مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

واعتقده باجتهاده حراما يتوقّف على بقاء الظن ؛ لأنّه بمنزلة تعفّن الأخلاط في قولنا : هذا مظنون الحرمة ، وكلّ مظنون الحرمة حرام.

لا يقال : لا كلام في أنّ الحجّة عبارة عن الوسط الذي يستلزم المطلوب وجودا وعدما ، وإنّما الكلام في أنّ ذلك الوسط ما ذا؟ وأنت تدّعي : أنّه الظنّ المستمرّ إلى آن الحكم ، ونحن نقول : إنّه تعلّق الظنّ بالحكم في الجملة ، ونقول فيما إذا زال الظنّ بعد أن كان موجودا : إنّ هذا ممّا تعلّق بحرمته ظنّ المجتهد قبل ، وكلّ ما كان كذلك فهو حرام. والصغرى معلومة والكبرى يستدلّ عليها بما يستدلّ به على كبرى دليلك ، أعني : كلّ ما هو مظنون الحرمة بالظنّ الفعلي فهو حرام ؛ إذ لا فرق بين قولنا وقولك إلاّ أنّك تدّعي : أن ظنّ المجتهد وإخبار العدل مثلا علّة لحدوث حكم الله الثانوي وبقائه ، فيرتفع بارتفاعه ، ونحن ندّعي : أنّه علّة للحدوث خاصّة ، وأمّا البقاء ، فلا يكفي أصل حدوث الظنّ آناً ما في بقاء الحكم الثانوي ، فإن طالبتني بدليل لأطالبنّك به ، فقولك : إنّ الحكم بعد زوال الظنّ بالموت يبقى خاليا عن السند ، مصادرة واضحة كما قاله المعترض.

لأنّا نقول : دليلنا على كبرى قياسنا ـ يعني على بقاء اشتراط الظن مثلا في بقاء الحكم الثاني ـ عدم الدليل على أزيد من ذلك ، كما ستعرف في قدح مدارك التقليد ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ الظنّ بالحرمة مثلا غير مستلزم لها في ذاته ، والقدر الثابت من الملازمة الشرعيّة التي دعتنا إلى الاستدلال بها على الحكم الثانوي إنّما هي بينه وبين الظنّ بالحكم الأوّلي فعلا ، ومن ادّعى ثبوتها بينه وبين الظنّ بحكم الله الواقعي الأوّلي في أحد الأزمنة فهو مطالب بالدليل ؛ لأنّ كلامنا مبنيّ على الأخذ بالقدر المتيقّن فيما هو مخالف للأصل.

٥٨١

ومن هنا ظهر : أنّ الاعتراض الثاني ليس من آداب المناظرة ؛ لأنّ مطالبة الدليل من المنكر مع عدم إقامة الحجّة على الإثبات خروج عن قاعدة الاعتراض.

نعم ، يمكن أن يناقش على (١) الدليل المزبور : بأنّ تماميّته تتوقّف حينئذ على إعمال الأصل في المسألة ، فلا يكون استدلالا مع الإغماض عنه ، كما هو الشأن في كلّ مقام يجمع فيه بين الاستدلال بالأصل والدليل.

ومنها (٢) : ما ذكره المحقّق (٣) والشهيد (٤) الثانيان : من أنّه لو جاز العمل بفتوى الفقيه بعد موته لامتنع في زماننا الإجماع على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين ، والوقوف بالنسبة إلى الأعصار الماضية في هذا العصر غير ممكن.

وهذا الدليل بعين عباراته نقل (٥) أيضا عن المحقّق المزبور ، والظاهر بل المتعيّن : أنّ الفقير المضطر امتنع أن يرجع إلى العمل بفتوى الميّت دون مطلق التقليد.

ووجه الملازمة على فرض واقعيّة الإجماع الذي ادعاه واضح ؛ لأنّ تقليد الميّت مشروط بأعلميّته ، ولا سبيل للمكلّف إلى العلم.

وأمّا المناقشة في ذلك : بإمكان تحصيل العلم بالأعلميّة والأورعيّة

__________________

(١) كذا والظاهر زيادته.

(٢) أي من أدلّة منع جواز تقليد الميت.

(٣) حاشية الشرائع ( مخطوط ) : ٩٩.

(٤) انظر رسائل الشهيد الثاني ١ : ٤٠ ـ ٤١.

(٥) نقله في الوافية : ٣٠١ ، ومناهج الاصول : ٦٢١.

٥٨٢

بالرجوع إلى الكتب والتصانيف الباقية ، كما في الوافية (١) وتبعه غيره (٢) ؛ لأنّ الكتب والتصانيف كثيرا ما تقصر عن كشف مقدار فضيلة (٣) ، ونحن قد رأينا فضل المصنّف على مصنّفه في زماننا وبالعكس.

وقد يستدل بالإجماع المزبور على المدّعى بعكس طريقة الاستدلال المذكور ، وهو : أنّ تربية الزمان مثل بعض الأموات الأعلام ، كالشيخ والمرتضى والعلاّمة والشهيد والكركي وأمثالهم من أجلاّء أهل التحقيق وكشف دقائق الفقه ودرك خفيّاته في كلّ عصر نادر ، بل معدوم ، فلو جاز تقليد الميّت وجب الاقتصار على فتاويهم ، وينسدّ باب الفتوى بين الأحياء له كما في ما بين العامة ، وهذا ممّا يمكن بالحدس الصائب القطع بعدم رضا صاحب الشريعة به ، وربما يكون في استقرار طريقة الخاصة على الاجتهاد دلالة واضحة على عدم الاعتداد بقول الميّت كائنا من كان ، فإنّ هذا ليس من مجرّد فضيلة الاجتهاد من دون مساس حاجة إليه.

