مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

هداية

يجب تطابق المفهوم والمنطوق في جميع القيود المعتبرة في الكلام والاعتبارات اللاحقة له ، إلاّ في النفي والإثبات. والوجه في ذلك ـ بعد ما عرفت من أنّ الوجه في ثبوت المفهوم هو علّيّة الشرط للجزاء ـ ظاهر ، حيث إنّ العلّية تقضي بارتفاع ما فرض كونه معلولا عند ارتفاع (١) العلّة ، ولا يقضي بارتفاع ما هو أجنبيّ عن العلّة ، فمفهوم قولك : « إن جاءك زيد يوم الجمعة فأكرمه » عدم وجوب إكرام زيد على تقدير عدم المجيء في يوم الجمعة ، لا مطلقا ، فلا ينافي ثبوته في السبت ، إلى غير ذلك ممّا هو معتبر في الكلام.

نعم ، ينبغي استثناء ما هو متفرّع على النفي والإثبات وليس منفيّا ولا مثبتا في الكلام ، وذلك نظير استفادة العموم من النكرة الواقعة في سياق النفي وعدم استفادته من الواقعة في حيّز الإثبات ، كما في قولك : « إن جاءك زيد فأعتق رقبة » إذ المستفاد منه في المنطوق وجوب عتق رقبة مردّدة بين أفراد جنسها على تقدير الشرط ، وفي المفهوم يستفاد عدم وجوب عتق كلّ فرد من الرقبة ، وذلك ليس بضائر فيما ذكرنا ، فإنّه من خصائص النفي والإثبات الواردين على الطبيعة المطلقة ، وليس ذلك من مداليل اللفظ إلاّ على القول بدخول وصف الإطلاق في الموضوع له فيتوجّه النفي في المفهوم إلى ذلك القيد.

__________________

(١) في ( ع ) : « انتفاء ».

٤١

وقد يتوهّم أنّ مفهوم قولنا : « إن جاء زيد فهو يكرم » على جهة الإخبار ـ الذي يستفاد منه وجوب الإكرام على تقدير الشرط بواسطة حسن الطلب ـ هو قولنا : « إن لم يجئك زيد فلا يكرم » وهو يفيد التحريم. وذلك أيضا من الامور المتفرّعة على نفس النفي والإثبات ، فلا يضرّ اختلاف المفهوم والمنطوق بهذا الوجه نظير اختلافهما بالعموم والإطلاق في المثال المتقدّم.

وفيه : أنّ ذلك لا يخلو من مغالطة.

وتوضيحه : أنّ قولك : « يكرم » يفيد التحريم فيما إذا وقع في حيّز النفي إذا لم يكن ممّا استفيد منه الوجوب ، وأمّا إذا كان ممّا استفيد منه الوجوب ووقع في حيّز النفي فلا يفيد ذلك إلاّ رفع الوجوب. وبعبارة واضحة : أنّ قولك : « يكرم » إذا لوحظ بشرط وقوعه في الجملة الإثباتيّة التي يستفاد منها الوجوب ، غير قولك : « يكرم » إذا لوحظ لا بشرط شيء ، والثاني يفيد التحريم في الجملة المنفيّة دون الأوّل. ولا يجري ذلك في الإطلاق ، حيث إنّ ورود النفي والإثبات على الطبيعة الملحوظة لا بشرط يفيد ذلك ، ووقوعه في الجملة الإثباتيّة لا يعقل أخذه شرطا لها ، إذ المفروض كونها لا بشرط شيء ، فتدبّر.

والحاصل : أنّه لا بدّ من ملاحظة الامور المستفادة من ضروب التراكيب ووجوه الكلام ، فإنّه ربما يتوهّم خلاف ما هو الواقع.

ومن ذلك : ما توهّم أنّه لو كان مفاد المنطوق الوجوب العيني ، كما إذا قال : « إن جاءك زيد فيجب عليك إكرامه » الظاهر في الوجوب العيني ، فالمستفاد منه في المفهوم أيضا هو نفي الوجوب العيني على تقدير عدم الشرط ، ولا ينافي إثبات الوجوب التخييري على تقدير عدم الشرط.

وبعد ما عرفت من أنّ لوازم النفي والإثبات لا يعتبر في المفهوم والمنطوق لا ينبغي الإشكال في فساد التوهّم المذكور ، فإنّ ذلك من قبيل الإطلاق والعموم

٤٢

المستفادين في المثال المتقدّم ، من غير فرق في ذلك بين استفادة الوجوب من مادّة الوجوب ـ كما في المثال المتقدّم ـ أو من الهيئة ، حيث إنّ ذلك يرجع في الحقيقة إلى إطلاق المادّة ، والمفروض أنّ الطبيعة المطلقة إذا وقعت في سياق النفي يستفاد منها العموم ؛ ولذلك تراهم يقولون بالتعارض فيما إذا دلّ الدليل على وجوب إكرام زيد في المثال المذكور على تقدير عدم الشرط تخييرا. ولا فرق فيما ذكرنا بين أقسام الوجوب المستفاد من الهيئة من الإطلاق والتعيين والنفسيّة وغيرها ، فإنّ الظاهر من المفهوم نفي جميع الأقسام وإن كان المنطوق خاصّا بواحد منها.

