مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

حيث لم ينسبه إلى أحد من المتقدّمين ، مع أنّ بناءه كان على استيفاء الأقوال ، كما يرشد إليه نقل قول الشيخ سليمان والعلاّمة الجرجاني والشيخ علي بن هلال (١) بجواز الأخذ من كتب المجتهدين بعد الأخذ بقول الحيّ أو قول من يحكي عنه ، وإن أردت أن تطمئن نفسك بصدق كلامنا هذا ، فعليك بالمراجعة إلى أدلّة المثبتين والمانعين تجد بعضها مطلقا بالنسبة إلى الابتداء والاستدامة وبعضها مصرّحا بعدم الفرق بينهما.

قال السيّد الجزائري ـ فيما حكي عن بعض رسائله في مقام الاستدلال على الجواز مطلقا ـ : الخامس ـ يعني من أدلة الجواز ـ : إذا أخذ المقلّد مسألة من الفقيه الحيّ ، وكان مصاحبا لذلك الفقيه مطّلعا على أحواله وتبدّل آرائه فأفتاه بحكم مستنده النصّ والإجماع ، فعمل به واستمرّ عليه إلى بعد صلاة المغرب ، فمات ذلك الفقيه بين الصلاتين فعمل بتلك الفتوى في صلاة العشاء ، فتكون بناء على ما قلتم صحيحة وصلاة العشاء باطلة ، فنحن نسأل من بطلان هذه الصلاة الموافق حكمها للنصّ والإجماع؟ ولا يستندون في إبطالها إلى شيء سوى موت ذلك الفقيه ، فحينئذ فاللازم كونه شريكا في الأحكام الشرعيّة ، وهذا لا ينطبق على أصولنا. نعم ، يوافق ما ذهب إليه الكرخي ، حيث يقول في مسجد الكوفة : قال علي وأنا أقول ، يعني خلافا لقوله. وأمّا علماؤنا ( رضوان الله عليهم ) فإنّهم يحكون كلامه ويعملون به ، فلا تفاوت في اتّباع أقوالهم بين حياتهم وموتهم (٢). انتهى كلامه رفع الله مقامه.

__________________

(١) نقله السيّد الصدر في شرح الوافية : ٤٧٠ ـ ٤٧١.

(٢) حكاه السيّد الصدر في شرح الوافية : ٤٧٢.

٦٢١

وفيه من الصراحة في دخول البقاء على تقليد الحيّ بعد موته تحت النزاع ما ترى ، إذ لو لا ذلك لكان الاستدلال أجنبيّا حيث لا يلزم ذلك إلاّ جواز تقليد الميّت استدامة ، ومع خروجه عن تحت كلام المانعين كان التقريب ممتنعا.

وأصرح منه كلام السيّد المحقّق الكاظميني في شرحه على الوافية ، حيث تصدّى لجواب هذا الدليل بالنقض بما إذا تغيّر رأي المجتهد بين الصلاتين ، فلو كان البقاء على التقليد خارجا عن محلّ النزاع غير مشمول لإطلاق كلام المانعين ، كان الأولى (١) تسليم البقاء على التقليد ومنع استلزامه ثبوت المدّعى ، أعني التقليد الابتدائي.

ومثلهما في الصراحة ، بل وأصرح ما ذكره السيّد أيضا في الشرح المزبور في جواب استدلال المجوّزين من العامة : « بأنّ موت الشاهد لا يبطل شهادته ، وكذا فتواه » حيث قال :

أولا : أنّ الشاهد إذا شهد عند القاضي ثم مات قبل الحكم فحكم بعد ذلك بمقتضى تلك الشهادة فليس ذلك من القاضي اعتدادا بقول الميّت وشهادته ، بل بما أصاب من العلم المحرز عنده.

ثمّ لمّا رأى عدم نهوض هذا الجواب في الفرق بين قبول الشهادة والتقليد الاستمراري ، عدل عنه فقال : وأقرب من ذلك وأسلم منه هو : أنّ الكلام في تقليد الميّت واقتفاء أثره واتباعه فيما ظنّ واستنبطه لا في اعتبار خبره وذلك أنّ الأوّل قد يعارض بتقليد الميّت فيما تناوله حيّا (٢) انتهى.

__________________

(١) في الأصل : « أولى ».

(٢) لا يوجد لدينا.

٦٢٢

فانّ هذا الكلام في غاية الصراحة في دخول الاستمراري تحت النزاع كالابتدائي.

وكيف كان ، فالحقّ الذي لا ينبغي الارتياب فيه هو القول المشهور من عدم الجواز مطلقا.

لنا على ذلك أمران :

الأصل المقرّر فيما تقدّم بوجوه ثلاثة.

وإطلاق الإجماعات المزبورة الشاهد على صدقها التتبع في كتب السلف والخلف على ما سنبيّن من فساد توهّم عدم تناولها للاستمراري ، مضافا إلى بعض الوجوه المتقدمة : مثل انعقاد الإجماع على خلاف الميّت دون الحي ، ومثل دوران حجيّة قول المفتي مدار ظنّه الزائل بالموت على ما اتّضح هناك وغيرهما ، كما يظهر بالتأمّل ؛ فإنّ هذه الوجوه على فرض تماميّتها شاملة لمحلّ البحث بل لو سلّم عدم تماميّتها في نفسها فهي ما تشهد باندراج محلّ البحث تحت قول المانعين ؛ لأنّ عموم الحجيّة وإطلاقها دليل على عموم المحجوج له.