ومنها : أنّ العمل بالفتوى المتأخّرة عند تعدّدها واختلافها واجب بالإجماع ، ولا يتميّز في الميّت فتواه الأول عن الأخيرة.

وهذا الدليل أيضا منقول (٤) عن المحقّق ، وأجاب عنه صاحب الوافية (٥) :

__________________

(١) الوافية : ٣٠٢.

(٢) انظر مفاتيح الأصول : ٦٢٢ ، كذا والعبارة ناقصة ، ولعل سقط منها كلمة « مندفعة » ونحوها ، ليقع ما بعدها تعليلا له.

(٣) كذا ، والمناسب : الفضيلة.

(٤) نقله السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٦٢٢ ، وانظر حاشية الشرائع ( مخطوط ) : ٩٩.

(٥) الوافية : ٣٠٢.

٥٨٣

بأنّه يمكن العلم بتقديم الفتوى وتأخّره في الميّت من كتبه وأنّه لا يتمّ إلاّ في ميّت تغيّر فتواه في مسألة واحدة.

ومنها : أنّ اجتهاد الحي أقرب إلى الواقع عن اجتهاد الميّت ؛ لأنّ الحي يقف غالبا على فتوى الميّت وعلى ما هو مستنده فيها ، فإذا أفتى بخلافها علم أنّه قد بلغ نظره إلى ما لم يكن قد بلغ إليه نظر الميّت. ولأنّ الرجوع من الخطأ إلى الصواب ممكن في حقّ الحي دون الميّت ؛ فيكون الأخذ بقول الحي أوثق.

ولا ينافي الأوّل كون الميّت أفضل وأحوط من الحي بالمدارك ، كما توهّم ؛ لأنّ أثر الفضل إنّما يظهر في الإمكان الابتدائية ، فيمكن ظهور خطئه في الاستدلال للمفضول ولو من جهة الإصابة بالمعارض الذي خفي على الفاضل.

وأمّا ما قيل (١) في الثاني : من أنّ الرجوع من الفتوى قد يكون من الحقّ إلى الباطل ، وهذا الباب مسدود في حق الأموات بخلاف الأحياء فلا يكون في إمكان الرجوع دلالة على أقربية القول عن الواقع إذا لم يرجع ؛ لأنّ عدم الرجوع مع إمكانه إنّما يقتضي تأكّد الظن بالواقع إذ كان الرجوع دائما عن الخطأ إلى الصواب. وحيث يمكن أن يتعاكس الأمر لم يكن فيه زيادة ظن ، فيمكن الجواب عنه :

بأنّ المدار على ما هو الغالب في رجوع المجتهدين ، ولا ريب أنّ أغلب موارد الرجوع رجوع عن الباطل ، وأمّا الرجوع عن الحق ففي غاية القلّة فليتأمّل.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٥٨٤

وقد استدل على المطلوب بوجوه أخر أعرضنا عن ذكرها ؛ لعدم اعتمادنا في إثبات المدعى على غير الأوّلين من الأصل والإجماعات المعتضدة بظهور الاتفاق ، ولابتنائها على أنّ الموت يوجب زوال الظن وقد عرفت الكلام في ذلك ، وأنّه لا بدّ وأن يرجع فيه بالأخرة إلى الأصل.

فقد تحقّق وتبيّن مما ذكرنا : أنّه على فرض عدم تماميّة حجج القول بالمنع لا يثبت دعوى المجوّزين أيضا إلاّ باقامة ما يعتمد عليه من الدليل.

[ وجوه القول بجواز تقليد الميّت ومناقشتها ] :

وللقول بالجواز أيضا وجوه :

فمنها : الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

ومنها : أنّه لو لم يجز تقليد الميّت لما أجمعوا على النقل إلى السلف ، وعلى وضع الكتب.

بيان الملازمة : أنّه لا فائدة في هذين إلاّ العمل بأقوال السلف والاعتماد عليها في العبادات والمعاملات ، وليس هذا إلاّ التقليد. ولا ينافي ذلك كون الراجعين إلى كتبهم هم العلماء ؛ فإنّ العمل بقول الموتى على تقدير حرمته يساوي فيه العامي والعالم.

ومنها : أنّ كثير البلاد وكثير الأزمنة فاقدة للمجتهد الحي ، فلولا جاز العمل بقول الميّت لزم العسر والحرج (١).

__________________

(١) لا يخفى ما في التعبير من الضعف.

٥٨٥

وضعف هذين الوجهين ظاهر وجوابهما واضح ، ولقد أطال الكلام المولى البهبهاني (١) في تزييفهما. والظاهر أنّ إطالة الكلام في بقيّة الأدلّة أحسن منها فيهما ؛ لأنّ الرجوع إلى كتب السلف ليس للعمل بأقوالهم تعبّدا ، بل للاستعانة على فهم مدرك المسألة ، وأيّ نفع أعظم من ذلك؟ وأمّا لزوم العسر والحرج على تقدير الاقتصار على فتوى الأحياء فمنه (٢) في غاية الوضوح ، وعلى فرض لزومهما أحيانا لا يقتضي فتح باب تقليد الأموات مطلقا بل يتقدّر بقدره كما هو الشأن في سائر الأحكام والتكاليف.