هذا كلّه فيما إذا كان المأخوذ في المنطوق مطلقا. وأمّا إن كان عامّا استغراقيّا ، كقولك : « إن جاءك زيد فأكرم العلماء » فهل يستفاد من المفهوم عدم وجوب الإكرام بالنسبة إلى كلّ فرد فرد من العلماء على تقدير عدم الشرط ، أو يستفاد عدم وجوب إكرام الجميع؟ فعلى الأوّل لو دلّ دليل على وجوب إكرام زيد العالم يعارضه المفهوم ، بخلافه على الثاني.

اختلفوا في ذلك ، فيظهر من جماعة ـ منهم الشيخ وصاحب المعالم والمحقّق القمّي رحمهم‌الله ـ الأوّل ، وحكي [ عن ] بعضهم الثاني (١). ولعلّ وجه الاختلاف في ذلك هو : أنّ العموم الملحوظ في المنطوق هل هو يعتبر آلة لملاحظة حال الأفراد على وجه الشمول والاستغراق فلا يتوجّه النفي إليه في المفهوم فيكون الاختلاف بين المنطوق والمفهوم في الكيف فقط دون الكمّ ، أو يعتبر على وجه الموضوعيّة فيتوجّه إليه النفي فالاختلاف بينهما ثابت كمّا وكيفا على قياس النقيض المأخوذ عند أهل الميزان؟

__________________

(١) راجع ضوابط الاصول : ١١٢.

٤٣

وكيف كان ، فلا بدّ من تشخيص أحد الموضوعين حتّى نجري على منواله في الحكم المذكور.

فنقول : لا إشكال عند العلم بأحد الوجهين. وأمّا إذا لم يعلم ذلك من القرائن الخارجيّة ، فالظاهر أنّ العرف قاض بالوجه الأوّل. وأمّا ما يرى من ظهور قولك : « إن جاءك زيد فلا تقتل أحدا » في الوجه الثاني ـ حيث إنّه لا يدلّ على عدم حرمة قتل أحد على تقدير عدم المجيء ـ فبملاحظة القرينة ، لمكان العلم بأنّ سبب حرمة القتل في كلّ واحد لا ينحصر في الشرط المذكور ، بل لها أسباب عديدة. وذلك مثل قول القائل : « إن كان زيد أميرا لاستغنى كلّ أحد » فإنّه لا يفيد أنّه على تقدير عدم إمارة زيد لا يستغني أحد.

وتوضيح ذلك : أنّه قد يعلم بوجود أسباب كثيرة للحكم المأخوذ في الجملة الشرطيّة ، وحينئذ فلو أخذنا العام في الجزاء دلّ ذلك على سببيّة الشرط لعموم الحكم ، لا للحكم على وجه العموم ، ونحن لا نضايق من ذلك.

والحاصل : أنّ قضيّة ما ذكرنا من التطابق بين المفهوم والمنطوق ، وما تقدّم من ظهور الجملة الشرطيّة في انحصار السبب ـ المؤيّد بفهم العرف فيما نحن فيه أيضا ـ هو الوجه الأوّل. ولا ينافي ذلك ما هو المقرّر في الميزان : من أن نقيض الموجبة الكلّية هي السالبة الجزئيّة ، فإنّ غرضهم لا يتعلّق ببيان ظواهر القضايا ، بل نظرهم مقصور على بيان لوازم ما هو القدر المتيقّن من القضيّة ، ولا ريب أنّ المتيقّن هو اللازم بالنسبة إلى المجموع دون الآحاد.

ومن هنا يعلم صحّة ما أفاده بعض الأساطين (١) في قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء

__________________

(١) وهو الوحيد البهبهاني في حاشية المدارك كما نقله عنه في هداية المسترشدين ٢ : ٤٦٠ ، وراجع حاشية المدارك ١ : ٤٨ ، ذيل قول الشارح : لفقد الشرط.

٤٤

قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (١) من أنّ مفهومه « أنّه إذا لم يكن قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء من النجاسات » وفساد ما أورد عليه (٢) : من أنّ اللازم من القضيّة المذكورة نجاسة الماء الغير الكرّ بشيء من النجاسات ، وهو مجمل لا يفيد ولا يلزم منه النجاسة بكلّ شيء ؛ ولذلك نقول بأنّ ما دلّ على عدم نجاسة غسالة الاستنجاء يعارض عموم المفهوم (٣) مثل ما يدلّ على عدم نجاسته إذا كان عاليا (٤) إلى غير ذلك.

