مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على حلال الدنيا وحرامها وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا ، وبالترفرف والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا. من قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منها عنّا شيئا ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ؛ لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره بجهلهم ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم. وأخرى (١) يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو يذرهم (٢) في نار جهنّم. ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا يتعلّمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجّهون عند شيعتنا وينتقصون بنا عند أعدائنا ثم يضعون أضعافه (٣) من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها فيتقبّله (٤) المستسلمون من شيعتنا على أنّه من علومنا فضلّوا وأضلّوا ، أولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد لعنه الله على الحسين بن عليّ عليهما‌السلام (٥) ، انتهى الحديث الشريف.

__________________

(١) في التفسير : « آخرين ». والظاهر : آخرون.

(٢) في التفسير والاحتجاج : « زادهم ».

(٣) في التفسير والاحتجاج : يضيفون أضعافه وأضعاف أضعافه.

(٤) في المطبوعة فيقبلوا ، وما أثبتناه من التفسير والاحتجاج.

(٥) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٩٩ ، الحديث ١٤٣ ، والاحتجاج ٢ : ٢٦٢.

٤٨١

وجه الدلالة : أنّ الإمام عليه‌السلام حكم بجواز تقليد من كان متّصفا بالصفات المذكورة من الصيانة لنفسه والحفظ لدينه ومخالفة الهوى وإطاعة المولى ، وحيث إنّه عليه‌السلام كان في مقام بيان الصفات التي يدور عليها جواز التقليد ولم يذكر الحياة فيها دلّ ذلك على عدم اعتبار الحياة في المفتي.

ثم إنّ في تقرير الإمام عليه‌السلام للسائل أيضا دلالة على جواز التقليد ، إذ لو لم يكن جائزا كان الوجه في الجواب عدم التزام أصل التقليد من غير حاجة إلى بيان الفرق.

ويؤيّد هذا الحديث ما عن المحاسن في محكيّ البحار قال أبو جعفر عليه‌السلام : وبقول العلماء فاتبعوا (١).

ومنها : ما يستظهر منه جواز الرجوع إلى فتوى الميّت بخصوصه مثل ما سبق (٢) من قول العسكري عليه‌السلام في كتب بني فضّال : « خذوا ما رووا وذروا ما رأوا » فإنّ الأمر بعدم اتّباع ما رأوا لو كان بعد موتهم يشير إلى جواز الأخذ بما يراه غيرهم بعد موتهم ، وإلاّ لم يكن وجه لاختصاصهم بالحكم.

ومثل ما ورد في كتاب يونس بن عبد الرحمن المسمى بـ « يوم وليلة » عن أبي الحسن بعد أن نظر فيه وتصفّحه قال : « هذا ديني ودين آبائي » (٣) وقول أبي جعفر عليه‌السلام : « رحم الله يونس! رحم الله يونس! » (٤).

__________________

(١) البحار ٢ : ٩٨ ، الحديث ٥١ ، وفيه فانتفعوا ، والمحاسن ١ : ٤١٩ ، الحديث ٣٦٣.

(٢) سبق في الصفحة : ٤٣٥.

(٣) الوسائل ١٨ : ٧١ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٥.

(٤) المصدر السابق ، الحديث ٧٤.

٤٨٢

ومنها : جميع الروايات التي تدلّ على عدم تغيّر أحكام الله تعالى بمرور الدهور وبمضيّ الأعوام والشهور ، كقوله عليه‌السلام : « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (١) فإنّ موت المجتهد لو كان مؤثّرا في عدم جواز الأخذ بفتواه كان ذلك موجبا لتحريم ما أحلّ الله وتحليل ما حرّم الله ، وهل هذا إلاّ مضحكة للنسوان وملعبة للصبيان؟!

ومنها : الأخبار الدالّة على أنّ العلماء ورثة الأنبياء (٢) ، وأنّ مدادهم أفضل من دماء الشهداء (٣) ، وأنّ العلماء أفضل من انبياء بني اسرائيل (٤) ... وغير ذلك ، فإنّ عموم المنزلة في الأخير وترجيح المداد على الدماء وكونهم ورثة الأنبياء ينافي سقوط قولهم عن درجة الاعتبار بعد مماتهم ... إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على ترحيم العلماء كقوله : « رحم الله خلفائي » (٥).

فهذه جملة من الأخبار التي تدلّ على التسوية بين الحيّ والميّت في الفتوى. وأنت بعد ما أحطت بما تقدّم في وجه التقريب في هذه الأخبار تقدر على القول بأنّ المناط في هذه الروايات إنّما هو القول الّذي لا ينبغي التشكيك في بقائه ؛ لأنّ ذلك شكّ في أصل وجوده كما في غيره من الأمور الغير القارّة.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٨ ، الحديث ١٩ ، وانظر الوسائل ١٨ : ١٢٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧.

(٢) الكافي ١ : ٣٢ ، الحديث ٢ و ٣٤ ، الحديث الأول ، والوسائل ١٨ : ٥٣ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٣) البحار ٢ : ١٦ ، الحديث ٣٥.

(٤) لم نعثر على هذا المضمون ، نعم جاء في البحار ٢ : ٢٢ ، الحديث ٦٧ « علماء امتي كأنبياء بني إسرائيل » وراجع المستدرك ١٧ : ٣٢ ، الحديث ٣٠.

