مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

أكثر المجتهدين ، بحيث كاد أن يكون إجماعا بينهم. وعن صريح شارع (١) النجاة : نفي الخلاف في ذلك. وكذا عن ظاهر النهاية (٢) ؛ بناء على أنّ عدم ذكر الخلاف هنا بعد الفتوى ذكر لعدم الخلاف في مثل المقام ، خصوصا من مثل الفاضل ، المتعرّض للخلاف في جميع المسائل ، سيّما في النهاية. وعن الكفاية (٣) : نقل الاتفاق عن بعضهم. وبالإجماع صرّح ابن أبي جمهور الأحسائي (٤) فيما حكي عنه ، حيث قال : لا بدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله فوجب الرجوع إلى غيره ؛ إذ الميّت لا قول له ، وعلى هذا انعقد إجماع الإمامية وبه نطقت مصنّفاتهم الاصوليّة والفروعيّة. ونسبه في محكي الذكرى (٥) إلى ظاهر العلماء ، وفي محكي الجعفرية (٦) ومجمع الفائدة (٧) إلى الأكثر (٨).

وبالجملة : لا يخفى على المتتبّع أنّ كلمات الأوائل والأواسط متّفقة في منع العمل بقول الموتى وأنّ القول به من الخصائص العامّة ، فمن ادّعى إجماعهم على ذلك ـ كما ادّعاه المحقّق النراقي في المناهج (٩) والمولى البهبهاني (١٠)

__________________

(١) شارع النجاة المطبوع ضمن اثني عشر رسالة : ١٠.

(٢) انظر رسائل الشهيد الثاني ١ : ٤٧ ـ ٤٨.

(٣) كفاية الأحكام ١ : ٤١٣.

(٤) راجع رسالة « التقليد » للشيخ الأنصاري : ٣٣.

(٥) الذكرى ١ : ٤٤.

(٦) رسائل المحقق الكركي ١ : ٨٠.

(٧) مجمع الفائدة ٧ : ٥٤٩.

(٨) حكى عنهم مفاتيح الاصول : ٦١٨ ـ ٦١٩

(٩) المناهج : ٣٠١.

(١٠) الرسائل الفقهيّة : ٧ و ١٤.

٥٦١

على ما حكي عنه ـ لم يكن مغربا ، وإنّما المغرب من أنكره تمسّكا بصراحة بعض الكلمات ـ كما ستعرفه ـ وظهور الآخر في ثبوت الخلاف ؛ لأنّ الخلاف المصرّح به في بعض العبائر والمستظهر عن البعض الآخر لم يعلم كونه من أصحابنا ، بل الظاهر ـ كما اعترف به الشهيد الثاني في محكي الرسالة (١) ـ : أنّ الخلاف إنّما هو من العامّة ، وأغرب من ذلك إنكار حجيّة هذه الاجماعات ـ كما صدر عن الفاضل القمي (٢) رحمه‌الله ـ بدعوى عدم إفادتها إلاّ الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره في المسائل الاصولية ، سيّما مثل هذه المسألة التي حدوث ابتلاء الناس بها وعدم تداولها في الصدر الأوّل ، تأييد لصدق دعوى الاجماع فيها ؛ لأنّ الدالّ على اعتبار الظنّ في الفروع إنّما يدلّ على اعتباره في التكاليف الفعليّة التي يعتقد بها المكلّف في الوقائع ، ومن الواضح أنّ الظنّ بحكم شيء من مدارك الفروع يؤول بالأخرة إلى الظنّ بالتكليف الفعلي ، وتحقيق ذلك مطلوب من محلّه.

وعلى تقدير عدم حجّيته مطلقا أو في مسألتنا ـ على فرض كونها أصوليّة ـ نقول : إنّ هذه الاجماعات ـ الشاهد على صدقها التتبّع واعتراف بعض الأعاظم (٣) : بأنّه بعد الفحص الأكيد لم يطّلع على الخلاف بين الأصحاب المجتهدين في الأوائل والأواسط ـ تفيد القطع بوجود دليل عند القدماء متّفق عليه بينهم في الحجيّة. ولا أقل من الأصل السالم عن معارضة ما توهّم دليلا على الجواز من الآيات والأخبار ، وذلك فإنّ عثورهم على تلك الأخبار والآيات التي نتلوها عليك مع عدم اعتدادهم بشأنها ومصيرهم إلى ما تقتضيه الاصول

__________________

(١) رسائل الشهيد الثاني ١ : ٤٧.

(٢) القوانين ٢ : ٢٦٨.

(٣) لم نعثر عليه.

٥٦٢

والضوابط من المنع مما يقتضي بعدم انقطاع حكم الأصل عندهم ، فيتطرّق الوهم في دلالتها على جواز تقليد الميّت بعد فرض دلالتها على أصل التقليد.

فهذه الإجماعات تعدّ من الحجج في المسألة ، كلّ ذلك مع الاعتراف بكون مسألتنا هذه ـ أعني وجوب تقليد الحيّ عينا ـ من المسائل الاصولية ، والحقّ : أنّها مسألة فرعيّة ؛ لأنّها ممّا ينتفع به المقلّد على تقدير كونها من القطعيّات ، ولا ينتفع بها في الاجتهاد أصلا ورأسا وقد تقرّر في غير موضع أنّه المعيار في تميز (١) مسائل الأصول عن الفروع ، فلا عذر لمن أنكر حجيّة هذه الاجماعات مع كونه ممّن يقول بحجيّتها في الفروع ، فتأمّل.

