مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

ومحصّل مراده الاستناد إلى الأصل في الاستدلال على المطلب. وتقريره : أنّ تجويز الرجوع إلى الميّت لا بدّ له من دليل ، إذ بدونه يكون قولا بغير علم ولا دليل عليه ، إذ الإجماع مختصّ بالأحياء ، والعسر والحرج يكفي في دفعهما الرجوع إلى الأحياء. وما أدري كيف يقابل ذلك باندفاع العسر بالرجوع إلى الأموات؟ وهل هذا إلاّ خروجها عن قانون التوجيه؟

٥٠١
٥٠٢

هداية

حكي عن ركن الدين محمّد بن عليّ الجرجاني (١) أنّه قال في هذا الباب : الأشبه أن يقال : إنّ المستفتي إن وجد المجتهد الحيّ لم يجز له الاستفتاء من الحاكي سواء كان عن حيّ أو ميّت ؛ لأنّه مكلّف بالأخذ بأقوى الظنّين ، فيتعيّن عليه كالمجتهد ، فإنّه يجب عليه الأخذ بأقوى الدليلين ، فإن لم يجده فلا يخلو إمّا أن يجد من يحكي عن الحيّ أو لا ، فإن وجده تعيّن أيضا. وإن لم يجد فإما أن يجد من يحكي عن الميّت أو لا ، فإنّ وجده وجب الأخذ من كتب المجتهدين الماضين.

أقول : وجه التفصيل أمران :

أحدهما : لزوم الأخذ بالمشافه مع الإمكان وعدم الاعتداد بنقل الواسطة أو الرجوع إلى الرسالة ونحوها. ولم يظهر لنا وجه ذلك ، فإنّ عموم وجوب الأخذ بالشهادة ممّا لا ينكر لو أغمضنا عن أصالة حجّية قول العادل مطلقا ، أو في خصوص المقام بواسطة جري السيرة المستمرّة الكاشفة عن رضى المعصوم على ذلك ، فغاية الأمر اعتبار التعدّد أيضا كما في الشهادة. وأمّا عدم الاعتداد إلاّ بالمشافه فلا وجه له.

الثاني (٢) : جواز الرجوع إلى الميّت على تقدير عدم الحيّ. ولا مانع منه ،

__________________

(١) حكاه السيد الصدر في شرح الوافية : ٤٧٠.

(٢) وهو المنسوب إلى العلاّمة والمحقّق الأردبيلي ، انظر حاشية الشرائع للمحقق الكركي ، الورقة : ١٠٠ ومفاتيح الأصول : ٦٢٥ ، ومجمع الفائدة ٧ : ٥٤٧.

٥٠٣

نظير ما نبّهنا عليه في بعض مباحث الظنّ : من أنّ الواجب هو الرجوع إلى الوهميّات فيما لو فرض ـ العياذ بالله ـ انسداد باب الظنون المطلقة أيضا.

ولا ينافي ذلك ما قلنا : من أنّ المناط هو الظنّ ، فإنّه يختلف موضوعات المكلّفين باختلاف الأوقات والأحوال. وقد عرفت أنّ ذلك ليس تفصيلا في الحقيقة ، إذ كلام المانعين إنّما هو في مقام وجود الحيّ. وليس من ذلك أثر في كلامهم ، كما هو ظاهر.

ومن هنا تعرف فساد الاستدلال على الجواز : بأنّه ربما لا يوجد مجتهد حيّ أو الاقتصار على الأحياء ربما يوجب العسر والحرج ، لانتشار المكلّفين في البلاد النائية مع انحصار المجتهد في واحد لا يصل أيدي الأغلب أو الغالب أو البعض إليه ، فإنّ هذه الفروض لو سلّم وقوعها ـ نظرا إلى ما هو المتنازع فيه مع إمكان خلوّ العصر عنه مجتهد حيّ على وجه الكفاية ـ لا ينافي ما نحن بصدده. كما لا وجه لما قد يوجد في كلام المحقّق القمي رحمه‌الله (١) بأنّ الدليل لا يفيد تمام المطلوب ، فتدبّر.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٥٠٤

هداية

في بيان التفصيل بين الاستدامة والابتداء في قبال قول المشهور بالمنع مطلقا.

قال السيّد الصدر في شرح الوافية ـ بعد ما نقل قول الشيخ سليمان والشيخ عليّ بن هلال وركن الدين الجرجاني ـ ما لفظه : ومال بعض المتأخّرين إلى عدم بطلان التقليد بموت المجتهد الذي قلّده في حياته وعدم جواز تقليد الميّت ابتداء بعد موته. وهو قريب (١) ، انتهى.