وللقول بالجواز أيضا وجوه :

منها : الاستصحاب ، وقد يقرّر تارة بالنسبة إلى نفس المسألة التي نحن فيها ، ويقال : إنّ المقلّد كان له تقليد مجتهده حال حياته ، وارتفاع هذا الحكم بموته غير معلوم ، والأصل يقتضي البقاء.

أو يقال : إنّ المجتهد كان ممّن يجوز الاعتماد على قوله ، والأصل البقاء إلى القطع بطروّ المزيل.

وهذان الاستصحابان قد ظهر جوابهما فيما تقدّم (١) بما لا مزيد عليه : من أنّ

__________________

(١) راجع الصفحة : ٥٨٧.

٦٢٣

الجائز في حقّ المقلّد إنّما كان الأخذ بظنّ المجتهد الحي ، وإذا مات تغيّر الموضوع ، إمّا لزوال الظنّ ، كما حقّقنا وبرهنّا عليه ، أو لزوال الحياة. وتفصيل ذلك مطلوب من هنالك (١).

واخرى بالنسبة إلى الحكم الشرعيّ الثابت في حقّه للواقعة المعيّنة الفرعيّة ، مثل حرمة العصير ونجاسة الغسالة وأمثالهما. ويقال : إنّ العصير قد كان محرّما عليه قبل موت مجتهده. والأصل بقاء الحرمة ؛ لعدم العلم بالمزيل. وهكذا الكلام في نجاسة الغسالة وسائر ما قلّده فيه من المسائل الفرعيّة ، مثل وجوب السورة ونحوها.

وجوابه أيضا يظهر من التأمّل في جواب الأوّل ؛ لأنّ حرمة العصير في حال حياة المفتي لمّا كانت مستندة إلى ظنّه فلا جرم من زوال موضوعها بالموت.

وبيان هذا الإجمال زيادة على ما سبقت إليه الإشارة الإجماليّة في التقليد الابتدائي : أنّ الحكم الثابت للموضوع كالعصير ، تارة يكون من جهة كونه عصيرا واخرى من حيث كونه ممّا تعلّق بحرمة ظنّ المجتهد الحي.

فإن كان الأوّل ، فلا شبهة في جريان الاستصحاب فيه عند الشك في طروّ ما يزيله ، ولكنّه منحصر في القطعيّات التي نعلم بالحكم الشرعي فيها من ضرورة أو إجماع ، إذ لا ملازمة بين الظنّ بالحكم وبين ثبوته في الواقع حتّى في نظر الظانّ إلاّ بعد قيام دليل قطعيّ يفيد الملازمة التي مرجعها إلى وجوب العمل بالظنّ تعبّدا. وحينئذ فالحكم يدور مدار ذلك الظنّ الذي دلّ ذلك الدليل القطعي على اعتباره.

__________________

(١) كذا ، والأنسب : هناك.

٦٢٤

وإن كان الثاني ، فإجراء الاستصحاب فيه ممتنع عند تغيّر الحيثيّة التي كان الحكم ثابتا للعصير من جهتها ؛ لأنّ المتيقّن في الزمان الأوّل ـ يعني قبل ممات المجتهد ـ إن كان حرمة العصير من حيث كونه متعلّق ظنّ الحيّ لا من حيث كونه عصيرا ، فإن أردت بقولك : « إنّ العصير قد كان حراما » : أنّه كان حراما من حيث ذاته ، فقد كذبت ؛ لأنّ حكم ذات العصير من حيث كونه عصيرا غير معلوم ، وإنّما ظنّ به المقلّد من قول المجتهد. وإن أردت به أنّه كان حراما من حيث تعلّق ظنّ المجتهد الحيّ به ومن جهة كون الاجتناب عنه من جزئيّات اتّباع ظنّ المجتهد الحيّ ، فمسلّم معلوم متيقّن في الزمان السابق ، لكن الموت يوجب تبدّل موضوع هذا الحكم الظاهر إمّا بزوال أصل الظنّ ، كما هو الحقّ ، أو بزوال الحياة إلى موضوع آخر ، ومن الواضح أنّ حكم شيء من الموضوعات لا ينسحب بسبب الاستصحاب إلى موضوع آخر ، وبعبارة اخرى : إن أردت استصحاب الحكم الواقعي فلا يقين به في الزمن السابق ، وأن : أردت استصحاب الحكم الظاهري الذي موضوعه ظنّ الحيّ ، إمّا بدعوى كونه قول المفتي ، يعني إخباره عن الواقع كالرواية التي هي موضوع لوجوب عمل المجتهد بها ، أو بدعوى كونه مظنون المجتهد في أحد الأزمنة ، أو كونه ظنّ المجتهد سواء كان حيّا أو ميّتا مع دعوى بقاء الظنّ بعد الموت ، فمع قيام أدلّة واضحة على بطلان كلّ من هذه الاحتمالات ـ كما ظهر طائفة منها من تضاعيف الكلمات الماضية ـ نقول مماشاة : إنّ هذه الدعاوي ليست ممّا قام على شيء منها دليل واضح ، بل مقتضى أدلّة التقليد كون الموضوع ما قلنا : من ظنّ الحيّ ولو من جهة التمسّك بالأصل الذي قد عرفت عدم قيام دليل وارد عليه ، فغاية ما في الباب صيرورة حكم السابق مشكوكا ، وقد قرّرنا واخترنا في محلّه عدم حجّية الاستصحاب عند الشك في الموضوع.

٦٢٥

ومنها : ظواهر الآيات والأخبار الدالّة على جواز التقليد ؛ فإنّ المستفاد منها ثبوت الحكم المقلّد فيه في زمن المقلّد ؛ إذ لم يشترط في وجوب الحذر الإنذار ، والمدلول عليه بآية النفر بقاء المنذر. ولم يقيّد إطلاق الأمر بالتعويل على أقوال العلماء بصورة بقائهم.

