مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

وجعله في محكي التمهيد (١) هو الحق عندنا ، وفي المعالم (٢) هو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم ، وادّعى على ذلك الإجماع صريحا المحقق الثاني في محكي حاشية الشرائع (٣) ، وكذا علم الهدى في محكي الذريعة (٤) بناء على أنّ « عندنا » صريح من مثله في دعوى الإجماع.

وذهب صاحب الفصول (٥) إلى القول الثاني ، أعني التخيير ، وفاقا للحاجبي (٦) والعضدي (٧) والقاضي (٨) وجماعة من الاصوليين والفقهاء على ما حكي عنهم (٩).

والحقّ الذي لا ينبغي الارتياب فيه هو الأوّل (١٠) ... عن لزوم تقليد الأفضل ، لكن العنوان الذي يتكلّم فيه الآن هو ما إذا علم اختلاف الفاضل والمفضول ، ثمّ التكلّم بعد الفراغ عن المسألة في أطرافها التي منها صورة الجهل بالاختلاف.

[ تقرير الأصل في المسألة ] :

وينبغي أوّلا تقرير الأصل في المسألة ، فنقول : لا شبهة في أنّ المسألة اصوليّة يبحث فيها عن الطريق الموصل إلى الأحكام الشرعيّة في حقّ المقلّد ،

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٣٢١ ، القاعدة ١٠٠.

(٢) معالم الدين : ٢٤٦.

(٣) حاشية الشرائع ( مخطوط ) ، الورقة ٩٩.

(٤) الذريعة ٢ : ٨٠١ ، وليس فيه لفظ « عندنا ».

(٥) الفصول : ٤٢٣.

(٦ و ٧) انظر المختصر وشرحه للعضدي : ٤٨٤.

(٨) حكى عنه الغزالي في المستصفى ٢ : ٣٩١ ، وذهب نفسه إلى الأوّل.

(٩) حكى عنهم العلاّمة في نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٤٤٧.

(١٠) لا يخفى ما في الكلام من الاختلال ، ولعلّ في الكلام سقطا.

٦٤١

فإنّ كون التقليد من الامور التعبّدية كما حقّقناه قبال من أنكره وجعل قول المجتهد واجب العمل باعتبار كونه أحد الامور المفيدة (١) ... كالفاضل القمّي لا ينافي كونه جعليّا إلى الواقع ، ولا ريب أنّ مرجع الطريق التعبّدي إلى العمل بما وراء العلم وترك تحصيل اليقين بالبراءة عن الشغل الثابت ، فإذا شككنا في أنّ هذا الشيء طريق تعبّديّ أم لا؟ كان قضيّة الأصل الأوّلي فيه العدم ، وقد أشرنا إلى ذلك في صدر المسألة. ولعلّ هذا الأصل اتّفاقيّ بين الأصحاب كما اعترف به شيخنا ( دام ظلّه العالي ) ولم أجد نكيرا له ، غير أنّ الفاضل القمّي رحمه‌الله ـ بعد أن أجاب عن الدليل العقلي الذي استدل به على تعيين الأعلم : « من أنّ الظن الحاصل من قوله أقوى » : بأن مدار التقليد إن كان على الظنّ ، فيدور مداره من قول أيّ شخص حصل ، وإن كان مبناه على التعبّد ، فلا معنى لملاحظة الأقوائيّة من الواقع ـ اعترض على القول بالتخيير : بأنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ خرج الأقوى بالإجماع ولا دليل على العمل بالأضعف ، ثمّ أجاب عنه : بأنّا قد بيّنا سابقا أنّه لا أصل لهذا الأصل ، واشتغال الذمّة أيضا لا يثبت إلاّ بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن الأدون ، والأصل عدم لزوم الزيادة (٢).

وهذا الكلام لعلّه من متفرداته رحمه‌الله إذ لم أجد على (٣) من يقول بكون مقتضى الأصل الأوّلي جواز العمل بمطلق الاعتماد الشامل للظن ، فإنّ كلّ من دخل في المسألة ذكر الأصل الذي قرّرنا ، مرسلا إرسال المسلّمات ، ولم يناقش أحد من

__________________

(١) الظاهر وجود سقط في هذا المورد أيضا ، وفي الأصل على كلمة « المفيدة » علامة سقط من المتن لكن لم يذكر المقدار الساقط في الهامش.

(٢) القوانين ٢ : ٢٤٧.

(٣) كذا ، والمناسب : لم أعثر على ، أو : لم أجد من.

٦٤٢

المجوّزين في هذا الأصل ، بل ادّعوا قيام الدليل الشرعي على خلافه ، ولعلّه رحمه‌الله أراد به الأصل الثانوي المستفاد من دليل الانسداد ، وقد عرفت في تقليد الميّت : أنّ بعض مقدّماته مثل انتفاء الظن الخاص في حق المقلّد ممنوع ، وأمّا ما ذكره أخيرا : من أنّ الاشتغال لم يثبت إلاّ بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن الأدون ـ فمع ابتنائه على كون التقليد حكما تعبّديا ثابتا من الأدلّة الشرعيّة مخالفا للأصل ، وهو مناف لما توهّمه : من أنّ الأصل هو جواز العمل بالظن ـ يعرف جوابه من الجواب عن الأصل الثاني من الاصول التي قد يتمسّك بها في إثبات التخيير.