ومنها : الاستصحاب ويقرر : تارة بالنسبة إلى حال الفتوى ، واخرى بالنسبة إلى حال المفتي ، وثالثة بالنسبة إلى حال المستفتي لأنّ المجتهد في حال حياته كانت فتواه معتبرة وجائز التقليد فيها ، وكان هو ممّن يجوّز تقليده والأخذ منه ، وكان المقلّد ممن يصح له الاعتماد على قوله في عباداته ومعاملاته ، ويقتضي الاستصحاب بقاء الأحكام الثلاثة كلها إلى حال الموت ؛ للشك في ارتفاعها بالموت بعد القطع بثبوتها حال الحياة.

وهذه الاستصحابات يرجع بعضها إلى بعض يفيد كلّ واحد مفاد الباقي ؛ لأنّ الاستصحاب الثاني الراجع إلى حال المفتي ربما توهّم أنّه لا يفيد كون المفتي ممّن لا يجوز العمل بقوله إلاّ في حقّ من عاصره ؛ لامتناع تحقّق الجواز في حقّ المعدومين ، فيمتنع الاستصحاب لتعدّد الموضوع.

وفيه : أنّ أهليّة المفتي لجواز العمل بفتواه صفة ثابتة له ولو لم يوجد عامل فعلا فإنّه ينحلّ إلى قضيّة شرطيّة وهي : « من دخل في عداد المكلّفين

__________________

(١) انظر الرسائل الفقهية : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) كذا ، ولعلّه : فضعفه.

٥٨٦

بأحكام الله تعالى فله الأخذ منه » وصدق الشرطيّة لا يتوقّف على فعليّة الشرط ، وهذه الأهليّة كانت متيقّنة الوجود في حال الحياة ، فلا يصار عنها بالشك الطارئ بعد الموت.

وكيف كان ، فالجواب عنها كلّها : أنّ من شرائط حجّية الاستصحاب أو جريانه (١) على ما قرّر في موضعه وإلاّ لزم الحكم بوجود العرض لا في موضوع ، وموضوع المستصحب في المقام ، أعني جواز التقليد ، قد بيّنا أنّه الظن الفعلي القائم بنفس المجتهد الذي لا شبهة في زواله بالموت ، ونزيد هنا في البيان على سبيل الإيجاز ونقول ـ إن شاء الله ـ : إنّ في مجاري الأدلّة الظنّية حكمان (٢) : حكم واقعيّ تعلّق به ظن المجتهد ، ثابت للأشياء الواقعيّة كالخمر والعصير ونحوهما ، من غير مدخليّة ظنّ المجتهد فيها وإلاّ لزم التصويب ، وحكم ظاهريّ قطعيّ جاء من الدليل الدال على اعتبار ذلك الظن ، ثابت للأشياء الخارجيّة من غير تعلّق الظنّ بحكمها الواقعي ، وهو وجوب العمل بمؤدّى الظن ، فالحكم الواقعي الأوّلي موضوعه ذات العصير والخمر مثلا ، وأمّا موضوع الظاهري الثانوي فهو العصير لا من حيث ذاته ، بل من حيث كونه مما ظن بنجاسته المجتهد ، ولا ريب أنّ الناس من العوام والخواصّ من المجتهد والمقلّد إنّما يتعبّدون في موارد الأدلّة الظنّية بذلك الحكم الثانوي الذي موضوعه حقيقة ظنّ المجتهد ؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم الأصلي الأوّلي ليس بمعلوم ، وإنّما ظنّ به المجتهد ببعض الأمارات ، والتعبّد بأمر غير معلوم غير معقول ، فكما أنّ مدار عمل المجتهد على

__________________

(١) الظاهر أنّ في العبارة سقطا وهو : « بقاء الموضوع » ؛ ليكون اسما لـ « أنّ » ، ويتم المقصود.

(٢) المناسب : حكمين.

٥٨٧

ظنّه ، كذلك مدار عمل المقلّد على ظنّ مجتهده ؛ إذ لا فرق بينهما في التعبّد بذلك الحكم الظاهري القطعي الذي موضوعه الظنّ إلاّ أنّ المقلّد يجب عليه الرجوع إلى المجتهد لمعرفة موضوع ذلك الحكم.

فإن قيل :

لا نسلّم أوّلا : أنّ المقلّد متعبّد بظنّ المجتهد ، وأنّ موضوع حكمه الثانوي إنّما هو الظنّ ، بل هو متعبّد بقوله وفتواه أعني : إخباره عن حكم الله ، فيكون موضوع ذلك الحكم الثانوي هو قول المجتهد ، وهو لا يتغيّر ولا يتبدّل بموت القائل كالرواية. نعم ، إذا فرض رجوع المجتهد عن قوله كان الموضوع منتفيا.

وثانيا : على فرض كونه متعبّدا بظنّه ، لا نسلّم زوال الظنّ بعد الموت لإمكان بقائه ، بأن لا ينكشف له حقيقة الحال.

