مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

التقليد الأوّل فيها. ويتفرّع على رجوعها الرجوع عن سائر الوقائع المقلّد فيها. ولو فرض الرجوع عنه في غيرها كان ذلك رجوعا عنها التزاما ، إذ لا محلّ لها بعد الرجوع عن غيرها جميعا.

وإنّما الإشكال فيما إذا كان مقتضى الأوّل الرجوع ومقتضى الثاني البقاء ، فإنّه يرجع إلى التناقض في مقتضاهما ، فإنّ البقاء في هذه الواقعة يوجب الرجوع ولو عن هذه الواقعة.

والذي يسهّل الخطب عدم الأخذ بعموم الفتوى الثانية بالنسبة إلى مسألة البقاء والعدول ، للزوم تخصيص الأكثر لولاه ، ولأدائه إلى وجوب العدول مع أنّ المفتي لا يقول به. فالتعبير المذكور يكون في غاية الركاكة ، وبذلك نبّهنا في بعض مباحث الظنّ ، فراجعه.

٥٢١
٥٢٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الكلام في اشتراط الأعلمية في المفتي

٥٢٣
٥٢٤

هداية

إذا اختلف الأحياء في العلم والفضيلة ، فمع علم المقلّد بالاختلاف على وجه التفصيل هل يجب الأخذ والعمل بفتوى الفاضل أو يجوز العمل بفتوى المفضول أيضا؟ قولان : المعروف بين أصحابنا وجماعة من العامّة هو الأوّل ، كما هو خيرة المعارج (١) والإرشاد (٢) ونهاية الأصول (٣) والتهذيب (٤) والمنية (٥) والدروس (٦) والقواعد (٧) والذكرى (٨) والجعفريّة (٩) وجامع المقاصد (١٠) وتمهيد القواعد (١١) والمعالم (١٢) والزبدة (١٣) وحاشية المعالم (١٤) للفاضل الصالح ، وإليه

__________________

(١) معارج الأصول : ٢٠١.

(٢) إرشاد الأذهان ٢ : ١٣٨.

(٣) نهاية الأصول : ٤٤٧.

(٤) تهذيب الوصول : ١٠٥.

(٥) منية المريد : ١٦٦.

(٦) الدروس ٢ : ٦٧.

(٧) قواعد الأحكام ٣ : ٤١٩ ـ ٤٢٠.

(٨) الذكرى ١ : ٤٣.

(٩) الجعفريّة ( رسائل المحقّق الكركي ) ١ : ٨٠.

(١٠) جامع المقاصد ٢ : ٦٧.

(١١) تمهيد القواعد : ٣٢١ ، قاعدة ١٠٠.

(١٢) المعالم : ٢٤٦.

(١٣) زبدة الأصول : ١٢٠.

(١٤) لم نعثر عليه في الحاشية.

٥٢٥

ذهب في الرياض (١) ، بل هو قول من وصل إلينا كلامه من الأصوليّين كما عن النهاية (٢) ، وفي المعالم : هو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم (٣) ، وصرّح بدعوى الإجماع المحقّق الثاني (٤) ، ويظهر من السيّد في الذريعة (٥) كونه من مسلّمات الشيعة.

وحدث لجماعة (٦) ممّن تأخّر عن الشهيد الثاني قول بالتخيير بين الفاضل والمفضول تبعا للحاجبي (٧) والعضدي (٨) والقاضي (٩) وجماعة من الأصوليّين والفقهاء فيما حكي عنهم (١٠) وصار إليه جملة من متأخّري أصحابنا (١١) حتى صار في هذا الزمان قولا معتدّا به. والأقرب ما هو المعروف بين أصحابنا وقبل الخوض ينبغي رسم أمرين :

أحدهما : أنّه لا يعقل الخلاف في وجوب رجوع العامي الغير البالغ رتبة الاجتهاد في هذه الواقعة إلى الأعلم والأفضل ، بل لا بدّ أن يكون الخلاف في مقتضى الأدلّة الشرعيّة. وتوضيحه : أنّ المقلّد إمّا أن يكون ملتفتا إلى الخلاف في

__________________

(١) رياض المسائل ١٣ : ٤٧.

