مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

ذكره بعض الأصوليّين (١) في مسألتي حجيّة الخبر الواحد وقول المفتي ، إغماضا عن سوق الآية وما ورد فيها.

وثانيا : أنّ الظاهر من الأمر بالسؤال عند عدم العلم إرادة تحصيل العلم لا وجوب السؤال للعمل بما يجيب المسئول تعبّدا ، وهو واضح ، فلا دلالة لها على أصل التقليد التعبّدي فضلا عن تقليد الميت.

وثالثا : أنّ الذكر عبارة عن العلم ، فلا دلالة فيها على وجوب السؤال عن المجتهدين المعتمدين على الظنون إلاّ في الفتاوى التي تكون عن علم ، والمدّعى هو إثبات جواز التقليد في الفتاوى الظنّية خاصّة أو مطلقا ، اللهم إلاّ أن يدفع بالإجماع كما عرفت في آية النفر.

ورابعا : أنّ المراد بـ « العلماء » الأحياء ، ودعوى صدق « العلماء » على الأموات ممنوعة في الغاية ، إمّا لزوال العلوم والاعتقادات القائمة بالنفس بالموت وإن حصل بعده اعتقادات اخرى حضورية موافقها أو مخالفها ، أو لظهوره في الأحياء لعلّه لأجل ذلك استدلّ بعض الأصوليين (٢) بهذه الآية على عدم جواز تقليد الميّت وإن كان ليس في محلّه ، نظرا إلى أنّ ظهور « العلماء » في الأحياء لا يوجب دلالة الآية على المنع من الرجوع إلى الأموات.

والإنصاف أنّ الآية تدلّ على وجوب عمل السائل بالتقليد.

ومن جملة الأدلّة إطلاق السنّة التي وردت في مشروعيته ، وهي طائفتان : طائفة منها ورد (٣) في رجوع آحاد الناس إلى الأشخاص المعيّنين. والاخرى قد وردت في حجّية أقوال العلماء والرواة والمحدّثين.

__________________

(١) انظر الفصول : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٢) استدلّ بها في الفصول : ٤١٩.

(٣) كذا ، والمناسب : وردت.

٦٠١

أمّا الاولى ، فهي أيضا قسمان : قسم دلّ على الرجوع إلى رواياتهم ، بحيث يظهر منه عدم الفرق بين الفتوى والرواية ، مثل ما ورد في حقّ زرارة من الأمر بالرجوع إليه ، كقوله عليه‌السلام : « إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس » (١) يشير إلى زرارة ، وقوله عليه‌السلام : « وأمّا ما رواه زرارة عن أبي [ جعفر عليه‌السلام ] فلا يجوز ردّه » (٢) وفي حقّ محمد بن مسلم ، كقوله بعد السؤال عنه عمّن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة : « فما منعك عن الثقفي ـ يعني محمد بن مسلم ـ فإنّه قد سمع عن أبي عليه‌السلام أحاديث وكان عنده وجيها » (٣) وفي حقّ أبان كقوله : « ائت أبان بن تغلب ، فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا فما روى لك منّي فاروه عنّي » (٤) وغير ذلك ممّا ورد في أمثال هؤلاء الأجلاّء في الدين الذين نطقت بعض النصوص في حقّ بعضهم : بأنّه لولاهم لاندرس آثار النبوّة ، مثل قول أبي محمّد في حقّ العميري (٥) وابنه اللذين هما من النواب : « إنّهما ثقتان فما (٦) أدّيا اليك عني ـ مخاطبا لأحمد بن إسحاق ـ فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان » (٧).

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٠٤ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩.

(٢) نفس المصدر ، الحديث ١٧.

(٣) نفس المصدر ، الحديث ٢٣.

(٤) نفس المصدر ، الحديث ٣٠.

(٥) كذا في النسخ ، وقد أكثر هذا الاستعمال فيما يأتي ، والصحيح هو « العمري » إشارة إلى « عثمان بن سعيد العمري » وابنه « محمد بن عثمان بن سعيد العمري » رحمه‌الله. انظر معجم رجال الحديث ١٦ : ٢٧٤ ، ترجمة محمد بن عثمان بن سعيد.

(٦) في النسخ : « فيما » وهو سهو.

(٧) الوسائل ١٨ : ١٠٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

٦٠٢

وقسم منهما دلّ على جواز الأخذ بفتواهم ، مثل قول الباقر عليه‌السلام لأبان : « اجلس في المسجد وأفت للناس فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك » (١). ونحوها ما ورد في النهي عن الإفتاء بغير علم وغير اطّلاع بالناسخ والمنسوخ ضرورة دلالتها على الجواز إذا كان المفتي جامعا لشرائط الفتوى.