وهو صريح في أنّ ظاهر المشهور هو المنع مطلقا ، وإلاّ لا وجه لعدّ القول بالاستدامة تفصيلا في المسألة. ومراجعة الأدلّة التي قدّمناها قاضية بذلك أيضا ، ألا ترى أنّ قول السيّد الجزائري رحمه‌الله (٢) في ما زعمه من الدليل : من « أن الحكم بصحّة صلاة من مات مجتهده بعد ما صلّى الظهر وبطلان صلاة عصره يوجب الشراكة مع الشارع » صريح في الردّ على الاستدامة. وكذا جواب القوم عنه ـ كالسيّد الكاظمي رحمه‌الله (٣) بالنقض بطريان الفسق وأمثاله مثل ما إذا تغيّر الرأي في أثناء العمل. فلو كان البقاء على التقليد خارجا عن حريم النزاع كان الوجه في الإيراد على الدليل المذكور أنّ ذلك خروج عن محلّ النزاع.

__________________

(١) شرح الوافية : ٤٧١.

(٢) قاله في الرسالة التي لا توجد عندنا ، ونقله منها السيد الصدر في شرح الوافية : ٤٧٢.

(٣) الوافي في شرح الوافية ( مخطوط ) مبحث الاجتهاد والتقليد ، ذيل الدليل الثامن للمجيزين.

٥٠٥

ومثل ذلك في الدلالة على أنّ التفصيل بين الاستدامة والبقاء إنّما هو من أقوال المسألة التي نحن بصددها ما ذكره المحقّق الكاظمي رحمه‌الله في الجواب عن استدلال المجوّزين من العامّة وغيرهم : بأنّ موت الشاهد لا يبطل شهادته وكذا فتواه ، حيث قال أوّلا : إنّ الشاهد إذا شهد عند القاضي ثم مات قبل الحكم فيحكم بعد ذلك بمقتضى تلك الشهادة ، فليس ذلك من القاضي اعتدادا بقول الميّت وشهادته ، بل بما أصاب من العلم المحرّر عنده.

ثم قال : وأقرب من ذلك وأسلم منه هو أنّ الكلام في تقليد الميّت واقتفاء أثره واتّباعه فيما ظنّه واستنبطه ، لا في اعتبار خبره. وذلك أنّ الأوّل قد يعارض بتقليد الميّت فيما تناوله منذ حيّا ، انتهى.

وهذا الكلام من الصراحة بمكان لا يقبل الإنكار ؛ وكذا أكثر الأدلّة التي أقامها المانعون ممّا بيّنا على بقاء الظنّ يعمّ البدوي والاستمراري.

وقد يتوهّم : أنّ المشهور الذاهبين إلى عدم جواز تقليد الميّت إنّما كلامهم يختصّ بالابتداء ولا يتوجّه نظرهم إلى الاستمرار.

وهو وهم ناش عن قلّة التدبّر في كلمات المانعين والمجوّزين ، كما عرفت.

وأغرب من ذلك : أنّه قد يذكر في ذلك أقوال ، منها : القول بوجوب البقاء (١). ومنها : القول بحرمته ووجوب العدول (٢). ومنها : القول بالتخيير بين البقاء والعدول (٣). ومنها : القول بوجوب العدول لو كان الحيّ أعلم وإلاّ فالبقاء لازم (٤).

__________________

(١) ذهب إليه القزويني في ضوابط الأصول : ٤٢١.

(٢) وهو الظاهر من المحقق الثاني في حاشية الشرائع : ٩٩ ـ ١٠٠ ، كما نسبه في المفاتيح : ٦٢٤ ، إليه وإلى والده.

(٣) ذهب إليه صاحب الجواهر في الجواهر ٢١ : ٤٠٢.

(٤) لم نعثر عليه.

٥٠٦

والحقّ أنّه منحصر في هذه المسألة في قولين : قول باشتراط الحياة في الاستدامة ، وقول بعدم الاشتراط ، فإذا قلنا بالاشتراط فلا وجه لمسألة العدول لبطلان التقليد بواسطة انتفاء شرط آخر مثل تبدل الرأي أو عروض الفسق أو الجنون. وإذا قلنا بعدمه فيكون من موارد العدول وعدمه.

والأقوال في مسألة العدول لا ينبغي عدّها في أقوال هذه المسألة ، كما أنّ القول بوجوب تقليد الأعلم لا ينبغي عدّه في أقوال هذه المسألة ؛ مع أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا صار الحيّ أعلم بعد الموت ، إذ لو كان قبله لم يجز تقليده رأسا. وذلك نظير التفصيل المنقول عن العلاّمة الجرجاني ، حيث أخذ فيه القول بوجوب الأخذ مشافهة. وكيف كان ، فالمختار أيضا هو مختار المشهور ، إلاّ أنّ الأصل في المقام يخالف الأصل في التقليد البدوي.