ونظير ذلك في صحّة الاستدلال وفساد الاعتراض ، ما أفاده الشيخ : من عموم مفهوم قوله : « كلّ ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره » (٥) وما اعترضه الشيخ محمّد في حاشية الاستبصار : بعدم العموم (٦) ، فلاحظهما متأمّلا فإنّه حقيق بذلك. والله الهادي.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٧ ـ ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١ و ٢ و ٥ و ٦.

(٢) أورده في هداية المسترشدين ٢ : ٤٦٠ ـ ٤٦١.

(٣) كذا ، والظاهر : « مفهوم » بدون اللام.

(٤) في ( ع ) : « غالبا ».

(٥) التهذيب ١ : ٢٢٤ ، ذيل الحديث : ٦٤٢.

(٦) استقصاء الاعتبار ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٦.

٤٥
٤٦

هداية

بعد ما عرفت من أنّ ظاهر الجملة الشرطيّة سببيّة الشرط للجزاء على وجه الانحصار ، فلو تعدّد الشرط فلا بدّ من الخروج عن ذلك الظاهر ، وذلك يحتمل وجوها :

أحدها : تخصيص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر ، فقول الشارع : « إذا خفي الأذان فقصّر » (١) و « إذا خفي الجدران فقصّر » (٢) يراد من كلّ منهما انتفاء وجوب القصر عند انتفاء السبب الآخر أيضا. والوجه في ذلك ما هو المعروف : من أنّ دلالة اللفظ على منطوقة أقوى من دلالته على مفهومه ، ولا ريب أنّه عند التعارض يقدّم الأقوى.

وثانيهما : رفع المفهوم فيهما. ويظهر الثمرة أنّه على الأوّل يستدلّ بهما على عدم مدخليّة شيء آخر في الجزاء المفروض ، بخلافه على الثاني.

وعلى الوجهين لا ريب في لزوم المجاز على القول باستناد المفهوم إلى الوضع. وقد يتوهّم أنّه على القول بالتضمّن لا يكون هناك مجاز. وهو وهم ؛ إذ على تقديره يلزم استعمال اللفظ الموضوع للكلّ في الجزء.

وثالثها : تقييد إطلاق الشرط في كلّ منهما بالآخر وجودا فيكون المراد في المثال المذكور « إذا خفي الأذان عند خفاء الجدران فقصّر » أو عدما فالمعنى

__________________

(١) لم نعثر عليه بعينه ، نعم يوجد ما يدلّ عليه ، راجع الوسائل ٥ : ٥٠٦ ، الباب ٦ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٣.

(٢) لم نعثر عليه بعينه أيضا ، ويدلّ عليه ما في المصدر المتقدم ، الحديث الأوّل.

٤٧

« إذا خفي الأذان ولم يكن الجدران مخفيّة فقصّر » فعلى الأوّل يرجع الأمر إلى أنّ كلّ واحد منهما جزء السبب ، فلا يجوز القصر مع خفاء أحدهما فقط ، كما ذهب إليه جماعة (١) ، وهو أبعد الوجوه. وعلى الثاني يكون كلّ واحد منهما سببا مستقلاّ عند عدم الآخر ، وأمّا مع وجود الآخر فلا سببيّة فيهما.

وهذان الوجهان يلائمان القول باستناد المفهوم إلى الإطلاق ، بل وربّما يستدلّ بذلك عليه ، حيث إنّه لو كان بالوضع يلزم ما عرفت من المجاز ، ولا يلزم على هذا التقدير إلاّ تقييد الإطلاق ، وهو لو كان مجازا أيضا مقدّم على غيره من أنواع المجاز.

ورابعها : إبقاء إحدى الجملتين بحالها مفهوما ومنطوقا والتصرّف في الاخرى كذلك ، كما هو الظاهر من الحلّي في المثال المذكور ، فإنّه جعل المناط في القصر خفاء الأذان فقط ، وقيّد منطوق الآخر بخفاء الأذان ومفهومه بعدمه (٢) ، فيرجع إلى إلغاء الجملة الثانية رأسا. اللهم إلاّ أن يكون خفاء الجدران من الأمارات الّتي يتوصّل بها إلى خفاء الأذان ، فلا يلزم لغويّته رأسا.

وخامسها : إرادة القدر المشترك بين الشرطين من كلّ واحد منهما. وتوضيحه : أنّ الظاهر من الجملة الشرطيّة هو كون ما اخذ في الشرط بعنوانه الخاصّ علّة تامّة منحصرة للجزاء ، إلاّ أنّ تعدّد الشروط ينهض قرينة على

__________________

(١) منهم : السيّد المرتضى ( رسائل الشريف المرتضى ) المجموعة الثالثة : ٤٧ ، والشيخ في الخلاف ١ : ٥٧٢ ، المسألة ٣٢٤ ، وقد نسبه في المدارك ٤ : ٤٥٧ ، إليهما وإلى أكثر المتأخّرين ، ومنهم : الشهيد في الذكرى ٤ : ٣٢١ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ٣٤٦.