(٢) نهاية الوصول : ٤٤٧ ، وفيه : وهو قول جماعة من الأصوليّين.

(٣) المعالم : ٢٤٦.

(٤) حاشية الشرائع : ٩٩.

(٥) لم نعثر عليه بل الموجود فيه صريح في وجود الخلاف ، انظر الذريعة ٢ : ٨٠١.

(٦) كالمحقق الاردبيلي حيث جوز ذلك في المحاكمات. انظر مجمع الفائدة ١٢ : ٢١ كما نسب إليه في القوانين ، والمحقق القمي في القوانين ٢ : ٢٤٦.

(٧ و ٨) انظر المختصر وشرحه للعضدي : ٤٨٤.

(٩ و ١٠) حكى عنهم العلامة في نهاية الوصول : ٤٤٧.

(١١) مثل الاصفهاني في الفصول : ٤٢٤ ، والنراقي في المناهج : ٣٠٠.

٥٢٦

هذه الواقعة أو لا. وعلى الثاني فلا كلام فيه في المقام ، وإنّما يبنى الكلام فيه على مسألة عمل الجاهل على الخلاف فيها. وعلى الأوّل فإمّا أن يستقلّ عقله بالتساوي فلا كلام أيضا ، إذ لا يعقل تكليفه بخلاف علمه ، وإمّا أن يكون متردّدا كغيرها من الوقائع المشكوك فيها ، فإذا حاول استعلام حال هذه الواقعة بالتقليد فلا يعقل لرجوعه إلى غير الأعلم على وجه التقليد وجه ؛ لأنّ استعلام حال هذه الواقعة من غير الأعلم لعلّه غير مفيد ، إذ لم يثبت جوازه بعد ، فإن كان ذلك منه على سبيل عدم المبالاة بأحكام الشريعة فالعياذ بالله! وإن كان الاعتماد في الاستعلام المذكور هو قول غير الأعلم فهو دور ، فالمقلّد إذا كان ملتفتا لا بدّ له من الرجوع إلى الأعلم.

نعم ، المجتهد إنّما يجوز له الإفتاء بما ظنّه من الأدلّة الشرعيّة جوازا أو منعا ، فالكلام في المقام إنّما هو فيما يظهر من الأدلّة الشرعيّة للناظر فيها.

فالمجتهد لو بنى على الجواز يفتي به لو راجعه المقلّد ، كما أنّه يفتي بعدمه فيما لو بنى على عدمه.

الثاني : في تأسيس الأصل في المسألة فنقول :

إنّ الظاهر من كلّ من تعرّض المسألة ووصل كلامه إلينا أنّ الأصل مع المانعين. وتقريره : أنّه لا شك أنّ العمل بقول الغير ومطابقة العمل بقوله ـ وهو المعبّر عندهم بالتقليد ـ عمل بما وراء العلم ، سواء كان اعتباره بواسطة حصول الظنّ كما يراه البعض ، أو بواسطة التعبّد كما هو الظاهر على ما ستعرف الكلام فيه إجمالا ، وذلك ظاهر. والأصل المستفاد من الأدلّة القطعيّة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا ـ على ما مرّ تفصيل القول فيه في محلّه ـ هو حرمة العمل بغير العلم ، خرج منه متابعة الفاضل بالاتّفاق من المجوّزين والمانعين ، فإنّه هو المجمع عليه ، فيبقى متابعة المفضول في عموم حرمة العمل بما وراء العلم.

٥٢٧

ولم نقف (١) من لا يذعن بهذا الأصل سوى المحقّق القمي رحمه‌الله حيث إنّه أفاد في بعض إفاداته بأنّه لا أصل لهذا الأصل واشتغال الذمّة لم يثبت إلاّ بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن الأدون أيضا ، والأصل عدم لزوم الزيادة (٢).