وتوضيحه : أنّ قضيّة الأصل ـ على ما عرفت سابقا ـ هو المنع مطلقا ، لكونه قدرا معلوما. وليس في المقام كذلك إلاّ على القول بجواز العدول ، فإنّ الرجوع إلى الحيّ لا غائلة فيه على التقادير. بخلاف ما إذا قيل بعدم جواز العدول ، فإنّه يدور الأمر بين الغير الجائز والبقاء الغير الجائز ، فيكون قضيّة الأصل هو التخيير بين الاحتمالين عند عدم المرجّح لأحدهما ، وعلى تقديره فالأخذ بما فيه الترجيح.

ولا سبيل إلى القول بلزوم الأخذ بالبقاء على تقدير حرمة العدول ، فإنّ حرمة العدول في الصورة المفروضة ليست معلومة بل محتملة. كما أنّه لا سبيل إلى القول بلزوم العدول ؛ لأنّ جواز العدول وعدمه إنّما يتكلّم فيه ويبحث عنه فيما لو فرضنا صحّة التقليد. وأمّا فيما لو احتمل فساد التقليد أصلا لا وجه لاحتمال حرمة العدول ، فيكون قضيّة الأصل أيضا هو المنع ؛ وذلك : لأنّ احتمال حرمة العدول موجود بعد ، فلا يكون تقليد الحيّ معلوم الصحّة ،

٥٠٧

فإنّ احتمال فساد أصل التقليد لا ينافي احتمال صحّة الملازم لاحتمال حرمة العدول الموجب للتخيير العقليّ.

ثم إنّه ذهب جماعة (١) من المعاصرين ومن قاربهم في العصر إلى التفصيل المذكور ، بل ربما يدّعي بعضهم كونه من المسلّمات. واستدلّوا على المنع في البدويّ بما عرفت من الأدلّة السابقة وعلى الجواز في الاستمراريّ بوجوه :

الأوّل : الاستصحاب وتقريره بوجوه :

منها : استصحاب الأحكام الثابتة في ذمّة المقلّد ، كحرمة العصير العنبي مثلا بواسطة التقليد قبل موت المجتهد.

ومنها : استصحاب الأحكام المتعلّقة بوجوب القصر عند ذهاب أربعة فراسخ مثلا. ومرجعه إلى استصحاب الملازمة الفعليّة ، فيكون من الاستصحاب التنجيزي كما حرّر في محلّه.

ومنها : استصحاب صحّة التقليد ، كما إذا شكّ في صحّة البيع مثلا.

ومنها : استصحاب حرمة العدول على القول بها.

والجواب : هو ما قدّمناه في استدلال المجوّزين على الإطلاق. وحاصله :

أنّا قد بيّنا في محلّه : أنّ من شرائط جريان الاستصحاب العلم ببقاء الموضوع وهو غير حاصل ، إمّا للعلم بارتفاعه على القول بارتفاع الظنّ أو عدم العلم ببقائه.

والعمدة في الاستدلال بهذه الاستصحابات الغفلة عمّا يدور عليه رحى الاجتهاد والميل عن طريق المجتهدين بسلوك سبيل وعر سلكه الظاهريّون الأخباريّون من أصحابنا ، وإن كان هؤلاء لا يرضون أيضا بالتمسّك بالاستصحاب ، كما لا يخفى على المتأمّل.

__________________

(١) مثل الأصفهاني في الفصول : ٤٢٢ ، والسيد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٦٢٤.

٥٠٨

وبيانه إجمالا : أنّ مناط الأحكام الظاهريّة عندنا معاشر المجتهدين هو الظنّ ، والقدر المعلوم من استتباعه الأحكام الظاهريّة هو ظنّ الحيّ سواء قلنا ببقاء الظنّ بعد الموت أو قلنا بارتفاعه ، وبعد ارتفاع الوصف لا يصحّ جريان الاستصحاب الحكمي ، والموضوعي أيضا غير مفيد كما حرّر في محلّه سابقا.

الثاني : إطلاقات الأدلّة كتابا وسنّة ، فإنّ شمولها لوجوب الأخذ بقول المفتي فيما لو أخذه أوّلا ممّا لا ينبغي إنكاره.

والجواب عنه :

أوّلا : فبمنع دلالتها على أصل التقليد ، كما مرّ الوجه في ذلك مفصّلا.