وفيه :

أوّلا : منع دلالتها على أصل التقليد ، وسند المنع بالنسبة إلى كلّ واحد منها قد مرّ سابقا (١).

وثانيا : منع إطلاقها بالنسبة إلى صورة البقاء وعدمه ، لأنّ ما عدا آية النفر لا يدلّ على وجوب [ قبول ](٢) قول العالم إلاّ من باب الاستلزام العرفي ، من حيث إنّ الأمر بالسؤال والرجوع إلى العالم لو لم يقصد منه القبول بعد السؤال لكان لغوا. وهذا الاستلزام أمر معنويّ لا إطلاق فيه بالنسبة إلى شيء من الأحوال فضلا عن حالتي الحياة والموت.

وأمّا آية النفر فغاية ما يفيده ذيلها من قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) وجوب القبول من المنذرين الأحياء ، فإمّا يدلّ على اشتراط وجوب الحذر ببقاء المنذرين كما نقول ؛ نظرا إلى تقدير الحذر مقدار الإنذار القائم بنفس الأحياء ، فهو المدّعى أو لا يدلّ على شيء من الاشتراط وعدمه ، بل على ثبوت الحكم في حال حياتهم في الجملة ، فإن كان الأوّل ، كانت الآية دليلا على اشتراط الحياة. وإن كان الثاني ، فلا بدّ في إثبات الحكم عند تغيّر هذه الحالة من التمسّك بالاستصحاب الذي قد عرفت جوابه ؛ لأنّ احتمال مدخليّة بعض الأحوال

__________________

(١) راجع الصفحة : ٥٩٣ ـ ٦١٥.

(٢) الزيادة اقتضاها السياق.

٦٢٦

في الموضوع ما لم يدفع بالدليل يكفي في عدم جريانه عند تغيّر تلك الحالة.

والحاصل : أنّ الآية إنّما تدلّ على اشتراط الحياة أو ساكتة عنه ، وعلى التقديرين يسقط الاستدلال بالإطلاق.

وثالثا : أنّها على فرض دلالتها على جواز البقاء مخصّصة بما سمعت : من إطلاق معاقد الإجماعات التي هي على فرض حجّيتها يحتجّ بإطلاقاتها مثل إطلاق الرواية ؛ لأنّ البقاء على تقليد الحيّ بعد موته عمل بقول الميّت واستناد إليه ، كما هو ظاهر ، فيندرج تحت ما انعقد على بطلان العمل بقوله من الإجماعات الصريحة أو المستفادة من نفي الخلاف المستظهر بالتتبع ، مثل ما سمعت عن المسالك والمعالم وابن [ أبي ] الجمهور الأحسائي وغيرها ، ومنع كون البقاء على التقليد بعد الموت عملا بقوله مكابرة واضحة ، فإنّ العمل بقول الغير في العبادات عبارة عن تطبيقها على ما يقتضيه قوله من الكيفية فالانطباقات العارضة لأشخاص الأعمال المختلفة بتشخّصاتها يصدق على كلّ واحد منها : أنّه عمل بقول الغير ، كما يصدق العمل على كلّ واحد من معروضات تلك الانطباقات.

ومن هنا يظهر الكلام في الأخذ الذي اشتمل عليه بعض العبائر ، النافي للخلاف في عدم جوازه من الميّت ، كعبارة الألفيّة (١) المتقدّم إليها الإشارة ، لأنّ الأخذ والعمل والاعتماد والاستناد ونحوها من الأفعال القابلة للاستمرار ، مثل العقود والجلوس ابتداؤها واستمرارها سيّان في الاندراج تحت أساميها ؛ إذ ليست هي من الامور الآتية التي انحصر مصاديقها فيما يوجد منها في الآن الأوّل ، ألا ترى أنّه لو نهى عن الجلوس في دار الميّت وجب عليه الخروج

__________________

(١) الألفية والنفليّة : ٣٩.

٦٢٧

عنها إذا كان قد جلس فيها حال حياة صاحبها ، وإلى هذا ينظر حكم الفقهاء بالضمان لو انقلبت يد الأمانة إلى العدوان.

ومما ذكرنا ظهر أيضا فساد ما في الفصول (١) : من منع صدق عنوان التقليد على البقاء بدعوى انصرافه إلى الابتدائي أو دعوى كونه حقيقة فيه ، فإنّ دعوى الانصراف لا مستند لها من غلبة ونحوها ، ودعوى التجوّز في الاستمراري يدفعها : أنّ التقليد إمّا عبارة عن نفس العمل أو الأخذ للعمل ، وقد عرفت : استمرار الأخذ أخذ ، واستمرار العمل عمل ، مضافا إلى قلّة جدوى هذه الدعوى بعد ندرة ما اشتمل على لفظ « التقليد » من العبارات الظاهرة أو الصريحة في دعوى الإجماع ، كما قدّمنا ذكر طائفة منها في صدر المسألة ، فإنّها بين ما يدلّ على بطلان العمل وما يدلّ على عدم جواز الاستناد ، وما يدلّ على عدم جواز الأخذ.

نعم في محكي الرسالة المنسوبة إلى الشهيد الثاني : أنّه لا قائل بجواز تقليد الميّت من أصحابنا السابقين وعلمائنا الصالحين ، فإنّهم ذكروا في كتبهم الأصولية والفقهيّة قاطعين فيه بما ذكرنا : من أنّه لا يجوز النقل عن الميّت ، وأنّ قوله يبطل بموته من غير نقل خلاف أجد فيها (٢).