وهذا الكلام منه رحمه‌الله ليس في محلّه ، ولذلك ترى المجوّزين مطبقين على أنّ ذلك إنّما هو بواسطة الدليل الوارد على هذا الأصل من استصحاب أو إطلاق ونحوهما. فإن أراد بذلك منع قيام الدليل على حرمة العمل بالظنّ فلا بدّ له من الرجوع إلى الكتاب والسنّة وكلمات العلماء ، فإنّ ذلك هو الحاكم بين مدّعي وجود الدليل وبين المنكر. وإن أراد أنّ انسداد باب العلم إنّما اقتضى جواز العمل بالظنّ ، فذلك يوجب الإغناء عن البحث في المسألة ، لدوران الأمر مدار الظنّ فربّما يحصل من الأعلم وربما يحصل من غيره ؛ مع أنّ المعلوم ممّا سبق عدم استقامة الكلام المذكور بواسطة عدم جريان مقدّمات الانسداد في حقّ المقلّد ، لقيام الضرورة الدينيّة على وجوب رجوع العامي إلى المجتهد. وعلمه بذلك ليس بأخفى من علمه بوجوب متابعة أحكام الشريعة ولو على الإجمال.

فإن قلت : إنّ مرجع الأصل المذكور إلى ملاحظة الاحتياط في هذه المسألة التي هي بمنزلة المسائل الأصوليّة من حيث ترتّب المسائل الفرعيّة عليها ، وقد يعارض ذلك بالاحتياط في المسألة الفرعيّة كما إذا كان فتوى الأدون موافقا للاحتياط ، والاحتياط في المسألة الفرعيّة مقدّم على الاحتياط فيما هو بمنزلة المدرك لها.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : على من لا يذعن.

(٢) القوانين ٢ : ٢٤٧.

٥٢٨

قلت : إنّ بعد إعمال الاحتياط في المبنى لا يبقى الشكّ في المسألة الفرعيّة شرعا ، مثل استصحاب المزيل حيث يحكم بتقديمه على المزال ، فتدبّر.

وقد يدّعى أنّ الأصل هو الجواز من وجوه :

الأوّل : أنّ أصالة حرمة العمل بما وراء العلم قد انقطع بما دلّ على مشروعيّة التقليد في الجملة ، ولا ريب أنّه إذا كان المجتهدان متساويان في العلم كان كلّ منهما حجّة وكان المكلّف مخيّرا بينهما ، ويستصحب التخيير الثابت عند حدوث الشكّ في زواله بواسطة حصول الترقّي لأحدهما ، فيتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل.

ولا وجه لما يتوهّم من القلب لفرض من هو واجب التقليد عينا ثم تساوى مع غيره ، فإنّه يستصحب وجوبه التعييني ثمّ يتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل ، فإنّ استصحاب المثبت مقدّم على النافي ، كما قيل (١).

وفيه : أنّ مناط التخيير قبل التفاضل هو حكم العقل به بواسطة جريان مقدّماته وبعد حصول التفاضل يرتفع ما هو مناط الحكم بالتخيير قطعا ، ولا يجري في أمثال هذه الموارد الاستصحاب ، لارتفاع مناط الحكم قطعا.

وتوضيحه : أنّ مناط حكم العقل بالتخيير هو اجتماع أمور : أحدها عدم إمكان الجمع. وثانيها عدم إمكان الطرح. وثالثها عدم الأخذ بأحدهما على وجه التعيين لانتفاء المعيّن واستحالة الترجيح بلا مرجّح. فإذا فرض وجود أمر يحتمل أن يكون مرجّحا يرتفع الأمر الثالث فلا وجه للحكم بالتخيير لا حقيقة ولا استصحابا. أمّا الأول فظاهر ، وأمّا الثاني فلمّا قرّرنا في محلّه من عدم جريان

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٥٢٩

الاستصحاب في الأحكام العقليّة ، لاختلاف الموضوع ، إذ على تقدير عدم الاختلاف في موضوع الحكم العقلي لا يعقل الشكّ فيه ؛ لأنّ العقل لا يحكم إلاّ بعد الإحاطة بحدود الموضوع وأطرافه وذلك أمر ظاهر.