وثانيا : لو سلّمنا دلالتها على التقليد فيمنع إطلاقها. أمّا فيما عدا آية النفر من الآيات الكتابية فلأنّ دلالتها من باب الملازمة العرفيّة ، ولا إطلاق في المداليل الالتزاميّة.

وأمّا فيها (١) ففي وجه تلحق بغيرها ، وفي وجه آخر فلو سلّم نهوضها على جواز التعويل على قول الأموات بعد موتهم فلا بدّ من تخصيصها ـ كغيرها من الأدلّة ـ على تقدير الدلالة بمعاقد الإجماعات التي قد عرفت فيما تقدّم زيادتها عن حدّ الاستفاضة ، مع كفاية ذلك بعد موافقته (٢) للمتتبّع في كلمات الأصحاب ، مع عدم ظهور المخالف في المسألة ؛ لأنّها ملحقة بالفرعيّات ، ولم نقف من هؤلاء المجوّزين الاجتراء على مخالفته في الفروع الفقهيّة.

__________________

(١) أي : آية النفر.

(٢) كذا ، وفي العبارة نقص.

٥٠٩

فإن قلت : إنّ الإجماعات المتقدّمة مختصّة بالتقليد البدوي وليس إطلاقها في بيان حال التقليد الاستمراري ؛ لأنّها وقعت في قبال العامّة القائلين بالجواز ابتداء ؛ مضافا إلى أنّ التقليد هو البدويّ منه ، فلا ينصرف إطلاق لفظ « التقليد » إلى الاستمراري ، بل قد يقال : لا يمكن شمولها إلاّ مجازا ؛ لأنّ البقاء على التقليد ليس تقليدا بالمعنى المصدريّ.

قلت : أمّا كون هذه الإطلاقات في غير مقام بيان الاستمرار إنّما يظهر خلافه بملاحظة كلمات القائلين بعدم الجواز ، حيث إنّهم لا يظهر منهم جواز الاستمرار ولو واحدا ، ولو كان كذلك لكان ذلك شايعا في كلامهم ، وقد عرفت أنّ حدوثه إنّما هو من بعض المتأخّرين ، كما نصّ عليه السيّد الصدر (١). فالقول بأنّ هذه الاطلاقات ليست في مقام بيان الاستمرار إنّما هو قول بلا داع.

وأمّا دعوى عدم الشمول وضعا أو انصرافا ، فلا وجه لها ، وبيان ذلك يتوقّف على الإحاطة بمعاقد الإجماعات سواء كان الإجماع مصرّحا به في كلماتهم أو لا ، فنقول :

منها : ما ادّعي على عدم جواز التقليد ، ولا ريب في استواء صدق التقليد على الابتداء والاستدامة سواء فسّر بالعمل كما هو الظاهر ، فإنّه هو المعقول منه بعد عدم إرادة ما هو المراد منه في غير المقام من الاعتقاد ، الغير الثابت ، لعدم حصوله في الأغلب.

ولا يستلزم ذلك بطلان العمل الأوّل أو الدور ، نظرا إلى توقّف صحّة العمل على التقليد ، فالعمل الأوّل إمّا أن يكون صحّته بنفسه فهو دور ، وإمّا أن لا يكون

__________________

(١) شرح الوافية : ٤٧١.

٥١٠

صحيحا فهو باطل. والوجه في ذلك هو ما أشرنا في محلّه ، وحاصله : أنّ التقليد من كيفيّات العمل وأنحائه ، وإنّما يصحّ انتزاعه من العمل فيما إذا كان العمل مطابقا لفتوى المجتهد من دون حاجة إلى سبق العمل ، فالمفروض يكون صحيحا بواسطة صحّة انتزاع التقليد من العمل الأوّل بعد وجود ما هو المعيار والمناط في الصدق المذكور ، فلا محذور ، إذ لم يفسّر به بل فسّر بالأخذ ، كما يراه البعض.

أمّا على الأوّل : فلأنّه يصدق على من يبقى على التقليد أنّه عامل بقوله ولو كان بعد موته ، فلو نهى المولى عبده عن العمل بقول زيد لا نرى فرقا بين العمل بقوله ابتداء في الحياة والممات وبين استدامة العمل بقوله حيّا وميّتا ، وذلك أمر مجزوم به. فدعوى عدم الشمول وضعا أو انصرافا غير مسموعة.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الأخذ بقول الغير يصدق مع الاستمرار أيضا ، فإنّ استمرار الأخذ ليس خارجا عن حقيقة الأخذ ، بل هو أخذ ، كما أنّ استمرار الجلوس جلوس ، واستمرار القيام قيام.

