مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

وإمّا أن يقال : بأنّ اللازم هو الأخذ بالأقرب إلى الواقع وهو المدّعى ، وأمّا التخيير بين الظنّين عند الأقربيّة فممّا لا وجه له ، إذا العقل يحكم بالأخذ بأقوى الظنّين بالبديهة عند التعارض.

فإن قيل : إنّ الإجماع في المسألة الأصوليّة بعيد التحقّق ، فلا يحصل الظنّ من منقوله ، سيّما إذا لم يكن المسألة معنونة في زمان الأئمّة.

قلت : لا ريب في إمكان تحقّق الإجماع في الأحكام الشرعيّة أصوليّة كانت أو فروعيّة ، فإنّ كثيرا من المسائل الأصوليّة إجماعيّة ، مع أنّك قد عرفت أنّ المسألة فرعيّة لوجود المناط فيها وهو انتفاع المقلّد منها فيما لو كانت معلومة. وأمّا عدم تداول المسألة في زمان الأئمّة فستعرف أنّ كثيرا من المجوّزين إنّما استندوا في إثبات مقصودهم إلى السيرة المستمرّة في زمان الأئمة ، ونحن عند الإيراد على هذه الحجّة نبرهن على أنّ هذه المسألة ممّا كانت متداولة في زمن الأئمة عليهم‌السلام.

الثاني : من وجوه تقرير العقل : ما أفاده السيّد الجزائري في محكيّ منبع الحياة (١) وهو : أنّ قضيّة المنع صحّة إحدى صلاتي المقلّد وبطلان الأخرى إذا مات المجتهد بين الصلاتين ، ولازم هذا أن يكون شريكا للشارع في الأحكام الشرعيّة. وهذا لا ينطبق على أصولنا ؛ لأنّ علماءنا يحكون كلام الشارع ويعملون به ، فلا تفاوت في اتّباع أقوالهم بين حياتهم وموتهم ، وإنّما يناسب هذا لو كان صادرا من رأيه كما كان الكوفي كذلك ، حيث قال في مسجد الكوفة : قال علي عليه‌السلام كذا ، وأنا أقول كذا.

__________________

(١) حكاه السيد الصدر في شرح الوافية : ٤٧٢.

٤٦١

والجواب عنه من وجهين :

الأوّل : النقض بحال الحياة فيما لو عرض للمجتهد الفسق أو الجنون أو الكفر أو تغيير الرأي إلى غير ذلك من أسباب العدول.

والثاني : الحلّ بأنّ هذا الكلام مبنيّ على أن يكون الفتوى هي الرواية المنقولة بالمعنى ، وقد قرّرنا الفرق بينهما ، ولذلك لا يجوز التقليد فيما طرأ الفسق بعد الفتوى مع جواز الأخذ بروايته حال العدالة كالأخذ بها حال الإفاقة فيما لو جنّ ، فالمجتهد تارة يكون أهلا لأن يطاع وتارة لا يكون ، وليس ذلك شراكة للشارع ، فإنّ هذه أحكام مأخوذة منه.

نعم ، من لا يبالي بالطعن على العلماء الصالحين ـ الّذين ينبغي أن يقال في حقّهم : لو لا هؤلاء لانطمست آثار الشريعة ـ والتعريض عليهم بما عرفت في ذيل كلام لا يبعد في حقّه دعوى اشتراكه للشارع. أترى أنّ الإمام عليه‌السلام يرضى بمقايسة حال مثل الشهيدين والمحقّقين وغيرهما من العلماء العاملين والفضلاء الكاملين بحال الكوفي ، حاشاهم! ثم حاشاهم!

الثالث : الاستصحاب وتقريره من وجوه ، فإنّه تارة يراد انسحاب الحكم المستفتى فيه ، وأخرى يراد انسحاب حكم المستفتي ، وثالثة يراد انسحاب حكم المفتي.

فعلى الأخير يقال : إنّ المجتهد الفلاني كان ممّن يجوز الأخذ بفتواه والعمل مطابقا لأقواله وقد شكّ بعد الموت أنّه هل يجوز اتّباع أقواله أو لا فيستصحب كما أنّه يستصحب ذلك عند تغيّر حالاته من المرض والصحّة والشباب والشيب ونحوها.