ولم أجد غيره ما (٣) اشتمل على لفظ « التقليد » غير ما سمعت من القاساني (٤) : من نقل الإجماع عن ظاهر الاصوليين على عدم جواز تقليد الميّت.

__________________

(١) الفصول : ٤٢٢.

(٢) رسائل الشهيد الثاني ١ : ٤٤.

(٣) كذا ، والمناسب : ممّا.

(٤) مفاتيح الشرائع ٢ : ٥٢.

٦٢٨

فإن قلت : سلّمنا أنّ البقاء على التقليد تقليد ، وأنّ استمرار الأخذ أخذ ، لكن ندّعي أنّ القول ليس قول الميّت ، بل الحيّ ، فإنّ صدور القول عنه لمّا كان في حال الحياة فلا جرم من كونه منتسبا إلى الحيّ ؛ إذ الميّت ليس بقائل بصدور شيء عنه.

قلنا : فلا معنى حينئذ لقولهم : لا يجوز العمل بقول الميّت حتى في الابتداء ؛ لأنّ القول ينحصر على هذا التقدير في قول الحي. وأيضا ، لا وجه حينئذ لمنع شمول أدلّة التقليد لتقليد الميّت ابتداء ؛ فإنّ الأخذ بقول الميّت حقيقة أخذ بقول الحي مع أنّ المفصّلين معترفون بعدم الشمول.

والحاصل : هذا كلّه في دلالة الإجماعات وأمّا اعتبارها وحجّيتها في المقام ، فقد ظهر ما يدلّ عليه بما لا مزيد عليه : من أنّ هذه الإجماعات الشاهد على صدقها التتبع واعتراف أمثال الشهيد : بأنّه لا قائل من أصحابنا السابقين بجواز تقليد الميّت ، يوجب الكشف القطعي إمّا بدليل دلّ على دعوى واحد من المعتبرين الإجماع في المسألة ، فكيف عن هذه الإجماعات المستفيضة.

ومنها : السيرة فإنّ جريان عادة السلف والخلف على بقاء تقليد المجتهدين بعد موتهم أمر معلوم لا ينبغي أن ينكر وإلاّ لوصل إلينا العدول لتوفّر الدواعي من كثرة ابتلاء الناس بموت المجتهدين ، ولم يعهد إلى الآن من أهالي أعصار الأئمة العدول إلى تقليد الحي بعد موت المجتهد.

وفيه من المنع ما ترى ، لأنّ الناس في زمن الأئمة كانوا بين أصناف ثلاثة :

فمنهم من كان يأخذ معالم دينه من الإمام بلا واسطة.

ومنهم من كان يأخذ بروايات الموثّقين من أصحابهم وبفتاويهم التي هي بمنزلة الرواية ويجتهد فيها.

ومنهم من كان يأخذ منهم الفتوى ويعمل بها تعبّدا.

٦٢٩

ونحن ندّعي أنّ أغلب الناس ـ لو لم يكن كلّهم ـ كانوا بين القسمين الأوّلين ، وإن كان الثاني منهما أغلب ؛ لسهولة الاجتهاد في ذلك الزمان ، وإمكان تحصيل العلم أو الظنّ المعتمد ، وأيّ دليل دلّ على أنّ الفرقة الثالثة قد استمرّوا على تقليد مجتهديهم بعد موتهم وعلمه الامام ولم يردعهم؟

مضافا إلى أنّ تقليد هؤلاء أيضا ربما يفارق تقليد عوامنا لعلمائنا من حيث إنّ ذلك التقليد كان أخذا من الواسطة ، فلا يقاس به الأخذ ممّن يفتي بظنونه الاجتهادية من دون الاستناد إلى السماع عن الإمام ؛ لأنّ الأخذ ممّن سمع عن الإمام عليه‌السلام أو ممّن سمع عن المجتهد من عدول زماننا ليس من التقليد له في شيء ، كما أوضحناه فيما تقدّم.

ومنها : لزوم العسر والحرج الشديدين لو الزم على (١) المقلّد بالعدول ، فإنّ تعلّم المسائل أمر صعب وموت المجتهد أمر ذائع ، فلو وجب العدول عن التقليد بموت المجتهد لزم العسر الواضح والحرج البيّن المنفيّان في الشريعة.

وجوابه : المنع ؛ لأنّ وجوب الرجوع مخصوص بموارد الخلاف ، وهي ليست بمثابة توجب العسر والحرج.

وأمّا الاطّلاع على الخلاف والوفاق فربما يمكن تحصيله في يوم أو يومين بمطالعة الرسالة أو السؤال ونحوهما وأيّ فرق بينه وبين من أراد التقليد في ابتداء بلوغه ، مع أنّ ابتداء التقليد فيه من الصعوبة ما ليست في العدول ، فلو كان في العدول حرج مسقط للتكليف لكان في ابتداء التقليد أشدّ وأولى. نعم لو ألزمنا عليه نقض الآثار السابقة الواقعة على حسب فتوى الأوّل التي تخالفها فتوى الثاني ، وتجديد الأعمال قضاء أو إعادة كما هو الحقّ عندنا ـ على ما سبق بيانه في

__________________

(١) كذا ، والظاهر زيادة « على ».

٦٣٠

مسألة الإجزاء ـ فإن اقتضى العدول العسر والحرج سقط التكليف به بالنسبة إلى خصوص نقض الآثار ، وأمّا البقاء على التقليد في تلك المسألة في مستقبل الزمان فلا ، لأنّ العسر الثابت في نقض الآثار لا يقتضي سقوط التكليف بالعدول بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة ، ومن هنا يظهر : أنّ الاستدلال بلزوم العسر والحرج بناء على وجوب نقض الآثار على تقدير العدول على جواز البقاء على التقليد ليس في محلّه.