(٢) السرائر ١ : ٣٣١.

٤٨

أنّ الشرط إنّما هو شرط بعنوانه الأعمّ الشامل للشرط الآخر ، فلا مجاز فيما يدلّ على العلقة ولا تقييد في إطلاق أحد الشرطين. ولعلّ العرف يساعد على ذلك بعد الاطّلاع على التعدّد.

وكيف كان ، فالوجه الأوّل والقسم الثاني من الثالث مشتركان مع هذا الوجه في أنّ الحكم ثابت على تقدير كلّ واحد من الشرطين ومرتفع عند عدمهما معا ، كما هو الشأن فيما إذا تعدّدت العلل مع قيام إحداها مقام الاخرى ، إلاّ أنّ الاختلاف في وجه التصرّف.

فعلى الأوّل ، يلزم المجاز ـ كما عرفت ـ وإن لم نقل بأنّ التخصيص مجاز. والوجه فيه : أنّ المفهوم من اللوازم العقليّة للمنطوق ، ولا يعقل التصرّف في المدلول الالتزامي إلاّ بعد التصرّف في المدلول المطابقي.

وعلى الثاني ، يلزم تقييد الإطلاق في كلّ واحد منهما بعدم الآخر ، وأمّا مع الوجود فإمّا أن يقال بأنّ التأثير للمتقدّم أو للقدر المشترك ، على حسبما تعرف.

وعلى الثالث ، فلا يلزم شيء منهما ، إلاّ أنّه خروج عن الظاهر ، حيث إنّ ظاهر الشرط كونه علّة لعنوانه الخاصّ ، ولا يلزم مجاز ، فتدبّر : والله الهادي.

٤٩
٥٠

هداية

إذا تعدّدت الأسباب واتّحد الجزاء ، فلا إشكال على ما ذهب إليه الحلّي من إلغاء إحدى الجملتين ، كما أنّه كذلك على ما ذهب إليه البعض (١) : من أنّ كلّ واحد منهما جزء السبب. وعلى الوجوه الأخر ، فهل اللازم تعدّد المسبّبات ولزوم إيجاد الجزاء على حسب تعدّد الشروط ، أو يتداخل المسبّبات ويكتفى في الإتيان بالجزاء دفعة واحدة؟ اختلفوا فيه على أقوال :

فالمشهور على عدم التداخل ، وذهب جماعة منهم المحقّق الخوانساري رحمه‌الله إلى التداخل على ما يظهر منه في المشارق (٢). وعن الحلّي التفصيل بين اتّحاد الجنس وتعدّده. وتوضيح المقام بعد رسم امور :

أحدها : أنّ التداخل تارة يعتبر في الأسباب ، كأن يقال : بأنّ تعدّد الشروط لا يقتضي إلاّ إيجاد جزاء واحد ، سواء كانت تلك الأسباب من نوع واحد مثل تعدّد أفراد النوم المقتضي لوضوء واحد ، أو من أنواع مختلفة كتعاقب النوم والبول بالنسبة إلى الوضوء.

واخرى يعتبر في المسبّبات ، كأن يقال : إنّ تعدّد الشروط قاض بتعدّد المسبّبات ، إلاّ أنّ الجزاء الواحد يقوم مقام ذلك المتعدّد.

فعلى الأوّل فتداخل المسبّبات عزيمة ويتوقّف جواز الإتيان به ثانيا على وجه الامتثال على دليل ، وعلى الثاني رخصة.

__________________

(١) كما تقدّم عن جماعة في الصفحة : ٤٨.

(٢) مشارق الشموس : ٦١.

٥١

ولعلّ نظرهم إلى تداخل المسبّبات في المقام ، كما يظهر من استدلالهم بحصول الامتثال فيما لو أتى بالمسبّب مرّة واحدة.

ولا ينافي ذلك استدلالهم. بأنّ العلل الشرعيّة معرّفات فلا يمتنع اجتماعهما في شيء واحد ، الظاهر في دعوى تداخل الأسباب ؛ لأنّ المقصود حقيقة إثبات عدم تعدّد الجزاء ، كما هو المصرّح به في كلام بعضهم : من أنّ المراد تداخل المسبّبات ، وإنّما عبّروا عنه بتداخل الأسباب تنبيها على علّة الحكم.

الثاني : الجزاء المأخوذ في الجملة قد يكون قابلا للتعدّد. وقد لا يكون ، كقتل زيد إذا وقع جزاء لشروط عديدة.