وعلى الثاني يقال : إنّ للمقلّد الفلاني كان الأخذ بفتوى المجتهد الفلاني حال الحياة وبعد الموت نشك فيه ، فنستصحب الجواز المعلوم في السابق.

٤٦٢

وعلى الأوّل يقال : إنّ هذه الواقعة كان حكمها الوجوب بفتوى المجتهد الفلاني ونشكّ في ذلك فنستصحب ... إلى غير ذلك من وجوه تقريراته ، فإنّه يمكن أن يقال : المكتوب في الرسالة الفلانيّة كان جائز العمل ، فنستصحب جواز العمل به بعد الموت.

والجواب عن هذه الوجوه في الاستصحاب يحتاج إلى تمهيد ، وهو : أنّه قد قرّرنا في مباحث الاستصحاب : أنّ جريانه موقوف على بقاء الموضوع على وجه اليقين ، إذ بدون العلم ببقاء الموضوع ليس من النقض من الموارد المنهيّ عنها في قوله : « لا تنقض » فإنّ عدم ترتيب أحكام « زيد » على ما لا يعلم أنّه « زيد » لا يعدّ من النقض في أحكامه بوجه ، فالقضيّة المعلومة في مورد الاستصحاب لا بدّ وأن تكون متّحدة مع القضيّة المعكوسة موضوعا ومحمولا حتّى يمكن انسحاب أحكام الموضوع من المحمول ونحوه في الزمان الثاني. وليس المراد بالموضوع مسندا إليه وموضوعا لتلك القضيّة ، بل المراد كلّ ما يمكن أن يجعل مبتدأ في العبارة ، إذ المناط من عدم صدق النقض عند عدم العلم بوجود ذلك مشترك في الكلّ. وهذا المعنى هو الداعي لأمين الأخباريّة حيث أنكر حجّية الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة (١) فالتمسّك بالاستصحاب من بعض الأخباريّين من دون ملاحظة وجود المناط فيه إنّما هو خيانة منه للأمين. ونحن وإن قلنا بعدم استقامة ما ذكره على وجه الكلّية لجريانه على الوجه المذكور في الأحكام فيما إذا كان الشكّ في الرافع ـ كما أوضحنا سبيل ذلك في مباحث الاستصحاب ـ إلاّ أنّ إحراز ما ذكرنا من المناط من اتّحاد القضيّتين ممّا لا مناص عنه في صدق الأخبار الدالّة على الاستصحاب.

__________________

(١) انظر الفوائد المدنيّة : ١٧ و ١٤١.

٤٦٣

وبالجملة ، فكما أنّ العلم باختلاف الموضوع يضرّ في جريان الاستصحاب ، كذا عدم العلم بوجوده أيضا يضرّ في جريانه ، إذ كما أنّ نفي الوجوب عن غير الصلاة مثلا ليس نقضا لوجوب الصلاة ، فكذلك نفي الوجوب عمّا لا يعلم أنّه صلاة أيضا ليس نقضا ، ولعلّه ظاهر.

وإذ قد عرفت هذه المقدّمة نقول : إنّ هذه الوجوه متقاربة جدّا ، كما لا يخفى على من أمعن النظر فيها. وجريان هذه الاستصحابات موقوفة على العلم ببقاء الموضوع ، ونحن لو لم ندّع العلم بارتفاع الموضوع في هذه الاستصحابات نظرا إلى أنّ المناط هو الظنّ وهو مرتفع بعد الموت ، فلا أقلّ إمّا من الشكّ في بقائه أو ارتفاعه على تقدير تسليم كون الموضوع هو الظنّ ، وإمّا من الشكّ في تعيين الموضوع ، وعلى التقديرين لا مسرح للاستصحاب.