ثمّ لا يتوهّم أنّ الاحتياط في هذه المسألة الاصولية ربما يعارض بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ، كما إذا كان قول المفضول موافقا للاحتياط ؛ لأنّ الاحتياط في المسألة الاصولية مقدّم على الاحتياط في المسألة الفرعيّة بقاعدة « المزيل والمزال » كما يظهر بالتأمّل.

إذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ للقائلين بالتخيير وجوه (١) :

[ وجوه القائلين بالتخيير ] :

الأوّل : الأصل المقرّر تارة باستصحاب التخيير الثابت فيما إذا كانا متساويين في العلم أوّلا ثمّ فضل أحدهما على الآخر ، فإنّ زوال ذلك التخيير بحدوث الفضل في أحدهما غير معلوم فيستصحب.

واخرى بأنّ الشكّ في المسألة دائر بين التخيير والتعيين فيما علم وجوبه في الجملة ، أعني التقليد ، فيرجع إلى أصالة البراءة على القول بها في أمثال ذلك ، مثل ما إذا ثبت وجوب عتق الرقبة في الجملة وشكّ في وجوب عتق المؤمنة عينا ، أو التخيير بينها وبين الكافرة.

__________________

(١) كذا ، والصحيح : وجوها.

٦٤٣

وثالثة : بأنّ المرجحيّة أمر توقيفيّ كالحجيّة ، فلا بدّ في ثبوتها لشيء من قيام دليل شرعيّ عليها ، فمقتضى الأصل عدمها حتى ثبت (١).

وأنت إذا تأمّلت في الأصل الذي قرّرنا علمت أنّ هذه الاصول ممّا ليس في محلّها.

أمّا الأوّل ، فلأنّ التخيير الثابت في حال التساوي إنّما كان باعتبار القطع بعدم ترجيح أحدهما على الآخر في العلم ، ونحوه مما يشكّ في كونه مرجّحا ، فحيث زال القطع بعدم ترجيح أحدهما على الآخر في العلم ونحوه ممّا يشكّ في كونه مرجّحا ، فحيث زال القطع المزبور بحدوث ما يحتمل كونه مرجّحا ، أعني الفضل في أحدهما ، امتنع الاستصحاب ، نظير الحكم بنجاسة الحيوان المشكوك في طهارته ونجاسته شرعا باعتبار استصحاب النجاسة الحاصلة له حين التولّد بملاقاة الدم.

فان قلت : نحن لا نستصحب التخيير ، بل نستصحب جواز الرجوع إلى المفضول الثابت له قبل حدوث الفضل للآخر ، فإنّ هذا الجواز كان مناطه صفة الاجتهاد والعلم القائمين به ، وهما باقيان بعد حدوثه كما لا يخفى.

قلنا : هذا الجواز الإباحي المقابل للأحكام الأربعة (٢) ، بل المراد به الوجوب التخييري ، وتسميته جوازا إنّما هو باعتبار الرخصة في تركه إلى بدل ، فالمحذور باق بحاله كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الشك في التعيين والتخيير يتصوّر في مقامات : أحدها : أن يكون التخيير المشكوك فيه التخيير العقلي العارض للأفراد عند

__________________

(١) كذا ، والصحيح : يثبت.

(٢) المعنى غير مستقيم ، ولعلّه كان هكذا : هذا الجواز ليس الإباحي ....

٦٤٤

تعلّق التكليف بالطبيعة ، ومرجعه إلى الشك في الإطلاق والتقييد ، مثل ما إذا ثبت وجوب طبيعة العتق وشكّ في تقييدها بالمؤمنة وعدمه.

والثاني : أن يكون التخيير شرعيّا مثل ما في الصوم والعتق والكفّارات.

والثالث : أن يكون التخيير عقليّا ناشئا من جهة تزاحم الواجبين العينيّين (١) ، ومرجع الشك في التعيين والتخيير حينئذ الشك في ترجيح أحد المتزاحمين على الآخر وعدمه بعد القطع باشتمالها (٢) على مصلحة الوجوب العيني لو خلا عن المعارضة والمزاحمة.

والبناء على التخيير للأصل على القول به ، إنّما هو في القسمين الأوّلين. وأمّا القسم الثالث ، فأصالة الاشتغال فيه محكّمة ، فإذا وجب انقاذ كلّ غريق عينا ودار الأمر بين إنقاذ العالم والجاهل وشكّ في رجحان العالم لم يكن الرجوع إلى أصل البراءة بالنسبة إلى تعيين العالم ؛ لأنّ الشك ليس في وجوبه العيني حتى يدفع بالأصل كما في عتق المؤمنة أو الصوم مثلا ؛ إذ المفروض أنّه لا شبهة في كونه واجبا عينيّا مثل إنقاذ الجاهل ، بل في ترجيح أحد العينيين على الآخر باعتبار تضمّنه شيئا يحتمل المرجحية ، فالمرجع حينئذ إلى الاحتياط أو التخيير العقلي الناشئ من جهة التساوي ، وحيث لا سبيل إلى التخيير لعدم حكم العقل به مع احتمال وجود المرجّح في أحد الجانبين تعين الاحتياط المبرئ للذمّة الحاصل في ضمن الأخذ بواحد (٣) الاحتمالين.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : « التعيينيّين » ، وقد جرى المقرّر على هذا فيما يأتي كثيرا ، ولذلك لم نشر إلى كل مورد بخصوصه ، وإنما على القارئ الالتفات إليه.

(٢) كذا ، والمناسب : باشتمالهما.

(٣) كذا ، والمناسب : أحد ، أو : بواحد من ....