وقسم يشتمل (٢) الفتوى والرواية مثل قوله عليه‌السلام لشعيب العقرقوفي بعد السؤال عمّن يرجع إليه : عليك بالأسدي ، يعني أبا بصير (٣) ، وقوله لعلي بن المسيب بعد السؤال عمّن يأخذ منه معالم الدين : « عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا » (٤) ، وقوله عليه‌السلام لعبد العزيز بن المهدي (٥) لمّا قال : ربما أحتاج ولست ألقاك في كلّ وقت أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟ قال : نعم (٦). وغير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع ، ومنه قول أبي [ محمد ] لعميري (٧) وابنه ما سمعت ، وإن كان ظاهره في الرواية دون الفتوى.

وأمّا الطائفة الثانية ، فمنها ما يدلّ على وجوب قبول الحكم عند الترافع مثل قول الصادق عليه‌السلام ـ في خبر عمر بن حنظلة المتلقّى بالقبول ـ : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا فارضوا به

__________________

(١) المستدرك ١٧ : ٣١٥ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤.

(٢) كذا ، والمناسب : يشمل.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٠٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٠٦ ، الحديث ٢٧.

(٥) كذا ، والصحيح : « المهتدي ».

(٦) الوسائل ١٨ : ١٠٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

(٧) كذا ، والصحيح : « للعمري ».

٦٠٣

حاكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّه بحكم الله استخفّ ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله عزّ وجلّ » (١) ، ومثل قوله أيضا في خبر أبي خديجة : « إيّاكم أن يحاكم بعضكم [ بعضا ] إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم حكما ، فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه » (٢).

ووجه الاستدلال بها على التقليد : إمّا لأنّ قبول الحكم يستلزم قبول الفتوى بالإجماع المركّب أو بالأولويّة كما قيل (٣) ، فتأمّل.

أو لأنّ الترافع قد يكون من جهة اختلاف المتحاكمين في حكم الله ( تعالى ) فيكون قبول الحكم حينئذ متوقّفا على اعتبار فتواه في بيان الحكم الشرعي ؛ إذ لو لا ذلك لما حصل فصل للخصومة وهو واضح.

ومنها : ما يدلّ على جواز الرجوع إليهم من غير تقييد بالرواية أو الفتوى ، فيكون بإطلاقه دليلا على جواز التقليد لأهله كما يكون دليلا على جواز العمل بالرواية لأهله ، مثل قول الحجّة ( عجّل الله فرجه ) ـ في التوقيع الشريف لإسحاق بن يعقوب على ما عن كتاب الغيبة للشيخ ، وإكمال الدين للصدوق ، والاحتجاج للطبرسي ـ : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله » (٤) حيث إنّ الأمر بالرجوع إلى الرواة لو سلّم ظهوره

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ١٨ : ٤٠ ، الباب الأول ، الحديث ٥.

(٣) انظر مفاتيح الأصول : ٥٩٨.

(٤) كتاب الغيبة : ٢٩١ ، الحديث ٢٤٧ ، وكمال الدين : ٤٨٤ ، الحديث ٤ ، والاحتجاج ٢ : ٢٨٣ ، وعنها في الوسائل ١٨ : ١٠١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

٦٠٤

في العمل بالرواية فمقتضى التعليل : « بأنّهم حجّة على الناس من قبل الإمام » وجوب الأخذ بفتاويهم أيضا ؛ لأنّ المجتهد يجب اتباعه في كلّ ما يخبر به ، سواء كان نفس الحكم الشرعي أو دليله ، بل يقتضي ذاك التعليل وجوب الرجوع إلى أقوالهم بعد موتهم أيضا ؛ لأنّ موت الحجّة لا يوجب سقوط اعتبار قوله ، ويدل عليه أيضا قوله عليه‌السلام : « وأنا حجّة الله » عقيب التعليل المزبور الدالّ على كون حجّيتهم مثل حجّيته عليه‌السلام ، فإنّ حياة الحجّة ومماته سيّان في اعتبار قوله.

ومنها : ما نصّ على جواز تقليد الفقيه الجامع لسائر شرائط الفتوى كالعدالة ، مثل ما في محكي الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ ... )(١) الآية الواردة في ذمّ عوام اليهود والنصارى في متابعة علمائهم في إنكار آيات النبوّة وآثارها ، وهو طويل لا بأس بذكره على طوله تيمّنا وتبرّكا بذكره ، وهو : أنّه « قال رجل للصادق عليه‌السلام : وإذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ ما يسمعون من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلّدون علماءهم فإن لم يجز لاولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم؟

فقال عليه‌السلام : بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة :

أمّا من حيث استووا فإنّ الله تعالى ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم [ بتقليدهم علماءهم ](٢) وأمّا من حيث افترقوا فلا.

__________________

(١) البقرة : ٧٨.

(٢) لم يرد في المصدر.

٦٠٥

قال : بيّن لي يا بن رسول الله.