وتوضيحه : أنّ الأفعال القابلة للامتداد في الوجود لا وجه للقول بأنّ الآن الثاني من وجوده ليس من حقيقة ذلك الفعل مع عدم ما يقضي بذلك عقلا ولا نقلا ، كما يشهد بذلك استقراء المصادر التي هي حقايق الأفعال.

وأمّا القول بأنّ « الأخذ » من الأفعال الآنيّة التي لا تقبل الامتداد ، فيكفي في بطلانه مراجعة الوجدان ومقايسة الأفعال الممتدّة معه ، فلا يصغى إليه. إلاّ أنّه لم نعثر على اشتمال معاقد الإجماعات على لفظ « التقليد » سوى ما ذكره الشهيد في الرسالة (١) ، على ما تقدّم.

__________________

(١) رسائل الشهيد الثاني ١ : ٤١ ، راجع الصفحة : ٤٥٣.

٥١١

ومنها : الإجماع على أنّ الميّت لا قول له كما عن الأحسائي (١) ، حيث قال : لا بدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله ، فوجب الرجوع إلى غيره ، إذ الميّت لا قول له ، وعلى هذا انعقد إجماع الإماميّة. ودلالته على نفي القول على عدم جواز التعويل بقوله ابتداء واستدامة ظاهرة لا تقبل الإنكار ، فإنّ الظاهر من نفي القول بعد العلم بثبوته قطعا هو نفي الآثار. ولا فرق في ذلك بين الاستدامة والابتداء.

ومنها : الإجماع على بطلان القول ، كما عن الشهيد في الرسالة (٢). ودلالته صريحة في الغاية.

ومنها : ما أفاده في المسالك (٣) : من أنّه صرّح الأصحاب في كتبهم المختصرة والمطوّلة باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله ، ولم يتحقّق إلى الآن في ذلك خلاف ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا. وهذا نظير ما في المعالم : من أنّ العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق أصحابنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود الحيّ (٤).

والإنصاف أنّ أمثال هذه المناقشات إنّما تنشأ من ضيق المجال في الاستدلال ، فإنّ شمول هذه العبارات للمطلوب على منار لا ينكره إلاّ العسوف ، بل لو كان ولا بدّ من المناقشة فليقل : بأنّه لا دليل على اعتبار هذه الإجماعات في المقام.

__________________

(١) راجع رسالة « التقليد » للشيخ الأنصاري : ٣٣.

(٢) رسائل الشهيد الثاني ١ : ٤١.

(٣) المسالك ٣ : ١٠٩.

(٤) المعالم : ٢٤٨.

٥١٢

فنقول : إنّ الكلام في المقام إنّما هو في قبال من ذهب إلى عدم الجواز في الابتداء نظرا إلى هذه الإجماعات ، فإنّ لم يسلّم البرهان على اعتبارها فلا بدّ من تسرية المنع إلى هناك ، وإلاّ فالواجب الأخذ بإطلاق معقد الاجماع في المقام أيضا بعد وضوح فساد المنع المذكور. ويوضح ذلك ما ذكرنا في صدر الهداية من شمول الأدلّة وكلماتهم للاستمراريّ والبدويّ فراجعها.

الثالث : دعوى استقرار السيرة على البقاء على تقليد الأموات. ويظهر ذلك بملاحظة أحوال أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّ من المعلوم عدم التزامهم مع وفور قدسهم بالرجوع عمّا أخذوه تقليدا عمّن له الإفتاء بعد عروض موت المفتي ، ولو كان ذلك لكان بواسطة عموم البلوى منقولا معلوما ، ومثله يعطي العلم برضاء الإمام عليه‌السلام وتقريره الشيعة على البقاء.

والجواب عن ذلك المنع من استقرار السيرة في وجه وعدم جدواها فيما نحن فيه في وجه آخر. وتوضيحه : أنّ الناس في زمن أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بين أصناف ، فإنّهم بين العامل بما يسمعه شفاها عن المعصوم ، وبين العامل بالأخبار المنقولة عنهم مثل الفتاوى المنقولة عن المجتهدين ، وبين العامل بفتاوى المجتهدين في تلك الأزمنة ، كـ « أبان بن تغلب » و « محمّد بن مسلم » وأضرابهما ممّن له أهليّة الاجتهاد والإفتاء.

ولا ريب أنّ القسمين الأوّلين ليس عملهم من التقليد في شيء. وذلك هو الغالب في الموجودين في تلك الأزمنة وإن كان بلدهم بعيدا عن بلاد الأئمّة عليهم‌السلام كما يظهر من ملاحظة أحوالهم ومقايستها بأحوال المقلّدين النائين عن بلد المجتهد في الفتاوى المنقولة إليهم.