بقي الكلام في نقل خلاف جملة من المتأخّرين ، وأشدّهم خلافا هم الأخبارية ، فذهب الاسترابادي (٢) والقاساني (٣) فيما حكي عنهما إلى الجواز مطلقا ، ونسبه الشهيد في محكي الذكرى (٤) إلى بعض ، وهو المحكي عن القمّي (٥) في حجّة الاسلام ، والجزائري في منبع الحياة (٦) ، ووافقهم التوني (٧) إذا كان المجتهد ممّن لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأدلّة ومدلولاتها الصريحة أو الظاهرة كالصدوقين ، وإن كان يفتي بالمداليل الالتزامية الغير البيّنة فمنع عن تقليده حيّا

__________________

(١) كذا ، والمناسب : تمييز.

(٢) الفوائد المدنية : ١٤٩.

(٣) مفاتيح الشرائع ٢ : ٥٢.

(٤) الذكرى ١ : ٤٤.

(٥) لم نعثر عليه.

(٦) لا يوجد لدينا.

(٧) الوافية : ٣٠٧.

٥٦٣

كان أو ميّتا. وذهب الأردبيلي (١) والعلاّمة ـ فيما حكى (٢) عنهما ـ إلى الجواز عند فقد المجتهد الحي مطلقا أو في ذلك الزمان والفاضل القمي رحمه‌الله (٣) أناط الحكم مناط حصول الظن الأقوى ، سواء حصل من قول الميّت أو الحي ، فهو من المجوّزين مطلقا ولم أجد غيره من المجتهدين وافقه في كتابه ممّن يعتد بشأنه.

[ وجوه القول بعدم جواز تقليد الميت ] :

والحقّ الذي لا ينبغي الارتياب فيه : هو المنع مطلقا. لنا على ذلك وجوه :

منها : ما سمعت من الإجماعات المعتضدة بظهور اتفاق الامامية على ذلك ؛ إذ قد عرفت أنّه لا خلاف بين قدماء الأصحاب والمتوسّطين بحكم التتبع وشهادة جملة من الفحول ، فانّ جريان عادتهم ـ سيّما العلاّمة ـ على ذكر المخالفين في المسائل مع عدم ذكر مخالف واحد معا في المسألة ممّا يعطي الجزم باتفاق كلمتهم في ذلك ، ودعوى صراحة الذكرى في خلاف بعض الأصحاب ، يدفعها ما عن رسالة (٤) الشهيد الثاني : من أنّ العلماء يعمّ العامّة والخاصّة ، وبعض الأعم أعم من بعض الأخص ، مع أنّ خلاف نادر من أصحابنا غير قادح فيما ادعينا من الإجماع على طريقة المتأخّرين. ومنه يظهر ضعف توهّم الخلاف من كلام من جعل الحكم

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٧ : ٥٤٧.

(٢) حكاه المحقّق الثاني في حاشية الشرائع ( مخطوط ) : ١٠٠ ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦٢٥.

(٣) راجع القوانين ٢ : ٢٦٧ و ٢٦٨.

(٤) حكى عنه في مفاتيح الاصول : ٦١٩.

٥٦٤

ـ أي المنع ـ الأقرب ، كالعلاّمة في محكي التهذيب (١) ، أو نسبته إلى الأكثر (٢) ؛ لأنّ المسألة إذا كانت من الخلافيات بين العامّة والخاصّة ، ونحو هذه الكلمات مما لا صراحة بل لا ظهور لها في تحقّق الخلاف بين الخاصّة ، وقد نسب الشهيد الثاني قول المشهور إلى الأكثر في المنيّة والمقاصد (٣) ، ومع ذلك فقد اعترف بعدم الخلاف من الخاصّة في الرسالة (٤) والمسالك (٥) وآداب المعلّم (٦) والمتعلّم ، وهذا ممّا يؤكّد كون هذه الكلمات إشارة إلى خلاف العامّة ، وأمّا الخلاف الذي نقلوه من العلاّمة ـ وقد سمعته ـ فلعلّه على فرض ثبوته ـ مع أنّه ممّا أنكره في الدين الشيخ السعيد (٧) والمحقّق الثاني (٨) فيما حكي عنهما (٩) ـ نحمله على الاستعانة بكتب أموات من المتقدمين عند فقد المجتهد الحيّ ممّا لا يضرّنا ؛ لأنّ كلامنا الآن في قبال من أجاز العمل بقول الموتى مع وجود الحي. وأمّا المتأخّرون ، فلم ينقل منهم الخلاف أيضا سوى من عرفته (١٠) من الأخباريين وبعض المجتهدين. وخلاف الأخباريين ومن يقرب منهم في المشرب ـ أعني إنكار طريقة الاجتهاد

__________________

(١) تهذيب الوصول : ١٠٣.

(٢) كما تقدّم عن الجعفريّة ومجمع الفائدة في الصفحة : ٥٦١.

(٣) منية المريد : ١٦٧ ، ومقاصد العلية : ٥١ ـ ٥٢.

(٤) كما تقدم في الصفحة : ٥٦٢.

(٥) المسالك ٣ : ١٠٩.

(٦) منية المريد : ١٦٧.

(٧) حكاه عنه المحقق الثاني في حاشية الشرائع ( مخطوط ) : ١٠٠.

(٨) حاشية الشرائع ( مخطوط ) : ١٠٠ ، وحكى عنهما في الوافية : ٣٠٠.

(٩) حكاه عنهما الفاضل التوني في الوافية : ٣٠٠.

(١٠) في الصفحة : ٥٦٣.