قال عليه‌السلام : إنّ عوام اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح (١) ، وبأكل الحرام والرشا وتغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات [ والعنايات ](٢) وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون [ به ](٣) أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه ، وأعطوا ما لا يستحقّه [ من ](٤) تعصّبوا له من أموال غيرهم [ وظلموهم من أجلهم ](٥) وعرفوهم يقارفون المحرّمات ، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على الله تعالى ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله تعالى ؛ فلذلك ذمّهم لمّا قلّدوا من عرفوا ومن قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في [ حكايته ](٦) ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى ، وأشهر من أن لا تظهر لهم ، وكذلك عوام امّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر ، والعصبيّة الشديدة ، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا ، [ و ] بالترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا ، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله تعالى

__________________

(١) في المصدر : « الصراح ».

(٢) في الأصل : « والنسيانات ».

(٣) في الأصل : « الله ».

(٤) في الأصل : « لمن ».

(٥) في الأصل : « وظلمهم ».

(٦) من المصدر.

٦٠٦

بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه ، مخالفا لهواه (١) ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأمّا من ركب من القبائح [ والفواحش ](٢) مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة.

وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل [ عنّا ](٣) أهل البيت (٤) [ لذلك ](٥) ؛ لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم ، وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنّم ، ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا ، يتعلّمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجّهون به عند شيعتنا ، وينتقصون بنا عند أعدائنا (٦) ثمّ يضعون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها فيتقبّله المسلّمون [ المستسلمون ](٧) من شيعتنا على أنّه من علومنا ، فضلّوا وأضلّوا. اولئك (٨) أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد [ لعنه الله ](٩)

__________________

(١) في الأصل والاحتجاج : « على هواه ».

(٢) من المصدر.

(٣) في الأصل : « منّا ».

(٤) في الأصل زيادة : « صلوات الله عليهم أجمعين ».

(٥) في الأصل : « لتلك ».

(٦) في المصدر : « نصّابنا ».

(٧) من المصدر.

(٨) في المصدر : « وهم ».

(٩) لم يرد في المصدر.

٦٠٧

على الحسين بن علي عليهما‌السلام (١). انتهى الحديث الشريف ، دلّ بموضعيه على مشروعية التقليد في حقّ العوام.

أحدهما : لمّا أشكل عليه ظاهر الآية الواردة في ذمّ تقليد عوام اليهود لعلمائهم لما وجده من المسلّمات عند الشيعة من تقليد عوامهم لعلمائهم ، أجاب عليه‌السلام بابداء الفرق بين التقليدين لا بإنكار أصل التقليد الذي كان هو الأولى بالجواب لو كان التقليد أمرا فاسدا من أصله ، وهذا تقرير منه عليه‌السلام لما اعتقده من مشروعيّة التقليد.

والثاني : قوله عليه‌السلام : فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه ... الخ فإنّه صريح في حجّية قول الفقهاء في حقّ العوام وجواز اعتمادهم على أقوالهم ، ومطلق في الدلالة على الحجّية في حال الحياة والممات.

ومثل ما عن المحاسن في محكي البحار قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « فبقول العلماء فاتبعوا » (٢) إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبّع ، فإنّ المستظهر من جميع هذه الأخبار هو : أنّ فتوى الفقيه وقوله حكم ثانويّ في حق غيرهم من العوام الغير البالغين حدّ الفقاهة ، فلا يتفاوت حينئذ بين حال الحياة والممات.

وقد يستدلّ على ذلك بدعوى استفادة المناط القطعي من هذه الأخبار ، وبيانه : أنّه قد ثبت من هذه الأدلّة حجّية قول الحي في حق المقلّد ، وهذا

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٩٩ ، وحكاه عنه الطبرسي في الاحتجاج ٢ : ٢٦٢ ، مع اختلاف أشرنا إلى أهمّ موارده.

(٢) المحاسن ١ : ٤١٩ ، الحديث ٩٦١ ، وعنه في البحار ٢ : ٩٨ ، الحديث ٥١ ، وفيه : « فانتفعوا ».

٦٠٨

ليس إلاّ لأجل كون قوله خبرا عن الواقع وكاشفا عنه. ولا يخفى أنّ صفة الحكاية غير زائلة عنه بمفارقة الحياة.

والفرق بين هذا وبين الاستدلال الأوّل : أنّ الاستدلال الأوّل مبنيّ على اندراج تقليد الميّت تحت إطلاق الأدلّة ، وهذا مبنيّ على اختصاصها بتقليد الحيّ مع اشتراك تقليد الميّت له في المناط المستظهر من عمومها ، وظاهر الوافية (١) أو صريحها هو الأول والثاني مما ذكره بعض الأصوليين.

وقد يستدل أيضا بما دلّ : على « أنّ حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (٢) بعد ملاحظة هذه الأخبار وغيرها ممّا دلّ على أنّ قول الفقيه حكم ثانويّ في حق المقلّد ؛ إذ لا فرق في تأييد الأحكام وعدم تغيّرها بتغيير الأحوال والأزمان بين الحكم الأوّلي والثانوي ، وقد استدلّ أيضا (٣) زيادة على الأخبار المزبورة بخصوص ما ورد في كتاب يونس بن عبد الرحمن المسمى بـ « يوم وليلة » بعد موته ، من قول أبي الحسن عليه‌السلام ـ بعد أن عرضه أبو جعفر الجعفري عليه ونظر فيه وتصفّحه كلّه ـ : « هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحق كلّه » (٤) ، وقول أبي جعفر عليه‌السلام بعد التصفّح من أوله إلى آخره : « رحم الله يونس » (٥). فإنّ الأوّل نصّ في جواز العمل بكتابه وهو ميّت ، والثاني ظاهر في التقرير على العمل به.