فإن قلت : لا نسلّم أنّ الظنّ هو الموضوع حتّى يمكن القول بعدم العلم ببقائه بعد الموت مع أنّه غير مسلّم أيضا ، بل الموضوع هو القول الذي لا يعقل فيه القول بالارتفاع والبقاء ، ضرورة أنّه من الأمور الغير القارّة التي وجودها عبارة عن حدوثها ولا بقاء لها ، وكذلك لا وجه للنزاع في بقاء الرواية والعبارة ، فإنّها في وجه غير معقول البقاء ، وفي وجه غير معقول الارتفاع.

قلت : لا إشكال عند القائلين بالفتوى والتقليد والاجتهاد أنّ المدار في الفتوى هو الظنّ ، ولذلك لو زالت الملكة أو تغيّر اجتهاده وإن لم يكن هناك قول لا يجوز التعويل على القول السابق.

وتوضيحه : أنّ الأحكام الاجتهاديّة إنّما هي أحكام ظاهريّة ـ على ما صرّح به جميع أرباب الأصول ـ والظنّ في الأحكام الظاهريّة إنّما يكون موضوعا لما يترتّب على المظنون والبقاء ، فإنّه هو المقصود بحجّية الظنّ في الأمور الشرعيّة

٤٦٤

والأحكام الفرعيّة ، فإنّه يكون وسطا في القياسيات التي يطلب فيها ترتيب آثار متعلّقات تلك الظنون التي قد كانت طرقا إليها في حدود أنفسها. مثلا : إنّ شرب الخمر المظنون حرمته بواسطة أمارة ظنّية معتبرة إنّما يستفاد الحكم فيه في مقام العمل والظاهر بواسطة الظنّ ، كأن يقال : إن شرب الخمر ممّا يظنّ حرمته بواسطة أمارة كذائيّة وكلّ ما يظنّ حرمته فيجب ترتيب آثار الحرمة الواقعيّة الّتي كان الظن طريقا إليه على ذلك المظنون ، فينتج وجوب ترتيب الآثار على هذه الحرمة المظنونة ، من لزوم الاجتناب عنها وغيرها من الأحكام ، وذلك ظاهر في الغاية.

نعم يتمّ كون القول موضوعا في المقام فيما إذا قلنا : بأنّ الفتوى هي عبارة عن نقل الحديث على وجه المعنى ـ كما زعمه الأخباريّ ـ وهو خلاف الواقع كما لا يخفى على المطّلع.

وأمّا حديث بقاء الظنّ بعد الموت وارتفاعه فالإنصاف ـ كما عرفت ـ أنّه [ لا ] مسرح للعقل فيه ؛ لتعارض الأمارات من الطرفين ، إلاّ أنّ المقصود في المقام غير منوط به أيضا ، إذ على القول بالبقاء أيضا لا يعلم سريان الحكم فيما إذا كان مستندا إلى الظنّ بعد الموت ، إذ القول به موقوف على أن يكون الظنّ موضوعا على وجه الإطلاق سواء كان بعد الموت أو قبله ، وذلك أيضا غير معلوم ؛ لأنّ دليل التقليد ـ على ما هو التحقيق ـ منحصر في الإجماع والضرورة والسيرة ، ولا ينفع شيء منها في تشخيص الموضوع.

وأمّا الإطلاقات الدالّة على التقليد ـ كما ادّعاها بعضهم ـ فلا دلالة فيها على التقليد أوّلا ، وعلى تقديره فلا يستفاد منها أنّ الموضوع هو الظنّ على وجه الإطلاق ، بل الظاهر من جملة من الأدلّة الخاصّة بل العامّة الآمرة بالرجوع إلى أهل العلم اعتبار الحياة ، كما ستعرف تفصيل القول في ذلك إن شاء الله.