(٥) البحار ٢ : ٢٥ ، الحديث ٨٣.

٤٨٣

وبعد ذلك فلا فرق قطعا في حالتي الموت والحياة كالرواية. وعلى تقدير الشكّ فلا إشكال في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ الموضوع وهو « القول » غير مرتفع قطعا وإنّما الشكّ في ارتفاع الحكم عن ذلك الموضوع ، فيستصحب الحكم.

وبالجملة ، فالرجوع إلى هذه الإطلاقات على تقدير عدم إجدائه في الحكم الواقعي فهو يجدي في الحكم الظاهري وجريان الاستصحاب.

والجواب :

أمّا عن أخبار الحكومة : فبأنّ بعد تسليم دلالتها على اعتبار الفتوى لا دلالة فيها على جواز الأخذ بقول الميّت ؛ لأنّ ذلك إمّا أن يكون مستفادا من الأولويّة أو بعدم القول بالفصل أو بواسطة التوقّف وعلى التقادير لا إطلاق فيها ، فإنّها كالأدلّة اللبيّة والقدر المتيقّن منها هو في صورة الحياة.

وأمّا عن التوقيع :

فأوّلا نقول : إنّ الظاهر اختصاص الرواية بالرواية كما عساه يظهر من قوله : « إلى رواة أحاديثنا » فإنّ أخذ عنوان الراوي لعلّه يومئ إليه ، والرواية لا بدّ من العمل بها بعد الموت وقبله ؛ مضافا إلى أنّ الظاهر من التعليل هو الاختصاص بالأحياء. والتشبّه لا يجدي ، ضرورة عدم المساواة في جميع الأحكام العقليّة بل الشرعيّة أيضا. وقبول قول الإمام بعد الموت بواسطة العلم بصدقه لدليل العصمة ، وليس من الأحكام الشرعيّة ، كما هو ظاهر.

وثانيا نقول : لا إشكال في أنّ قول الإمام عليه‌السلام : « وأمّا الحوادث الواقعة » ليس كلاما ابتدائيّا في المقام ، بل الظاهر أنّ هذه الفقرة إنّما كانت مذكورة في السؤال ، فحاول الإمام عليه‌السلام جواب جميع الفقرات على وجه التفصيل ، فقال : « وأمّا الحوادث الواقعة » ولا ريب أنّ عموم هذه الفقرة وخصوصها موقوف على العموم

٤٨٤

والخصوص في كلام السائل ، فلو فرضنا أنّ قائلا يقول : « عندي من مال زيد كذا وكذا ، وهل يجب ردّه إلى وارثه ـ مثلا ـ أو لا؟ » فيقال في جوابه : « وأمّا أموال زيد فادفعها إلى وارثه » ـ مثلا ـ لا وجه للأخذ بعموم « الأموال » المستفادة من إضافة الجمع ، لاتّحاد المراد منها في السؤال والجواب. ولا وجه لاستكشاف مراد السؤال من عموم الجواب وخصوصه ، فلعلّ « الحوادث الواقعة » في السؤال عبارة عن قضايا مخصوصة لا ينبغي الحكم بتسرية حكمها إلى غيرها ، فيكون الرواية حينئذ من المجملات.

بل لقائل أن يقول : إن ظاهر حال السائل وهو « إسحاق بن يعقوب » الذي هو من الأجلّة ، كجلالة الواسطة وهو « الشيخ الجليل ابو القاسم بن روح » أحد الأبواب الأربعة : أن لا يكون السؤال عمّا هو الظاهر منها ، فإنّ ذلك ليس أمرا يخفى على مثل السائل والواسطة حتى يحتاج إلى إرسال التوقيع.

وربما يمكن الاستيناس لذلك ببعض فقرات السؤال الواردة في التوقيع كقوله عليه‌السلام : « وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها السحاب عن الأبصار » وقوله عليه‌السلام : « وأمّا ما سألت عنه ـ أرشدك الله وثبّتك ـ من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا ، فاعلم أنّه ليس بين الله وعزّ وجلّ وبين أحد من قرابة ، ومن أنكرني فليس منّي وسبيله سبيل ابن نوح » (١) ... إلى غير ذلك.

وكيف كان ، فلا تطمئنّ النفس بأنّ « إسحاق بن يعقوب » ما كان مطّلعا على أحكام عباداته ومعاملاته حتى احتاج ذلك إلى المكاتبة إلى الحجّة مع شيوع التقليد والفتوى في ذلك الزمان ؛ وذلك ظاهر.