٦٤٥

ثمّ إنّ الشكّ في التعيين والتخيير قد يرجع أيضا إلى الشكّ في ترجيح أحد الاحتمالين اللذين لا ثالث لهما على الآخر إذا لم يوافق أحدهما أصلا من الاصول ، مثل ما إذا دار حكم الشيء من (١) الوجوب والحرمة ، وكان في أحد الاحتمالين ما يحتمل كونه مرجّحا مثل موافقة الشهرة ، وهذا غير الشك في التعيين والتخيير الناشئ من التزاحم ، وعدم جريان أصل البراءة هنا أوضح من عدم جريانه في باب التزاحم ؛ لإمكان القول فيه : بأنّ الواجب بعد تزاحم الواجبين إنّما هو القدر المشترك بينهما ؛ لعدم إمكان الجمع ولا الطرح وانتفاء ما ثبت كونه مرجّحا في أحدهما ؛ بخلاف المقام ؛ فإنّ إرجاع التكليف إلى القدر الجامع بين الاحتمالين ـ أعني القدر المشترك بينهما ـ ممتنع ، فلا بدّ حينئذ من الأخذ بالقدر المتيقّن في مقام الامتثال بالحكم الظاهري الذي هو التخيير النقلي ، أعني اختيار ما يحتمل ترجيحه لموافقة الشهرة ونحوها.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الشك في التخيير والتعيين في مسألتنا هذه ليس من القسم الأول الراجع إلى الإطلاق والتقييد ، ولا من القسم الثاني الراجع إلى التخيير الشرعي ؛ لأنّ ثبوت الحكم ولو شأنا ليس مقطوعا به لكلّ واحد من الفردين المحتمل تعيين أحدهما في هذين القسمين ، بخلاف المقام فإنّ الحجّة الشأنيّة مقطوع ثبوتها لقول كلّ من المتعارضين.

وأيضا أنّا نعلم قطعا أنّ غير محتمل التعيين فيهما كالكافرة ليس بواجب عيني ، وقول كلّ واحد من المجتهدين المتخالفين مما يحتمل كونه هو الواقع

__________________

(١) كذا ، والمناسب : بين.

٦٤٦

المفروض وجوبه عينا ، فتعيّن كونه من أحد القسمين الأخيرين اللذين عرفت اقتضاء الأصل منهما (١) التعيين.

وهل هو من القسم الراجع إلى التزاحم أو القسم الراجع إلى تعارض الاحتمالين؟ والظاهر هو الأخير ؛ لأنّ حقيقة التقليد عبارة عن انجعال قول المجتهد طريقا تعبديّا للمقلّد إلى الواقع ، فعند اختلاف المجتهدين يقع المعارضة بين الطريقين ، فأحدهما يعيّن الواقع في الوجوب والآخر في الحرمة ، فالتخيير الذي يحكم به العقل حينئذ ليس من باب التخيير الناشئ من اشتمال كلّ من المتزاحمين لمصلحة التكليف ، كإنجاء النفس من الهلاك ؛ للقطع باختصاص المصلحة المقتضية لجعل الطريق أعني إصابة الواقع بأحدهما ، بل هو من باب التخيير الناشئ من تعارض احتمال مؤدّى أحد الطريقين كالوجوب لاحتمال مؤدى الآخر كالحرمة ، فالتخيير الذي يضطرّ إليه العقل بعد اليأس عن التوقّف الذي كان على وفق القاعدة في تعارض الأمارات والحجج ـ لو لا قيام الإجماع على خلافه ـ ليس إلاّ التخيير الذي يحكم عند دوران الأمر بين مؤداهما مع عدم موافقة الأصل لشيء منهما. وقد عرفت : أنّ القاعدة تقتضي في المسألة (٢) الوقوف على ما يحتمل فيه الترجيح.

والحاصل : أنّه إذا تعارض الحجّتان علم بأنّ الطريق أحدهما ليس إلاّ ؛ لأنّ الطريق عبارة عمّا يجب الأخذ به فعلا ، ولا يمكن الاتّصاف بالوجوب الفعلي إلاّ أحد (٣) المتعارضين ، وحيث لا سبيل للعقل إلى تعيينه فيتخيّر بينهما عند القطع

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) في الأصل : « مسألة ».

(٣) كذا ، والمناسب : لأحد.

٦٤٧

بالتساوي ، فإذا قام احتمال الترجيح في أحدهما وقف عنده فلا يحكم بالتخيير ؛ لأنّه طريق للقطع بالبراءة عن التكليف الظاهري ؛ نظرا إلى عدم منافاة الأخذ به التخيير (١) ، ولا يجوز له البناء على البراءة كما بيّنا سرّه. ولعلّ هذا هو الوجه في اتّفاق ظاهر الأصحاب على أنّ الأصل الأوّلي هنا يقتضي الأخذ بقول الأفضل مع أنّ جماعة من المحقّقين ذهبوا في مسألة دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد ، أو التخيير والتعيين إلى الإطلاق والتخيير. فهذا من الشواهد الواضحة على خروج ما نحن فيه ـ أعني وجوب تقليد الأعلم وجوازه ـ عن تحت المقامين ، فإنّ قضيّة الاندراج تحتهما حكمهم بأنّ قضيّة الأصل هنا الجواز كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر ما في كلام الفاضل القمّي رحمه‌الله المتقدّم إليه الإشارة (٢) : من أنّ الاشتغال لم يثبت إلاّ بالقدر المشترك ، أو الوجود في ضمن الأدون ؛ ضرورة انتفاء القدر المشترك هنا بحيث يكون جعله موضوعا للحجيّة نظير انتفائه في دوران الأمر.