وانكشف وظهر جوابه ، قلنا : التعبّد بظنّ المجتهد أو بقوله كلاهما مخالفان للأصل محتاجان إلى الدليل ، وقد ذكرنا غير مرّة : أنّ التعبّد بالظنّ ممّا لا كلام فيه ولا إشكال ، فيكون ثابتا من باب التعبّد المتيقّن. وأمّا التعبّد بمجرّد القول والإخبار عن حكم الله ولو مع زوال الظنّ ، فلم يقم عليه دليل معتبر ؛ لأنّ أدلّة مشروعيّة التقليد غير وافية بذلك كما ستعرف.

وأمّا ما ذكرت من إمكان بقاء الظنّ فنحن لا نتحاشى من ذلك ، ولكن نقول : إنّ المقلّد متعبّد بظنّ المجتهد الحي دون الميّت ، ومن ادّعى أكثر من ذلك طولب بالدليل ، وأنّى له بذلك بعد عدم قيام دليل معتبر على مشروعيّة أصل التقليد سوى الإجماع والسيرة والضرورة التي لا يحصل منها أمر يرتفع منه الاشتباه.

٥٨٨

لا يقال : إذا كان موضوع الحكم هو الظنّ القائم بنفس الحي ، فالأمر كما تقول : من انتفاء موضوع الحكم بالموت ، لكنّه ليس ممّا دلّ عليه قاطع (١) سوى الأصل ، ومن المحتمل أن يكون الموضوع مطلق الظنّ إذا قلنا ببقائه بعد الموت أو بمجرّد القول ، فيبقى الموضوع. والمانع عن جريان الاستصحاب إنّما هو القطع بزواله ، فلا مانع من جريانه عند الشكّ في البقاء ، فإنّ الاستصحاب يحكم بوجوده ، وقد أشار صاحب الوافية (٢) إلى هذا الكلام في جواب المير (٣) ، حيث منع من استصحاب جواز التقليد باعتبار انتفاء الموضوع.

لأنّا نقول :

أوّلا : أنّ الدليل على أنّ التقليد عبارة عن التعبّد بقول الحي موجود ، وهو ظاهر كلّ ما جعلوه دليلا على مشروعيّة التقليد من الكتاب والسنّة ؛ فإنّ الظاهر منها حجيّة قول الحي ؛ ولذا تمسّك بعض (٤) بآية السؤال على عدم جواز تقليد الميت.

وثانيا : نقول : إنّه قد ثبت في محلّه أنّه إذا شكّ في موضوع الحكم ولم يظهر من دليله ما يدور الحكم مداره امتنع استصحاب ذلك الحكم عند زوال ما يتحمّل كونه موضوعا أو اعتباره في الموضوع. والسرّ في ذلك : أنّه متى حصل الشكّ في موضوع الحكم لم يعلم كون الحكم السابق الذي يراد استصحابه ما ذا ، والاستصحاب عبارة عن انسحاب اليقين السابق ، أي ما تيقّن به سابقا إلى زمان

__________________

(١) كذا ، ولعله : « دليل قاطع ».

(٢) الوافية : ٣٠٢.

(٣) أي : الداماد ، انظر الوافية : ٣٠٢.

(٤) استدلّ به النراقي في مناهج الأحكام : ٣٠١.

٥٨٩

الشك ، وإذا لم يحصل اليقين بالحكم السابق ولم يعلم أنّ القضيّة المتيقّنة ما ذا فلا مجرى للاستصحاب على ما هو التحقيق ، فلو شككنا مثلا في أنّ موضوع النجاسة هل هو « الماء » لكن التغيّر صار سببا لنجاسته كالملاقاة ، أو أنّه « الماء المتغيّر » أمّا يحكم بنجاسته للاستصحاب بعد زوال التغير على ما هو الحقّ المقرّر في محلّه ؛ لأنّ الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك غير شاملة لذلك ؛ إذ لو بنينا على طهارة ذلك الماء بعد زوال التغير لم نكن ناقضين لليقين بالشك ، وإنّما يكون كذلك لو كنّا متيقّنا (١) بأنّ هذا الماء كان نجسا ومع احتمال كون النجس هو المتغيّر دون الماء ، فإنّه لا يحصل يقين بذلك ، فلو لم يحكم بالنجاسة حينئذ لم يكن فيه نقض يقين بالشك. نعم إذا حصّلنا موضوع الحكم من دليله ثمّ شككنا في بقائه وارتفاعه باعتبار الشك في مقدار استعداد علّة ذلك الحكم تمّ الاستصحاب ، وذلك مثل أن كان دليل نجاسة الماء نحو قوله : « ينجس الماء إذا تغيّر » لا نحو قوله : « الماء المتغيّر نجس » فانّ الماء نفسه جعل في هذه القضيّة موضوعا للنجاسة ، واحتمال كون التغيّر علّة محدثة ومبقية حتى يرتفع الحكم بارتفاعه يدفع باستصحاب نجاسة الماء.

فإن قلت : هل يبقى عندك شيء من موارد الشك من حيث المقتضي تقول بجريان الاستصحاب فيه أم لا؟

قلنا : على كلامنا هذا لا يبقى من مواردها أصل إلاّ ما عرفت ممّا يكون الشك مسبّبا من الشك في كيفية عليّة العلّة ومقدار استعداده بعد إحراز موضوع الحكم من الدليل ، ومثل ما إذا كان سبب الشك احتمال مدخليّة خصوصيّة الزمان ، مثل أن أمر المولى بالقعود في المسجد ـ مثلا ـ ولا يدري أنّ المطلوب منه مقدار

__________________

(١) كذا ، والمناسب : متيقّنين.