__________________

(١) انظر الوافية : ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٢) يدلّ عليه ما في الوسائل ١٨ : ١٢٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧.

(٣) انظر الوافية : ٣٠٥.

(٤) الوسائل ١٨ : ٧١ ، الباب ١٧ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٥.

(٥) الوسائل ١٨ : ٧١ ، الباب ١٧ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٤.

٦٠٩

وهذه الأخبار معظم ما يتمسّك بإطلاقها على جواز تقليد الميّت ، وبقيّة الوجوه لشدّة ضعفها ليس ممّا يصلح لتوهّم الخروج عن أصالة حرمة التقليد بسببها قوة (١) الوجه العقلي الذي ستسمع.

والإنصاف : أنّها غير ناهضة في إثبات المدّعى ؛ إذ قد عرفت في الجواب عن الآيات : أنّ المقصود المتعارف من الأمر بالرجوع إلى الرواة والمحدّثين والعلماء والموثّقين ليس إلاّ بلوغ الحقّ إلى الجاهل وعلمه بما كان في جهل منه ، وأمّا إنشاء حكم ثانويّ تعبديّ ، وهو العمل بقولهم من دون حصول العلم والاعتقاد ، فهو بمراحل عن ذلك ، فلا دلالة لها على شرعيّة أصل التقليد فضلا عن تقليد الميّت ، ولذا قال صاحب المعالم : إنّ المعتمد من أدلّة التقليد إنّما هو الإجماع والضرورة ، وهما قاصران عن الدلالة على جواز تقليد الميّت (٢) ، وقد حقّقنا هذا المعنى في مسألة أخبار الآحاد ، ومما يؤكّد ما قلنا : من كون المقصود منها تعليم الجهّال بالأحكام الشرعيّة زيادة على ما هو الغالب المتعارف في أمثال هذه الخطابات اشتمال بعض الروايات الخاصّة ، مثل ما ورد في حقّ يونس (٣) وزكريا بن آدم (٤) على لفظ « الثقة » و « الأمانة » ؛ فانّ اعتبار وصف الوثاقة والأمانة في المسئول عنه والمأخوذ منه ـ كما يقتضيه سوق الرواية ولو بملاحظة سؤال عبد العزيز الراوي عن كون يونس ثقة ليؤخذ عنه معالم الدين ، لا عن أصل جواز الأخذ ـ ممّا يشعر أو يدلّ على أنّ المقصود من

__________________

(١) في العبارة خلل.

(٢) معالم الدين : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ، نقلا بالمعنى.

(٣) مرّ في الصفحة : ٦٠٣.

(٤) مرّ في الصفحة : ٦٠٣.

٦١٠

الرجوع إلى الرواة والموثّقين هو الوصول إلى الواقع ، لا تحصيل موضوع حكم ثانويّ تعبديّ ، أعني : قول المفتي من حيث نفسه وكذا يؤكّد مورد رواية الاحتجاج (١) المصرّحة بجواز تقليد الفقهاء التي هي أوضح الأخبار وأصرحها دلالة بما هو من أصول الدين ، أعني : أمر النبوّة ، مع اتفاق الأصحاب على عدم جواز التقليد فيها.

ومع التنزّل عن جميع ذلك نجيب عن الأخبار الخاصة : بأنّ أمر الإمام عليه‌السلام بالأخذ من زرارة وأبان وإسحاق ويونس وزكريّا والعميري ونحوهم ممّن أدركوا شرافة حضوره عليه‌السلام وأخذوا معالم الدين عنه بالسماع والشفاهة لا يدلّ على جواز الأخذ بقول كلّ من يفتى باجتهاده تعبّدا ؛ لأنّهم كانوا وسائط بين الإمام وبين سائر الخلق ، مثل وسائط عصرنا بين المجتهدين والمقلّدين من العدول والموثّقين. والأخذ من الواسطة ليس من التقليد له في شيء. نعم ربما يفتي الواسطة باجتهاده مثل قول الشيخ أبي القاسم بن روح الجليل حين سأله (٢) عن كتب الشلمغاني : « أقول فيها ما قاله العسكري عليه‌السلام في كتب ابن (٣) فضّال ، حيث قالوا : ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال : خذوا ما رووا وذروا ما رأوا » (٤). لكن اجتهاد مثل هذه الأشخاص مستند إلى السماع عن الإمام عليه‌السلام عموما أو خصوصا قطعا ، فالعمل باجتهادهم ورواياتهم في مرتبة واحدة

__________________

(١) مرّ في الصفحة : ٦٠٧.