وأمّا القسم الثالث : فهم المقلّدون. ولا ريب في قلّة هذا القسم بالنسبة إليهم ، بل وفي نفسه أيضا ؛ لتيسّر الاجتهاد في تلك الأزمنة وعدم احتياجه إلى

٥١٣

ما يحتاج إليه في أمثال زماننا. فإن أريد استقرار سيرة القسمين الأوّلين على عدم الرجوع فمسلّم ذلك ولكن لا يرتبط بالمقام ، إذ لا إشكال في أنّ موت الإمام لا يوجب بطلان قوله كموت الراوي مثل موت الناقل لفتوى المجتهد في زماننا. وإن أريد استقرار سيرة القسم الثالث فلا نسلّم ذلك ، فإنّ الإنصاف أنّ دون إثبات استقرار سيرة المقلّدين بالمعنى المصطلح عليه على البقاء خرط القتاد! بل ولا يبعد دعوى السيرة على خلافه كما يشاهد في أمثال زماننا ، فإنّ بعد موت المرجع نرى اضطراب المتشرّعين من أهل تقليد ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فلا يقاس حال الموجودين في هذه الأزمنة وما يضاهيها من زمن الغيبة بحال أصحاب الأئمة عليهم‌السلام لما عرفت من افتراقهم الفرق الثلاث ، بخلافهم فإنّ الغالب فيهم التقليد ، كما ذكرنا. نعم ، يصحّ مقايسة حالهم بحالهم في الفتوى المنقولة إليهم مع عدم سماعهم من المجتهد بواسطة الثقات والعدول.

الرابع : أنّ الأمر بالرجوع عن الفتاوى المقلّد فيها يشمل على عسر أكيد وحرج شديد ، وهما منفيّان في الشريعة السمحة السهلة.

والجواب عن ذلك : أنّه إن أريد لزوم العسر والحرج في تعليم المسائل التي أفتى فيها الحيّ. ففيه : أنّه لا عسر فيه ، إذ لو كان كذلك لكان ساقطا عن البالغ في أوّل بلوغه ، على أنّ المخالفة ليست في جميع المسائل بل ولا في الغالب ، فإنّها قليلة جدّا ، وذلك يحصل بمطابقة الرسالة في أيّام معدودة ونحوها ممّا لا يعدّ عسرا إلاّ ممّن جبلت طبيعته على الاعتذار في انتهاضه على الأحكام الشرعيّة والقيام بوظائف الشريعة.

٥١٤

وإن أريد لزوم العسر في انتقاض الآثار المترتّبة على الأعمال الواقعة بمقتضى التقليد الأوّل عند المخالفة ، فذلك لو سلّم لزوم العسر فيه ، فنلتزم بعدم النقض في الآثار السابقة. وأمّا الأعمال اللاحقة ، فلا بدّ من أن يكون على مقتضى التقليد اللاحق.

مثلا : لو فرض أنّ الميّت كان يقول بطهارة الغسالة والمقلّد أيضا إنّما بنى على طهارتها في جملة من الأعوام والسنين ، ثمّ بعد ذلك رجع إلى تقليد الحيّ القائل بنجاستها ، فإنّه يقع في العسر فيما لو أراد إعمال هذه الفتوى بالنسبة إلى ما بنى على طهارته بمقتضى الفتوى الأولى. ولكنّه لا عسر في لزوم الاجتناب عن الغسالة بعد ذلك ، وأين ذلك من لزوم البناء على التقليد السابق على وجه الإطلاق؟ وقد فرغنا عن إبطال هذه الكلمات فيما قدّمنا في مسألة الإجزاء.

ثم اعلم أنّ القول بوجوب البقاء أردأ من القول بجواز البقاء ، فإنّ الوجه في عدم جواز العدول إمّا الإجماع ، وإمّا قاعده الاحتياط فإنّه هو القدر المعلوم ، وإمّا استصحاب وجوب الأخذ بالعمل السابق ، أو استصحاب وجوب نفس العمل ، أو غيره من تقادير الاستصحاب.

أمّا الأخير ، فقد عرفت ما فيه من وجوه المناقشة.

وأمّا الثاني ، فقد عرفت أيضا أنّ الاحتياط لا يقضي بالأخذ بقول الميّت ، فإنّ المسألة من موارد التخيير بناء على حرمة العدول ، وقضيّة الاحتياط هو الرجوع على تقدير جوازه.