٥٩٠

ساعة أو ساعتين ، فإنّ الظاهر جريان الاستصحاب فيه أيضا ؛ بناء على أنّ الزمان شيء لا يعتبر قيدا لموضوع الحكم وإن كان نظر الدقيق يجعله مثل سائر مقامات الشك من حيث الاقتضاء. وتحقيق كلّ ذلك مطلوب في محلّه.

نعم ، هنا كلام آخر قد ذكرنا [ ه ] (١) هناك وهو : أنّ القائل بجريان الاستصحاب في أمثال المقام ، المبهم فيها موضوع المستصحب في نظر الدقيق ، له أن يقول : إنّ العبرة في بقاء الموضوع وانتفائه إنّما هو بالصدق العرفي ، وأهل العرف يتسامحون في الحكم بالبقاء والانتفاء ، حتى أنّهم يشيرون إلى الكلب المستحيل ويقولون : إنّه كان نجسا والأصل بقاء النجاسة ، مع أنّ المشار إليه في الحالة اللاحقة إنّما هو الجماد الذي لا يطلق عليه الكلب الذي هو موضوع للنجاسة في الأدلة. وهكذا يشيرون إلى ميّت الإنسان ويقولون : إنّه كان يجوز النظر إلى عورته لزوجته في حال الحياة والأصل بقاؤه ، مع أنّ الحلّية كانت ثابتة للنظر إلى عورة الزوج الذي لا ريب في كونه إنسانا لا جمادا إلاّ أنّ المعتمد عندنا ـ كما قلنا في محله (٢) ـ عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام.

وبالجملة : متى حصّلنا موضوع المستصحب من دليله وعلمنا تغيّره أو انتفاءه في الحالة الثانية أو لم نحصّل الموضوع وكنا في اشتباه في ذلك ـ كما إذا كان دليل الحكم لبيّا كالإجماع ونحوه ـ امتنع عندنا جريان الاستصحاب.

وامّا ما تخيّله التوني : من أنّ عدم العلم بتغيّر الموضوع يكفي في جريان الاستصحاب فلا يعتبر إحراز البقاء ، فبعيد من التحصيل في الغاية ؛ لأنّ وجود الموضوع ممّا لا بدّ منه في وجود المحمول حدوثا وبقاء إذ لا يتعقل الحكم بقيام

__________________

(١) اقتضاها السياق.

(٢) انظر فرائد الاصول ٣ : ١٥٧ ، و ٢٩٢ ـ ٣٠٠.

٥٩١

زيد مثلا مع عدم وجود زيد في الخارج فلا بدّ أوّلا من إحراز وجوده ثمّ الحكم ببقاء الحكم ، أي المحمول فيه ؛ للاستصحاب.

فإن قيل : إنّ وجود الموضوع نثبته بالاستصحاب أيضا فلا يقدح في استصحاب حكمه الشك في بقائه.

قلنا : استصحاب الموضوعات الخارجيّة لا يرجع إلى محصّل إلاّ الحكم بترتّب أحكامها عليها شرعا وجواز استصحاب الحكم ليس من أحكام الموضوع حتّى يترتّب عليه ، بل إنّما هو من أحكامها العقليّة ؛ لأنّ اشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب أمر جاء من قبل حكم العقل بامتناع وجود المحمول لا في موضوع ، فليس حكما من أحكام موضوع الحكم حتى يترتّب على وجوده بالاستصحاب ، سلّمنا كونه مما يترتّب عليه بعد استصحابه باعتبار كونه حكما شرعيّا له ، لكن نقول : إذا كان موضوع الحكم ما يجري فيه الاستصحاب كان الحكم مترتّبا عليه من دون حاجة إلى استصحاب آخر يجري في نفس الحكم ، بل لا يبقى مع استصحاب الموضوع محلاّ (١) لجريان الاستصحاب في نفس الحكم ، فإجراء الاستصحاب في الحكم والموضوع ممّا لا يجتمعان في محلّ واحد.

فإن قلت : إذا كان الأمر كذلك ، فنحن نقول : إنّ جواز التقليد ثابت ، إمّا لقول المجتهد أو لظنّه مطلقا أو لظنّه ما دام حيّا ، ولا ندري زوال ذلك الموضوع بعد الموت ؛ لاحتمال كونه أحد الأوّلين فيستصحب ذلك ؛ إذا الأصل بقاء ما قد ثبت له جواز التقليد وباستصحابه يثبت جواز التقليد في حال الموت لكونه حكما من أحكامه شرعا.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : محلّ.

٥٩٢

قلنا : كون الأصل بقاء موضوع الحكم لا يثبت كون الباقي من الامور المحتمل كونها موضوعا هو الموضوع إلاّ على الأصل المثبت الذي لا نقول به ، والذي يفيد في المقام هو الحكم بموضوعيّة ذلك القول الذي هو الباقي بعد الموت.