(٢) كذا ، والمناسب : سئل.

(٣) كذا ، والصحيح : بني.

(٤) انظر البحار ٢ : ٢٥٢ ، الحديث ٧٢ ، والوسائل ١٨ : ١٠٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣.

٦١١

يجب على المقلّد والمجتهد على حدّ سواء ، فلا يقاس بهم غيرهم من المفتين الذين يفتون بغير سماع عن المعصوم.

ومن هنا يظهر أنّ ما ورد في حق عمري مثلا : من « أنّ قوله قولي وكتابه كتابي » (١) وأمثال ذلك في حقّ أمثاله لا يفيد حجّية الفتوى من كلّ من يفتي باجتهاده. كما يظهر : أنّ أمر أبان بالإفتاء بين الناس لا يقتضي جواز تقليد غير الوسائط ، ومن هذا الباب ما قيل (٢) في حقّ علي بن بابويه : من أنّ الأصحاب كانوا يعملون بفتاويه عند إعواز النصوص.

ومع تسليم جميع ما ذكر منه لا دلالة فيها على جواز تقليد الميّت ابتداء كما لا يخفى.

وأمّا الأخبار العامة ، فيرد على أخبار الحكومة ـ بعد تسليم دلالتها على حجّية الفتوى ـ : أنّها بالدلالة على عكس المقصود ، أعني عدم جواز تقليد الميّت أولى ؛ لأنّ الحكومة لمّا كانت من المناصب الزائلة بالموت فتشاركه الفتوى في المنصبية والارتفاع بما يوجب ارتفاعها ، وعلى ما في التوقيع من قوله : « والحوادث الواقعة فارجعوا فيها ... الخ » إنّ الاستدلال به موقوف على كون المراد بالحوادث الواقعة مواضع التقليد من المسائل العمليّة ، وهذا غير معلوم ؛ لأنّ « اللام » في الحوادث « لام » عهد ، إشارة إلى الحوادث التي سأل عن حكمها إسحاق ، وسؤاله ليس بيدنا حتّى ننظر في المراد بها. ومن هنا ينقدح امتناع حمل « اللام » على الاستغراق الموقوف عليه تماميّة الاستدلال ؛ لأنّ عموميّة الجواب وخصوصيّته تابعان لعموم السؤال وخصوصيّته ، فإذا جهلنا عبارة السؤال ولم نعلم

__________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة : ٤٨٥.

(٢) قاله الشهيد السعيد في الذكرى ١ : ٥١.

٦١٢

أنّ المراد به ما ذا من العموم أو الخصوص من بعض الحوادث؟ امتنع حمل الجواب على شيء منهما ، بل قد يتقوّى كون المراد بالحوادث شبه المسائل الاعتقادية من الامور المشكلة ، وذلك لأن إسحاق بن يعقوب يقول : « سألت فيه عن مسائل اشكلت عليّ » وإسحاق من أجلاّء الأصحاب ، وشأنه أجلّ من أن يشكل عليه أمر المسائل العمليّة التي هي موارد التقليد ولا يعرف تكليفه فيها حتى يسأل عن حكمها زمن الغيبة ، ويكون ذلك عنده من المشكلات ، مع أنّ الرجوع إلى العلماء في العمليّات كان ضروريّا لأغلب العوام فضلا عن الخواص ، ومما يؤيّده : أنّ التوقيع الشريف يتضمّن جملة من المسائل العلميّة : منها : قوله عليه‌السلام : « وأمّا ما سألت عنه ـ أرشدك الله وثبّتك ـ : من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا ، فاعلم أنّه ليس بين الله عزّ وجل وبين أحد من قرابة ، ومن أنكرني فليس منّي ، وسبيله سبيل ابن نوح » (١).

ومنها : قوله عليه‌السلام : « وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها السحاب عن الأبصار » (٢) إلى غير ذلك مما اشتمل عليه التوقيع وليس من المسائل العملية مثل تكفير من قال : بأن الحسين بن علي عليهما‌السلام لم يقتل. فإنّ ملاحظة هذه الفقرات وأمثالها مضافا إلى جلالة قدر إسحاق عن أن يجهل التكليف في المسائل العمليّة التي يبتلي بها في كلّ ساعة أو يوم ممّا يفيد الظنّ بأنّ المراد بـ « الحوادث الواقعة » شيء وراء موارد التقليد ، قد خفي علينا باعتبار عدم ظفرنا بأصل السؤال وعبارته.

فإن قلت : سلّمنا بأنّ « الحوادث الواقعة » مجمل لكن عموم التعليل بقوله : « فإنّهم حجّتي عليكم » يدلّ على اعتبار قول الرواة والمحدّثين.

__________________

(١ و ٢) كمال الدين وتمام النعمة : ٤٨٥.