الثاني (١) : أنّ الأمر دائر في المقام بين كون المكلّف به الرجوع إلى مطلق الفقيه حتى يكون المكلّف مخيّرا بينهما ، وبين أنّ يكون هو الرجوع إلى الأعلم ، ولا شكّ أنّ الثاني فيه كلفة ليست في الأوّل ، فمع عدم ما يلزمه من الدليل لا يجب الالتزام ؛ لأنّ الناس في سعة ما لا يعلمون (٢) ؛ وذلك كالشكّ في أنّ المطلوب هو مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة مع انتفاء الإطلاق في البين.

وفيه : منع كون المقام ممّا دار الأمر فيه بين الإطلاق والتقييد على وجه يجري فيه البراءة.

وتوضيحه : أنّ الشكّ في التعيين والتخيير يتصوّر في مقامات :

أحدها : ما عرفت من دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد ، ومرجعه إلى الأمر بالكلّي المردّد بين أفراده المخيّر فيها بحسب حكم العقل.

الثاني : أن يكون ذلك التخيير بحسب حكم الشرع كالتخيير بين الخصال.

الثالث : أن يكون التخيير عقليّا بواسطة المزاحمة ، والفرق بينه وبين الأوّل ظاهر فإنّ الأمر لم يعلم تعلّقه بغير الكلّي في الأوّل ، بخلاف الثالث فإنّ تعلّق الأمر بكلّ واحد منها معلوم مع قطع النظر عن المزاحمة ، وإنّما قلنا بالتخيير بواسطة المزاحمة مع اشتمال كلّ واحد من طرفي التخيير على المصلحة الفعليّة.

__________________

(١) من وجوه أصالة جواز تقليد المفضول.

(٢) المستدرك ١٨ : ٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦١ ، وفيه : « في سعة ما لم يعلموا. »

٥٣٠

الرابع : أن يكون التخيير بين فعل الشيء وتركه بواسطة دوران حكمه بين الوجوب والحرمة مع عدم المرجّح في البين.

وإذ قد عرفت ذلك فلا بدّ من بيان أنّ ما نحن بصدده من أيّ هذه الأقسام؟

فنقول : لا إشكال في أنّ التخيير بين الأعلم وغيره ليس من القسم الثاني ، إذ لا دليل في الشرع بكون مفاده التخيير الشرعي بين الأعلم والأدون. ولا من القسم الأوّل ، إذ من المعلوم اعتبار الأدون عند عدم المعارضة ، وليس وجوب عتق الرقبة المؤمنة عند عدم تعارضه بوجوب المطلق معلوما. فلا بدّ أن يكون من القسم الثالث أو القسم الرابع ، ونحن لو سلّمنا جريان البراءة في القسمين الأوّلين فلا نسلّم أنّ القسمين الأخيرين يجري فيهما البراءة ، والوجه في ذلك عدم وفاء أدلّة البراءة به. وبيانه تفصيلا موكول إلى محلّه.

وأمّا إجمالا : فلأنّ الشكّ في المقام راجع إلى تعيين المكلّف به المردّد بين الشيئين ، ولا شكّ في لزوم الأخذ بما يحتمل معه الترجيح بحكم العقل ؛ مضافا إلى أنّ الأخذ بأصالة البراءة فيما نحن فيه ليس في محلّه ، نظرا إلى أنّ الأصل المقرّر في الأمارات الغير العلميّة هو عدم جواز التعويل عليها.

وتوضيحه : أنّ قياس ما نحن فيه مع المثال المعهود من دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد ـ كالعتق المردّد بين المؤمنة ومطلق الرقبة ـ قياس مع الفارق. والوجه فيه : أنّ عدم وجوب الزائد هناك موافق لأصل البراءة. بخلاف المقام ، فإنّ الشك الزائد لا يطابق الأصل ، بل الشكّ فيه إنّما يرجع إلى عروض التخصيص في عمومات النهي عن العمل بما وراء العلم ، وأصالة الحقيقة فيهما تقضي بالتحريم فيما لم يعلم تخصيصه بدليل قطعيّ ، كما هو المفروض في مقام تأسيس الأصل.