ومن هنا ينقدح لك : أنّ الإطلاقات المتقدّمة على تقدير صلوحها وشمولها للأخذ بقول الميّت على وجه الاستدامة لا يصلح دليلا في المقام ؛ لأنّ المفروض

٥١٥

شمول تلك الأدلّة لقول الحيّ أيضا ، فقضيّة المعارضة هو الرجوع إلى وجوه التراجيح المعمولة بين المتعارضين وهي مع الرجوع (١) لما عرفت من ذهاب المشهور إليه.

وبالجملة ، ففي مقام التعارض لا وجه للأخذ بالإطلاق ، فإنّ صورة المعارضة غير مشمولة للإطلاق ، كما ستعرف تفصيل ذلك بعيد المقام.

وأمّا الإجماع فعدم تحقّقه في المقام ظاهر.

__________________

(١) كذا ، والعبارة ناقصة ظاهرا.

٥١٦

هداية

إذا مات المجتهد ولم يكن في الأحياء من يجوز التعويل على قوله بواسطة عدم تدبّره في العلوم الشرعيّة أو بواسطة فقدان شرط من شروطه ، فهل الحجّة قول الميّت؟ أو لا حجّة فيه أصلا؟ وجهان بل قولان ، ذهب إلى الثاني المحقّق الثاني وتبعه في الرياض على ما نقل (١). وقد سبق في صدر الباب نسبة الأوّل إلى جماعة منهم المقدّس الأردبيلي.

ويمكن ابتناء الخلاف في ذلك على أنّ الحياة من الشروط المطلقة التي لو فرض انتفاؤها يسقط معه وجوب المشروط ، أو من الشروط عند الاختيار.

فعلى الأوّل لا يجوز أصلا ، بل ينقلب التكليف إلى أمر آخر. ولا ينافي ذلك أن يكون مقتضى الدليل في الفرض المذكور هو الرجوع إلى فتاوى الموتى ، فإنّ ذلك بواسطة اندراجه تحت عنوان آخر كما هو ظاهر في الغاية.

وعلى الثاني فلا وجه لسقوط المشروط ، فإنّ الاشتراط إنّما هو في حال الإمكان وعند التعذّر فالشرط باق بحاله. وعلى ذلك لا بدّ من ملاحظة التراجيح لو دار الأمر بينه وبين فقد سائر الشرائط كالإيمان والعدالة. ولعل الترجيح مع الأخذ بقول الميّت ، لوجود القائل ابتداء ، بخلاف قول الكافر والفاسق ونحوهما.

__________________

(١) نقله السيّد المجاهد في المفاتيح : ٦٢٥.

٥١٧

والأقرب هو الأوّل ، لإطلاق معاقد الإجماعات التي هي العمدة في دليل الاشتراط. وعلى ذلك فيجب إنكار حجّية قول الميّت من هذه الجهة والمصير إلى الأمارات المفيدة للظنّ بعد العجز عن الاحتياط أو فرض الإجماع على عدم وجوبه.

وأقرب الأمارات هي الشهرة لو أمكن تحصيلها كما إذا كان المقلّد من أهل تحصيلها. ثمّ بعد ذلك بالمنقولة منها بواسطة شهادة العدلين أو العدل لو لم يمكن العدلان. ثم الأخذ بأوثق الأموات كالمحقّق والشهيد وأضرابهما من أساطين الفقه. ثمّ الأخذ بمطلق الأموات. ثمّ الأخذ بمطلق الظنّ.

والوجه في ذلك جريان الدليل العقلي القاضي بالعمل بشيء يحتمله موضوع المكلّف على حسب اختلاف مراتب تكليفه ، كما نبّهنا على ذلك فيما تقدّم إجمالا ، وقد سبق تحقيقه في مباحث الظنّ.

فإن قلت : إنّ فرض انسداد باب العلم يوجب الرجوع إلى ما هو مفيد الظنّ بالنسبة إلى المقلّد ، ولعلّه يوافق الشهرة ، فلا وجه للترتيب المفروض.

قلت : إنّ المقلّد بعد اندراجه تحت موضوع الانسداد ، فإمّا أن يستقلّ عقله بالعمل بالظنّ أو لا يستقلّ ، فعلى الأوّل فلا حاجة إلى المسألة عمّا هو العالم ، فإنّه يعمل على حسب ما يستقلّ عقله. وعلى الثاني فلا بدّ من الرجوع إلى غيره. والترتيب المذكور إنّما يفيده بعد الرجوع ، والغير إنّما يلزم عليه الرجوع إلى الأمور المذكورة لكونها الأقرب فالأقرب. لكنّه خلاف الفرض ، إذ المفروض عدم استحقاق الإفتاء للغير ، فتأمّل.