٦١٣

قلنا : لو سلّمنا ذلك ، فمن الواضح اختصاصه بقول الأحياء ؛ لأنّ مرجع الضمير هم الأحياء ، كما لا يخفى. وعلى ما في رواية الاحتجاج من قوله عليه‌السلام : « فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه (١) ... » : إنّ الاستدلال به موقوف على ثبوت الإطلاق بحسب الأحوال فيه ، بحيث يندرج فيه حالتا الحياة والممات ، وهو ممنوع :

أمّا أولا ـ فلأنّ كلمة « من » الموصولة ظاهرة في الأحياء ، فلو كان فيه إطلاق فإنّما هو بحسب حالات الأحياء ، فلا يتعدّى منها إلى حالة الموت.

وأمّا ثانيا ـ فلورود هذا الكلام [ في ](٢) مقام بيان مشروعيّة أصل التقليد ردّا لتوهّم الرجل السائل من ظاهر الآية حرمة التقليد رأسا ، فلا إطلاق فيه بحيث يقتضي حجّية فتوى الميّت.

كل ذلك مع الغضّ عمّا في سند أكثر ما في هذه الأخبار من الضعف والإرسال ، خصوصا رواية الاحتجاج التي هي في أعلى مراتب الضعف ، وإلاّ فمن الواضح أنّ الخروج عن تحت الأصل المسلّم بين الكلّ بمثل هذه الضعاف سندا ودلالة مع مخالفة جلّ الأصحاب أو كلّهم ممّا لا يندرج تحت شيء من القواعد.

فقد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ بعض هذه الأخبار ـ وهو الأكثر ـ لا دلالة له على مشروعيّة أصل التقليد رأسا ، والبعض الآخر على فرض دلالته عليه لا إطلاق فيه يشمل حالتي الحياة والممات ، بل إمّا مختصّ بظاهره بالأحياء ، أو ساكت من حيث الحياة والممات ، فلو تمسّك حينئذ بالاستصحاب ، فقد ظهر جوابه بما لا مزيد عليه.

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٦٠٧.

(٢) اقتضاها السياق.

٦١٤

وممّا ذكرنا ظهر الجواب عمّا ورد في كتاب يونس إذا نظر إليه : « هذا ديني ودين آبائي » فإنّ شيئا منهما لا يدلّ على كون ما في الكتاب حقّا صوابا مطابقا للواقع ، وأين هذا من الدلالة على جواز العمل بكتاب كلّ من أفتى في كتابه حسب الظنون الاجتهادية بامور يحتمل الصواب والخطأ ، وأيضا الظاهر أنّ ذلك الكتاب كان كتاب الرواية دون الفتوى.

وأمّا استدلال بعض (١) بما سمعت من أخبار « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة » فهو أضعف من جميع الاستدلالات المزبورة لأنّ الحلال والحرام اسمان للحلال والحرام الواقعيين ، فلا يندرج فيهما التقليد التعبّدي الذي هو حكم ظاهري ، ولو سلّم صدقهما على ذلك فلا ريب أنّ تأبيد الأحكام لا يقتضي بقاءها بعد تغيّر العنوان وتبدّل المتعلّق ، فالوجوب الثابت للعمل بقول الحي لا يدلّ على وجوب العمل بقول الحيّ بحيث يدور مدار قول الحيّ ؛ فإن وجب العمل بقول الميّت أيضا فهو حكم آخر ثابت لموضوع آخر يحتاج إلى دليل آخر. ودعوى تنقيح المناط من هذه الأخبار : بأنّ المستظهر منها حجيّة قول الحيّ من حيث كونه حكاية عن الواقع ، وهذه الحيثية لا تفارق القول المزبور بمفارقته ، ففيه من الضعف الواضح ما ترى ؛ لأنّ مدخليّة الحياة في الحجيّة إمّا مظنون أو محتمل أو لا دافع لهذا الاحتمال لا من عقل ولا من نقل.

هذا تمام الكلام في الأدلّة اللفظية.

وقد استدلّ على الجواز بدليل عقلي وهو : أنّ قول الميّت مفيد للظنّ وكلّ ما يفيد الظنّ فهو حجّة في حقّ المقلّد.

__________________

(١) مرّ في الصفحة : ٦٠٩.

٦١٥

أمّا الصغرى فوجدانيّة ، وأمّا الكبرى فلدليل الانسداد : من أنّ التكاليف باقية وباب العلم منسدّ في حق المقلّد ، والظنّ الخاصّ مفقود ؛ لأنّ الدليل على جواز الأخذ بقول المجتهد تعبّدا مفقود ؛ إذ الأدلّة اللفظية من الكتاب والسنّة غير واضحة الدلالة ؛ لما فيها من المناقشات إلى ما شاء الله كما ظهر جملة منها ، ولو سلّم فلا يحصل منها إلاّ الظنّ المعلوم عدم حجّيته في إثبات الطريق الشرعي ، والأدلّة اللبّية من الإجماع والضرورة والسيرة غير ثابتة ؛ لأنّ السلف المعاصرين للإمام كان باب العلم في حقّهم مفتوحا ، وكانوا يعملون به ، والإجماع موهون بخلاف جملة من الأصحاب كفقهاء الحلب (١) والأخباريّين ، فلا مناص للعامي إلاّ الاعتماد على الظنّ كالمجتهد ؛ لأنّ الاقتصار على القدر المعلوم من الضرورة والإجماع من التكاليف يقتضي الخروج عن الدين ؛ لكونه في غاية القلّة. وإلزام الاحتياط يستلزم العسر والحرج.