وأمّا بقاء الموضوع في العالم من غير إثبات كون الباقي أعني القول موضوعا فلا فائدة فيه جدّا ؛ إذ إثبات كون القول هو الموضوع مثلا بذلك الاستصحاب ، أعني استصحاب الموضوع أخذ بالأصل المثبت فتدبّر في المقام وراجع ما حرّر في الاستصحاب في نفي الأصول المثبتة.

ومنها : الآيات التي استدلّ بها على مشروعيّة التقليد غير واحد من الأصحاب (١) ، فإنّها تدلّ بإطلاقها على حجيّة قول الميّت للمقلّد نحو قول الحي.

الاولى : أية النفر المذكورة في سورة براءة ( ... فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )(٢).

دلّت على وجوب الحذر عقيب الإنذار الواجب المراد به الفتوى خاصّة أو الأعمّ منها ومن الرواية من وجهين :

أحدهما : أنّ كلمة « لعلّ » بعد انسلاخها عن الترجّي تفيد مطلوبيّة مدخولها ومحبوبيّتها (٣) ، وهو : الحذر عقيب الإنذار في المقام. وإذا ثبت رجحان الحذر وحسنه ثبت وجوبه ، إذ مع قيام المقتضي يجب ، ومع عدمه لا يحسن على وجه الاستحباب أيضا ، بل لا يكاد يتحقّق موضوع الحذر مع انتفاء ما يكون سببا

__________________

(١) مثل آيتي : السؤال والنفر ، انظر الفصول : ٤١١ ، ومفاتيح الأصول : ٥٩٤ ـ ٥٩٧.

(٢) التوبة : ١٢٢.

(٣) كذا ، والمناسب : محبوبيّته.

٥٩٣

للخوف والوجل مع أنّ ثبوت رجحان الحذر يكفي في إثبات وجوبه بالإجماع المركّب ، فإنّ من قال بجوازه قال بوجوبه.

وثانيهما : أنّ وقوع الإنذار غاية للنفر الواجب بدلالة كلمة « لو لا » يقتضي وجوبه وعدم رضا الآمر بانتفائها ، كما هو الشأن في جميع الغايات المترتّبة على فعل الواجبات ، سواء كانت من الأفعال أم لا ، كما في قولك : « تب لعلّك تفلح » وقوله تعالى : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى )(١) وقوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )(٢) وحينئذ ، فالحذر أيضا واجب لوقوعه غاية الإنذار الواجب.

هذا ، مع أنّ وجوب أصل الإنذار في ذاته يقتضي وجوب الحذر عقبه وإن لم يصرّح بكونه غايته ، وإلاّ كان الإنذار لغوا. وهذا مثل ما عن المسالك (٣) : من الاستدلال على وجوب قبول قول النساء في العدّة بقوله تعالى : ( ... وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ... )(٤) بناء على أنّ حرمة الكتمان عليهنّ يقتضي وجوب قبول قولهنّ بالنسبة إلى ما في الأرحام ، وإلاّ كان الإظهار لغوا ، وإذا دلّت الآية على وجوب الحذر عقيب الإنذار فيستدلّ بإطلاقها على وجوبه عقيب الإنذار الصادر من الموتى في حال حياتهم ، فإنّ مماتهم لا يوجب انتفاء صفة الإنذار عن الفتاوى الصادرة عنهم في حال الحياة ، بل كلّ من يبلغه تلك الفتوى يدخل في عنوان « النذر » (٥) بالفتح فيجب الحذر لما ذكر.

__________________

(١) طه : ٤٤.

(٢) نور : ٥٦.

(٣) المسالك ٩ : ١٩٤.

(٤) البقرة : ٢٢٨.

(٥) كذا ، والظاهر : « المنذر ».

٥٩٤

والجواب عنها :

أولا : أنّ المراد بالنفر الواجب المشتمل عليه الآية إنّما هو النفر إلى الجهاد بقرينة قوله تعالى قبلها : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً )(١) ومن المعلوم أنّ المقصود من النفر إلى الجهاد ليس هو التفقّه والإنذار حتّى يجبان فيجب لأجل وجوبهما الحذر ، نعم قد يترتّبان عليه لما فيه من مشاهدة آيات الله وغلبة أوليائه على أعدائه وسائر ما يشتمل عليه حرب المؤمنين مع الكفّار ممّا يوجب قوّة الإيمان وتأكّد اليقين ، فيحصل بسببها بصيرة لهم في الدين فيخبرون بما شاهدوه قومهم المتخلّفة (٢) إذا رجعوا إليهم ، فيكون التفقّه والإنذار المشتمل عليهما الآية من قبيل الفوائد المترتّبة على فعل الواجب لا الغاية حتى يجب بوجوب ذيها.

وثانيا : بأنّا لو سلّمنا كون المراد بالنفر الواجب هو النفر للتفقّه لا للجهاد ، أنّ المراد بالتفقّه هنا هو أخذ الأحكام من الحجّة ، ويحتمل الروايات ، فالحذر الواجب ما كان عقيب الإنذار بطريق الرواية لفظا أو معنى ، فلا دلالة فيها على وجوبه عقيب الإنذار بالفتوى ؛ ولذا تمسّك الأصحاب بهذه الآية على حجيّة الخبر ، والدليل على ذلك أمران :

أحدهما : أنّ الاجتهاد لم يكن متعارفا زمن نزول الآية ، بل المتعارف فيه إنّما هو الرجوع إلى الحجّة ، فتحمل الآية على الغالب المتعارف ، وربما يؤيّده بآية (٣) النفر ، فانّ الظاهر منها النفر إلى الحجّة خاصّة ، فلا يندرج فيها النفر إلى الرواة للاجتهاد.