لا ينبغي الإشكال في خروج الثاني عن محلّ النزاع. نعم ، قد يستشكل في كيفيّة تأثير الأسباب المتعدّدة فيما لا يقبل التعدّد إذا تعاقب الأسباب أو تواردت دفعة واحدة ، فإنّه إمّا أن يقال بسببيّة كلّ منهما (١) مستقلاّ فيلزم المحال المعروف ، أو باستناد الأثر إليهما معا ، وهو خلاف الفرض ؛ لكفاية أحدهما فيه قطعا. والقول بأنّ القدر المشترك بينهما سبب لا يدفع الضيم ؛ لعدم تحقّقه إلاّ في الأشخاص ، ووجوده الذهني لا يترتّب عليه شيء ، واستناد الأثر إلى أحدهما ترجيح بلا مرجّح.

أقول : إمّا أن يكون المسبّب ممّا يختلف شدّة وضعفا أو لا ، فعلى الأوّل لا إشكال ؛ لاستناد المرتبة الشديدة إليهما دفعة عند التوارد ، وانقلاب الضعيفة إلى الشديدة عند التعاقب. وعلى الثاني فنلتزم بأنّ السبب هو القدر المشترك ولا ضير فيه ، إذ القدر المشترك لا يتعدّد بتعدّد الأشخاص والوجودات الخاصّة. ولا أقول إنّ نفس الماهيّة مع قطع النظر عن الوجود هي السبب حتّى يقال بأنّ الماهيّة الذهنية لا يترتّب عليها شيء ، بل الماهية من حيث الوجود ، إلاّ أنّه لا حكم لنفس الوجودات الخاصّة.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : « منها » وكذا الكلام في الضمائر الآتية.

٥٢

وحينئذ فلو تعاقب الأسباب فالأثر مستند إلى الأوّل ويلغو الباقي ؛ لعدم قابليّة المحلّ بعد الاتّصاف بالمثل. ولو تواردت دفعة واحدة فالأثر مستند إلى الماهيّة الموجودة ولا اختصاص للوجودات ، فلا يلزم محذور ، لعدم تعدّدها.

وبما ذكرنا يظهر فساد ما قيل (١) : من أنّها معرّفات ؛ أمّا أوّلا : فلما ستعرف أنّه خلاف الواقع ، وأما ثانيا : فلأنّ الأسباب الواقعيّة ربما يكون كذلك.

الثالث : حكي عن فخر المحقّقين أنّه جعل مبنى المسألة على أنّ الأسباب الشرعيّة هل هي معرّفات وكواشف أو مؤثّرات؟ وعلى الأوّل فالأصل التداخل ، بخلافه على الثاني (٢).

ولعلّه تبعه في ذلك بعض المحقّقين في كتابه الموسوم بـ « العوائد » ، حيث إنّه بعد ما قسّم الأسباب قسمين وجعل الأسباب الشرعيّة من المعرّفات وصرّح بامتناع اجتماع الأسباب الواقعيّة ، قال : إنّه لا يراد من الأسباب في قولهم : « الأصل عدم التداخل » هذا القسم يعني الأسباب الواقعيّة ، لأنّ الأصل إنّما يستعمل في مكان جاز التخلّف عنه بدليل ، بل يصرّحون بأنّ الأصل عدم التداخل إلاّ فيما ثبت التداخل. وكذا لا كلام في جواز التداخل فيما كان من الثاني ، إذ المعرّف علّة للوجود الذهني ، ومعلوليّة موجود واحد ذهني لعلل متعدّدة جائزة ، ولذا يستدلّ على مطلوب واحد بأدلّة كثيرة ، ويصحّ أن يستند وجود ذلك الموجود الذهني إلى كلّ منهما ؛ ولذا لا يرتفع ذلك الموجود الذهني بظهور بطلان واحد من الأدلّة (٣).

__________________

(١) قاله العلاّمة في المنتهى ١ : ١٠٧ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٩٩ وغيرهما.

(٢) لم نعثر عليه بعينه ، ولعلّه يدلّ عليه ما في الإيضاح ١ : ٤٨.

(٣) عوائد الأيّام : ٢٩٤.

٥٣

أقول : القول بأنّ الأسباب الشرعيّة معرّفات من المشهورات التي لم نقف على أصل لها. نعم ، قد يكون في الأسباب الشرعيّة ما هو كاشف عن أمر آخر غير الحكم الّذي قد جعله الشارع سببا له ، كالبيّنة واليد ونحوهما ، فإنّهما سببان للعمل بمقتضاهما ووجوب التعويل عليهما مع كونهما كاشفين عن نفس المقتضى والمدلول ، وأين ذلك من كون الأسباب الشرعيّة معرّفات على وجه الإطلاق؟ وتعدّد الأسباب الشرعيّة ليس إلاّ كتعدّد الأسباب العقليّة ، فكما أنّ ذلك لا يقتضي الكاشفيّة فيها لا يقتضي فيها أيضا.