ولعلّ نظره في هذا الكلام إلى إرجاع التقليد إلى أمر تعبّدي غير مربوط الحجّية (٣) والطريقية ، كمتابعة قول العالم من حيث هو من حيث كونه طريقا إلى الواقع ، فزعم أنّ التقليد حينئذ واجب من الواجبات التعبديّة المحضة مثل إكرام العالم والإعانة عليه (٤) ، وأنّ الشك في وجوب متابعة الفاضل عينا أو مخيّرا بينه وبين المفضول مثل الشك في وجوب عتق المؤمنة عينا أو مخيّرا بينها وبين الكافرة.

__________________

(١) كذا ، والأنسب : للتخيير.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٦٤٣.

(٣) كذا ، والمناسب : بالحجيّة.

(٤) كذا ، والمناسب : وإعانته ، ولعلّ المراد : والإعانة على إكرامه.

٦٤٨

وهو سهو بيّن ؛ لأنّ متابعة المقلّد للمجتهد ليست إلاّ كمتابعة المجتهد للراوي في الرواية ، فالفتوى والرواية طريقان للواقع الذي هو المطلوب من انجعالها طريقا ، فإذا تعارض الفتويان اشتبه الطريق والحجّية بغيره ، وقضيّته القياس حينئذ على ما قدّمناه في التعادل والتراجيح عند تعارض الطريقين هو التوقف ، لكن قام الإجماع على بطلانه فانحصر المناص في مطالبة الترجيح ثمّ الأخذ ولو احتمالا ، وإلاّ فالتخيير.

ثمّ اعلم : أنّ هذا الجواب عن الأصل المزبور إنّما يناسب مذهب من يعتمد على كلّ ظنّ في مقام ترجيح أحد الاحتمالين ولو لم يعتمد عليه في مقام ترجيح أحد الخبرين في التخيير الشرعي ، فمن أبى عن ذلك فليس في محلّه ، فالجواب عنه : أنّ البناء على التخيير لأصالة البراءة إنّما يتّجه عند الشك في ثبوت التكليف ، وأمّا إذا كان الشك في ارتفاع التكليف الثابت باعتبار الشك في طروّ التخصيص على دليل ذلك التكليف انعكس الأصل فيقتضي التعيين ، والكلام في وجوب تقليد الأعلم عينا أو تخييرا كلام في قدر الخارج عن تحت ما دلّ على عدم جواز العمل بما وراء العلم ، فالقدر المتيقّن الذي يجب الاقتصار عليه ليس إلاّ العمل بقول الأعلم وهذا واضح.

وأمّا الأصل الثالث فقد ظهر ضعفه أيضا ممّا بيّنا ؛ لأنّ الشكّ في ترجيح إحدى الحجّتين المتعارضتين على الاخرى شكّ في حجّية المرجع فعلا ، وأصالة عدم الحجّية حينئذ محكّمة بعد عدم قيام دليل عليها من نقل أو عقل.

أمّا النقل ؛ فلأنّ الدليل الدالّ على حجّية العالم لا يمكن تناله لصورة التعارض ؛ للقطع بمخالفة أحد المتعارضين للواقع وتعيين أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فلولا قيام الاتّفاق على بطلان الطرح والتوقّف لكان مقتضى القاعدة ذلك ، لكن بعد ملاحظة ذلك الاتّفاق فالعقل قاض بالتخيير.

٦٤٩

وأمّا العقل ، فلأنّ العقل لا يذهب إلى جواز الأخذ بالمرجوح مع وجود الراجح الظنّي في التخييرات التي تستند إلى حكمها لأجل التخيير ، خصوصا فيما كان الشكّ في ارتفاع التكليف الثابت بالأصل والعمومات ، أعني حرمة العمل بقول الغير وما قرع سمعك من أنّ المرجحيّة كالحجّية محتاجة إلى الدليل فإنّما هو في التخيير الشرعي الثابت بالدليل ، وستعرف أنّ مثل هذا الدليل موقوف في المقام.

وبالإحاطة بما ذكر تقدر إبطال كلّ أصل يتمسّك به في المقام على حجّية المفضول.

ومنها ـ أي من أدلة المثبتين ـ : إطلاقات الكتاب والسنّة الواردتين في مشروعيّة التقليد ؛ بناء على دلالتها عليها ، مثل آية السؤال ، وآية النفر ، وآية الكتمان. فإنّ « أهل العلم » (١) عام يتناول الفاضل والمفضول ، فالأمر بالسؤال منهم يدلّ على وجوب قبول كلّ واحد على حدّ سواء خصوصا بعد ملاحظة غلبة تفاوت مراتب العلم وندرة مساواة أهله فيه وشيوع الاختلاف بينهم ؛ فإنّ الأمر بالرجوع إلى الطائفة المختلفين في الآراء والعلم دليلا (٢) آخر على اشتراك الجمع في مصلحة الرجوع. وهكذا آية النفر ؛ فإن إيجاب الحذر عقيب الإنذار المتفقين من دون ما يدلّ على اختصاصه بإنذار الأفقه مع جريان العادة بتفاوت مراتبهم يفيد حجّية إنذار كلّ منذر سواء كان أفضل أو مفضولا ، وهكذا الكلام [ بالنسبة ](٣) إلى سائر ما سمعت في تقليد الميّت من الأخبار ، كرواية الاحتجاج ، والتوقيع

__________________

(١) لعلّ المراد : أهل الذكر.

(٢) كذا ، والصحيح : دليل.

(٣) اقتضاها السياق.