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) كذا ، والمناسب : وربما يؤيد بآية ... ، أو : يؤيّده آية ....

٥٩٥

والثاني : استدلال الإمام عليه‌السلام بهذه الرواية على وجوب نقل الأخبار في بعض الروايات :

منها : ما عن فضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه‌السلام (١) في حديث قال : « إنّما امروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله تعالى وطلب الزيادة والخروج عن كلّ ما اقترف العبد ـ إلى أن قال ـ : ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمة على (٢) كلّ صقع وناحية ، كما قال الله تعالى عزّ وجل : ( ... فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ... ) » ونحوها غيرها ، فإنّ المستفاد من التعليل المزبور انحصار المراد بالتفقّه في تحمّل الأخبار ونقلها ، فلا يرد : أنّه على تقدير كون المراد به ما يشمل الفتوى تمّ الاستدلال أيضا.

وثالثا : لو سلّمنا كون المراد بالتفقّه ما يشمل الاجتهاد ، أنّ القدر المستفاد منها هو وجوب الحذر عند العلم بصدق المنذر ، وذلك لأنّ التفقّه عبارة عن معرفة الامور الواقعيّة ، وحيث لا يعلم أنّ الإنذار هل وقع في محلّه بمطابقة الامور الواقعيّة أم لا؟ لم يتحقّق موضوع الإنذار حتى يجب الحذر والقبول ، فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعيّة. فإنّ قلت : لا نسلّم توقّف صدق الإنذار على علم المنذر واعتقاده بمطابقة الواقع ، فإنّ الإنذار نوع من الإخبار ، ومن الواضح أنّه لا يتوقّف على اعتقاد السامع بصدق الخبر ، فإطلاق قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) يقتضي وجوب الحذر عقيب الإنذار في صورتي العلم وعدمه.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١١٩ ، والوسائل ٨ : ٧ ، الباب الأوّل من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، الحديث ١٥.

(٢) كذا ، والمناسب : إلى ، كما في الوسائل.

٥٩٦

قلنا : دعوى الإطلاق ممنوعة :

أمّا أوّلا ، فلأنّ الغالب في إنذار المنذر من أهل العلم وإخبارهم عن الأحكام حصول العلم للمنذرين ، فتنزّل الآية على ما هو الغالب المتعارف.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ مثل هذا الكلام عرفا وارد مورد (١) مقام آخر غير إنشاء حكم تعبّدي ظاهري ، أعني العمل بقول المنذر تعبّدا ، وهو إهداء الناس إلى الحقّ وتبليغ الجاهل إلى ما هو الصواب. وأما وجوب قبول الجاهل من المبلّغ مطلقا أو فيما إذا أفاد العلم ، مقام آخر يرجع فيه إلى ما تقتضيه القواعد. وهذا نظيره في المحاورات كثير ؛ فإنّ المقصود العرفي من الأمر تبليغ الحقّ إلى الجاهل وإرشاده ، والملازمة إلى ما كان في جهل منه ، وعلى ذلك ينزّل جميع ما ورد في حقّ الأنبياء والحجج من الأمر ببيان الحقّ وإظهار الأحكام ؛ فإن المقصود منها ليس إلاّ بلوغ الأحكام إلى الناس وخروجهم عن الجهالة ، لا تأسيس أساس التعبّد والعمل والتقليد.

وممّا يوجب وهن الإطلاق : أنّه لا شكّ في اشتمال التفقّه على معرفة الأصول والفروع ، كما يدلّ عليه استدلال المعصوم بهذه الآية في غير واحد من الروايات (٢) على وجوب معرفة الحجّة إذا حدث على إمام العصر حادثة ولا يجوز الحذر عقيب الإنذار في الأصول بدون حصول العلم إجماعا إلاّ من قليل.

ورابعا : لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقا ، سواء تحصّل العلم أم لا ، أنّك قد عرفت أنّ الإنذار الواجب إنّما هو الإنذار العلمي بالامور المعلومة

__________________

(١) كذا ، وعلى كلمة « مورد » حرف « ظ ».

(٢) مثل ما ورد في الكافي ١ : ٣٧٨ و ٣٨٠ ، باب ما يجب على الناس عند مضيّ الإمام ، الحديث ١ ـ ٣.

٥٩٧

الواقعيّة ، ضرورة كونه غاية للتفقّه المراد به معرفة حقائق الأحكام. والعلم بها كما ذكرنا ، فغاية ما تدلّ عليه حينئذ هو وجوب الحذر إذا كان المنذر عالما في إنذاره ، فالإنذار الظنّي خارج من تحتها ، والمهمّ إنّما هو إثبات جواز التقليد في الفتاوى الظنّية ، فإنّ الفتوى التي تكون عن علم ، غالبا ـ مع ندرته ـ من قبيل الضروريّات والإجماعات التي تفيد العلم للمقلّد أيضا ، فلا موضع يكون المفتي فيه عالما بما يفتي ولم يحصل للمقلّد ، ولو فرض إمكان ذلك ، فالقدر الثابت حينئذ جواز التقليد تعبّدا في حصول الفتوى التي تكون عن علم ، فيبقى جواز التقليد في الفتاوى الظنّية خاليا عن الدليل. اللهم إلاّ أن يدفع ذلك بالإجماع المركّب ، فإنّ كلّ من أجاز التقليد في صورة كون المفتي عالما أجازه في صورة الظنّ أيضا.