وأمّا ما أفاده : من أنّه لا يراد من الأسباب في قولهم ... ، ففيه : أنّ المحال هو تعدّد العلّة التامّة ، وتلك الأسباب ليست كذلك ، لرجوعها الى القدر المشترك كما في الأسباب العقليّة. ولا ينافي ذلك كونه أصلا يجوز التخلّف عنه بدليل ، نظرا إلى ظهور اللفظ في العلّية التامّة ؛ مضافا إلى أنّ كلماتهم مشحونة بما يدلّ على خلاف ما أفاده في موارد شتّى ، كما هو غير خفيّ على المتتبّع.

وأمّا قوله : « لا كلام في جواز التداخل فيما كان معرّفا » لما ذكره من الوجه ، ففيه : أنّه لم يعلم فرق في امتناع توارد العلل التامّة على معلول واحد بين أن يكون موجودا ذهنيّا أو خارجيّا ، بل وليس ذلك إلاّ الموجود الخارجي ، وأمّا الموجود الذهني فهو المعلوم دون العلم ، فإنّ وجود العلم في الخارج وإن كان من الامور الذهنيّة إنّما هو بواسطة المعرّف ، وطريق الامتناع واحد ، وهو لزوم خلاف الفرض فيما لم يكف إحداها في الوجود أو تحصيل الحاصل على تقدير الكفاية. وأمّا تعدّد الأدلّة فربّما يحتمل أن يكون لتحصيل مرتبة من الكشف لم يكن قبل ، كما هو المحسوس في الأمارات الظنّية التي تفيد اجتماعها العلم ، وإلاّ فلا بدّ من توجيه ذلك على ما وجّهنا به العلل في الموجودات الخارجيّة.

٥٤

وأمّا عدم ارتفاع الصورة عند ظهور بطلان أحد الأدلّة فلم يظهر لنا وجه ارتباطه بالمقام. والعجب! أنّه تفطّن بذلك واعتذر عنه بالفرق بين الموجود الذهني والخارجي ، حيث إنّه لا يمكن كون الشيئين في الخارج شيئا واحدا ، بخلاف الموجود الذهني فإنّه يصير ألف موجود ذهني موجودا واحدا ، بمعنى تطابق موجود واحد في الذهن لألف موجود خارجي ، فينتزع من كلّ ألف موجود صورة وهيئة كلّها منطبقة على موجود ذهني واحد.

وفيه : أنّ تعدّد الموجود الذهني إنّما هو بتعدّد نفس الملاحظة والانتزاع. ولا ريب في امتناع تلك الملاحظات كامتناع اتّحاد الموجودات الخارجيّة ، بل ما نحن فيه منها أيضا كما عرفت. وأمّا اتّحاد تلك الصور المنتزعة من أفراد كليّ واحد فعلى تقدير تعدّد الملاحظات يراد به عدم اختلافها مع قطع النظر عن خصوصيّات الوجود الذهني ، إذ لا يرتاب عاقل في التغاير مع ملاحظتها ؛ على أنّ ذلك خلط بين التصوّر والتصديق ، فإنّ الاعتقاد ممّا لا يتصوّر فيه ما ذكره في الصورة الكلّية المتصوّرة ، فإنّه موجود علميّ واحد لا يشوبه شوب التعدّد ، كما هو ظاهر لمن ألقى السمع وهو شهيد.

وبالجملة ، فلم يظهر لنا وجه في صحّة الابتناء المذكور فلا بدّ من التأمّل لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا.

الرابع : زعم بعضهم (١) جريان النزاع المذكور فيما إذا قال الشارع : « صم يوما وصم يوما » نظرا إلى أنّ الأمر سبب للوجوب فيتعدّد السبب مع وحدة المسبّب. فيمكن أن يقال فيه ما يقال في غيره. والظاهر اختصاص النزاع بما إذا كان الأمران مسبّبين عمّا جعله الشارع سببا أو ينتزع عمّا جعله الشارع

__________________

(١) راجع عوائد الأيّام : ٢٩٦ ، والعناوين ١ : ٢٣٧.

٥٥

سببا (١) أو ينتزع (٢) منه السببيّة على القول بعدم تعلّق الجعل بها على وجه الاستقلال. وانتفاؤه فيما زعمه ظاهر ، وإن كان يمكن للعقل انتزاع السببيّة والمسببيّة من المصلحة الداعية إلى الأمر وإيجاب الشارع ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المشهور في مثل ما فرضه هو تعدّد التكليف مع قطع النظر عن قرينة الاتّحاد كما إذا كان أحدهما منكّرا والآخر معرّفا ، أو قرينة التعدّد كالعطف. ولم أقف على وجه فيه عدا ما يظهر من بعض الأعلام من دعوى الظهور العرفي. وستعرف الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الخامس : الظاهر أنّ النزاع في هذه المسألة إنّما يؤول إلى اقتضاء معنى السببيّة عند التعدّد تعدّد المسبّبات وعدمه وإن (٣) لم يكن ذلك المعنى مدلولا عليه بدلالة لفظيّة ، كما إذا قام إجماع على سببيّة أمرين لوجوب شيئين ، فمع القطع بسببيّة الأمرين يمكن أن ينازع في الاقتضاء المذكور. فما يظهر من بعضهم في المقام من الاستدلال على مذهب المشهور بإطلاق الأدلّة ، لا وجه له (٤) فلعلّ مقصوده دفع منع آخر يتوجّه على عدم التداخل فيما إذا كان دليل السببيّة فيهما لفظا ، وإلاّ فالقائل بالتداخل لم يظهر منه دعوى التخصيص أو التقييد حتّى يتمسّك بالإطلاق في قباله.