٦٥٠

الشريف ، وروايات الحكومة ، وخصوص ما ورد في حق زرارة وأبان والثقفي والعميري ويونس وأمثالهم ؛ فإنّ المستفاد منها وغيرها مما ورد في حجّية العلماء كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (٢) عدم تعيين الأفضل ، فتخيّر (٣) بينه وبين المفضول ، وبها يخرج عن حكم الأصل القاضي بالاقتصار على الأفضل.

وجوابها ـ بعد الغضّ عمّا في دلالتها على جواز أصل التقليد من المناقشات الواضحة المتقدم إلى جملة منها الإشارة ـ : أنّه ليس في شيء منها دلالة على مساواة الأفضل والمفضول عند اختلافهما في حكم المسألة ، لا من حيث الإطلاق ولا من حيث العموم ، ولا من حيثيّات اخرى ؛ فإنّ منها ما ورد في مقام جعل طائفة من العلماء مرجعا للجهّال القاصرين عن إدراك معالم الدين بأنفسهم ، فلا يدلّ إلاّ على انحصار الحجّة في هذه الطائفة وعدم جواز الرجوع إلى غيرهم ، وأمّا أنّ كلّ واحد منهم حجّة مطلقا أو عند فقد المعارض ، فهو بمعزل عن بيان ذلك.

ومن هذا القبيل قول الله عزّ وجل : ( ... فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(٤) ، [ فإنّ ](٥) إضافة اسم الجمع إلى الجمع لا يفيد إلاّ تعلّق الحكم بجنس الجمع ، فلا يستفاد منها إلاّ ثبوت الحجّية لجنس العلماء ، حتّى لو احتملنا اشتراط اتّفاقهم في أصل المرجعيّة وأنّهم إذا اختلفوا كان المرجع غيرهم لم يكن دفع هذا

__________________

(١) البحار ٢ : ٢٢ ، الحديث ٦٧.

(٢) معاني الأخبار : ١٥٦.

(٣) كذا ، والمناسب : فيتخيّر.

(٤) النحل : ٤٣ ، والأنبياء : ٧.

(٥) الزيادة اقتضاها السياق.

٦٥١

الاحتمال بالإطلاق أو العموم فضلا عمّا لو التزمنا بالحجّية عند الاختلاف واحتملنا ترجيع أحد المتخالفين على الآخر باعتبار ما فيه من المزيّة التي ليست في الآخر ، ألا ترى أنّه إذا قيل للمرضى : ارجعوا إلى أهل الطبّ في مقام بيان المرجع لم يستفد منه إلاّ عدم جواز الاستعلاج من غير هذا الجنس ، بحيث لو اختلف الأطبّاء في المعالجة فربما يتوقّف حينئذ في أصل مرجعيتهم رأسا ، فضلا عن مرجعيّة كلّ واحد على سبيل التخيير. وهذا مثل المطلقات الواردة في بيان حكم آخر التي لا يرتفع منها شيء من جهات الشكّ. ويؤيّده : أنّ السؤال ثانيا عن حكم اختلاف المرجع حينئذ ليس ممّا علم جوابه من الحكم الأوّل ، بحيث لو حكم بعدم كونهم مرجعا رأسا أو بمرجعيّة خصوص أحد المتخالفين عينا لم يكن منافيا لما تقدّم من الأمر بالرجوع إليهم كما لا يخفى.

ومنها : ما دلّ على وجوب الرجوع إلى كلّ واحد واحد عينا على قيام العام الاصولي ، فيستفاد منه : أنّ كلّ واحد من العلماء حجيّته شأنيّة لو لا المعارض ، وأمّا معه فلا دلالة فيه أيضا على حكم ؛ لأنّ الحكم بدخول المتعارضين معا تحته ممتنع ، وتعيّن أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، مثل ما إذا وجب إنقاذ كلّ غريق عينا ووقع المزاحمة بين الإنقاذين ، فإنّ الدليل الدالّ على إنقاذ الغرقى ممّا لا سبيل إلى تناوله لهما معا ، ولا لأحدهما المعيّن ، بل الغير المعيّن ، فيرجع الأمر في الترجيح أو التخيير إلى ما رآه العقل ، وقد عرفت فيما تقدّم آنفا أنّ شغل العقل في مثل هذا التخيير الوقوف عند ما يحتمل رجحانه على الآخر ، ولو سلّم حكمه بالتخيير حينئذ فهذا خروج عن الاحتجاج بالإطلاقات كما لا يخفى ، ومن هذا الباب آية النفر (١) وآية الكتمان (٢) وقول الحجة ـ صلوات الله

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) البقرة : ١٥٩.

٦٥٢

عليه وعجّل الله فرجه ـ في التوقيع الشريف : « فارجعوا إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله » (١) ؛ فإنّ قضيّة الآيتين وجوب الحذر والقبول عقيب كلّ إنذار وإظهار ، وكذا قوله عليه‌السلام : « فإنّهم حجّتي » يدلّ على حجّية كلّ واحد من الرواة عينا بحسب الشأن الملحوظ فيه عدم المعارض ، وأمّا معا فلا يستفاد حجّية أحد المتعارضين منه تعيينا ولا تخييرا. نعم يحكم العقل فيه بالتخيير إذا علم بالتساوي في الاهتمام.

وبالجملة : هذا القسم والقسم الأوّل لا يتفاوتان في إفادة التخيير الشرعي بين الحجّتين المتعارضتين حتى يتناولا بإطلاقهما موضع النزاع ، أعني تعارض الفاضل والمفضول.