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

٤٨٥

وأمّا عن رواية الاحتجاج : فبأنّه لا ريب في شمول الرواية لأصول الدين ، فإنّ مورد السؤال إنّما هو فيه لو لم نقل باختصاصها بذلك ، كما هو الظاهر منها على ما هو قضيّة الإنصاف ، فلا يجوز حمل التقليد على ما لا يجوز في الأصول لاستلزامه تخصيص المورد ، وهو قبيح في الغاية ، بل لا بدّ من حملها على ما يوجب الاعتقاد ، وهو عند التحقيق ليس تقليدا بل هو اجتهاد. نعم ، مقدّماته حاصلة بواسطة حسن الظنّ بالعالم الذي أفاد متابعته ذلك الاعتقاد ، ولا يتفاوت في مثل ذلك الموت والحياة ، والكلام إنّما هو في التقليد التعبّدي ، وليس بين التقليدين قدر جامع يصحّ استعمال اللفظ فيه على وجه لا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فلا وجه لما يتوهّم : من أنّه يحمل اللفظ على العموم ، وعلى تقديره فليس فيه إطلاق بالنسبة إلى حال الموت ، إذ التفصيل بين الموردين لا بدّ أن يعلم من دليل خارج من هذا الكلام ، كقيام الإجماع على كفاية التقليد التعبّدي في الفروع ؛ ومع ذلك لا وجه للإطلاق ، كما هو ظاهر. ولا يلزم خلاف الظاهر في لفظ « التقليد » فإنّ ذلك من الاصطلاحات المتأخّرة ، كما لا يخفى.

وأمّا عن الأخبار الدالّة على جواز فتوى الميّت.

أمّا عن الرواية الأولى : فبأنّ « الرأي » لا يراد منه الفتوى ، بل يحتمل إرادة ما رواه من مذاهب العامّة. سلّمنا ذلك كما لعلّه الظاهر ، لكنّه لا يدلّ على جواز الأخذ بفتاويهم بعد موتهم ، إذ لم يدلّ دليل على انقطاعهم في ذلك الزمان.

وأمّا عن الأخيرتين : فعدم دلالتهما على المطلوب أوضح ، إذ ترحيم يونس لا دلالة فيه على ما نحن فيه بوجه. نعم ، لو علم أنّ المكتوب في الكتاب إنّما كان من فتوى يونس وكان المقصود من عرضه على الإمام استعلام جواز العمل به كان ذلك دليلا. وأمّا قوله « هذا ديني ودين آبائي » أيضا ممّا لا دلالة فيه على المدّعى كما هو غير خفيّ.

٤٨٦

وأمّا عن الروايات الدالّة على عدم تغيّر الأحكام ـ بعد أنّ الأولى الإعراض عن مثل هذه الاستدلالات الواهية ـ : أنّ التمسّك بأمثال هذه الروايات إنّما يتمّ إذا كان الشكّ في رفع الحكم الشرعي في موضوع ثبت فيه. وأمّا إذا كان الشكّ في ثبوت الحكم الشرعي في موضوع فالتمسّك بها يكون مضحكة للنسوان وملعبة للصبيان! وهو ظاهر ، وإلاّ فاللازم أن يكون جميع الأمور المغيّرة لأوصاف الموضوعات التي بها تبدل حكمها محلّلا للحرام وبالعكس ، وذلك ظاهر جدّا.

وأمّا عن أخبار المنزلة والتفضيل : فإنّ الظاهر منها أنّها واردة في مقام بيان الفضيلة وذكر علوّ درجاتهم ورفع مراتبهم ولا دخل لها بحجّية أقوالهم حتى يقال : بأنّ التنزيل يوجب الأخذ بأقوالهم بعد الموت أيضا.

ولعمري! أنّ أمثال هذه الاستدلالات توجب الوهن في الاعتماد على التمسّك بها ، فالأولى الإعراض عنها.

وأمّا دعوى معلوميّة المناط من هذه الأخبار ، فقد عرفت فسادها ، إذ لم يدلّ شيء منها على أصل التقليد ، فكيف يمكن تنقيح المناط منها؟ كدعوى تشخيص موضوع الحكم لترتيب الأحكام الظاهريّة ، فإنّ الظاهر أنّ ذلك ممّا لا يمكن الوصول إليه ، فإنّ دونه خرط القتاد!

وأمّا الإجماع :

فالمنقول منه لم نقف عليه. وأمّا المحقّق فيمكن استعلامه من أمور :

منها : الاعتداد بأقوال العلماء في الإجماع ولو كان بعد موتهم ، وذلك دليل على عدم سقوطها عن درجة الاعتبار عند العلماء ، وذلك أمر معلوم لمن راجع الكتب الفقهيّة وغيرها.

٤٨٧

ومنها : حرص العلماء على ضبط أقوالهم ومصنّفاتهم ، كما يظهر ذلك من تدوين الكتب وتسطير الأساطير. ويؤيّده أنّ ذلك طريقة السلف والخلف حتى أنّ في بعض الأخبار حثّ على ذلك (١).

ومنها : متابعة بعضهم في المطالب للآخر في الاستدلال والفتوى ، وهو أمر معلوم ، كما يظهر من قولهم : « وتبعه في ذلك غيره » وأمثال ذلك. ونقل بعضهم (٢) أنّ جماعة ممّن تأخّر عن الشيخ كانوا يقلّدونه إلى أن بدا للحلّي الاعتراض على الشيخ في مطالبه ، ففتح باب الاجتهاد بعد ذلك.

