وجوب الترجيح ؛ فإنّ الذي ثبت من الدليل : أنّه إذا لم يكن للمقلّد العلم بحكم الله الواقعي يجوز العمل بظن كلّ من تمكّن من استنباط الحكم من هذه الأدلّة ، وأمّا إن ظنّ هذا الشخص هل هو كاشف عن الواقع أم لا فلا يحتاج إليه على هذا الفرض ، وحينئذ فلا دليل على اعتبار الأقوى ، بل لا معنى لاعتبار الأقوى والأقرب والأرجح ؛ لأنّ قولنا : « حكم الله الظاهري هو ما كان أرجح » لا بدّ له من متعلّق ومن بيان أرجحيّته في أيّ شيء (٢) ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.

وجوابهم : ثبوت الواسطة بين ما زعموه من الظنّ الشخصي والتعبّد المحض ؛ لأنّ حجّية الأمارات تارة تناط بحصول الظنّ الشخصي واخرى بحصول الظنّ النوعي.

وأيضا أنّ كلّ الأمارات الشرعيّة أو جلّها حجّيتها إنّما هي من أجل إفادتها الظنّ شأنا ونوعا ، لا شخصا وفعلا ، ولا تعبّدا محضا ، يدلّ على ذلك في المقام :

أوّلا : الأصل المقرّر في نظائر المقام ، كما مرّ غير مرّة ؛ لأنّ البناء على التعبّد المحض يقتضي البناء على التخيير فيما إذا اختلفت الأمارتان بحسب الظنّ النوعي ؛ بخلاف البناء على كون حجّيتها من جهة الظن النوعي ؛ فإنّ مقتضاه متابعة الأقوى خاصّة اقتصارا فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن ، كما ظهر وجهه غير مرّة.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : مشيرا.

(٢) القوانين ٢ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

٦٧٦

وثانيا : اشتمال جملة من الأخبار الخاصة التي هي عمدة أدلة شرعيّة التقليد على قدح المفتي بالوثاقة وصدق الحديث ، وهذا يفصح عن كون اعتبار الفتوى من جهة إفادتها الظنّ نوعا.

والحاصل : أنّه لا إشكال في أنّ بناء التقليد ليس على السببية المحضة والتعبّد المحض ، وما ذكروه : من عدم ملاحظة مراتب الظنون ، إنّما يتّجه في الامور التعبّدية المحضة الراجعة إلى السببية المطلقة ، وأمّا في الطرق المعتبرة من حيث إفادتها الظنّ نوعا لا شخصا ؛ فلا ضرورة قضاء بداهة العقول بمراعاة أقوى الأمارتين التي حجّيتهما من جهة الظن النوعي.

وبالجملة : ليس الأمر كما توهّمه الفاضل القمّي رحمه‌الله من كون التقليد أحد الظنون المطلقة الشخصيّة حتّى يتّجه الأخذ بقول الميّت والمفضول إذا كان الظن الحاصل منه أقوى من الحيّ الأعلم ، ولا كما زعمه المانعون عن الكبرى : من كونه تعبّدا محضا حتّى ينهدم أساس الأخذ بأقوى الأقوال نوعا ؛ بل أمر بين الأمرين ، وقصد بين الإفراط والتفريط. والله العالم.

وربما استدلّ على وجوب تقليد الأعلم بأمور أخر زيادة عمّا ذكرنا :

منها : ما عن كشف اللثام وشرح الزبدة للفاضل الصالح (١) : من أنّ تقليد المفضول مع وجود الأفضل يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح. وهذا في الحقيقة دليل من الأدلّة المستدل بها على كبرى القياس المزبور ، ويحتاج في تقريبه إلى فرض سقوط الظنون الخارجيّة التي تحصل للمقلد عن الاعتبار ، كما هو الحقّ ، وإلاّ فمن الواضح عدم جريانه إذا تساوى الظنّان أو كان الظنّ الحاصل

__________________

(١) حكاه عنهما في مفاتيح الاصول : ٦٢٦ ، وانظر كشف اللثام ( ط. الحجريّة ) ٢ : ٣٢٠. وشرح الزبدة ( المخطوط ) : ٢٦١.