السادس : قضيّة الأصل التداخل فيما إذا كان النزاع في تداخل الأسباب ، لرجوع الكلام على تقدير عدم التداخل إلى دعوى تعدّد التكاليف ، ولا ريب أنّه عند الشكّ في تعدّد التكليف الأصل البراءة عن المشكوك.

__________________

(١) لم ترد عبارة « أو ينتزع عمّا جعله الشارع سببا » في ( ع ).

(٢) في ( ع ) : « وينتزع ».

(٣) في ( ط ) : « إن » بدون الواو.

(٤) لم يرد « لا وجه له » في ( ع ).

٥٦

وقضيّة الأصل عدم التداخل فيما لو كان المراد تداخل المسبّبات ، لأول البحث إلى أنّه بعد ما ثبت من تعدّد التكليف ، فهل يمكن أداؤه بفعل واحد أو لا؟ ولا ريب أنّه شكّ في سقوط المكلّف به بعد العلم بالتكليف.

وإلى ما ذكرنا أوّلا ينظر ما حكاه البعض عن المشارق (١) : من أنّ ما يقال من « أنّ الأصل عدم التداخل » فكلام خال عن التحصيل ، فإنّه إن اريد به الظهور فممنوع ، بل الظاهر كفاية مسمّى المسبّب ، وإن اريد به الاستصحاب فهو ممّا لا يعقل له وجه ، وعلى تقديره فلا عبرة به ، وإن اريد به الغلبة والكثرة فهو أيضا باطل ، انتهى ملخّصا. والظاهر عدم التفاته قدس‌سره إلى ما ذكرنا ثانيا من المراد ، مع أنّه أجلّ من ذلك.

ثمّ إنّ لبعض الأعلام (٢) في نظير المقام كلاما ، وملخّصه : أنّ مقتضى الأصل العملي التداخل فيما إذا علم تعدّد التكليف ، فيجزي الإتيان بالفعل الواحد عن مجموع التكاليف ، وإن كان الأصل اللفظي قاضيا بعدم الإجزاء ؛ فإنّ المتفاهم عند العرف تعدّد المكلّف به عند تعدّد التكليف.

أقول : إذا ثبت تعدّد التكاليف ، فإن قلنا بأنّ تعدّدها يوجب تعدّد المكلّف به ـ كما هو التحقيق على ما ستعرفه ـ فلا وجه لما أفاده من أنّ الأصل التداخل ، وإن قلنا بأنّ ذلك لا يقتضي التعدّد ـ كما يراه رحمه‌الله في تداخل الأسباب ـ فلا نعرف وجها لدعوى ظهور اللفظ في تعدّد المكلّف به.

وتوضيحه : أنّه لا كلام فيما إذا كان في المقام ما يدلّ على الوحدة أو التعدّد ، مثل العطف الظاهر في المغايرة ، أو سوق الكلام على وجه يستفاد منه الاتّحاد.

__________________

(١) حكاه المحقّق النراقي في العوائد : ٢٩٣ ، وانظر مشارق الشموس : ٦١.

(٢) لم نعثر عليه.

٥٧

بل الكلام إنّما هو في مقتضى الدليل بحسب الوضع واللغة ، ولا شكّ أنّ الأمرين إذا تعلّقا بطبيعة واحدة لا يقتضيان إلاّ إيجاب تلك الطبيعة ، ولا دلالة في اللفظ على غير ذلك بحسب القواعد اللغويّة ، فلا وجه لدعوى فهم العرف من اللفظ تعدّد المكلّف به ، فلو كان ذلك قضيّة العرف فليس إلاّ من جهة أنّ تعدّد التكاليف قاض بتعدّد المكلّف به ، لما ذكرنا سابقا : من أنّ الطبيعة الواحدة على وحدتها لا تتحمّل وجوبين لكونها من اجتماع المثلين ، فينصرف التكليف إلى الوجودات الخاصّة (١) ، فيجب تكرارها على حسب تكرار الأمر. ولا فرق في ذلك بين التكاليف الثابتة باللفظ أو بغيره من الأدلّة اللبيّة ، كما تقدم إليه الإشارة.

وبالجملة ، فالأصل العملي يختلف على حسب ما عرفت ، فلا وجه لما يوجد في كلمات غير واحد منهم من الإطلاق.