ومنها : أنّ المحمدين الثلاث انتزعوا هذه الجوامع العظام من الأصول الأربعمائة وغيرها من الكتب ، ولم يستوفوا ما جاء في كلّ مسألة ولا ذكروه على نحو ما جاء ، بل كانوا إذا أرادوا الاستدلال على مسألة عمدوا إلى بعض ما جاء فيها وبعض ما يعارضه ممّا كان أخصر طريقا ، فذكروه وتركوا ما عدا ذلك قائما على أصوله وإن كان صحيح الإسناد. ومن تتبّع ما بقي من الأصول كالمحاسن عرف صحّة ذلك ، فإنّا وجدناه إذا عنون بابا من الأبواب وذكر فيه مثلا نحوا من عشرين خبرا وكان أكثرها من الصحاح عمد الكليني والشيخ إليها وانتزعوا بعضها وتركوا الباقي مع صحّتها محافظة على الاختصار ، ولو نقلوها برمّتها ، ربما فهموا منها غير ما عقلوه ، وربما عمدوا على الخبر الطويل يشمل على مسائل شتّى من أبواب متفرّقة فقطّعوه ووضعوا كلّ قطعة في الأبواب التي يناسبها ، وربما أرسلوا ما هو مسند اختصارا كما يقع كثيرا ، ومن هنا جاء الإضمار والقطع والإرسال وأنواع الاختلال ، فكان ما صنعوه من أقوى أنواع الاجتهاد ، ومع ذلك فعلماؤنا

__________________

(١) انظر البحار ٢ : ١٤٤ ، باب فضل كتابة الحديث وروايته.

(٢) انظر لؤلؤة البحرين : ٢٧٦ ، الرقم ٩٧.

٤٨٨

قبلوا رواياتهم وعملوا بها واعتمدوا عليها وسكتوا عن الفحص عن الأصول القديمة والكتب السالفة ، وذلك من أعظم أنواع تقليد الأموات ، ولم نقف على أحد من أرباب العلم أنكر عليهم ، وذلك إجماع منهم على جوازه.

ومنها : اتّفاق المتأخّرين من أصحابنا على الاعتماد بالجرح والتعديل من علماء الرجال من دون فحص عن السبب ، وكم من أمر يكون سببا للوثاقة أو الجرح ولا يكون عند غيره. وإن شئت فانظر إلى « محمّد بن سنان » فإنّه اشتهر عندهم بالضعف ونقل السيّد الجليل ابن طاوس عن المفيد توثيقه (١) ؛ لأنّ السادة الأطهار عليهم‌السلام خصّوه بغرائب الأسرار التي لم يطلعوا عليها غيره. وإلى « عمر بن حنظلة » فإنّه لم يوثّق حتى وصلت النوبة إلى الشهيد ، فقال : « إنّي تحقّقت توثيقه من محلّ آخر » (٢) وبعد التفتيش علم أنّ الشهيد رحمه‌الله إنّما استفاد توثيقه من رواية ضعيفة قاصرة السند حيث سأله رجل أنّ عمر بن حنظلة قد أتانا ، فقال عليه‌السلام : « إذن لا يكذب علينا » (٣) وذلك دليل على أنّ تقليد الأموات من شعار المجتهدين أيضا فكيف بالمقلّدين؟ إلى غير ذلك ممّا يفيد إطباقهم على الأخذ بأقوال الأموات.

والجواب : أنّ دعوى الإجماع على هذه المسألة التي قد نقل غير واحد من الأساطين المهرة عدم (٤) الخلاف فيها ليس إلاّ اجتراء على الله وافتراء على أمنائه فعهدتها على مدّعيها.

__________________

(١) فلاح السائل : ١٢.

(٢) الرعاية : ١٣١.

(٣) الوسائل ١٨ : ٥٩ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٠.

(٤) كذا ، والظاهر أنّ كلمة « عدم » زائدة.

٤٨٩

وأمّا الأمور التي يقفها (١) المدّعي فهي ممّا لا يزيح علّته ولا ينفع في غلّة (٢) وإنّما هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، فإذا قربت منها تراها موقدة لنار الغلّة ومزيدة للداء والعلّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الإجماع على طريقة الحدس غير متوقّف على الاجتماع ، وعلى طريقة اللطف والبرهان فهو موقوف على الاجتماع ، إمّا في عصر واحد ، فلا حاجة أيضا إلى الاتّفاق في جميع الأعصار ، وإمّا في جميع الأعصار ، فلا بدّ من عدم الخلاف في جميعها لصدق الاجتماع. وذلك إنّما هو لأجل تحصيل الاتّفاق ولا ربط له بشيء من التقليد ، وذلك ظاهر لمن له عين البصارة فضلا من البصيرة.

وأمّا الثاني : فلأنّ فائدة تدوين الكتب لا تنحصر في التقليد بل منها يعرف مواقع الإجماع وكيفيّات الاستنباطات وأطوار الاستدلالات وأنواع الاستخراجات من الأدلّة وإشارات الأخبار والالتفات إلى الأسرار. نعم من لم يذق حلاوة التحقيق وما شمّ من رائحة التدقيق يعتقد أنّ مثل هؤلاء الأجلّة الذين لهم القدح المعلّى من قداح الفضل كان بعضهم يقلّد بعضا ، وإنّما هو قياس غير جائز ؛ ولنعم ما قيل : « كار پاكان را قياس از خود مگير » كيف! وهم صرّحوا في كتبهم الأصوليّة والفروعيّة بعدم جواز التقليد على ما عرفت فيما تقدم.