ومنها : ما لا يأبى عن الدلالة على التخيير الشرعي بينهما في نفسه لو لم يكن قد ورد في مقام بيان حكم آخر ، فالفرق بينه وبين الاولتين أنّهما قاصرتان عن إفادة التخيير شأنا بخلاف هذا القسم ؛ فإنّ له أهلية لذلك لو كان المقام مقتضيا له. ومن هذا القبيل قوله عليه‌السلام في خبر أبي خديجة المتقدم إليه الإشارة : « ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ... » (٢) فإنّ إطلاق « الرجل » يتناول كلّ واحد من المتعارضين ، فيكون دليلا على التخيير الشرعي ؛ فإنّ امتثال الأوامر المطلقة يحصل بإتيان بعض الأفراد مخيّرا بينهما ؛ لأنّ قاعدة الإطلاق وقبح الإغراء بالجهل يقتضيان البناء على التخيير في مقام الامتثال ، ولا ينافي كونه تخييرا شرعيّا تسميته تخييرا عقليّا أيضا ؛ لأنّ المراد به استناد التخيير إلى حكم العقل المستند إلى الإطلاق وقبح الإغراء بالجهل.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٠١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٢) الوسائل ١٨ : ٤ ، الباب الأوّل ، الحديث ٥.

٦٥٣

ومثله ما في مقبولة عمر بن حنظلة : « لكن انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ... » (١) وقول العسكري ( صلوات الله عليه ) في رواية الاحتجاج المرويّة عن تفسيره عليه‌السلام : « وأمّا من كان من الفقهاء صائنا لدينه وحافظا لنفسه كاسرا لهواه تابعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه » (٢) فإنّ الظاهر من الموصول جنس للفرد دون الجمع والاستغراق. والمعنى : أنّ للعوام تقليد أحد من الفقهاء الموصوفين بالأوصاف المزبورة ، وهذا يشمل بإطلاقه صورة الاختلاف كما مرّ. وروي : أنّ أبا الحسن عليه‌السلام كتب جوابا عن السؤال عمّن يعتمد عليه في الدين : « اعتمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا كثير القدم في أمرنا » (٣). وهذا أيضا يدلّ على التخيير ، مثل قوله : « انظروا إلى رجل ... » ؛ لأن الاعتماد على كلّ واحد من أفراد « الرجل » عينا لا يجوز الأمر به جدّا ، فينزّل على التخيير.

والجواب عن هذه الأخبار ونحوها مما يشاركها في إفادة التخيير : أنّها قد وردت نهيا عن الرجوع إلى فقهاء المخالفين ورواتهم وحكّامهم ، فلا يستفاد منها سوى جعل فقهاء الشيعة مرجعا لعوامهم ؛ لعدم ورودها على هذا التقدير في مقام بيان الحجّية العقليّة حتى يتمسّك بإطلاقها ، بل في مقام تشخيص طائفة المرجع من غيرها في الجملة. وممّا يدلّ على ذلك : أنّ عمر بن حنظلة سأل ثانيا عن حكم صورة الاختلاف ، فقال : « فإن اختار كلّ منهما ـ أي المتحاكمين ـ

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٢٦٣ ، وانظر التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١٤٣ ، الحديث ١٤٣.

(٣) الوسائل ١٨ : ١١٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥.

٦٥٤

رجلا من أصحابكم فاختلفا في حكمكم ... » (١) ؛ إذ لو كان في قوله : « انظروا إلى من كان منكم » إطلاق متناول لصورة التعارض ، لم يكن لهذا السؤال ثانيا وجه ، ولكان تعيين الإمام عليه‌السلام الأعدل والأفقه عند المعارضة مخصّصا ، ولا يذهب إليه ذاهب.

وأولى بعدم الإطلاق من الجميع ما في رواية الاحتجاج الواردة في مقام بيان الفرق بين علماء اليهود وعلمائنا ، لا في مقام بيان التكليف الفعلي المحتاج إليه ؛ لأنّ الرجل السائل كان يعلم أنّ تكليف عوامنا هو الرجوع إلى علمائنا ، أشكل عليه ذمّ الله تعالى عوام اليهود على الرجوع إلى علمائهم ، فلا شيء فيه يقتضي الأخذ بإطلاق قوله : « أمّا من كان ... » بعد وروده في ذاك المقام.

وبالجملة ، الإنصاف أنّ الاستناد في حكم مخالف للأصل وللإجماعات المعتضدة بالشهرة إلى مثل هذه الإطلاقات التي كانت بمرأى من أصحابنا السابقين القائلين بعدم التخيير في غاية الإشكال ، خصوصا مع عدم اجتماعها لشرائط الحجيّة ؛ فإنّ رواية أبي خديجة ضعيفة ـ كما قيل ـ بسببه ، وعمر بن حنظلة لم يصرّح بكونه ثقة غير الشهيد الثاني (٢) آخذا وثاقته من مكان آخر غير كتب الرجال ، ورواية الاحتجاج في أعلى مراتب الضعف ؛ لكونها من تفسير العسكري عليه‌السلام الذي لا يعمل بما فيه الأخباريّون ، وإن كان فيها شواهد الصدق موجودة.

__________________

(١) العبارة في الوسائل هكذا : « ... فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما ، واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ... » الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) انظر الرعاية في علم الدراية : ١٣١.