وإذ قد عرفت هذه الامور ، فاعلم أنّه ذكر بعض أجلاّء السادة الأعلام (٢) وجوها للقول المشهور ، أقواها ما احتجّ به الفاضل في محكيّ المختلف (٣) ، وتبعه عليه السيّد في شرح الوافية (٤) : أنّه إذا تعاقب السببان أو اقترنا ، فإمّا أن يقتضيا مسبّبين مستقلّين أو مسبّبا واحدا أو لا يقتضيا شيئا أو يقتضي أحدهما شيئا دون الآخر. والثلاثة الأخيرة باطلة ، فتعيّن الأوّل ، وهو المطلوب.

أمّا الملازمة : فلانحصار الصور في المذكورات.

__________________

(١) في ( ع ) : « وجودات خاصّة ».

(٢) وهو السيّد الطباطبائي بحر العلوم في فوائده المطبوعة بالطبعة الحجريّة : ١٢٦.

(٣) المختلف ٣ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

(٤) لم نعثر عليه.

٥٨

وأمّا بطلان التوالي : أمّا الأوّل ؛ فلما عرفت سابقا من أنّ النزاع المذكور إنّما هو مبنيّ على خلافه. وأمّا الثاني ؛ فلأنّ ذلك خلاف ما فرضناه من سببيّة كلّ واحد منهما على ما يقتضيه الدليل. وأمّا الثالث ؛ فلأنّ استناده إلى المعيّن يوجب الترجيح بلا مرجّح مع أنّه خلاف المفروض من دليل السببية ، وإلى غير المعيّن يوجب الخلف المذكور.

واعلم أنّ محصّل الوجه المذكور ينحلّ إلى مقدّمات ثلاث :

إحداها : دعوى تأثير السبب الثاني.

الثانية : أنّ أثره غير أثر الأوّل.

الثالثة : أنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل.

فالقائل بالتداخل لا بدّ له من منع إحدى المقدّمات المفروضة على سبيل منع الخلوّ.

فتعلّق جماعة منهم منع (١) المقدّمة الاولى. ويمكن أن يستند في ذلك إلى أمرين :

أحدهما : وهو الظاهر من بعض الأعلام في تعليقاته على المعالم ، حيث قال : لا مانع من كون المسبّب (٢) الثاني كاشفا عن المسبّب الأوّل (٣).

وتوضيحه : أنّه يجوز أن يكون لشيء واحد آثار متعدّدة ولوازم عديدة ، يستكشف عنه بتلك الآثار واللوازم ، سواء كانت مقترنة في الوجود أو لا ، وتعدّد اللوازم لا يدلّ على تعدّد الملزومات ، كما هو ظاهر. فيجوز أن يكون الأسباب

__________________

(١) كذا ، والظاهر : « بمنع ».

(٢) في ( ع ) و ( ط ) : « السبب » وما أثبتناه من المصدر.

(٣) هداية المسترشدين ١ : ٧١٢.

٥٩

الشرعيّة من هذا القبيل ، فعلى المستدلّ إثبات هذه المقدّمة. وقد عرفت أنّ الفاضل النراقي لم يكتف بالمنع المذكور ، بل ادّعى أن الأسباب الشرعيّة ليست بأسباب حقيقيّة ، وإنّما هي معرّفات (١).

ويؤيّد الدعوى المذكورة : توارد الأسباب الشرعيّة على مسبّب واحد مع امتناعه في غيرها ، كما في توارد النوم والبول على وضوء واحد.

أقول : إنّ بعد ما فرغنا من أنّ الظاهر من الجملة الشرطيّة هو سببيّة الشرط للجزاء وتسالم عليه المانع المذكور لا وجه للمنع المذكور ، لرجوعه إلى مقدّمة ثابتة ؛ على أنّ الكلام لا يختصّ بالجملة الشرطيّة بل تجري فيما إذا ثبت السببيّة بالتصريح بها ، بل وفيما إذا قام عليها الإجماع ، كما عرفت.

لا يقال : حيث إنّه قد ثبت في بعض الموارد معرفيّة الأسباب فيقوم احتمالها ويرجّح على احتمال المؤثريّة ؛ نظرا إلى موافقته لأصالة عدم تعدّد الأثر.

لأنّا نقول : لا عبرة بالأصل في قبال الدليل الظاهر في التعدّد. وأمّا الدعوى المذكورة فيكفي في دفعها عدم دلالة دليل من العقل والنقل عليها ، وبعد ما عرفت من الظهور يتمّ التقريب.

ولا دلالة في توارد الأسباب على المعرّفيّة.

أمّا أوّلا : فبالنقض بالأسباب العقليّة والعاديّة ، فإنّها أيضا قد تجتمع على أمر واحد.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، وهو القول بأنّ القدر المشترك هاهنا سبب ، ولا غائلة فيه كما قدّمنا.

وأمّا مسألة الأحداث فلا تدلّ على مطلوبهم.

__________________

(١) راجع الصفحة : ٥٣.

٦٠