وأمّا الثالث : فلأنّ الموافقة في الرأي والدليل ليس تقليدا. وأمّا قولهم : « وتبعه في ذلك غيره » فلا دلالة فيه على التقليد كما لا يظنّ ذلك ذو مسكة ، بل المراد أنّه وافقه في ذلك ولفظة « المتابعة » إنّما هو بواسطة تقدّم زمانيّ بينهما ،

__________________

(١) كذا ولعلها : « يقولها ».

(٢) الغلّ : شدّة العطش.

٤٩٠

وأين ذلك من التقليد؟ ومن هذا القبيل حال اتّباع الشيخ والسيّد وغيرهما. ولعمري! إنّها حكاية معجبة مضحكة ، كيف زعموا في حقّ الفحول؟

وأمّا الرابع والخامس : فلأنّ الاعتماد على الروايات المنقولة أو الجرح والتعديل ليس تقليدا كما هو ظاهر.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاعتماد على النقل فيما لا يظهر لنا خلافه من العدل والثقة لا ارتباط له بالتقليد. وأمّا احتمال الإرسال والقطع والإضمار وغيرها ممّا لا يعقل مدخليّته فيما نحن بصدده ، كما ذكره المستدلّ.

وأمّا الثاني : فقد أشرنا في الاعتراض على الفاضل التوني ـ حيث حاول نقض دليل المحقّق الثاني ـ إليه.

وتوضيحه : أنّ الاعتماد على الجرح والتعديل إمّا أن يكون وجه التوهّم فيه : أنّه اعتماد على اعتقاد المعدّل والجارح (١) فيما يصير سببا لهما عنده ، فلو اعتقد أحد خمريّة مائع وشرب بقصد أنّه الخمر يحكم بفسقه بحسب اعتقاده أو اعتقد حرمة الماء فشربه فإنّه يحكم بفسقه ، وذلك اعتماد على اعتقاده بعد موته ، وهو يوجب تقليد الأموات بل ولو كانوا فسّاقا ، وهل هذا إلاّ عار وشنار! وإمّا أن يكون وجه التوهّم فيه : أنّه اعتماد على الشهادة بعد موته ، مع أنّ الموت لو كان مسقطا لقوله لم يكن وجه لاعتبار الشهادة. وإمّا أن يكون وجه التوهّم : أنّ العدالة والفسق موقوفتان على مسائل اجتهاديّة كعدد الكبائر أو معناها ومعنى العدالة ، وكلّ ذلك من الأمور المختلف فيها ، وذلك معلوم قطعا ، فتارة يكون واحد عند بعضهم فاسقا بواسطة ارتكابه ما هو كبيرة عنده دون غيره ، وتارة يكون عدلا بواسطة اعتقاده أنّ العدالة عبارة عن حسن الظاهر ، إلى غير ذلك. فالاعتماد على

__________________

(١) في المطبوعة : « المجروح ». وهو سهو.

٤٩١

الجرح والتعديل من هؤلاء المختلفين في المسألة يوجب تقليدهم فيما اعتقدوا ، بل ويوجب ذلك مع عدم علمهم بفتواهم وأنت خبير بأنّ شيئا من ذلك ممّا لا يقبل التفوّه به.

أمّا الأوّل : فلأنّ مداره ليس على الواقع وإنّما هو منوط باعتقاده ، وما يحكم به من الأمور المترتّبة على ذلك ليس مربوطا بالتقليد كما لا يكاد يخفى على أوائل العقول.

وأمّا الثاني : فلأنّ المناط في الشهادة هو القول الموجود بعد الموت أيضا ، إذ حدوثه يكفي عن بقائه في الأزمنة المتأخّرة.

وأمّا الثالث : فهو مبنيّ على حمل العبارة الواقعة من المعدّل والجارح على الواقع ، أو على معتقده. فعلى الأوّل يعتمد عليه من هذه الجهة ، وعلى الثاني فالموافق له في الاعتقاد ربما يوافقه والمخالف له لا يوافقه ، ولعل إطباقهم على عدم الفحص عن حال المعدّل ورأيه إنّما هو دليل على حمل العبارة الواقعة في مقام التعديل والجرح على الواقع ، فلا وجه لحسبان أمثال ذلك دليلا على المطلوب. على أنّ ذلك يوجب التعويل على قول الفاسق على الأوّل كما أشرنا إليه ، والاعتماد على ما ليس معلوما على الثاني ، وهل هذا إلاّ بهت؟

وأمّا استفادة التوثيق من الأمور الاجتهاديّة فلا نسلّم أنّهم يعوّلون عليه من دون مراجعة إلى ما هو السبب في ذلك بعد علمهم بأنّ التوثيق إنّما نشأ من الاجتهاد ، كما يظهر من حال « عمر بن حنظلة » فإنّ جماعة من الأصحاب (١) أنكروا على الشهيد في توثيقه المستفاد من الخبر ، ونحن أيضا قد اعتمدنا على ما ذهب إليه الشهيد ، لاعتقاد الدلالة في الرواية.

__________________

(١) انظر منتقى الجمان ١ : ١٩ ، ومنتهى المقال ٥ : ١٢٨ ـ ١٢٩.