٦٥٥

وممّا ذكرنا ظهر الجواب عن الأخبار الواردة في نقل العلماء مثل النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل » (١) وأما النبوي المروي عن طرق العامة : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (٢) ، فالاستدلال به بعد فرض حجّيته موقوف على العلم باختلاف أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله في حكم المسألة ، وأنّى للمستدل بإثباته مع إمكان دعوى العلم أو الظنّ القوي بعدم الاختلاف ، كما هو الشأن في حقّ كلّ جماعة يأخذون معالم دينهم من شخص واحد سماعا من نبيّ أو وصيّ أو مجتهد ، بل في موضعين منه دلالة على اتفاق الصحابة : أحدهما مادة « الاهتداء » ؛ فإن الاهتداء إلى الحق والصواب عند اختلاف المعتمد عليهم لا يتيسّر إلاّ في متابعة أحدهم ، مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر بحصول الاهتداء بمتابعة الجميع. والثاني « التشبيه بالنجوم » ؛ فإنّها طرق قطعيّة يتوصّل بكلّ واحد منها السالك إلى المقصد ، فكما أنّ الوصول إلى الموضع المقصود ممكن في متابعة كلّ واحد من النجوم ، كذلك ينبغي أن يكون شأن الصحابة أيضا كذلك ، وإلاّ لعرى التشبيه عن المعنى فضلا عن الفائدة ، ولا ريب أنّ ذلك لا يتصوّر ولا يتعقّل عند اختلافهم في الأحكام ، وهذا واضح.

وأمّا الأخبار الخاصة الواردة في حقّ المعدومين من أصحاب الأئمة ( صلوات الله عليهم ) فبما ذكرنا ظهر الجواب عنها أيضا ؛ إذ لم يثبت أنّ معاصري الثقفي مثلا من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام كان فيهم من يخالف قوله قول الثقفي فيما يفتي به من المسائل ، وكان أعلم وأفقه ، حتّى يثمر إطلاق قوله عليه‌السلام : « عليك بالثقفي » في جواز الاعتماد على قوله حينئذ. وهكذا الكلام في سائر

__________________

(١) البحار ٢ : ٢٢ ، الحديث ٦٧.

(٢) كنز العمال ١ : ١٩٩ ، الحديث ١٠٠٢.

٦٥٦

أصحابهم المأمور بالرجوع إليهم كـ : أبان ، وزرارة ، وزكريّا ، وعمري ، ويونس ونحوهم ، بل الظاهر من وثاقتهم واعتماد الإمام عليه‌السلام عليهم وتعيينهم المرجع كونهم أفضل من غيرهم أو مطابقة قولهم للواقع ، ومن هنا قال في الشرائع (١) وغيرها (٢) : إنّ نصب المفضول للقضاء جاز من الإمام عليه‌السلام ؛ لأن نقصانه مجبور بنظره ( روحي وروح العالمين له الفداء ) : وفيه أيضا دلالة واضحة على أنّ المفضول من حيث هو لا يليق بشيء من مراتب القضاء والفتوى مع وجود الأفضل.

والحاصل : أنّ أصحاب الأئمة وإن لم يكونوا كأصحاب النبي في اتّفاق الكلمة واتّحاد القول ؛ نظرا إلى مساس الحاجة أحيانا إلى اختلافهم لتقيّة ونحوها دون اختلاف أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ أنّه كان في غاية القلّة ، فلو سلّمنا حينئذ مخالفة بعض هؤلاء المرجع لغيره الأفضل من الصحابة ، نقول : إنّ مجرّد المخالفة الواقعيّة لا يكفي في التمسّك بإطلاق الأمر لإثبات حجّية قوله عند علم المستفتي بالخلاف ، بل لا بدّ مع ذلك من ثبوت العلم بالخلاف ، لأنّا لا نقول بتعيين الأعلم عند الجهل بالخلاف كما ستعرف ، فحيث لم يثبت علم مقلّدي (٣) لأن مثلا بالاختلاف بينه وبين غيره لم ينفع الإطلاق في شيء. نعم لمّا كان صورة الجهل بالاختلاف في الجملة مقطوعا بها ، كما يشهد به عدم جريان عادات المقلّدين بالفحص والبحث عن المعارض ، فلا جرم من دلالة هذه الأوامر على جواز تقليد المفضول عند الجهل بالاختلاف والله العالم.

__________________

(١) الشرائع ٤ : ٦٩.

(٢) مثل العلاّمة في القواعد ٣ : ٤٢٠.

(٣) كذا في الأصل.

٦٥٧

ومنها ـ يعني من أدلة المثبتين ـ : أنّه إذا لم يكن المفضول قابلا للتقليد كان مساويا للجاهل ، وقد دلّ الاعتبار والآثار في غير موضع من الكتاب على نفي الاستواء ، واجيب بأنّها بالدلالة على العكس أولى ؛ لأنّ المفضول جاهل في مقابل الأفضل في مقدار من العلم ، فلو جاز تقليده كما يجوز تقليد الأفضل ، كانا متساويين.

ولا يرد : أنّ المراد من قوله تعالى : ( ... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ... )(١) نفي مساواة العالم بكلّ شيء والجاهل عن كلّ شيء ، فلا ينفي مساواة العالم بالكلّ والجاهل بالبعض ؛ لأنّ سلب العلم بالكل تارة يتحقّق في ضمن السلب الكلّي واخرى في ضمن السلب الجزئي ، فالمراد بقوله ( لا يَعْلَمُونَ ) عدم العلم بما يعلمه العالمون بالكلّ سواء حصل العلم بالبعض أيضا أم لا ، مع أنّ العلم المطلق والجهل المطلق ممّا لا يكاد يوجد في شخصين من المكلّفين ، وتنزيل الآية على نفي المساواة بينهما تنزيل على الفرض المعدوم والنادر ، فالظاهر إرادة العلم والجهل الإضافيين ، وعليه يتمّ الجواب.