وأمّا ما يقال : من أنّ عسر العدول ليس لما فيه نفسه بل في تكراره مقدار تكرار موت المجتهد لإمكان موت المجتهد الثاني الذي اختاره في التقليد أيضا ، ثمّ الثالث ، ثمّ الرّابع إلى ما شاء الله ، وأنّه الفارق بينه وبين الشروع في التقليد ابتداء ، ففيه :

أوّلا : أنّ العدول لكونه أمرا هيّنا يمكن الالتزام به في كلّ سنة مرّة أو مرّتين من غير أن يكون فيه حرج ، فكيف عن الالتزام به في تمام العمر كذلك.

وثانيا : أنّ العسر حينئذ يدور مدار شيء لا يعلمه إلاّ الله ، أعني موت المجتهد ، فليس للمقلّد ترك العدول الذي فيه مقتضى الوجوب ، لاحتمال أدائه إلى الحرج بسبب احتمال موت مجتهده الثاني والثالث.

ثمّ اعلم أنّ القائلين بالبقاء اختلفوا في وجوبه وجوازه ، وأكثرهم على الأوّل ، والتحقيق ـ على تقدير عدم وجوب العدول ـ : هو الثاني ، لأنّ عدم جواز العدول عن تقليد مجتهد إلى آخر لا دليل عليه معتدّا به سوى الإجماع وقاعدة الاحتياط التي مرجعها إلى الأخذ بالمتيقّن فيما خرج عن تحت أصالة حرمة التقليد ، وشيء منها لا يجيء في المقام ، أمّا الإجماع فظاهر ؛ لأنّ الإجماع ـ قد عرفت ـ على وجوب العدول هنا ، وأمّا الاحتياط ـ فلدوران

٦٣١

الأمر بين المحذورين ـ وجوب البقاء ، ووجوب العدول. ولو تمسّك باستصحاب الوجوب حينئذ ففيه ما عرفت في نظائره غير مرّة.

واستدلّ صاحب المفاتيح (١) على الجواز بالاستصحاب ، ثمّ أورد على نفسه : بأنّ هذا الجواز كان في ضمن الوجوب ، فإذا ارتفع الفصل ارتفع الجنس. ثمّ أجاب عنه : بأنّ الجواز حكم وضعيّ عبارة عن صحّة التقليد ، بمعنى كونه مجزيا عن اشتغال الذمّة. والوجوب حكم تكليفيّ ، ولا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر.

ثمّ أورد عليه أيضا : بأنّ الحكم الوضعي هنا إنّما استفيد من الحكم التكليفي ، فلا يتفاوتان.

ثمّ أجاب عنه :

أوّلا : بالمنع ، قائلا : بأنّ مجرّد الشك يكفينا في التمسّك بالاستصحاب.

وثانيا : بأنّ التبعيّة إنّما هي في ابتداء التقليد ، ونمنعه في التقليد الاستمراري.

وأنت إذا تأمّلت في أطراف هذا الكلام تجدها مواضع للنظر.

الثاني : الظاهر أنّ سائر شروط الإفتاء من الإيمان ، والإسلام ، والعدالة ، والعقل ، والعلم مثل الحياة في كونها شرطا في الابتداء والاستدامة ، وبه نصّ المحقّق الثاني في محكي حاشية الشرائع ، قال : ومتى عرض للفقيه العدل فسق ـ العياذ بالله ـ أو جنون أو طعن في السن كثيرا بحيث اختل فهمه امتنع تقليده ؛ لوجود المانع. ولو كان قد قلّده مقلّد قبل ذلك بطل حكم تقليده ؛ لأنّ العمل بقوله في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذ ، وقد خرج

__________________

(١) مفاتيح الأصول : ٦٢٤.

٦٣٢

عن الأهليّة لذلك ، فكان تقليده باطلا بالنسبة إلى مستقبل الزمان (١) ، انتهى.

واستظهر صاحب الفصول (٢) جواز التقليد بقاء في الجنون الإطباقي ومطلقا في الأدواري ، واستشكل في صورة اختلال الفهم وهو بعيد عن الصواب ؛ لأنّ قضيّة الأصل عند الشك في الطريقية والحجّية هو الاشتراط ، ولا معارض لهذا الأصل ممّا يدلّ على عدم اشتراطها في البقاء سوى ما قد تخيّل : من عدم صدق التقليد على الاستدامة ، وعدم كون القول قول غير مجتهد أو قول مجنون ، وكلاهما قد ظهر جوابهما في البقاء على تقليد الميّت ؛ ولأنّ ظاهر الشرطيّة عند إطلاقها يقتضي ذلك ؛ إذ ليس في كلام الأصحاب المشترطين لهذه الامور في المفتي ما يظهر منه اختصاص الاشتراط بابتداء التقليد ، ولأنّ إطلاق ما دلّ على اعتبار بعض هذه الشروط ـ كالعدالة ـ من الأخبار نحو قوله عليه‌السلام في رواية الاحتجاج : « وأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه ... الخ » يتناول الحالتين.

كما يتناولهما الرضوي الدالّ على اشتراط الإيمان : « لا تأخذوا معالم دينكم من غير شيعتنا ؛ فانّك إن تعدّيتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا الله ورسوله ، وخانوا أماناتهم ، إنّهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه ... » (٣) وإن كان دعوى ظهوره في اشتراطه زمن الفتوى ممكنة.