٥٦٥

والتقليد ـ غير قادح في اتّفاق المجتهدين ؛ نظرا الى اختلال طريقتهم وعدم قولهم بالاجتهاد والتقليد رأسا ، واقتصارهم في استنباط الأحكام على الأخذ من كتب المحدّثين أحياء كانوا أو أمواتا ، وعدّهم الفتوى نقلا لمضمون الأخبار. ومن هنا اعتبر التوني (١) في التقليد كون المجتهد ممّن لا يعمل إلاّ بمداليل الأخبار الواضحة دون الالتزاميات الغير البيّنة التي يعمل بها المجتهدون ويفتون على حسب مقتضاها. وسوّى بين الحياة والممات كما هو الشأن في العمل بالأحاديث ، فإنّ نظره إلى تسويغ العمل بفتوى تكون نقلا لمضمون الأخبار حتى يكون العمل بها عملا بالخبر ، لا إلى عدم اشتراط حياة المفتي على فرض جواز العمل بالفتوى ، مثل ما يقول المجتهدون.

وكذا لا يقدح في الاتفاق المزبور خلاف الأردبيلي (٢) لما ظهر وجهه في خلاف العلاّمة رحمه‌الله (٣).

فبقي من المخالفين المجتهد الفاضل القمي رحمه‌الله وهو باعتبار فساد مستنده وعدم مشاركة غيره له في ذلك وإن شاركه في أصل الحكم في الجملة ، مما لا يقدح خلافه ، وليس هذا الكلام إلاّ في الردّ عليه.

وبالجملة : هذا الاتفاق ممّا ادّعاه غير واحد من الأتقياء الفحول وأعاظم أهل الاصول بعد أن بلغوا في الفحص والتتبّع ما هو المأمول ، فهو إمّا حجّة واضحة في المسألة ، أو يدفع مانعية ما يتوهّم مانعيته عن العمل بالأصل من الإطلاقات وعلى التقديرين ففيه الحجة.

__________________

(١) الوافية : ٣٠٧.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٧ : ٥٤٩.

(٣) مبادئ الوصول الى علم الاصول : ٢٤٨.

٥٦٦

ومنها الأصل ، وتقريره :

تارة بأنّ حجّية قول الغير حكم يحتاج الى دليل معتبر ، والمقدار الثابت منها إنّما هو حجّية قول الحي لكونه متفقا عليه بين الفريقين ، وأمّا قول الميّت فالأصل عدم حجّيته.

لا يقال : لا نسلّم تسالم الفريقين حجّية قول الحي : لأنّ القائلين بجواز تقليد الميّت : منهم من يرى وجوب اتّباع الظن الأقوى ، فقد يكون حاصلا من قول الميّت ، ومنهم من يوجب تقليد الأعلم. فإذا فرض كون الميّت أعلم لم يجز تقليد الحي عنده ، فتقليد الحي والميّت متساويان في الاحتياج إلى الدليل وعدم الإجماع ، وإجراء الأصل في أحدهما معارض باجرائه في الآخر.

لأنّا نقول : نفرض الكلام فيما إذا تساوى الحي والميّت من جميع الجهات ، فيتمّ الدليل فيه. وفي صورة رجحان الميّت في العلم أو في إفادة قوله الظن ، يتمّ المدّعى بعدم القول بالفصل ؛ لأنّ كلّ من يرى وجوب تقليد الميّت الأعلم أو الذي يفيد قوله الظن الأقوى عينا قال بوجوبه تخييرا في صورة المساواة ، والتفصيل بين الصورتين قول لا يقول به أحد من الفريقين.

وربما اجيب عن هذا الإيراد : بمنع وجوب تقليد الأعلم عند هؤلاء القائلين بجواز تقليد الميّت ، فإنّ صريح بعضهم عدم الوجوب (١). وأمّا وجوب متابعة الظن الأقوى فالقائل به إنّما هو بعض معاصري المجيب ـ أعني الفاضل القمي ـ ليس إلاّ ، فلا يقدح اختيار هذا المذهب في دعوى الإجماع على خروج قول الحي مطلقا ـ حتى في صورة كون الظنّ الحاصل من قول الميّت أقوى ـ من تحت الأصل.

__________________

(١) مثل المحقّق القمي في القوانين ٢ : ٢٤٦ و ٢٦٧.

٥٦٧

وما ذكرنا في الجواب أحسن ؛ لأنّا لو بنينا على عدم قدح مخالفة هذا القائل في الإجماع على حجّية قول الحي مطلقا لم يبعد دعوى الإجماع المحقّق على بطلانه ؛ فانّ الظاهر أنّه لم يقل غيره بوجوب اتباع الظنّ الأقوى ، وتعيّن العمل بقول الميّت إذا كان الأقوى منه في نظر المقلّد ، فيخرج الكلام عن كونه استدلالا بالأصل ، فليتدبّر.

واخرى : بأنّ التقليد عمل بما وراء العلم وهو منفي بالآثار والاعتبار خرج قول الحي بالإجماع وبقي الباقي تحت الأصل.

وأجاب عنه صاحب الوافية : بمنع كون العمل بما وراء العلم منهيّا إلاّ في اصول العقائد (١) ، وهو عجيب! وليس من مشاكلته (٢) وطريقة الأخبارية عجيبا ؛ لأنّ العقل القاطع عندهم ليس بحجّة.

وثالثة : بأنّ التقليد طريق جعلي للمكلّف بحيث لو لا دليل دلّ على اعتباره لما جاز الأخذ به كما عرفت ، ولا ريب أنّه إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين في الطريق ولا يدري أنّه يجب الأخذ بهذا عينا أو مخيّرا بينها وبين غيره وجب الأخذ بما يحتمل وجوب الأخذ به عينا بحكم الاحتياط القاضي به العقل ؛ لأنّه لا ينافي احتمال كونه أحد فردي الواجب التخييري.