٤٦٥

فإن قلت : إنّ منع الاستصحاب في المقام بواسطة الإشكال في أمر الموضوع إنّما لا يلائم كلماتهم في جملة من الموارد ، فإنّهم يحكمون باستصحاب جواز نظر الزوج أو الزوجة لأحدهما بعد الموت ، مع أنّ الموضوع إنّما هو « الحيوان الناطق » وليس موجودا بعد الموت قطعا ، فإنّه جماد صرف. ويحكمون باستصحاب الملكيّة فيما لو انقلب الخمر المقلوب من الخلّ خلاّ في المرتبة الثانية ، مع أنّ الخلّيّة في الثانية ليست الخلّيّة الأولى ؛ لامتناع إعادة المعدوم. وكذا فيما لو فرض حياة المملوك بعد موته ، فإنّه [ ليست ] الملكيّة السابقة [ القائمة ](١) بالرقبة الأولى مع ظهور الاختلاف. وكذا يحكمون باستصحاب الكرّية بعد القطع باختلاف الموضوع ، فإنّ المشار إليه في قولك : « إنّ هذا الماء كان كرّا في السابق » قطعا يغاير الماء في السابق ، فلا منع في جريان الاستصحاب في المقام ، كأن يقال : « إنّ ذلك الرجل كان قبل موته جائز التقليد وبعد الموت يستصحب » وليس الاختلاف الحاصل في المقام أشدّ من الاختلاف في الموارد المذكورة.

قلت : بعد الغضّ عن جريان الاستصحاب في الموارد المذكورة ، أنّ ذلك يتمّ بناء على المسامحة العرفيّة في أمر الموضوع ، ولا نضايق نحن من جريان الاستصحاب في المقام على هذا التقدير ، إلاّ أنّ الكلام في ثبوت ذلك التقدير ، فإنّ الإنصاف أنّ التسرّي إلى جميع موارد التسامح في العرف ممّا لا يجترى عليه ، سيّما في الموارد التي لا يساعدها المشهور أو أمارة أخرى من الأمارات.

وبالجملة ، فالاعتماد على الاستصحاب إنّما يشكل فيما إذا لم يكن القضيّة المعلومة متّحدة مع المشكوكة بحسب الدقّة.

__________________

(١) العبارة في النسخ هكذا : « فانه بسيطة الملكية السابقة الفاقة ... ».

٤٦٦

فإن قلت : إنّ ما ذكر إنّما يتمّ فيما إذا لم يجر الاستصحاب في أصل الموضوع ولا مانع منه ، وبعد الاستصحاب الموضوعي لا مجال للشكّ أصلا.

قلت : إن أريد من استصحاب الموضوع وجريانه تصحيح الاستصحاب الحكمي ـ كما يظهر عن بعض الأجلّة في بعض الموارد ـ فهو كلام فاسد مختلّ النظام.

أمّا أولا : فلأنّ استصحاب الموضوع لا يجدي في ترتيب الأحكام الغير الشرعيّة ، وجريان الاستصحاب الحكمي ليس من الأحكام الشرعيّة المترتّبة على الموضوع حتّى يصحّ الاستصحاب على تقدير استصحاب الموضوع.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الاستصحاب الموضوعي بعد جريانه لا حاجة إلى إجراء الاستصحاب الحكمي ، فإنّه بمنزلة المزيل. على أنّه لا معنى لاستصحاب الموضوع إلاّ ترتيب الأحكام التي منها الحكم المشكوك.

وإن أريد من استصحاب الموضوع ترتّب الحكم وهو جواز التقليد لا استصحابه ، فهو إنّما يجدي فيما إذا لم يكن من الأصول المثبتة ـ كما حرّر في محلّه ـ وما نحن بصدده منه.

وتوضيحه : أنّ استصحاب موضوع وجوب التقليد أو جوازه من دون أن يقصد ارتباطه بفتوى الميّت لا يجدي في الاعتماد على فتوى الميّت ، ومع إرادة إثبات الارتباط بوجه من الوجوه إلى الفتوى فهو من الأصول المثبتة ، فإنّ استصحاب الموضوع المطلق لا يتعيّن في شيء خاصّ إلاّ بعد إعمال مقدّمة عقليّة أو عاديّة ، وذلك نظير استصحاب وجود الكرّ المطلق في الحوض لإثبات كرّية الماء المخصوص ، فإنّه لا يجدي في ذلك إلاّ بعد العلم بأنّ ذلك المطلق غير متحقّق إلاّ في الفرد الموجود.

٤٦٧

وبالجملة ، الأحكام الثابتة للموضوع المطلق في الشريعة لا بدّ من حملها وترتيبها على الموضوع المستصحب ، وأمّا أحكام الموضوع الخاصّ فلا يترتّب على استصحاب الموضوع المطلق.