ومثله الدالّة على اشتراطه مطلقا ، باستثناء دعوى الظهور المزبور ، ما عن كتاب الغيبة بسنده الصحيح إلى عبد الله الكوفي ـ خادم الشيخ أبي

__________________

(١) حاشية الشرائع ( مخطوط ) الورقة ٩٩ ، وحكاه عنه في مفاتيح الأصول : ٦٢٥.

(٢) الفصول : ٤٢٣.

(٣) رجال الكشي ١ : ٧ ، الحديث ٤ ، والوسائل ١٨ : ١٠٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢ ، والحديث عن الإمام الكاظم عليه‌السلام.

٦٣٣

القاسم بن روح الذي هو من (١) أحد النوّاب ـ حين سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني بعد ارتداده ، فقال الشيخ : أقول فيها ما قاله العسكري عليه‌السلام في كتب بني فضّال حيث قالوا : ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال : « خذوا بما رووا وذروا ما رأوا » (٢) فإنّ النهي عن الأخذ بآراء الشلمغاني مع ترك الاستفصال بين الأخذ الابتدائي والاستمراري يدلّ بعمومه على اعتبار الإسلام مطلقا.

وهذه الرواية ليس في سندها على ما اعترف به شيخنا ـ دام حراسته ـ من يتأمّل فيه سوى عبد الله الكوفي الذي يكفي في مدحه كونه خادم الشيخ أبي القاسم ، فيكون حسنا مع اعتضادها بإطلاق كلام الأصحاب.

وأمّا المناقشة في دلالتها : بأنّ المراد : بـ « ما رأوا » اعتقادهم الفاسد الذي أوجب خروجهم عن الحقّ بناء على كون كلمة « ما » مصدرية لا موصولة ، فلا تدلّ على حرمة الأخذ بفتاويهم في كتبهم ، فيدفعها غلبة الموصول مع أنّ المصدريّة أيضا تقتضي الحكم بعدم جواز أخذ جميع آرائهم المندرج فيها الفتوى ؛ لأنّ قرينة العهد مفقودة في المقام ، ثمّ في قول العسكري عليه‌السلام : « وذروا ما رأوا » دلالة على اشتمال كتبهم على الفتوى والرأي أيضا ؛ فلا يتوهّم اشتمالها على الروايات خاصّة ، كما أنّ فيه دلالة أيضا على أنّ العبرة في الرواية اتصاف الراوي بالإيمان حين تحمّلها ، فإنّ بني فضّال اختاروا الضلالة بعد أن كانوا على الهداية ، وفي الفتوى باتصاف المفتي حين العمل.

__________________

(١) كذا ، والظاهر زيادة : « من ».

(٢) كتاب الغيبة : ٣٨٩ ، الحديث ٣٥٥ ، والوسائل ١٨ : ١٠٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣.

٦٣٤

لا يقال : قول الشيخ أبي القاسم : « أقول فيه ما قال العسكري صلوات الله عليه » ليس من الرواية في شيء ، بل إنّما هو قول صدر منه بالرأي والمقايسة ، فلا حجّية فيه حينئذ.

لأنّا نقول أوّلا : إنّ فتاوى مثل هذا الشيخ الجليل حجّة مثل روايته ، كما عرفت غير مرّة ؛ لأنّه لم يكن يقول بغير سماع عن الإمام عليه‌السلام كما قال حين سئل عمّا يفتي به من المسائل : إنّك تقول فيها بالرأي أو سمعت عن الإمام عليه‌السلام؟ : « لئن أقع من السماء فتخطفني الطير خير من أن أقول ما لا أسمع » (١).

وثانيا : أنّ موضع الاستشهاد (٢) قول الإمام عليه‌السلام في حقّ كتب بني فضّال الذي رواه الشيخ المزبور ، فيسقط الإيراد من رأسه.

والثالث : إذا مات مجتهده فقلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهدا قائلا بالبقاء والعدول ، ثم إذا مات مجتهده فقلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهدا قائلا بالبقاء والعدول ، ثمّ إذا مات أيضا ذلك المجتهد ، فإن رجع إلى من يوافقه في الفتوى فيهما فهو ، وإن رجع إلى من يخالفه ، فإن كان مختار الثاني البقاء ومختار الثالث العدول ، عدل إلى تقليد الميّت في جميع المسائل الفرعيّة التي كان بانيا فيها على تقليد الأوّل بحكم الثاني ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، وإن كان العكس ، بأن كان مختار الثاني العدول ومختار الثالث البقاء ، ففي رجوع الأمر بالبقاء إلى خصوص المسألة الأصولية التي كان مختار الثاني فيها هو العدول ولازمه العدول في جميع المسائل الفرعيّة التي عدل فيها من تقليد الأوّل إلى الثاني أو إلى الثالث

__________________

(١) كتاب الغيبة : ٣٢٢ ، الحديث ٢٦٩ و ٣٢٦ ، الحديث ٢٧٣ ، والبحار ٤٤ : ٢٧٤ ، ذيل الحديث الأول.

(٢) في الأصل : « الاشتهار » ، وهو من سهو النساخ.