لا يقال : هذا الأصل إنّما يتمّ على مذهب من يبني على الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين ، وأمّا على مذهب من يبني على البراءة فلا يتم ذلك الأصل ؛ لأنّا نقول فرق بين الطريق وغيره ؛ فإنّ الأصل الأوّلي في الطرق الغير العلمية هي الحرمة إلاّ ما خرج بالدليل ، وفي غيره هي البراءة ، فمتى حصل الشكّ

__________________

(١) الوافية : ٣٠٤.

(٢) كذا في الأصل.

٥٦٨

في حكم شيء من الطرق فالمرجع فيه هو المنع بخلاف ما إذا حصل الشك في حكم سائر الأشياء ، فإنّ المرجع فيها هي البراءة ، ومن هنا ينقدح كون الأصل مقتضيا للاشتراط عند فقد الإطلاق إذا شككنا في شرطيّة شيء لكون الشيء طريقا ، بخلاف ما إذا شككنا في شرطيّته في غير الطرق. وبالجملة : الأصل في الطرق الجعليّة غير الأصل في سائر الأشياء.

لا يقال : الاحتياط في هذه المسألة ربما يعارض بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ، كما إذا كان قول الميّت موافقا للاحتياط.

لأنّا نقول : إنّ الاحتياط في المسألة الاصولية مقدّم على الاحتياط في المسألة الفرعيّة بقاعدة المزيل والمزال كما يظهر بالتأمّل.

ورابعا (١) : بأنّ الذمّة مشغولة بالعبادة ـ كالصلاة مثلا ـ ولا يتفق الخروج من عهدتها إلاّ بتقليد الحي ؛ لأنّ تقليد الميّت معركة للآراء. فقاعدة الشغل واستصحابه يقتضيان المنع من تقليد الميّت.

هذا في العبادات ، وأمّا في المعاملات ، فأصالة عدم ترتّب الأثر محكّمة.

ويمكن تقرير أصول أخر تظهر بالتأمّل. ولا وارد على هذه الأصول من الأدلّة سوى الاستصحاب وظاهر الأخبار والآيات التي قد يتمسّك بها في إثبات جواز التقليد. وستعرف إن شاء الله فساد الاستدلال بها وبقاعدة الانسداد التي تمسّك بها الفاضل القمّي (٢).

ومنها (٣) : أنّ المفتي إذا مات سقط قوله عن درجة الاعتبار ولا يعتدّ بقوله أصلا ، ومن هذا شأنه لا يجوز الاستناد إليه شرعا.

__________________

(١) عطف على ثالثة.

(٢) القوانين ٢ : ٢٦٥ ـ ٢٧٠.

(٣) أي الأدلة الدالّة على عدم جواز تقليد الميت.

٥٦٩

بيان الملازمة : أنّ مخالفة الحي لسائر أهل عصره يمنع عن انعقاد الاجماع على خلافه إجماعا ، بخلاف مخالفة الميّت ، فإنّها غير قادحة في انعقاده ، فلو كان قوله نحو قول الحي معتبرا شرعا لكان مخالفته قادحة أيضا كمخالفة الحي.

وهذه الحجة ذكرها المحقّق الشيخ علي في حاشية الشرائع (١) ، ثمّ اعترض على نفسه بما يرجع إلى منع الملازمة الثانية ، وحاصله :

أنّ انعقاد الإجماع على خلافه بموته ليس لأجل سقوط اعتبار قوله بموته ، بل لحصول العلم حينئذ بدخول المعصوم عليه‌السلام في الباقين الذي هو الباعث على حجيّة الإجماع عندنا. فلا دلالة في انعقاد الإجماع على خلافه بموته على أنّ الموت يوجب عدم اعتبار قوله بعد أن كان معتبرا في حال الحياة.

ثمّ أجاب عنه بما أجاد ، وحاصله : أنّ موت الفقيه حينئذ يكشف عن خطأ قوله في حال الحياة ، فلا يجوز العمل به.

وخلاصة الفرق بين هذا الجواب وبين الاستدلال : أنّ مقتضى الاستدلال : كون الموت مسقطا لاعتبار القول بعد أن كان معتبرا ، وقضيّة الجواب : كونه كاشفا عن خطأ القول رأسا ، باعتبار حصول العلم بكون قوله خلاف قول المعصوم. فالتفت ولا تغفل.

وربما يتوهّم اختصاص هذا الدليل بما إذا كان قول الميّت مخالفا لإجماع علماء العصر ، فلا يقتضي عدم جواز التقليد فيها إذا لم يكن كذلك ، كما إذا كانوا مختلفين ، وكان قول بعضهم موافقا لقول الميّت.

وليس كذلك وإن كان بناء الاستدلال على فرض الكلام فيما إذا كان رأي المجتهد مخالفا لآراء سائر أهل العصر فمات ، فإنّ ممانعة قوله حال الحياة في هذا

__________________

(١) حاشية الشرائع ( مخطوط ) : ٩٩ ـ ١٠٠.

٥٧٠

الفرض عن انعقاد الإجماع على خلافه ، وعدم المسابقة بعد الموت ، دليل واضح على كون الموت موجبا لسقوط اعتبار القول بعد أن كان معتبرا ، فالدليل وإن كان من مقدّماته فرض مخالفة قوله لسائر أهل العصر إلاّ أنّ النتيجة الحاصلة منها سقوط اعتبار القول بالموت مطلقا كما يظهر بالتأمّل.