٥٣١

وممّا يدلّ على أنّ المقام ليس من موارد البراءة بواسطة دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد هو أنّه من لوازم ذلك تعلّق الأمر بالمطلق القدر المشترك ، وهو إنّما يجدي في التكاليف الواقعيّة ، وأمّا فيما هو طريق إليها ـ كالتكليف فيما نحن فيه ـ فلا يعقل تعلّق الأمر بالقدر المشترك ، فإنّ القدر المشترك بين ما مفاده الوجوب وبين ما مفاده الحرمة لا يعقل أن يكون هو الطريق إلى الواقع.

وأمّا التخيير الشرعيّ بين الأخبار مع كونها طرقا إلى ما يستفاد منها فليس على القاعدة التي قرّرنا في الطرق ، فإنّ الأصل يقضي فيها بالتوقّف دون التخيير ، كما هو مذكور في بحث التعادل والتراجيح. بل وذلك لا يناسب الطريقة في الأخبار ، فإنّما هو يلائم القول بوجوب الأخذ بقول العادل في الأخبار والعالم في المقام تعبّدا شرعيّا من دون ملاحظة كونها طرقا موصلة إلى الواقع وإن كان ذلك بعيدا في الغاية كما يومئ إليها أمارات قد استوفيناها في مباحث الظنّ.

الثالث (١) : أنّ مقتضى الأصل في المقام هو التخيير ، لرجوع الأمر إلى الشكّ في كون الأعلميّة هل هي من المرجّحات أو لا ، والأصل عدم كونها منها.

وتوضيحه : أنّ المراد من عدم حجّية قول غير الأعلم لا وجه لأنّ يكون عدم الحجّية بحسب الشرع في حدّ ذاته ، ضرورة اعتباره عند عدم الأعلم ، بل المراد عدم الحجّية عند دوران الأمر بين الأخذ بفتوى الأعلم وقول غيره ، ووقوع التعارض بينهما بعد العلم بالحجّية في الجملة ، ولا ريب أنّ الحكم بتقديم الأعلم يحتاج إلى مرجّح والمرجّحية ليست من الأمور التي تطابق الأصل كنفس الحجّية ، فمتى ما شكّ فيها فالأصل عدمها ، ومعه يثبت التخيير ، وهو المطلوب.

__________________

(١) من وجوه أصالة جواز تقليد المفضول.

٥٣٢

وفيه : أنّ رجوع أصالة عدم الترجيح في المقام إلى تخصيص العموم الذي دلّ على حرمة العمل بما وراء العلم بدون مخصّص ، فلا وجه لجريانه.

والوجه فيه : أنّ التخيير المطلوب في المقام إثباته إمّا التخيير العقلي أو الشرعي ، ولا سبيل إليهما. أمّا الأوّل : فلأنّ حكم العقل بالتخيير إنّما هو فرع التساوي في نظره ، والمفروض حصول الترجيح لأحدهما ولا سبيل إلى القول بعدم اعتبار هذا الترجيح ، إذ المدار هو حكم العقل ومع احتمال الترجيح لا حكم للعقل ، وأصالة العدم لا ترفع نفس الاحتمال الذي من لوازمه العقليّة عدم استقلال العقل بالتخيير لاحتمال الترجيح. وأمّا الثاني : فلعدم وفاء شيء من الأدلّة الشرعيّة بالتخيير بين قول الأعلم وغيره. وأمّا حكم الشرع بالتخيير بعد محكم العقل فهو إنّما هو في موضوع حكم العقل على الوجه الذي حكم به العقل ، فلا وجه لما عسى يتوهّم : من أنّ قضيّة الملازمة هو وجود الحكم الشرعي في مورد حكم العقل بالتخيير.

وكيف كان ، فلا محيص عن الالتزام بأنّ الأصل عدم اعتبار قول المفضول عند تعارضه بقول الفاضل ؛ لما عرفت في طيّ الكلمات المذكورة ، ولذلك تراهم مطبقين على الأصل المذكورة وإنّما زعم من زعم بواسطة الأدلّة الواردة القاطعة للأصول ، وإذ قد عرفت الأصل في المقام فلنذكر أدلّة الطرفين في هداية مستقلّة.