٤٩٢

ثمّ إنّه بقي الكلام فيما ذكره الشريف الجزائري في « منبع الحياة » : من أنّ كتب الفقه شرح لكتب الحديث ، كما ذكرناه في صدر الباب (١). ولقد أجاد المولى البهبهاني في فوائده فيما أورد عليه بقوله : أوّلا ما تقول لو لم يكن كتب الفقه موجودة أو كانت موجودة لكن لم يوجد من يفهم كتبهم ، إذ فهم كتبهم على وجه الصحّة والإصابة لا يتحقّق للفضلاء فضلا عن العوامّ ؛ على أنّ الذي يفهمها لا يكاده أن يعثر على خلافاتهم ، مثل أنّ الماء القليل ينجس بالملاقاة وأنّ الكرّ ما ذا ... وهكذا إلى آخر كتبهم ، إذ لا يكاد يتحقّق مسألة وفاقيّة لا تكون من ضروري الدين أو ضروريّ المذهب ، والضروريّ لا تقليد فيه. أو تكون من غير الضروريّ لكن تنفع المقلّد من حيث عدم ارتباطها في مقام العمل بالمسائل الخلافيّة ، إذ جلّها لا يتمّ العمل إلاّ بضميمة الخلافيّات. مع أنّ الأخباريّين يمنعون عن العمل بفتاوى المجتهدين مطلقا والمجتهدون بالعكس. وأيضا ما يقولون في الوقائع الخاصّة والحوادث الجزئيّة التي ليست مذكورة في كتب الفقهاء بخصوصها؟ وغالب ما يحتاج الناس إليه من هذا القبيل ولا يستنبط من الكتب ، أو يستنبط لكن لا يقدر على استنباطه كلّ أحد ، بل ربما لا يقدر على استنباطه سوى المجتهد ، سيّما إذا تعلّق الواقعة بالوقائع المشكلة مثل القصر والإتمام والرضاع ، وغير ذلك من المعضلات. وأيضا العدالة مثلا يحتاج إليها في غالب الأحوال في المعاملات والعبادات والإيقاعات ، فلو لم يكن [ العادل ] موجودا أو لم يكن ممّن يعرف العدالة بأنّها هي الملكة أو عدم ظهور الفسق وأنّها هل تتحقّق باجتناب

__________________

(١) لا توجد الرسالة عندنا ولكن حكاه السيد الصدر في شرح الوافية : ٤٧٢ كما سلف الاشارة إليه في الصفحة : ٤٣٤.

٤٩٣

الكبائر أو الصغائر أيضا وأنّ من الكبائر الإصرار بالصغائر وأنّ الاصرار بما ذا يتحقّق؟ وأنّه هل يعتبر فيه اجتناب المنافيات للمروّة أم لا؟ وعلى تقديره فأيّ شيء هي؟ وأنّه لا بدّ من المعاشرة الباطنيّة أو تكفي الظاهريّة. وبالجملة ، لو لم يكن العادل أو من يعرف العدالة أو العادل ما ذا يصنعون؟ وهذه هي الشبهة المذكورة في لسان العامّة : « حسبنا الروايات والاجتهادات » (١).

وأطال رحمه‌الله في النقض والإبرام عليهم. وما أفاده وإن لم يكن خاليا عن النظر كما لا يخفى على من أمعن فيها (٢) ، إلاّ أنّ فيه الجواب أيضا ، فتدبّر.

وقد يستدلّ على الجواز بالعسر والحرج ، وستعرف الكلام فيه.

__________________

(١) الرسائل الفقهية : ٢٤ ـ ٢٦.

(٢) كذا ، والمناسب : « فيه ».

٤٩٤

هداية

قد عرفت نسبة التفصيل إلى الفاضل التوني. ولا بأس بنقل كلامه ليتّضح مرامه ، قال بعد المنع عن عموم النهي عن التقليد واختصاصه بالأصول ، والمنع من انعقاد الإجماع في جواز التقليد (١) بزعم أنّها مسألة غير معهودة من أيّام الأئمة عليهم‌السلام ، والتمسّك بإطلاق الأخبار الخاصّة ، واندفاع العسر والحرج الموجبين للتقليد بمتابعة الميّت أيضا : والّذي يختلج في الخاطر في هذه المسألة : أنّ من علم من حاله أنّه لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأدلّة ومدلولاتها الصريحة ـ كابني بابويه وغيرهما من القدماء ـ يجوز تقليده حيّا كان أو ميّتا ، ولا يتفاوت حياته وموته في فتاويه. وأمّا من لا يعلم من حاله ذلك كمن يعمل باللوازم الغير البيّنة والأفراد والجزئيّات الغير البيّنة الاندراج فيشكل تقليده حيّا كان أو ميّتا ، فإنّ من تتبّع وظهر عليه كثرة اختلاف الفقهاء في الأحكام يعلم أنّ قليل الغلط في هذه الأحكام قليل ، مع أنّ شرط صحّة التقليد ندرة الغلط.

والسرّ فيه : أنّ مقدّمات هذه الأحكام لمّا لم يوجد فيها نصّ صريح كثيرا ما يشتبه فيها الظنّ بالقطعيّ. وربما يشتبه الحال فيتوهّم جواز الاعتماد على مطلق الظنّ فيها فيكثر فيها الاختلاف ، ولهذا قلّما يوجد في مقدّمات هذا القسم مقدّمة غير قابلة للمنع ، بل مقدّمة لم يذهب أحد إلى منعها وبطلانها. بخلاف الاختلاف الواقع في القسم الأوّل ، فإنّه يرجع إلى اختلاف الأخبار.