هذا ، ولك أن تقرّر الدليل على وجه آخر ، وهو : أنّ قول الميّت إذا وافق قول أحد الأحياء فالعمل بقوله ليس تقليدا للميّت ، بل تقليد للحي ؛ بناء على عدم اعتبار تعيين المفتي في التقليد الذي هو شرط لصحّة العمل ، كما لعلّه الأقوى. وإن لم يوافق قول أحدهم كان مخالفا لأقوال أهل العصر ، ومعلوم البطلان بالإجماع بناء على حجيّته من باب اللطف ، فالتقليد للميّت دون الحيّ لا ينفكّ عن مخالفة الإجماع قطعا فتأمّل.

ثمّ إنّ صاحب الوافية بعد أن نقل هذا الدليل قال : وضعف هذا الوجه ظاهر ؛ لأنّه بعد عدم حجّيته على أصولنا ينتقض بمعروف النسب ، مع أنّهم اعتبروا بشهادة الميّت في الجرح والتعديل وهو يستلزم الاعتداد بقوله في عدد الكبائر ، فتأمل. انتهى (١).

وتبعه في النقض بمعروف النسب غير واحد ممّن تأخّر عنه (٢) ، وصورته واضحة ، وهي : أنّ انعقاد الاجماع على الخلاف مشترك الورود بين الحي والميّت بناء على ما هو التحقيق عند الإمامية في الإجماع : من كون حجّيّته من باب الكشف عن قول المعصوم لعدم منافاته لمخالفة الحي المعلوم النسب أيضا.

__________________

(١) الوافية : ٣٠١.

(٢) منهم المحقّق القمي في القوانين ٢ : ٢٧٢ ، وانظر مفاتيح الأصول : ٦٢٠.

٥٧١

والظاهر ، أنّه بعد التأمّل في جواب الشيخ علي رحمه‌الله عن الاعتراض الذي أورده على نفسه يظهر جواب هذا النقض أيضا ، فإنّ كون مخالفة معلوم النسب غير قادحة في انعقاد الاجماع لا ينافي كون الموت كاشفا عن خطأ قوله ، وهو الباعث لعدم الاعتداد بقوله.

توضيح المرام : أنّك عرفت أنّ الاستدلال بالدليل المزبور يتصور على وجهين :

أحدهما أن يقال : إنّ المجتهد ما دام كونه حيّا يعتبر قوله وإذا مات سقط اعتبار قوله بنفس الموت ، وذلك لأنّ المجتهد المخالف لأهل عصره في الرأي ما لم يمت يمنع مخالفته عن انعقاد الإجماع على خلافه ، وإذا مات فبموته يتحقّق الإجماع على خلافه ، وهذا يدلّ على اعتبار قوله في حال الحياة وعدم اعتباره في حال الممات ، إذ لو كان معتبرا أيضا مثل اعتباره قبل الموت لكان مانعا عن انعقاد الإجماع على خلافه ، وحيث لا يمنع علم أنّ قوله ميّت مثله لا اعتداد بشأنه.

وإن قرّر الاستدلال كذلك ، فهذا مبنيّ على كون الإجماع اتّفاق الكل ، بحيث يقدح في ثبوته مخالفة بعض آحاد الامّة ، سواء كان معلوم النسب أو مجهوله ، كما عليه العامّة. وحينئذ فالجواب عنه : بأنّ هذا الدليل لا يلائم مذهبنا في الإجماع : من عدم قدح خلاف مجهول النسب حيّا كان أو ميّتا جيّد ، إلاّ أنّه ليس من النقض في شيء ، بل هو منع لمبنى الاستدلال ، أعني قدح خلاف الحيّ في انعقاد الإجماع ، فتضعيف صاحب الوافية له : أوّلا بعدم حجّيته على أصولنا. وثانيا : بالنقض ، ضعيف خارج عن رسم الإيراد ، وراجع إلى إيراد واحد.

٥٧٢

ثمّ إنّ هذا الجواب إنّما يناسب إذا كان المحجوج عليه بهذه الحجّة الخاصّة ، والمستدلّ إنّما احتجّ بها على العامّة القائلين بحجيّة الإجماع من جهة اتّفاق الامّة كلّها تعبّدا إذ لم يكن معتقدا بخلاف أحد من الخاصّة إلى زمانه ، بل كان معتقدا بوفاقهم كما اعترف به في شرح الألفيّة (١).

والثاني أن يقال : إنّ المجتهد المخالف لآراء أهل عصره ما دام كونه في الحياة لا يحصل العلم ببطلان قوله ؛ لاحتمال كونه معصوما ، وإذا مات كشف موته عن خطئه ؛ لظهور دخول المعصوم في الباقين.

فإن بني الاستدلال على ذلك كما يصرّح به الجواب عن الاعتراض الذي أورده على نفسه ، كان النقض المزبور أجنبيّا ؛ لأنّ إمكان تحقّق الإجماع مع خلاف بعض الأحياء المعروف النسب لا يمنع شيئا من مقدّمات الدليل من الصغرى أو الكبرى ؛ لأنّ المستدلّ غير منكر لذلك ، بل يعرف أنّ مناط حجيّة الإجماع إنّما هو القطع بدخول المعصوم عليه‌السلام كما هو صريح اعترافه (٢) في تقرير الاعتراض ، وأنّه لو حصل القطع بدخوله عليه‌السلام في آحاد معيّنين كان الحجّة فيهم ، وإن كان بعض الأحيان على خلافهم ، لكن يقول : إنّ موت المجتهد المخالف دائم الكشف عن خطئه ، فلا يجوز الاعتماد بقوله.