لكن الإنصاف عدم تماميّة شيء من الاستدلالين ؛ لأنّ الظاهر كون المراد بنفي السماوات نفيها من جميع الجهات ؛ لا من كلّ جهة. فلا يلزم تفاوت العالم والجاهل في كلّ شيء ، بل يكفي اختلافهما في بعض الأشياء كالفضل والمرتبة أو أكثرها ، فليتدبّر في المقام.

ومنها : ما أشار إليه صاحب الفصول (٢) : من أنّ تقليد المفضول لو لم يكن جائزا لما جاز لمعاصري الإمام عليه‌السلام تقليد أصحابه ، بل كان عليهم الأخذ منه عليه‌السلام

__________________

(١) الزمر : ٩.

(٢) انظر الفصول : ٤٢٤.

٦٥٨

بلا واسطة أو العمل برواياته ؛ لأنّ القائلين بوجوب تقليد الأعلم يوجبون الرجوع إلى الرواية عنه أيضا ، أمّا الملازمة فثابتة بالأولويّة ؛ لأنّ الإمام أولى بالاتباع عينا عن المجتهد الأعلم. وإلاّ بطلان التالي بالضرورة والبداهة ؛ لأن عوام زمن الإمام عليه‌السلام كانوا يأخذون معالم دينهم من الصحابة ولم يكونوا مقتصرين على الأخذ عن الإمام عليه‌السلام ، ورواية أبان بن تغلب كالصريحة في نفي ذلك والسيرة المستمرّة شاهدة عليه.

وجوابه : أنّ رجوعهم إلى الصحابة في الجملة مسلّم لكنّه غير مجد وإنّما المجدي الرجوع إليهم مع العلم بالاختلاف ، وهذا غير معلوم ، بل معلوم عدمه ، كيف لا مع أنّ مخالفة الإمام عليه‌السلام توجب القطع ببطلان الفتوى ، ولم نسمع أحدا يدّعي جواز التقليد مع العلم بالبطلان فضلا عن وقوعه.

هذا مع أنّ قياس المجتهد الأعلم بالإمام عليه‌السلام فيه ممّا يشمئز منه النفس كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره : من أنّه كان عليهم العمل بالرواية ، ففيه : أنّ المقلّد ليس له أهلية لذلك ، ولو فرض الكلام فيمن كان له التقليد والعمل بالرواية بناء على جوازهما في حقّ أصحاب الأئمة ؛ لعدم الفرق بين الفتوى والرواية في ذلك الزمان ، نقول : إنّ الأخذ بالفتوى المعارضة بالرواية حينئذ أخذ بأحد المتعارضين ، وهذا غير مربوط بالمقام كما لا يخفى.

ومنها : السيرة المستمرّة بين أهل التقليد من السلف إلى هذا الآن ، إذ من المعلوم : أنّ عوام كلّ عصر في كلّ مصر من يومنا هذا إلى زمن الأئمة عليهم‌السلام لم يكونوا ينادي (١) الرجل في طلب المجتهد الأعلم إلى الأطراف والجوانب ، بل

__________________

(١) كذا في الأصل.

٦٥٩

كانوا يعتمدون على قول كلّ فقيه جامع لشرائط الفتوى واختلاف مراتب العلم والآراء في طائفة الفقهاء والمجتهدين والرواة والمحدّثين لا يزال كان ثابتا. وكذلك إفتاء المفضولين من الصحابة ، ولم نسمع أنّ أحدا من الأئمة والصحابة منع من الأخذ بقول الفقيه وألزمهم بالرجوع إلى الأعلم ، مع أنّ التقليد من الامور المهمّة التي ينبغي كمال الاهتمام بشأنها. وقد تمسّك بها الحاجبي (١) والعضدي (٢) وجماعة على ما حكي عنهم (٣).

وجوابه أيضا يظهر ممّا قدّمنا في الأخبار الخاصّة (٤) ؛ لأنّ اختلاف صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام كان نادرا في الغاية ، ومع ذلك فصورة العلم بالاختلاف كان أندر ، ومن أين ثبت أنّ الإمام عليه‌السلام أو بعض أصحابه قد علم بتقليد المفضول مع علم المقلّد بمعارضة قوله مع قول الأفضل منه ، ولم يمنعه كيف؟ مع أنّ العلم بذلك في زماننا مشكل ؛ فإنّا لم نجد أحدا يقلّد فقيها مع اعترافه وعلمه بأنّ غيره الأفقه مخالف له في الفتوى ؛ إذ الغالب الشائع في تقليد المفضول إنكار مقلّده أفضلية غيره عنه ، أو عدم اختلافهما فيما يفتيان لمقلّديهم ، أو عدم علمهم باختلافهما ، وإلى ما ذكرنا يشير ما عن النهاية (٥) والمنية (٦) من منع السيرة.

__________________

(١ و ٢) انظر المختصر وشرحه : ٤٨٤.

(٣) حكاه العلاّمة في نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٤٤٧ ، والسيّد العميدي في المنية : ٣٤٩ ، وانظر مفاتيح الاصول : ٦٢٨.

(٤) راجع الصفحة : ٦٥٧.

(٥) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٤٤٧.

(٦) منية اللبيب : ٤٤٧ ، وحكى عنها السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦٢٨.

٦٦٠