__________________

(١) الصحيح : « المنع من انعقاد الاجماع على منع تقليد الميت ... » ، كما في الوافية : ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

٤٩٥

فإن قلت : فعلى هذا يبطل جواز اعتماد المجتهد في هذا القسم الثاني.

قلت : لا يلزم ذلك ؛ لأنّه إذا حصل له الجزم باللزوم والفرديّة يحصل له الجزم بالحكم الشرعيّ ومخالفة الحكم المقطوع به غير معقول ، فتأمّل.

قال : إذا عرفت هذا ، فالأولى والأحوط للمقلّد المتمكّن من فهم العبارات أن لا يعتمد على فتوى القسم الثاني من الفقهاء إلاّ بعد العرض على الأحاديث ، بل لو عكس أيضا كان أحوط (١) ، انتهى.

أقول : أمّا منع عموم النهي عن التقليد واتّباع غير العلم فهو ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، كيف! وذلك من الأمور الضرورية وقد دلّ على حرمته الأدلّة الأربعة.

فيكفي من الكتاب قوله تعالى ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ )(٢) ولا سبيل لتوهّم الاختصاص فيه حيث إنّ الإنكار على مجرّد عدم الإذن كما هو ظاهر.

ومن السنّة رواية القضاة أربعة (٣).

ومن الإجماع ما حكاه الوحيد البهبهاني من ضرورة صبيان الإماميّة ونسائهم على عدم الجواز (٤).

وأمّا العقل ، فلا ريب أنّ في ذلك تقوّلا على الله العليم ، وهو ظلم في

__________________

(١) الوافية : ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٢) يونس : ٥٩.

(٣) الوسائل ١٨ : ١١ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦.

(٤) لم نعثر عليه بعينه ، نعم قال في الرسائل الاصولية : ١٢ ، إنّ الأصل عدم حجيّة الظن وهو محلّ اتفاق جميع أرباب المعقول والمنقول.

٤٩٦

حقّه تعالى المحرّم عقلا ؛ مضافا إلى قوله تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ )(١) ومرّ ذلك مفصّلا على وجه لا مزيد عليه في مباحث الظنّ.

مع أنّ دعوى اختصاص تلك النواهي يوجب هدم أساس الأخباريّين ( فإنّهم ) هم الذين يعتمدون على هذه العمومات عند إثبات كلّ مجهول ولو كان بينهما بعد المشرقين! كما هو ظاهر على من تدبّر كلماتهم في مطاويها.

وأفسد من ذلك ما قاله المحقّق القمي رحمه‌الله : من أنّ الاستدلال بعمومات حرمة العمل بالظنّ استدلال بالظنّ ، فمعنى قولنا : الأصل حرمة العمل بالظنّ إلاّ ظنّ المجتهد وإلاّ تقليد المجتهد الحيّ معناه أنّا نظنّ حرمة العمل بالظنّ ، فإذا حصل الظنّ للمقلّد بأنّ ما قاله الميّت هو حكم الله فكيف يقول : إنّي أظنّ أنّه ليس حكم الله (٢)؟

فإنّ بعد الغضّ عمّا زعمه من أنّ ظواهر الكتاب غير معلوم جواز العمل بها إلاّ من حيث اندراجها تحت مطلق الظنّ ـ فإنّ ذلك قد فرغنا عن إبطاله في مباحث الظنّ ـ أنّ دليل ذلك الأصل لا ينحصر في الكتاب في آية منها ، بل وذلك يستفاد من الكتاب علما بواسطة تعاضد الظواهر ، بل الأخبار في ذلك متواترة حتى أنّ بعض المتأخّرين (٣) قد تصدّى بجمعها. وقيل : إنّها خمسمائة رواية (٤) ، والضرورة الدينيّة أيضا قد ادّعوها كالضرورة العقليّة. مع أنّ كلامه يناقض

__________________

(١) الحاقّة : ٤٤ ـ ٤٦.

(٢) انظر القوانين ٢ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

(٣ و ٤) لم نعثر عليه.

٤٩٧

ما أفاده في بعض إفاداته : من أنّه لا منافاة بين حصول الظنّ مع الظنّ بعدم جواز العمل به ، فلا منافاة بين حصول الظنّ من قول الميّت مع الظنّ بعدم جواز العمل بهذا الظنّ (١) كما عرفت فيما أفاده في الجواب عن الإجماع المنقول على عدم الجواز.

وأمّا المنع من انعقاد الإجماع على جواز التقليد فهو ممّا لا يسمع منه بعد ما ترى من إطباق الخلف والسلف على ذلك على وجه لا يستراب فيه المنصف.