قولك : إنّ خلاف الحيّ المعلوم النسب أيضا معلوم البطلان لمكان الإجماع على خلافه.

قلنا : لا يجوز الاعتماد على قوله أيضا ، ولا يلزم من منع تقليد نحو هذا الحي منع تقليد مطلق الحي.

__________________

(١) انظر رسائل المحقّق الكركي ٣ : ١٧٦.

(٢) أي اعتراف المحقّق الثاني ، وانظر حاشية الشرائع ( مخطوط ) : ١٠٠.

٥٧٣

نعم يرد على هذا التقرير : أنّ مفاد الدليل حينئذ ليس إلاّ عدم تقليد الميّت الذي كشف موته عن خطئه بأن كان سائر أهل عصره مخالفين له في الرأي وكان موته موجبا لكشف خطئه باعتبار حصول العلم بدخول المعصوم في الباقين ، وأمّا الميّت الذي لم يكشف موته عن خطئه بإمكان (١) الأحياء بعضهم موافقين له في الرأي ، فلا دلالة له على عدم جواز تقليده حينئذ ، ويمكن دفعه بما أشرنا إليه : من أنّ رأي الميّت إذا وافق رأي أحد الأحياء لم يكن العمل على طبق رأيه تقليدا له ؛ بل للحيّ. ولعلّه لذا فرض الكلام في أصل الاستدلال فيما إذا كان الميّت مخالفا لسائر أهل عصره ، فإنّ صورة موافقة بعض الأحياء يمكن إخراجها من محلّ البحث ؛ لقلّة جدواها ؛ بناء على عدم اختلاف التقليد باختلاف نيّة المقلّد ، ولا يخفى أنّ الاستدلال على الوجه الأوّل لو تمّ فإنما يفيد عدم الاعتداد بقوله مطلقا حتّى فيما إذا وافق بعض الأحياء ، كما بيّنا وجهه عند تقرير الدليل.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكره صاحب الوافية (٢) بعد النقض بقوله مع أنّهم اعتبروا شهادة الميّت في الجرح والتعديل وهو يستلزم الاعتداد بقوله في الكبائر مع عدم ارتباطه بالجواب اشتباه واضح ؛ فإنّ مناط الجرح والتعديل على قبح أفعال المجروح وحسن أفعال المعدّل في نظره لا بحسب الواقع ، فلا يلزم من قبول الجرح والتعديل إلاّ الحكم بارتكاب المجروح والمعدّل ما رآه قبيحا وعدمه ، وهذا لا يستلزم قول الجارح والمعدّل في عدد الكبائر بعد أن لم يكن مناط الفسق والعدالة بمباشرة ما هو كبيرة في نظره ، ولعلّ وجه الاشتباه : أنّه زعم أنّ مناط الجرح والتعديل والفسق والعدالة ارتكاب الكبيرة الواقعيّة

__________________

(١) كذا ، والأنسب : لإمكان أن يكون.

(٢) الوافية : ٣٠١.

٥٧٤

والاجتناب عنها ، فتخيّل أنّ قبول شهادته في ذلك يستلزم قبول قوله : « إنّ هذه كبيرة » وعدم اعتبار قوله في كونها كبيرة يستلزم ردّ شهادته كما هو واضح.

واعترض صاحب الفصول (١) على هذه الحجّة ـ مضافا إلى ما عرفته من النقض ـ : بأنّ غاية ما يلزم منها عدم اعتبار قوله في انعقاد الإجماع ولا يلزم منه عدم اعتباره مطلقا حتى بالنسبة إلى جواز التقليد.

وهذا الاعتراض مبنيّ على تقرير الاستدلال بالوجه الأوّل ؛ فإنّ قضيّة التقرير الثاني : كشف الموت عن خطأ قوله رأسا.

وقد ظهر ممّا تلونا ضعف هذا الاعتراض على التقرير الأوّل أيضا ؛ فإنّه لو تمّ فإنّما يقتضي إسقاط الموت اعتبار القول بعد أن كان معتبرا ، من دون اختصاص له بمسألة انعقاد الإجماع ؛ نظرا إلى أنّ أقلّ مراتب اعتبار قول المجتهد ممانعته عن انعقاد الإجماع على خلافه ، فحيث لم يمنع من ذلك علم بفقدانه لجميع مراتب الاعتبار التي من جملتها ـ بل أعظمها ـ جواز التقليد.

وأيضا القائل باعتبار قول الميّت يدّعي : أنّ الموت من حيث هو لا مدخليّة له في اعتبار القول وعدمه ، وهذا الدليل يقتضي مدخليّة الحياة في الاعتبار في الجملة ، وبعدم القول بالفصل بين الموارد في ذلك يتمّ المدّعى ، فتأمّل.

ثمّ قال (٢) : ولو قرّر الدليل : بأنّ الإجماع قد ينعقد على خلاف الميّت فيكون قوله معلوم البطلان من الدين ، والعامي لا خبرة له بمواقع الإجماع ، فقد يؤدّي تقليده الأموات إلى التقليد في أمر معلوم البطلان فيجب التحرّز عن ذلك ، لكان أولى.

__________________

(١) الفصول : ٤٢١.

(٢) أي صاحب الفصول.

٥٧٥

وفيه نظر واضح ؛ لأنّ الإجماع قد ينعقد على خلاف الحي أيضا باعترافه ، فيجب التحرّز عن قول الحي أيضا إلاّ بعد العلم بأنّه غير مخالف للإجماع ، وكلّ ما يقال هنا يقال في تقليد الميّت حرفا بحرف.