وهذا الدليل احتجّ به الفاضل القمّي رحمه‌الله (٢) على مختاره من جواز تقليد الميّت أو وجوبه إذا كان الظن الحاصل من قوله أقوى.

وفيه :

أولا : أنّه لو تمّ فانّما يقتضي تقليد الميّت إذا كان الظنّ الحاصل من قوله أقوى من قول الحيّ. وأمّا في صورة التساوي فلا إلاّ بضميمة دعوى عدم القول بالفصل ، لأنّ العمل بقول الميّت مع وجود الحي المساوي موقوف على حكم العقل بالتخيير بينهما ، والتخيير العقلي لا يجتمع مع احتمال المرجّح. وما ذكر من الأدلّة لو لم يقتض تعيّن قول الحيّ وترجّحه على قول الميّت ،

__________________

(١) كذا ، والمناسب : حلب.

(٢) القوانين ٢ : ٢٦٥ ـ ٢٧٠.

٦١٦

فلا أقلّ من قيام الاحتمال ، ومع قيامه لا يحكم العقل بالتخيير جدّا ، بل يأخذ بالقدر المتيقّن.

ودعوى الاجماع المركب أو عدم القول بالفصل إنّما يناسب ممّن يعترف بكون جواز أصل التقليد إجماعيّا ، وإلاّ فاتفاق طائفة من الأصحاب القائلين بجوازه على عدم القول بالفصل مع خلاف من يقدح خلافه في انعقاد الإجماع على أصل التقليد لا حجّية فيه ، مثل عدم حجّية اتّفاقهم على أصل التقليد ، والمفروض أنّ المستدلّ أحد مقدّمات دليله عدم ثبوت الإجماع على جواز التقليد. وحينئذ فلنا قلب الإجماع المركّب ؛ لأنّ الأخذ بقول الحيّ عند التساوي قضيّة الأصل الأوّلي المسلّم بين الكلّ فيتمّ في صورة الاختلاف في مقدار الظنّ بالإجماع المركّب من قول المجمعين على أصل التقليد ؛ لأنّ مخالفة نادر ممّن سبق إلى ذهنه الشبهة لا يقدح في ثبوت الإجماع عندنا معاشر المانعين ، فليتدبّر جيّدا.

وثانيا : أنّ إنكار الظنّ الخاصّ يمنع قيام الدليل على حجيّة قول المفتي في حق المقلّد تعبّدا مكابرة واضحة ؛ لأنّ جواز تقليد العامي في الجملة معلوم بالضرورة من المذهب بل من الدين ، كسائر الأحكام الضروريّة ، مثل وجوب الصلاة والصوم يتحقّق موجبها من مسيس الحاجة وتوفّر الدواعي واستقرار طريقة السلف المعاصرين للإمام عليه‌السلام ، والخلف : من العالم والجاهل والشريف والوضيع إلى يومنا هذا عليه ، فإنكار نادر ممّن اختلّ طريقته كالأخباريين ليس إلاّ كإنكار من منع عن ثبوت التكاليف الشرعيّة في حقّ الواصلين إلى درجة اليقين من حيث عدم القدح في انعقاد الإجماع ، وأمّا إنكار بعض فقهاء حلب ، فمع عدم منافاته لانعقاد الإجماع في هذا اليوم على طريقة المتأخّرين من دورانه مدار الكشف ، فلعلّه لأجل بعض الشبهات السابق إلى أذهانهم.

٦١٧

ثمّ اعلم ، أنّه إذا فرغنا من وجوب التقليد على العامي واختلفنا في وجوب تقليد الحي وعدمه ، فوظيفة العامي أوّلا الرجوع إلى الحيّ حتّى على القول بجواز تقليد الميّت ، فلا يجوز له الرجوع إلى الميّت ابتداء ، وقد أشار إلى ذلك صاحب المعالم (١). والسرّ في ذلك هو : أنّ العامي إذا علم أنّ تكليفه هو التقليد ، ولم يعلم أنّه مكلّف بتقليد الحي ، أو يجوز له تقليد الميّت وجب عليه بحكم العقل الأخذ بالقدر المتيقّن المعلوم ؛ لأنّ العمل بالمشكوك فيه لا بدّ له من دليل ، ولا دليل للعامي عليه من إجماع أو ضرورة أو نحو ذلك من القطعيّات ، وهذا واضح.

وثمرة البحث في جواز تقليد الميّت إنّما هي للمجتهد إذا سأله العامي عن حكم تقليد الميّت. وهذا الكلام في جميع الشروط الخلافية في المفتي.