٥٣٣
٥٣٤

هداية

في ذكر احتجاج القائلين بالجواز.

وهو وجوه :

الأوّل : الأصل بتقريراته الثلاث كما عرفت فيما مرّ (١) ، مع ما فيها من عدم الاستقامة.

الثاني : إطلاقات الأدلّة كتابا وسنّة ، إذ لا أثر فيها على اشتراط الأعلميّة ، فيكون هذه الإطلاقات قاطعة للأصل على تقدير تسليم اقتضائه المنع.

الثالث : دعوى استقرار سيرة أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام على الأخذ بفتاوى أرباب النظر والاجتهاد من دون فحص عن الأعلميّة مع القطع باختلافهم في العلم والفضيلة. ويكفي في ذلك ملاحظة تجويز التكلّم بهشام (٢) وأضرابه (٣) دون غيرهم.

الرابع : في وجوب تقليد الأعلم عسرا لا يتحمّل في العادة ، فيكون منفيّا في الشريعة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأعلم في الأغلب منحصر في واحد أو في اثنين ، ومن المعلوم أنّ رجوع جميع أهل الاسلام إليه فيه عسر عليه وعليهم كما هو ظاهر (٤).

__________________

(١) راجع الصفحة : ٥٢٩ و ٥٣٠ و ٥٣٢.

(٢) كذا ، والظاهر : لهشام.

(٣) انظر الكافي ١ : ١٧١ ، الحديث ٤ ، ورجال الكشي ٢ : ٥٥٤ ، الحديث ٤٩٤.

(٤) لم يتعرض للثاني وهو نفي العسر في الشريعة ؛ لوضوحه.

٥٣٥

الخامس : ما زعمه بعض الأجلّة (١) ، وهو : أنّه لو كان تقليد الأعلم واجبا لما كان الأخذ بفتاوى أصحاب الأئمّة مع إمكان الاستفتاء منهم عليهم‌السلام جائزا ، فإنّهم أولى بأن يؤخذ منهم من الأعلم.

السادس : ما استند إليه المحقّق القمّي رحمه‌الله (٢) وحاصله : الاستناد إلى دليل الانسداد القاضي بوجوب الأخذ بقول العالم للعامّي ، من غير فرق بين الأعلم وغيره ، ضرورة حصول المناط وإمكانه في غير الأعلم أيضا.

والكلّ ممّا لا يجوز الاعتماد عليه.

أمّا الأوّل : فقد عرفت.

وأمّا الثاني : فلأنّ الإطلاقات المذكورة بعد الغضّ عن نهوضها على مشروعيّة أصل التقليد ـ كما عرفت الوجه في ذلك فيما مرّ ـ أنّ هذه الإطلاقات بين أصناف :

صنف منها يكون دالاّ على جواز الأخذ بقول العالم على وجه يكون المراد به الجنس ، كآية السؤال (٣) فإنّ المأمور به فيها هو وجوب السؤال عن جنس العالم ، كما هو ظاهر على من لاحظها. ونظيره قوله : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا (٤).

وصنف منها ما يدلّ على وجوب الأخذ بكلّ عالم على وجه العموم كآية النفر (٥) فإنّها على ما هو المقرّر في توجيه الاستدلال بها يدلّ على وجوب

__________________

(١) الفصول : ٤٢٤.

(٢) القوانين ٢ : ٢٤٦.

(٣) النحل : ٤٣.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٠١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٥) التوبة : ١٢٢.

٥٣٦

الأخذ بقول المنذرين ، ونظيره قوله : « من عرف أحكامنا » (١) وقوله : « وأمّا من كان من العلماء صائنا لدينه فللعوام أن يقلّدوه » (٢).

وصنف منها ما يدلّ على وجوب الأخذ بقول كلّ عالم على أيّ وجه اتّفق على وجه العموم البدلي ، مثل قوله : « اعتمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا » (٣) فإنّ مفاده وجوب الرجوع إلى العلماء على وجه يستفاد منه التخيير ، مثل الرواية المنقولة عند الجمهور : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (٤).