٦٣٥

ثانيا ، أو إلى ما عداها خاصّة من تلك المسائل الفرعيّة وقضيّة البقاء فيها خاصّة دون المسألة الأصوليّة ، إشكال ، من حيث امتناع رجوع الأمر بالبقاء إليهما معا ؛ للتناقض وعدم وجود ما يرجّح أحدهما على الآخر ، لكنّ الذي يقوى في النظر ويقتضيه البداهة بعد التأمل إرجاع الأمر بالبقاء إلى خصوص المسائل الفرعيّة ، حذرا من لزوم تخصيص الأكثر اللازم على تقدير رجوعه إلى خصوص مسألة البقاء والحدوث ، فإذا قيل : إنّ الأمر بالبقاء يرجع إلى ما قلّده فيه في هذه المسألة الأصولية ـ وهو العدول ـ لزم اختصاص إطلاق الأمر بالبقاء بمسألة واحدة وخروج بقيّة المسائل عن تحته ، واستهجان هذا القسم من التخصيص واضح ؛ لأنّ العام إذا كان بينه وبين بعض أفراده مضادّة ومناقضة ، فمن دخوله تحته يلزم اجتماع النقيضين. مثلا إذا دلّ الدليل على أنّ كلّ خبر عدل حجّة ، فدلّ بعض الأخبار على عدم حجّية الأخبار ، فمن دخول هذا الخبر تحت عموم ذلك الدليل يلزم أن يكون هذا الخبر حجّة ولا حجّة.

أمّا الأوّل : فمن جهة كونه مشمولا للدليل الدالّ على حجّية الخبر.

وأمّا الثاني : فمن جهة كونه نافيا لحجّيته مطلقا التي هي من جزئيّاتها ، فهو حجّة من حيث كونه خبرا ، وغير حجّة من هذه الحيثية أيضا. فلا بدّ من إخراج هذا الخبر عن تحت ذلك الدليل فتأمّل جيّدا.

وأيضا لا خفاء في أنّ مراد من يأمر بالبقاء ، هو البقاء على كيفيّات ما صدر عنه من الأعمال ، لا البقاء على ما يلزم منه تغيير تلك الكيفيات.

ومن هذا الباب ما يجاب به عن الإشكال في دلالة الآية على حجّية الأخبار : بأنّه يلزم من حجّيتها عدم الحجّية ؛ لصدق النبأ على دعوى الإجماع الذي ادّعي على عدم حجّيتها ، كما عن السيّد (١).

__________________

(١) انظر رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤ و ٣ : ٢٠٩.

٦٣٦

أو في حجّية الشهرة : بأن حجّيتها توجب عدم حجّيتها ؛ لقيام الشهرة على عدم الحجّية.

أو في حجّية الكتاب : بأنّه ظاهر جملة من الآيات حرمة العمل بالظن ، فيلزم من حجّيتها عدم حجّية الظنون الكتابيّة أيضا. إلى غير ذلك من نظائر المقام ، التي يلزم من الحكم باندراج بعض أفراده فيها خروج بقيّة الأفراد. فإنّ ذلك الفرد ممّا ينبغي القطع بعدم اندراجه تحت إطلاقه أو عمومه ، فالظاهر أنّ البقاء على تقليد المجتهد الثاني متعيّن.

الرابع : قد عرفت في صدر المسألة أنّ الأردبيلي ذهب ـ فيما حكي عنه ـ وكذا العلاّمة ـ على اختلاف فيه ـ إلى جواز تقليد الميّت مع فقدان الحي مطلقا أو في ذلك الأفق ، واستدلّ في محكي مجمع الفائدة (١) : بالضيق والحرج ، والاستصحاب ، وبحصول الحكم من الاستدلال ولم يتغير بموت المستدل ...

ثمّ قال : والظاهر أنّ الخلاف ظاهر كما صرّح به في الذكرى والجعفرية وكتب الأصول ، وليس بمعلوم كون المخالف مخالفا ؛ لبعد ذلك عن الذكرى المخصوص ببيان مسائل الأصحاب ، وعدم اختصاص دليل الطرفين بالمخالف ، ولكن مع ذلك لا يحصل الراحة به ، انتهى.

والتحقيق هو : أنّ وظيفة المقلّد بعد العجز عن الأخذ بقول الحي هو الاحتياط ؛ لأنّه طريق القطع بالبراءة بعد انسداد باب العلم وتعذّر العمل بالظنّ الخاص الذي هو قول الحيّ ، فإنّ أدلّة اشتراط الحياة : من الأصل ، وإطلاق الإجماعات ، وغيرها من الوجوه المتقدّم إليها الإشارة كما يقتضي عدم الفرق بين الابتدائي والاستمراري ، كذلك يقتضي عدم الفرق بين صورتي الاختيار والاضطرار من غير فرق أصلا ، مضافا إلى اقتضاء قاعدة الشرطيّة ذلك ،

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٧ : ٥٤٧.

٦٣٧

فإن امتنع الاحتياط ـ لدوران الأمر بين المتباينين ونحوه كالحرج الشديد مثلا ـ أخذ بالشهرة المحقّقة ، ثمّ بالشهرة المحكيّة ، ثمّ بما دونها من الأمارات الظنّية مراعاة للأقوى فالأقوى ، حتى إذا انحصر أمره في العمل بقول الأموات لزم اتباع أعلم الأموات ؛ لأنّ وظيفة المقلّد حينئذ الاجتهاد ؛ لقضية الانسداد ، وبقاء التكليف بالبداهة ، كما اعترف به المولى البهبهاني (١).

والمراد بالأقوى ما حكم مجتهده بكونه أقوى ، لا ما هو أقوى في نظره ؛ لأنّه ليس له أهليّة لمعرفة أقوى الأمارات بحسب النوع ، فإن كان قد سأل عن مجتهده قبل أوان الاضطرار من حكم حالتها وأخذ منه المرجع : من الاحتياط ، أو الشهرة ، ونحوها ، لم يتعدّ عنه ولو كان الظنّ الشخصي الحاصل في المسألة على خلافه ؛ لأنّ الظنون الخارجيّة المستندة إلى امور أخر خارجيّة اتفاقيّة ، التي تحصل للمقلّد قبال ما جعله المرجع لمجتهده من الأمارات المفيدة للظنون نوعا وبحسب الذات لا عبرة بها جدا ، كما يأتي توضيحه في تقليد الأعلم.