ولو اختلفا في وجوب أصل التقليد ودار تكليف العامي بينه وبين العمل بالظنّ ، وجب عليه أوّلا : النظر في أدلّة التقليد ؛ لأنّ ذلك الدليل العقلي يتوقّف على فقد طريق شرعيّ له إلى الأحكام ، فلا يجوز له العمل بذلك الدليل إلاّ بعد الفحص واليأس عن قيام الدليل القطعي على حجيّة بعض الطرق ، كما لا يجوز العمل بأصل البراءة قبل الفحص عن المعارض ، ومن الواضح أنّ المقلّد ليس من أهل النظر في الأدلّة ، فينحصر تكليفه في الاحتياط أو الرجوع إلى الأحياء في أخذ مدارك التقليد ، ثمّ النظر فيها ، فإن بقي له بعد ذلك شكّ أخذ بالظنّ في هذه المسألة الأصوليّة.

فهذا الدليل على فرض تماميّته إنّما يجدي للمجتهد في الفتوى بتقليد الموتى مع حصول الظنّ ، دون العامي القاصر.

__________________

(١) معالم الدين : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

٦١٨

وثالثا : أنّ غاية ما يلزم من تماميّة هذا الدليل : أنّ تكليف العامي هو العمل بالظنّ ، ولا ريب أنّ الظنّ الحاصل من فتوى المعظم بعدم جواز تقليد الميّت ، ومن الإجماعات والشهرة والأخبار والآيات مانع بالنسبة إلى الظنّ الشخصي الحاصل له في خصوص المسألة الفرعيّة من قول الميّت ، وقد اشتهر بين الاصوليين : أنّه إذا تعارض الظنّ المانع والممنوع وجب الأخذ بظنّه المانع مطلقا ، سواء كان أضعف من الظنّ الممنوع أم أقوى ، وعلى القول بوجوب الأخذ بأقوى الظنّين منهما نقول : إنّ الظنّ المانع هنا أعني الظنّ الحاصل من الإجماعات ومصير الجلّ أو الكلّ المتعلّق بحرمة تقليد الموتى أبدا أقوى من الظنّ الحاصل من فتوى الحيّ فضلا عن الميّت.

وبالجملة : هذا الدليل على فرض تماميّته يقتضي وجوب الأخذ بفتوى الحيّ لأنّ الظنّ الحاصل من قول الميّت مظنون عدم اعتباره بملاحظة الإجماعات بالظنّ الأقوى.

ورابعا : أنّ مفاد هذا الدليل ، أعني : وجوب العمل بالظنّ على العامي ، سواء كان حاصلا من قول الحيّ أو الميّت ، مما لم أجد قائلا بها (١) سوى الفاضل القمّي رحمه‌الله ولذا ادعى غير واحد (٢) من المطّلعين على قوله الإجماع المحقّق على خلافه ، ولعلّ سرّه : أنّ هذا القول منع لأصل التقليد رأسا مثل قول الأخباريين. فإنّ العمل بقول الميّت لأجل الظنّ الحاصل منه ليس تقليدا للميّت تعبّدا كما لا يخفى ، فهذا القول يمكن إبطاله باتّفاق كلّ من أجاز التقليد من حيث كونه تقليدا.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : به.

(٢) انظر الفصول : ٤١٥ ، ومناهج الأحكام والأصول : ٣٠١.

٦١٩

ثمّ من أعجب العجائب أنّ صاحب الوافية (١) استدلّ على جواز تقليد الميّت : بالعسر والحرج المنفيّين ، فهما يندفعان به ، قائلا : بأنّ العسر كما يندفع بتقليد الحيّ كذلك يندفع بتقليد الميّت.

وجوابه من الواضحات يعرفه القروي والبدوي.

هذا فراغ كلامنا عن وجوب تقليد الحي ، ومن شاء فليتخذ مع الحق سبيلا.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : أنّه لا فرق عندنا وعند المشهور في اشتراط حياة المجتهد بين التقليد الابتدائي والاستمراري ، ولكن حدث لبعض مشايخنا في الأصول ـ كصاحب الفصول (٢) وبعض من يقاربه في الزمان (٣) ـ قول بالفصل بينهما ، فذهبوا إلى عدم الاشتراط في الثاني زاعمين أنّه غير مندرج تحت إطلاق كلمات المانعين ، ولم نجد لهذا التفصيل مصرّحا من الأوائل والأواسط ، غير أنّ شارح الوافية (٤) نسبه إلى ميل بعض المتأخرين ثمّ استقربه ، بل الظاهر من كلمات الأصحاب ومعاقد الإجماعات عدم الفرق بينهما كما ستعرف ، حتّى أنّ سوق كلام صاحب الوافية مما يشعر بحداثة ذلك التفصيل الذي مال إليه بعض المتأخّرين

__________________

(١) الوافية : ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٢) الفصول : ٤٢٢.

(٣) مفاتيح الاصول : ٦٢٤.

(٤) شرح الوافية : ٤٧١.

٦٢٠