فإن قلت : إنّ جواز العمل وترتيب الأحكام السابقة إنّما هو من أحكام مطلق الموضوع ، إذ لا يراد في المقام إثبات أنّ القول هو الموضوع أو الشخص هو الموضوع أو غير ذلك ، ضرورة أنّ الاستصحاب لا يقضي بذلك ، بل المراد الأخذ بالأحكام السابقة حال الحياة المتفرّعة على موضوعها الواقعي وإن لم يكن معلوما لنا بالخصوص إلاّ أنّه معلوم على وجه الإجمال حال الحياة ، وبعد الموت نشكّ في وجود ما يترتّب عليه الأحكام فيستصحب ذلك المعلوم الإجمالي ويترتّب عليه أحكامه ، نظير استصحاب وجود الكرّ المطلق فيما إذا كان ممّا يترتّب عليه حكم ، كما لو نذر أن يعطي فقيرا درهما لو كان الكرّ مثلا موجودا.

قلت : نعم ، إلاّ أنّه يمكن القول بأنّ الموضوع هو الظنّ ، لعدم ترتيب هذه الأحكام على غيره في الشريعة عند انتفائه ، وهو غير معلوم الوجود ، وعلى تقدير الوجود فلا عبرة به أيضا ، لاحتمال مدخليّة الحياة فيه ، وأصالة عدم مدخليّة الحياة في الموضوع لا يجدي ؛ لأنّ ذلك لا يشخّص أنّ الموضوع هو الظنّ المطلق. وبعبارة ظاهرة : أنّ عدم جريان الاستصحاب موقوف على عدم العلم ببقاء الموضوع واحتمال ارتفاعه في الواقع ، وأصالة عدم المدخليّة لو كان مفاده في الشرع وجود الموضوع كان مجديا ولكنّه لا يترتّب على عدم المدخليّة وجود الموضوع إلاّ بواسطة مقدّمة عقليّة ، فتأمّل في المقام ، فإنّ الأمر بمكان من الغموض والخفاء.

وهذا تمام الكلام في الوجوه العقليّة. ولهم أيضا بعض الوجوه الأخر ، إلاّ أنّ الإنصاف إن التعرّض لها يوجب التعطيل فيما هو الأهمّ.

٤٦٨

وأمّا الكتاب :

فالّذي يدلّ منه على مطلوبهم على ما زعموا آيات :

الأولى : قوله تعالى ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )(١).

والتقريب : أنّ الآية تدلّ على وجوب الحذر بعد الإنذار الواجب ، إمّا لأنّ الحذر لا يعقل جوازه بعد وجود المقتضي وعند عدمه لا يحسن. وإمّا لأنّ وجوب الإنذار المفروض في الآية مقدّمة للحذر يدلّ على وجوبه ؛ لأنّ وجوب المقدّمة دليل على وجوب ذيها. وإمّا لأنّ عدم وجوب الحذر على تقدير وجوب الإنذار يوجب اللغو ، نظير ما تمسّك في المسالك من قوله تعالى ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ) على وجوب اتّباع قولهنّ (٢) ، والإنذار عبارة عن الإبلاغ مع التخويف ، وهو كما يصدق في الرواية ، فكذلك يصدق في الفتوى.

بل الظاهر أنّ دلالتها على وجوب قبول الفتوى أظهر من دلالتها على قبول الرواية ؛ لأنّ الحكاية بدون التخويف لا يسمّى إنذارا ومع التخويف لا دليل على اعتباره ؛ لأنّ التخويف موقوف على اجتهاد المنذر في الحكاية ، ولا دليل على لزوم متابعة الراوي إذا لم يكن فهمه في حق المنذر ـ بالفتح ـ حجّة. بخلاف المفتي ، فإنّ اعتقاده حجّة في حقّ المستفتي ، فلو قال : « أيّها الناس! اتّقوا الله في شرب الخمر » فإنّه يترتّب عليه المؤاخذة الإلهيّة فقد حصل التخويف ووجب التخوّف والحذر ، إمّا لوجود المقتضي ، وإمّا لوجوب الإنذار ، وإمّا للزوم اللغو. ويتمّ فيما لا يحصل معه التخوّف ـ إمّا لعدم التخويف أو لغيره ـ بعدم القول بالفصل.