وإن لم يكن قد سأل مجتهده قبل عروض الاضطرار عن حكمها ، ولم يكن في يده شيء من الأمارات التي عيّنه مجتهده في تلك الحالة ، فلا محيص له عن الاعتماد على ظنونه الشخصيّة بحكم العقل.

والحاصل : أنّ حكم المقلّد في حال الاضطرار هو العمل بأقوى الأمارات في نظر المجتهد من الشهرة المحققة ، ثم الإجماع المنقول ، ثمّ الشهرة المحكيّة ، ثمّ أعلم الأموات ، حافظا للترتيب بينها. فإن اقتدر على تعيينه بأن كان قد سأله قبل الاضطرار أو تمكّن من السؤال عن تشخيص أقواها لم تبعد عنها جدّا وإن ظنّ بخلافه. وإن عجز عن تعيين ذلك ، فالمتّبع هو الظنّ الشخصي من أي شيء حصل.

__________________

(١) انظر الرسائل الفقهيّة : ٢٧.

٦٣٨

فهذا الحكم ـ أعني وجوب الأخذ بأقوى الأمارات على العامي ـ إنّما ينتفع به المجتهد إذا سأله العامي عن حال العجز من الأخذ بقول الحيّ ، وأمّا العامي فلا ينفع (١) بهذا ؛ لعدم تمكّنه من تميز (٢) أقوى الأمارات الفرعيّة. وقد اعترف المحقّق الثاني والمولى البهبهاني بأكثر ما عيّنا من الأمارات عند فقد الحي على ما حكاه عنه صاحب المفاتيح (٣) ، فراجع وتأمّل والله العالم.

الخامس : لا يجوز الرجوع إلى الفاسق ، أو الكافر ، أو العامي المسبوق بالاجتهاد عند فقد المستجمع للشرائط ؛ للأصل وإطلاق كلام الأصحاب الشامل لحالتي الاختيار والاضطرار ؛ ولأنّ قضيّة الشرطيّة ذلك ، بل يجب عليه الاحتياط ، ثمّ العمل بالشهرة المحقّقة أو المحكيّة على قياس ما عرفت في تقليد الميّت عند تعذّر الأخذ من الحيّ ، لكن إن أدّى الأمر إلى العمل بقول أحدهم ففي تقديم قول الميّت ، أو تقديم قول الفاسق ، أو العامي المسبوق بالاجتهاد ، احتمالات ليس عندي ما يرجّح إحداها على الآخر ، إلاّ أنّ إطلاق النواهي الدالّة على عدم الأخذ بقول الفاسق والمخالف من الأخبار يقتضي تعيين قول الميّت أو العامي ، وأمّا بالنسبة إليهما فالمتّبع هو الظنّ الشخصي إن كان ، وإلاّ فالتخيير. والله العالم.

السادس : إذا اختلف الأحياء في العلم والفضيلة فهل يتعيّن تقليد الأفضل أو يتخيّر بينه وبين تقليد المفضول؟ حدث لجماعة ممّن تأخّر عن الشهيد الثاني قول بالتخيير بعد اتفاق من تقدّم عنه ظاهرا على تعيين الفاضل ، وهو خيرة

__________________

(١) كذا ، والمناسب : فلا ينتفع.

(٢) كذا ، والمناسب : تمييز.

(٣) انظر مفاتيح الأصول : ٦٢٥ ـ ٦٢٦ ، والرسائل الفقهيّة : ٢٧.

٦٣٩

المعارج (١) والإرشاد (٢) ونهاية الاصول (٣) والتهذيب (٤) والمنية (٥) للعميدي والدروس (٦) والقواعد (٧) والذكرى (٨) والجعفريّة (٩) للمحقق الثاني وجامع المقاصد (١٠) وتمهيد الشهيد الثاني (١١) والمعالم (١٢) والزبدة (١٣) وحاشية المعالم للفاضل المازندراني (١٤) ، وإليه ذهب صاحب الرياض (١٥) فيما حكي عنهم جميعا ووافقنا في ذلك جماعة من العامة (١٦) ونسبه في محكي المسالك (١٧) إلى الأشهر بين أصحابنا ،

__________________

(١) معارج الأصول : ٢٠١.

(٢) إرشاد الأذهان ٢ : ١٣٨.

(٣) نهاية الأصول ( مخطوط ) : ٤٤٧.

(٤) تهذيب الوصول : ٢٩٣.

(٥) منية اللبيب : ٣٦٩.

(٦) الدروس ٢ : ٦٧.

(٧) القواعد والفوائد ١ : ٣٢١ ، القاعدة ١١٤.

(٨) الذكرى ١ : ٤٣.

(٩) رسائل المحقق الكركي ١ : ٨٠.

(١٠) جامع المقاصد ٢ : ٧٦.

(١١) تمهيد القواعد : ٣٢١ ، القاعدة ١٠٠.

(١٢) معالم الدين : ٢٤٦.

(١٣) زبدة الاصول : ١٢٠.

(١٤) لم نعثر عليه في الحاشية ، وحكاه في المفاتيح : ٦٢٦.

(١٥) رياض المسائل ١٣ : ٥٠.

(١٦) نسبه في فواتح الرحموت المطبوع ذيل المستصفى ( ٢ : ٤٠٤ ) إلى أحمد وكثير ممّن بعده.

(١٧) المسالك ١٣ : ٣٤٣.

٦٤٠