وأمّا عدم تداولها بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام فهو أفسد من سابقه ، لما اعترف به من إطلاق الأمر بالرجوع إلى أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام وإن كان دعوى الإطلاق فيها بعيدا عن الإنصاف ، لظهورها في الحياة كما عرفت. فقوله (٢) : « لكن تخصيص الحي وإخراج الميّت يحتاج إلى دليل » مدخول : بأنّ ذلك على تقدير الإطلاق وليس في الأدلّة الخاصّة والعامّة بأسرها دلالة على التقليد التعبّدي فكيف بإطلاقها للميّت؟

وأمّا ما أفاده من التفصيل ، فهو ذهاب إلى ما ذهب إليه الظاهريّون ورجوع عمّا أسّسه العلماء الإلهيّون وهدم لبنيان الاجتهاد والفتوى ، كما نبّهنا عليه في أوّل المسألة ؛ مضافا إلى أنّ الحكم بقلّة الغلط في القسم الأوّل وكثرته في القسم الثاني غلط خارج عن حدّ الإنصاف ، فهل ترى أنّ مثل المفيد والشيخ وغيرهما من أصحاب القسم الثاني أكثر خطأ عن غيرهم من أصحاب القسم الأوّل على ما زعمه! والحكم بذلك إنّما هو رجم بالغيب.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) أي قول الفاضل التوني في الوافية : ٣٠٦.

٤٩٨

وأمّا اشتباه الظنّي بالقطعيّ وتوهّم الاعتماد على مطلق الظنّ وغير ذلك ، فهو ممّا ليس بضائر فيما نحن بصدده بعد ثبوت مشروعيّة التقليد بالضرورة ؛ مع أنّ باب الاشتباه غير منسدّ على القسم الأوّل ، فإنّ المستدلّ يعدّ نفسه منهم مع ما ترى في كلماته من الاشتباه ما لا يوجد في كلام غيره كما لا يخفى.

وأمّا قوله : « فالأولى والأحوط » (١) فهو يشعر بجواز تقليد غير القسم الأوّل أيضا. ولا وجه له بعد زعمه كثرة الخطأ في القسم الثاني ، فإنّ النادر عند العقل كالمعدوم ؛ مضافا إلى أنّ المتمكّن من فهم الخطابات كيف يعتمد على عرضه حتّى يأخذ بالموافق ويرفض المخالف؟ مع جواز أن يكون الخبر الموافق مقرونا في الواقع بمعارض أقوى أو مقيّد أو مخصّص ؛ مضافا إلى أنّه يجوز عنده أن يكون الموافق قد رفضه الأصحاب المطّلعون على دقائق أسرار الشريعة الذين وصل إليهم الأحكام الشرعيّة بواسطة العدول والثقات يدا بيد ، فإنّ علومهم مأخوذة من أفواه هؤلاء الرجال. أو يكون ذلك المعروض عليه مخالفا لما عليه الإماميّة ، إذ ليس ذلك أمرا عزيزا في أخبارنا كما هو ظاهر ، فلا خير في موافقته ، كما أنّه لا ضير في مخالفته ، إذ مع عدم سدّ هذه الاحتمالات لا يجوز الاعتماد ، ومع السدّ لا حاجة إلى ملاحظة الخبر ، إذ لا وجه للسدّ إلاّ بالقول برجوعه إلى المجتهد من دون ملاحظة دليل الواقع.

وبالجملة : أنّ ملاحظة العامّي ـ يعني الغير القادر على استنباط المسائل من المدارك ـ وجودها كعدمها. ولعلّ ذلك قول بوجوب الاجتهاد علينا ، إذ بدونه لا ينفع ما ذكره ، ثم إنّه إذا لم نجد موافقا أو مخالفا فما ذا نصنع؟

فإن قلت : لا بدّ من الرجوع إلى المفتي.

__________________

(١) الوافية : ٣٠٨.

٤٩٩

قلت : ما الّذي دلّ على جواز رجوعه؟

فإن قلت : أدلّة التقليد من الإجماع والضرورة.

قلت : ذلك آت عند الوجود أيضا.

وإن قلت : إنّه لا يرجع إلى المفتي بل هو يعمل بما يريد.

قلت : ذلك خروج عن طاعة الله ورجوع إلى طاعة الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به.

ثم إنّ قوله : بل « لو عكس كان أحوط » (١) ، فإن أراد منه تقديم الملاحظة وتأخيرها في الأخبار فهو ممّا لا يؤثّر فيما حكم به من الاحتياط ، وهو ظاهر. وإن أراد به أن يرجع إلى الأخبار أوّلا فما وجده صريحا أخذ به وما أشكل عليه رجع إلى فتاوى العلماء ـ لما زعمه الشريف الجزائري (٢) : من أنّ كتب الفقه شرح لكتب الأخبار ـ فهو يجدي فيما لو فرض المقلّد صاحب الاقتدار على الاستنباط في تلك الأخبار الصريحة ، وإلاّ فالإشكال أيضا باق بحاله.

بقي الكلام فيما ذكره (٣) : من أنّ العسر كما يندفع بالرجوع إلى الأحياء كذلك يندفع بالرجوع إلى الأموات. وهو ناظر إلى ما أفاده في المعالم (٤) : من أنّ التقليد إنّما ساغ للإجماع المنقول والعسر والحرج بتكليف الخلق بالاجتهاد. وكلاهما لا يصلح دليلا في موضع النزاع ، لصراحة الأوّل في الاختصاص بتقليد الأحياء ، والعسر والحرج يندفعان بتقليد الأحياء.

__________________

(١) الوافية : ٣٠٨.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٤٣٤.

(٣) ذكره الفاضل التوني في الوافية : ٣٠٦.

(٤) المعالم : ٢٤٣.

٥٠٠