لا ريب في أنّ الاستناد إلى الصنفين الأوّلين ممّا لا يجدي في المقام ، فإنّ المستفاد منها مشروعيّة جواز الرجوع إلى العلماء في أصل الشريعة ، ولا كلام لنا فيه ، إذ لا إشكال في أنّ قول الغير الأعلم حجّة وأنّه يجب الأخذ به في حدّ ذاته عند عدم معارضته بقول الأعلم ، وإنّما الكلام في أنّ من الجائز الأخذ به عند معارضته بقول الأعلم أو لا؟ ولا إشكال في أنّ هذه الواقعة خارجة عن مفاد الدليل المذكور فلا بدّ لها من دليل يوافقها.

وأمّا الصنف الثالث : فيمكن أن يكون دليلا للخصم ، لما عرفت من أنّه يستفاد منه التخيير ، فيمكن الاستناد إليه عند الشكّ في رجحان قول الأعلم على غيره.

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ ذلك لا يجدي أيضا ، والوجه فيه : أنّ مجرّد إمكان الاستفادة لا يجدي في التمسّك بالإطلاق ، بل لا بدّ وأنّ يكون المطلق في مقام بيان الحكم المذكور.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأول.

(٢) الوسائل ١٨ : ٩٥ ، الباب ١٠ ، الحديث ٢٠.

(٣) الوسائل ١٨ : ١١٠ ، الباب ١١ ، الحديث ٤٥.

(٤) معاني الأخبار : ١٥٦ ، وانظر ميزان الاعتدال : ٦٠٧ ، الرقم ٢٢٩٩.

٥٣٧

والظاهر أنّ هذه الأقسام كلّها مسوقة لبيان جواز نفس التقليد من دون ملاحظة أمر آخر ، كقولك : فارجع إلى الأطبّاء ، أو إلى الطبيب ، أو إلى كلّ من يعالج مثلا ، فإنّ المفهوم منها بيان أصل المرجع ، وأمّا الواقعة المترتّبة على هذه الواقعة من وقوع التعارض بين أقوال الأطبّاء ، فلا يستفاد منها ؛ ولذلك لا يعدّ بيان المرجع عند التعارض قبيحا كما هو كذلك في المقبولة ، فإنّه بعد الأمر بالرجوع إلى العارف بالأحكام يصدى (١) لبيان المرجع عند التعارض ولذلك حسن استفسار السائل أيضا ، نعم يصحّ التعويل على هذه الاطلاقات عند عدم العلم بالاختلاف والتعارض ولا بأس به.

وأمّا الأخبار الخاصّة : فالاستناد إليها يتوقّف على دعوى العلم بوجود الاختلاف بين هؤلاء المفتين في العلم والفضيلة ، والعلم باطّلاع الناس على اختلافهم فيه ، والعلم باختلافهم في الفروع الفقهيّة. والإنصاف : أنّ إثبات ذلك فيمن أمر الإمام عليه‌السلام بالاستفتاء منهم في غاية الصعوبة ، بل لا يكون ذلك إلاّ تخرّصا على الغيب.

وأمّا السيرة (٢) : فالمسلّم منها أنّهم مع عدم علمهم بالاختلاف في الفتاوى كانوا يرجعون بعضهم إلى بعض ، وأمّا مع العلم بالاختلاف إجمالا فلا نسلّم عدم فحصهم عن الفاضل وعدم رجوعهم إليه ، فكيف بما إذا علموا بالفضيلة والاختلاف تفصيلا! بل يمكن دعوى ندرة الاختلاف بين أصحاب الأئمّة أيضا. ولا ننكر أصل الاجتهاد في حقّهم ، بل نقول بالفرق بيننا وبينهم من [ حيث ](٣) وجود أسباب الاختلاف في حقّنا دونهم ، فإنّ حالهم ـ كما مرّ مرارا ـ حال

__________________

(١) كذا ولعلّه : يتصدّى.