وخامسا : لو سلّمنا جميع ذلك وقلنا : إنّ الآية تدلّ على وجوب الحذر عقيب الإنذار مطلقا ، سواء كان الإنذار أي الفتوى علميّا أو ظنّيا ، وسواء أفاد العلم للمنذر أو لا ، أنّ ظاهرها اختصاص الحكم بإنذار الأحياء ؛ لأنّ الحياة لها مدخلية في حقيقة الإنذار والأمر بالتفقّه والإنذار متوجّه إلى الأحياء.

وسادسا : لو أغمضنا عن جميع ذلك ، وسلّمنا دلالة الآية على جواز تقليد الميّت ، أنّ ما تلونا من الإجماعات الشاهد على صدقها التتبّع كما عرفت ، مخصّصة لها.

فقد تلخّص مما ذكرنا : أنّ الآية لا دلالة لها على مشروعيّة أصل التقليد التعبّدي الذي نحن في صدد بيانه ، وعلى فرض دلالتها عليه فهي قاصرة الدلالة على جواز تقليد الأموات ، وعلى فرض تسليم دلالتها على ذلك فهي مخصّصة بما سمعت من الإجماعات.

٥٩٨

الآية الثانية : آية الكتمان : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ )(١).

والتقريب فيه نظير ما بيّنا في آية النفر : من أنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عند الإظهار ، وهذا هو التقليد.

ويرد عليها جميع ما أوردنا على آية النفر عدا الأوّلين ؛ فإنّ الآية ساكتة عن وجوب التقليد التعبّدي ، وواردة في مقام بيان الحقّ وحرمة الكتمان ، وأمّا وجوب القبول على السامعين مطلقا حتى في غير صورة حصول العلم لهم فلا دلالة فيها على ذلك.

أو نقول : إنّ ظاهرها اختصاص وجوب القبول بصورة العلم تنزيلا على ما هو الغالب المتعارف في تبليغ الحقّ وإظهار الصواب من أهل العلم والخبرة. ويؤيّده : أنّ مورد الآية كتمان اليهود علامات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما تبيّن لهم ذلك في الكتاب ، أعني التوراة ، ومن المعلوم أنّ آيات النبوّة يعتبر فيها حصول العلم. ولا يكتفى بالظن فيها. نعم لو وجب الإظهار على الظانّ وجب القبول منه تعبّدا ، وكذا لو وجب الإظهار على العالم الذي لا يفيد قوله العلم ؛ فإنّه أمكن جعل الآية حينئذ دليلا على وجوب القبول تعبّدا ، لكن وجوب القبول المستفاد التزاما من وجوب الإظهار المستفاد من حرمة الكتمان لا إطلاق فيه بحيث يشتمل (٢) ما نحن فيه ؛ إذ يكفي في خروج وجوب الإظهار عن وجوب القبول في الجملة ، كما في قبول الروايات مطلقا وقبول الفتاوى من الأحياء.

__________________

(١) البقرة : ١٥٩.

(٢) كذا ، والمناسب : يشمل.

٥٩٩

الثالثة : آية السؤال ( ... فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(١). والاستدلال بها موقوف على صدق السؤال على مراجعة كتب الأموات ، والقول بدلالتها على وجوب العمل بقول العلماء ابتداء من غير وساطة السؤال ، بناء على كون وجوبه مقدّميا ذريعة إلى العمل بقولهم ؛ لكونه حجّة ، فإنّ الواضح : أنّ حجيّة القول توجب وجوب السؤال ؛ لا أنّ وجوب السؤال يوجب الحجيّة ، فيكون الانتقال من وجوب السؤال إلى حجيّة القول من باب الاستدلال الإنّي.

وأوّل ما يرد على الاستدلال بهذه الآية هو : أنّ ظاهرها بشهادة السياق إرادة علماء اليهود كما عن ابن عباس وقتادة وغيرهما (٢) ؛ فإنّ المذكور في سورة النحل ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ... )(٣) ، ومثله في سورة الأنبياء (٤) من غير ذكر البينات والزبر.

وإن قطع النظر عن السياق ، فقد ورد في عدّة روايات (٥) مشتملة على الصحيح والموثق تفسير « أهل الذكر » بالأئمة صلوات الله عليهم أجمعين ، فإرادة وجوب الرجوع في أمر الدين إلى مطلق العلماء خروج عن قول المفسّرين وعن النصوص الواردة في تفسيرها.

__________________

(١) النحل : ٤٣ ، والأنبياء : ٧.

(٢) انظر تفسير مجمع البيان ٣ : ٣٦٢ ، ذيل الآية ، و ٤ : ٤٠ ذيل الآيتين من النحل والأنبياء.

(٣) النحل : ٤٣ ـ ٤٤.

(٤) الأنبياء : ٧.

(٥) انظر الكافي ١ : ٢١٠ ، باب أنّ أهل الذكر ... هم الأئمة عليهم‌السلام.

٦٠٠