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) المسالك ٩ : ١٩٤ ، والآية من سورة البقرة : ٢٢٨.

٤٦٩

وبالجملة ، فالآية ظاهرة في وجوب التفقّه ووجوب الإنذار ، وهما يستتبعان وجوب الحذر والقبول على أحد الوجوه الشامل بإطلاقه للرواية والفتوى كما عرفت. والإنذار كما يصدق في فتوى الحيّ ، فكذلك يصدق في فتوى الميّت بواسطة التخوّف الحاصل من مراجعة ما جعله علامة للتخويف كالرجوع إلى كتابه ، فإنّه يصدق أنّه « أنذر » ولو في زمان حياته وحصل للمقلّد « التخوّف » ولو بعد مماته ، فيجب اتّباعه ، فالآية بإطلاقها تدلّ على وجوب اتّباع فتوى الميّت لصدق الإنذار.

وإن أبيت عن ذلك ، فنقول : لو فرضنا أنّ المجتهد قد أنذر في حال حياته ولم يتبعه المقلّد عصيانا ثمّ بدا له بعد موته اتّباعه ، فهل ترى عدم صدق « الإنذار » في مثله؟ وليس ذلك من التقليد الاستمراري بل هو تقليد بدويّ ، إذ المفروض عدم الأخذ بالفتوى في حال الحياة وعدم العمل أيضا.

فإن قلت : إنّ الآية ظاهرة في النفر إلى الجهاد كما تشهد به الآيات التي قبلها وبعدها ، فلا يدلّ على وجوب التفقّه والإنذار. نعم ربما يترتّب على النفر التفقّه من ملاحظة آثار رحمة الله على أوليائه وظهورهم على أعدائه وغير ذلك. ولا دليل على وجوب ما يترتّب على الفعل إذا لم يؤخذ الفعل الواجب مقدّمة له بل كان الترتّب اتّفاقيا ، كما هو ظاهر.

قلت : إنّ سوق الآية في آيات الجهاد لا ينافي ظهورها في وجوب التفقّه والإنذار الموقوف عليه الاستدلال ، مع ورود الأخبار الدالّة على إرادة وجوب التفقه من الآية (١) كما يستفاد من استدلال الإمام عليه‌السلام به ، كرواية الفضل

__________________

(١) انظر تفسير نور الثقلين ٢ : ٢٨٢ ، وكنز الدقائق ٤ : ٣١٢ ، ذيل الآية.

٤٧٠

عن الرضا عليه‌السلام قال : إنّما أمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله وطلب الزيادة ـ إلى أن قال ـ ونقل أخبار الأئمّة إلى كلّ صقع وناحية ، كما قال عزّ وجلّ : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ ... ) الآية (١).

ولا يخفى : أنّ اختصاص الأخبار بالذكر لا يدلّ على اختصاص الآية بالرواية دون الفتوى ، فلا ينافي ما هو مناط الاستدلال من دعوى الإطلاق.

والاستدلال بالآية في بعض الروايات على وجوب تحصيل معرفة الإمام بعد موت الإمام السابق (٢) ، لا يدلّ على اختصاصه بمثله حتّى لا يشمل ما نحن فيه ، وهو ظاهر جدّا.

هذا غاية ما يمكن الانتصار للمستدلّ بالآية ، ومع ذلك فلا دلالة فيها على المطلوب.

وتوضيح المقام بعد تمهيد ، وهو : أنّ اعتبار التقليد يحتمل أن يكون من وجهين :

أحدهما : اعتباره من حيث إنّه طريق إلى الواقع وإنّ قول العالم هو المرجع للجاهل ، فإنّه يكون طريقا لما هو المطلوب في الأمور الغير المعلومة ، مثل رجوع الجاهل بصناعة إلى أهل تلك الصناعة في استعلام ما يتعلّق به غرضه منها.