٦٧٧

من قول الأدون أقوى ؛ لأنّ المناط في الرجحان والمرجوحيّة في حكم العقل هو الرجحان الشخصي متى لم يقم دليل قطعي عنده على عدم الاعتداد به ، ومن ذلك يظهر : أنّ منع الأردبيلي في محكي المجمع (١) عن الملازمة المزبورة استنادا إلى إمكان وجود الرجحان في قول المفضول أحيانا ليس بقادح في الاستدلال.

ومنها : ما عن الفاضل في النهاية (٢) من أنّ الأعلم له مزية ورجحان على الأدون ، فيقدّم كما قدّم في الصلاة. وهذا إن رجع إلى قاعدة الأخذ بأقوى الأمارتين فهو ، وإلاّ ـ كما هو الظاهر من التنظير بالصلاة ـ فلا نرى له وجها. ومع ذلك فلا يفيد إلاّ الاستحباب.

ولو قال مكان قوله : « كما قدم في الصلاة » ، « كما قدم في الإمامة » لكان أولى.

ومنها : أنّ تجويز تقليد المفضول تسوية بينه وبين الأفضل وينفيها قوله تعالى : ( ... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ... )(٣). وربما عكس الاستدلال به على الجواز ، كما أشرنا إليه في ذكر حجج المثبتين ، وإلى ما فيه من المناقشة.

وهذا ختم الكلام في تنقيح أصل المسألة. بقي الكلام في أطرافها ويتمّ في بيان امور :

الأوّل : لا يذهب عليك أنّه على فرض تماميّة أدلّة المجوّزين يجوز للعامي الرجوع إلى الأدون ابتداء من دون الرجوع إلى الأعلم ؛ لأنّ المسألة من الخلافيّات التي وظيفتها الاجتهاد أو التقليد ، ولا سبيل للمقلّد إلى الأوّل ؛

__________________

(١) مجمع الفائدة ١٢ : ٢١.

(٢) نهاية الوصول : ٤٤٧.

(٣) الزمر : ٩.

٦٧٨

لقصوره عن فهم أدلّة القولين ، فتعيّن الثاني. وتقليد أحد المفضولين بتقليد المفضول الآخر يؤدّي إلى الدور والتسلسل كما لا يخفى ، فثمرة البحث في تقليد الأعلم إنّما تعود إلى المجتهد إذا سأله العامي عن جواز تقليد المفضول. نعم ، إذا كان المقلّد غافلا عن الخلاف في المسألة فيرجع (١) إلى الأدون ، صح (٢) عمله على القول بجواز تقليده ؛ بناء على صحة عبادات الجاهل.

ومثله من تمكّن عن نيّة القربة في العبادات من الملتفتين إلاّ أنّه فرض لم نتحقّق إمكانه ؛ فإنّ الالتفات إلى الخلاف يستلزم الشكّ في صحّة العبادة التي قلّد فيها الأدون ، فكيف يتحقّق الجزم بالقربة.

والثاني : الأعلم من كان أقوى ملكة وأشدّ استنباطا بحسب القواعد المقرّرة ، ونعني به من أجاد في فهم الأخبار مطابقة والتزاما إشارة وتلويحا ، وفي فهم أنواع التعارض وتميّز (٣) بعضها عن بعض ، وفي الجمع بينهما بإعمال القواعد المقرّرة لذلك مراعيا للتقريبات العرفيّة ونكاتها ، وفي تشخيص مظانّ الاصول اللفظية والعمليّة ، وهكذا إلى سائر وجوه الاجتهاد وأمّا أكثر (٤) الاستنباط وزيادة الاستخراج الفعلي مما لا مدخليّة له.

كتبه العبد الحقير الفقير زين العابدين بن محمّد شريف القزويني في دار الخلافة طهران ، في شهر رجب المرجب ١٣٠٨ ه‍ ، قد يرجى من الناظرين أن يطلبوا المغفرة لباني هذا الكتاب وكاتبيه ووالديهم.

__________________

(١) كذا ، والأنسب : فرجع.

(٢) كذا ، ولعله : وصحّ ....

(٣) كذا ، والمناسب : تمييز.

(٤) كذا ، والمناسب : أكثريّة.

٦٧٩
٦٨٠