(٢) وهو ثالث حجج القائلين بالجواز.

(٣) اقتضاها السياق.

٥٣٨

المقلّدين في أمثال زماننا حيث إنّهم لا يختلفون في الفتاوى المنقولة عن مجتهدهم ، فإنّه كلّما يزداد بعد عهدنا عن مشكاة الإمامة ومصباح الولاية يزداد الحيرة والاختلاف فينا ؛ ولذلك قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أصحابي كالنجوم » (١) فإنّ فيه دلالة على خلاف مراد المتمسّكين به.

أمّا أوّلا : فلأنّ لفظ « الاهتداء » يخالف اختلاف الهادين ، فلا بدّ من أن يكون الكلّ متّفقا في الكلمة. وأمّا ثانيا : فلأنّ التشبيه بالنجوم يفيد ذلك ، فإنّها طرق قطعيّة يتوصّل بكلّ واحد منها إلى المقصود على اختلاف أوضاع المقاصد وهيئات الكواكب.

وكيف كان : فالإنصاف أنّ دعوى استقرار السيرة على جواز الرجوع إلى غير الأعلم عند العلم بالاختلاف وإمكان الرجوع إلى الأعلم ـ على وجه يكون شايعا معلوما للأئمّة بالعلم المعتاد المعتبر في حجّية السيرة ـ غير بيّنة ، ولم يقم دليل عليها أيضا ، فعهدتها على مدّعيها.

وأمّا لزوم الحرج (٢) : فإن أريد لزومه في تشخيص موضوعه ، ففيه : أنّ تشخيص الأعلم ليس بأخفى من تشخيص نفس الاجتهاد فيما هو الموصل فيه أيضا. وإن أريد لزومه من حيث الانحصار ، ففيه : أنّ الواجب حينئذ الرجوع إلى الأعلم فيمن لا يلزم منه العسر. ولا يمكن إلحاق الغير بالإجماع ، لما عرفت مرارا من أنّ التفضيل بواسطة لزوم العسر ليس تفصيلا في الحقيقة ، لحكومة الأدلّة الدالّة على نفسه على جميع الأدلّة في الأحكام الواقعية. وإن أريد أنّ فتوى الأعلم فيها عسر. ففيه : أنّ فتوى غيره أيضا قد يكون فيه العسر.

__________________

(١) المتقدم في الصفحة : ٢٢٥.

(٢) وهو رابع حجج القائلين بالجواز.

٥٣٩

وبالجملة : فلا وجه للاعتماد على هذه الوجوه كما هو ظاهر.

وأمّا الخامس : فهو من غرائب الاستدلال في المقام! إذ المقصود على ما عرفت عند العلم بالاختلاف ، والعلم بمخالفة الإمام مع غيره يوجب العلم ببطلان الغير ومع ذلك لا يجوز التقليد ، مضافا إلى أنّ قياس الإمام بغيره مما يشمئزّ منه أصحاب الإنصاف ، كما هو ظاهر.

وأمّا السادس : فهو مبنيّ على مقدّمات لم يساعد عليها بداهة ولا برهان ، بل قامت الضرورة الدينيّة على خلافه كما أومأنا إلى ذلك مفصّلا. ولو سلّم فالواجب هو الأخذ بالأعلم أيضا ، لما ستعرف في أدلّة المانعين.

وقد يستدلّ أيضا : بأنّ إهمال الغير الأعلم عند معارضته بالأعلم يوجب الحكم بمساواته بغير العالم أصلا. وقد قال تبارك وتعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )(١).

وفيه : أنّ مساواة الأعلم وغيره أيضا يوجب الحكم بمساواة العالم وغيره. مع أنّ التمسّك بالآية في أمثال المقام ممّا لا وجه له أصلا كما لا يخفى ، إذ نفي المساواة من جميع الجهات ممّا لا سبيل إليه ولا ظاهر في البين يجدي في المقام ، فيكفي في نفي المساواة الاختلاف في بعض الجهات ، ولم يثبت كون المقام منها ، فتدبّر.

__________________

(١) الزمر : ٩.

٥٤٠