واستدلّ في محكيّ مجمع الفائدة للقول الثاني بلزوم الحرج والضيق ـ المنفيّان عقلا ونقلا ـ والاستصحاب وبتحقّق الحكم وحصوله من الدليل ولم

٥١٨

يتغيّر بموت المستدلّ ، وقال بعد ذلك : والظاهر أنّ الخلاف ظاهر ـ كما صرّح به في الذكرى (١) والجعفريّة (٢) وكتب الأصول ـ وليس بمعلوم كون المخالف مخالفا لبعد ذلك عن الذكرى المخصوص ببيان مسائل الأصحاب وعدم اختصاص دليل الطرفين بالمخالف ، ولكن مع ذلك لا تحصل الراحة به (٣) ، انتهى ما أفاده رحمه‌الله. أقول : هو كما أفاد لا تحصل به الراحة ، بل الظاهر أنّ الاستدلال المذكور لا يسمن ولا يغني ، ويظهر الوجه فيه ممّا ذكرنا في الهدايات على وجه التفصيل. وأمّا إجمالا فلزوم الأوّلين ممنوع. والثالث لا مجرى له. والرابع لو تمّ لدلّ على الجواز حال وجود الحيّ ؛ مضافا إلى ما عرفت من ابتنائه على مقدّمات لا يساعدها دليل ، كما هو ظاهر.

تنبيهان :

الأوّل : قال المحقّق الثاني في محكيّ تعليقاته على الشرائع : متى عرض للفقيه العدل الفسق ـ العياذ بالله ـ أو جنون أو طعن في السنّ كثيرا بحيث اختلّ فهمه امتنع تقليده ، لوجود المانع. ولو كان قد قلّده مقلّد قبل ذلك بطل حكم تقليده ؛ لأنّ العمل بقوله في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذ ، وقد خرج عن الأهليّة لذلك ، فكان تقليده باطلا بالنسبة إلى مستقبل الزمان (٤) ، انتهى.

أقول : وما أفاده في غاية الجودة ، لإطلاق ما دلّ على اشتراطها في الابتداء. وكذا الكلام في جميع ما يعتبر في الابتداء ، كالإسلام والإيمان والعلم.

__________________

(١) الذكرى ١ : ٤٤.

(٢) الرسالة الجعفرية ( رسائل المحقّق الكركي ) ١ : ٨٠.

(٣) مجمع الفائدة ٧ : ٥٤٧.

(٤) حاشية الشرائع : ٩٩ ـ ١٠٠.

٥١٩

فإنّ زوال أحدها يوجب زوال التقليد وبطلانه. وهو الظاهر ممّن أطلق القول في الشروط المذكورة أيضا.

ويدلّ على ذلك الأخبار الدالّة على اعتبار الإيمان والعدالة ، كرواية الاحتجاج على ما تقدّم الكلام في دلالتها (١) كالرضويّ (٢) الصريح في النهي عن غير الشيعة. ويؤيّده قول الشيخ أبي القاسم في جواب من سأل عن كتب الشلمغاني حيث نقل عن العسكريّ عليه‌السلام أيضا ذلك القول (٣). فإنّ النهي عن الأخذ بما رأوا من غير استفصال بين الابتداء والاستمرار دليل على العموم.

ولا طعن في سند الرواية ، فإنّ « عبد الله الكوفي » يكفي في وثاقته كونه من خدّام الشيخ. ودلالتها أيضا ظاهرة. ولا عبرة باحتمال إرادة النهي عما رأوا من الاعتقاد الفاسد ، فإنّ ذلك خلاف الظاهر ، فإنّه لا يتوهّم وجوب الأخذ بذلك ، فلا يكون موردا للسؤال ، بل الظاهر هو الآراء المنبعثة عن اجتهادهم. ولا يدلّ على جواز التقليد بالنسبة إلى الموتى ، لعدم العلم بموت جميع بني فضّال أو خصوص الشلمغاني حين السؤال ، فتأمّل في المقام.

الثاني : إذا قلّد الشخص في مسألة البقاء والعدول مجتهدا فعمل على مقتضاه ، ثم مات مجتهده ، فإن قلّد مجتهدا آخر يوافق قوله قول الأوّل بقاء وعدولا فلا إشكال ؛ وكذا إذا كان مقتضى التقليد الأوّل البقاء والثاني الرجوع ، فإنّ هذه الواقعة كإحدى الوقائع التي لا بدّ فيها من التقليد ولا بدّ من الرجوع عن

__________________

(١) تقدم في الصفحة : ٤٨٤.

(٢) انظر الوسائل ١٨ : ١٠٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢ ، والظاهر أن الحديث عن الإمام الكاظم عليه‌السلام.

(٣) تقدم في الصفحة : ٤٣٥.

٥٢٠