ومنها (١) : أنّ دلائل الفقه لما كانت ظنّية لم تكن حجّيتها إلاّ باعتبار الظن الحاصل معها ، وهذا الظن يمنع بقاؤه بعد الموت ، فيبقى الحكم خاليا عن السند ، فيخرج عن كونه معتبرا شرعا.

وهذا الدليل أيضا نقل عن المحقّق الشيخ علي رحمه‌الله في حواشي الشرائع (٢) ، وأورده غير واحد ممّن تأخّر عنه بتقريرات مختلفة ، منهم : الشهيد الثاني (٣) في رسالته ، والمير محمد باقر الداماد في بعض رسائله (٤).

واعترض عليه صاحب الوافية (٥) :

أوّلا : بمنع زوال الظن بعد الموت.

وثانيا : بمنع خلوّ الحكم عن السند على تقدير الزوال ، فلم لا يكفي اقتران الظن بالحكم في السابق سندا له.

ويدفع الأوّل : بأنّ الظن من الأعراض القائمة بالذهن ، وهو قوّة من قوى الحيوان الناطق ، وخاصّة من خواصّه متقوّم بالحياة كتقوّم أصل الحيوانيّة بها ، ويتقوّى بقوّة البدن ويضعف بضعفه ، فإذا عرض الموت الذي يفني جميع القوى

__________________

(١) من الوجوه الدالة على عدم جواز تقليد الميت.

(٢) حاشية الشرائع ( مخطوط ) : ٩٩ ، وحكا عنه في الوافية : ٣٠٢.

(٣) رسائل الشهيد الثاني ١ : ٤٣.

(٤) أورده في رسالة شارع النجاة المطبوعة ضمن « اثني عشر رسالة » : ١٠ ـ ١١.

(٥) الوافية : ٣٠٢.

٥٧٦

الحيوانية حتى القوى الدرّاكة انعدم تلك القوّة أيضا ؛ ولذا ترى أنّ الهرم وزيادة الطعن في السنّ يذهب بالسامعة والباصرة والمدركة وغيرها من القوى ، بحيث لا يبصر ولا يسمع ولا يفهم شيئا ، كما أخبر الله تعالى به في محكم كتابه : ( ... وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ... )(١).

واستدلّ المولى البهبهاني رحمه‌الله (٢) على زوال الظن ـ فيما حكي عنه ـ :

أوّلا : بالبداهة.

وثانيا : بأنّ الظنّ إنّما هو الصورة الحاصلة في ذهنه ، فحين الشدّة والاضطراب حالة النزع لا تبقى تلك الصورة قط ، بل وحين النسيان والغفلة أيضا ، فما ظنّك بما بعد الموت حيث صار الذهن جمادا لا حسّ فيه.

وهذا الاستدلال مبنيّ على كون الظنّ جزءا من الأجزاء البدنيّة. وهو غير واضح وإنّما الذي نتعقله ويساعد عليه الوجدان ، بل البرهان أيضا ، هو الذي ذكرنا : من كونه قوّة من قوى الحيوان الناطق يدرك بها الأشياء النظرية ، وبه قوامها وتعيّنها بالحياة ، وبقاء تركيب الأخلاط الأربعة في هذا البدن. ووجه ذلك ، أنّه قد تقرّر : أنّ لكلّ خلط من الأخلاط الأربعة أثر في النفس الناطقة ، مثل أنّ أثر الصفراء هو الإدراك وسرعة الانتقال وجودة الذهن ، وأثر البلغم هو البلادة وسوء الفهم وبطء الانتقال ، وأثر الدم هو الشهوة والغضب وهكذا ... ولا ريب أنّ هذه الآثار إنّما تظهر من الأخلاط الأربعة في حال الحياة ، فإنّ الموت عبارة عن فناء هذه الأخلاط كلّها في البدن وتجرّد النفس وخروجها عن الجسمانيات.

__________________

(١) النحل : ٧٠.

(٢) حكاه السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٦٢٠ ، وانظر الرسائل الفقهية : ١٥.

٥٧٧

وبالجملة : لا خفاء ولا إشكال عند المحقّقين ، مثل المير (١) والثانيين (٢) وأمثالهم : أنّ الموت يوجب زوال الظن ، وأنّه من الأعراض المشروطة بالحياة ، فدعوى بقائه بعد الموت واهية لا ينبغي الالتفات إليها.

وزعم صاحب الفصول (٣) ـ وفاقا لبعض من تقدّمه (٤) ـ : أنّ سبب زوال الظن إنّما هو انكشاف حقائق الامور بعد الموت. ومنع عن قيام دليل قاطع على ذلك قبل قيام الساعة.

وأنت قد عرفت أنّ زوال الظنّ ليس لأجل انكشاف الواقع وانقلابه بالعلم ، بل لأجل فناء محلّه الذي هو الذهن المتقوّم بتركيب الأخلاط والقوى في البدن.

وأمّا انكشاف الأشياء عند النفس بعد الموت وعدمه فهو مقام آخر لا يتوقّف على أحد الطرفين بفوت المطلوب ، لأنّا لو لم نقل بالانكشاف لقلنا بزوال الظنّ أيضا ، لما ذكرنا.

ثمّ قال : سلمنا ـ يعني زوال الظنون وانكشاف واقع الأحكام للمجتهد ـ لكنّ الاعتقاد الراجح المحقّق في ضمن الظن ممّا يمكن بقاؤه بموافقة العلم الطارئ فيستصحب بقاؤه ، لعدم القطع بزواله ، إذ التقدير تجويز موافقة علمه لظنه وزوال تجويز النقيض (٥) انتهى.

وفيه :

أولا : ما عرفت ، لا ملازمة بين زوال الظن بعد الموت وانكشاف الوقائع ،

__________________

(١) أي المحقّق الداماد.

(٢) أي المحقق الثاني والشهيد الثاني ، كما تقدم في الصفحة : ٥٧٦.

(٣) الفصول : ٤٢٠.

(٤) مثل الوحيد البهبهاني ، انظر الرسائل الفقهية : ٩ ـ ١٥.

(٥) أي كلام الفصول.

٥٧٨

فنقول : إنّ الظن قد زال قطعا ؛ لما ذكرنا. وحصول الاعتقاد الجديد الذي حصل له بعد الموت على فرض كونه موافقا للظن بحكم الاستصحاب ـ بناء على حجّيته في مثل المقام ، مع أنّ الاعتقاد الظنّي والاعتقاد الجزمي مرتبتان متضادّتان مختلفتان ، والأول قد ارتفع جدّا ، والثاني حادث جديد ، وإجراء الاستصحاب فيه مبنيّ على المسامحة وعدم التدقيق في البقاء والحدوث كما في استصحاب الألوان الضعيفة مع القطع بتكاملها [ و ](١) انقلابها إلى حالة الشدة على فرض بقائها ـ اعتقاد نشأ لا عن دليل ؛ لأنّ اعتقادات الموتى وعلومهم تحصل بالمكاشفة والشهود ، ولم يقم دليل على أنّ جواز التقليد حكم من أحكام هذا النحو من الاعتقاد الخارج عن عالم الاجتهاد ، وقد تقرّر : أنّ استصحاب الموضوعات الغير الشرعيّة : كالحياة والعلم والظنّ ونحوهما ، إنّما هي عبارة عن إجراء أحكامها الشرعيّة عليها التي يعلم ثبوتها لها على فرض بقائها ، كحرمة نكاح الزوجة على فرض حياة بعلها مثلا ، فحيث كان المستصحب على فرض بقائه ممّا لم يقم دليل شرعيّ على ترتيب الحكم عليه ، لم يكن فائدة في استصحابها.

فبعد اللتيا والتي صار نتيجة كلامه : أنّ الاعتقاد الظنّي الحاصل للمجتهد في حال الحياة قد تكامل بالموت وبلغ حدّ الجزم ؛ بحكم الاستصحاب.

ومن الواضح : أنّ مجرّد ذلك لا يتمّ به المدّعى ، بل لا بدّ أن يكون دليل دلّ على أنّ جواز التقليد حكم من أحكام الاعتقاد الراجح ، كسبيّا كان أو كشفيّا. ثمّ إثبات بقاء الاعتقاد بعد الموت ليترتّب عليه حكمه الشرعي. ونحن نقول ـ كما ستعرف في ردّ الاستصحاب الذي يتمسّك به المجوّزون ـ : إنّ هذا الدليل مفقود ، وحينئذ فلا ينفع استصحاب بقاء الاعتقاد الراجح بعد الموت جدّا.

__________________

(١) اقتضاها السياق.

٥٧٩

ومن هنا ينقدح : أنّه لا يضرّنا الاعتراف ببقاء الظنّ نفسه من دون تكامل وتقلّب بالقطع أيضا ، وإن كان بناء أهل الاستدلال على الزوال ؛ ولعلّه لأجل معلوميّة ذلك عند المستدلّ بحيث لم يخطر بباله أنّ عاقلا يذهب إلى بقاء الظن.

فالأولى أن يقال : إنّ الدلائل الظنّية حجّيتها إنّما هي باعتبار الظنّ الحاصل منها للمجتهد الحي ، لكنّه لا يخلو عن مصادرة.

ويدفع الثاني (١) : بأنّ مناط الحجّية إذا كان هو الظنّ كان الحكم يدور مداره ؛ لأنّه يقع وسطا لقياس نتيجته القطعيّة المطلوبة ، ومن الواضح المقرر : أنّ الاستنتاج يحتاج إلى ثبوت الملازمة بين النتيجة وبين الوسط بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن انتفائه انتفاؤه.

بيان ذلك : أنّ الدليل ما كان بينه وبين مدلوله ملازمة واقعية بحيث يلزم من العلم به العلم به ، وهذا في غير الأدلّة الشرعيّة واضح ، وأمّا فيها ففي القطعيات منها أيضا لا إشكال في ثبوت الملازمة بينها وبين نتائجها واقعا ، وأمّا الظنّيات ، كخبر الواحد والشهرة وأمثالها ، فهي في أنفسها ليست من الأدلّة حقيقة ؛ لانتفاء الملازمة بينها وبين المطلوب منها ؛ لكنّها بملاحظة الدليل الثانوي الدالّ على حجيتها من العقل أو النقل صارت حجّة شرعيّة ، إمّا تعبّدا أو باعتبار ما فيها من الظنّ الذي يحصل للمجتهد. ومعنى صيرورتها حجّة دوران النتيجة معها على قياس دوران المطلوب مدار الحدّ الوسط في سائر القياسات مثل ما يقال : زيد متعفّن الأخلاط ، وكلّ متعفّن الأخلاط محموم. فكما أنّ الحكم بالحمّى في زيد يتوقّف على بقاء تعفّن الأخلاط ، كذلك الحكم بحرمة ما ظنّه المجتهد

__________________

(١) أي الاعتراض الثاني لصاحب الوافية المذكور في الصفحة : ٥٧٦.

٥٨٠