الثاني : أن يكون معتبرا من حيث إنّه حكم ظاهريّ تعبّد به المولى وإن لم يحصل منه العلم ، ولا ينافي ذلك كون الحكمة في جعله طريقا هو كونه طريقا ظنّيا في العرف والعادة ، فيكون من الظنون النوعيّة أي الأمارات التي لا تدور مدار حصول الظنّ الفعلي منها وإن كان الوجه في جعله إفادته ذلك في الأغلب.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٧ ، الباب الأوّل من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، الحديث ١٥.

(٢) انظر الكافي ١ : ٣٧٨ ، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام.

٤٧١

ولا ريب أنّ هذين الوجهين مختلفان ، فالكلام المسوق لبيان أحدهما يغاير سوق الآخر ، فإنّ الأوّل غير محتاج إلى جعل وحكم سوى الإخبار عمّا هو ثابت في الواقع. بخلاف الثاني ، فإنّه لا بدّ فيه من إنشاء حكم ظاهريّ في موارد تلك الأمارة. ولعلّ ذلك غير خفيّ على الفطن.

فإن أريد من التمسّك بالآية إثبات الوجه الأوّل فهو حسن ، فإنّ في الآية دلالة على تقرير ما عليه العقلاء في استكشاف مطالبهم من الأمارات المفيدة لها ، إذ لا يستفاد من الآية إلاّ مطلوبية الحذر عقيب الإنذار في الجملة. وأمّا وجوب البناء على الإنذار فهو مبنيّ على ما هو المناط فيه عندهم من حصول المنذر فيه أو ما هو يقوم مقامه عندهم كالظنّ المتاخم للعلم على وجه لا يعتنى باحتمال خلافه في وجه ؛ ولذا صحّ ذلك فيما يطلب فيه العلم ، فلا تكون الآية مخصّصة لما يدلّ على حرمة العمل بما وراء العلم ؛ ولذلك استشهد الإمام عليه‌السلام بالآية على وجوب النفر ليحصل معرفة الإمام ، كما في رواية عبد الأعلى ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول العامّة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « من مات وليس له إمام مات ميتة جاهليّة قال عليه‌السلام : حقّ والله! قلت : فإنّ إماما هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك؟ قال : لا يسعه ، إنّ الإمام إذا مات رفعت حجّة وصيّه على من هو معه في البلد وحقّ النفر على من ليس بحضرته ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ... ) الآية » (١) فإنّ من المعلوم : أنّ إمامة الإمام إنّما يطلب فيها العلم ولا يكفي فيها متابعة الغير من غير حصول العلم ، فلا دلالة في الآية إلاّ على لزوم التفقّه والإنذار من حيث إنّ الإنذار يوجب الحذر عند حصول العلم أو ما يقوم مقامه في العادة ، وهو ظاهر. لكن التقليد المطلوب إثبات جوازه للحيّ والميّت لا

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٧٨ ، الحديث ٢.

٤٧٢

يراد منه ذلك الطريق العلمي أو ما يقوم مقامه ؛ وذلك ظاهر لمن أنصف من نفسه وراجع موارد التقليد وكلمات العلماء ، حيث إنّهم مطبقون على أنّ التقليد طريق خاصّ للمقلّد ونحن أيضا نتكلّم في مثل هذا التقليد.

وإن أريد إثبات الوجه الثاني ـ كما هو المفيد فيما نحن فيه ـ فالإنصاف عدم نهوض الآية على ذلك ، فإنّ المنساق منها هو المنساق من جميع الأدلّة الدالّة على لزوم إبلاغ الأحكام لاهتداء الناس إلى الواقع ، وليس مفاد الآية إلاّ مثل مفاد قول القائل : « أخبر زيدا بقيام عمرو لعلّه يقبل » ولا يستفاد من هذا الكلام إنشاء حكم في الظاهر لوجوب العمل بخبره وإن لم يوجب العلم.

وممّا يؤيّد ذلك ملاحظة لفظ « الحذر » في الآية ، فإنّ ذلك ليس من الأمور الاختياريّة ، بل هو أمر قهريّ ، لكنّه بعد حصوله فالعقل يحكم بوجوب دفعه وعلاجه في الموارد التي يحكم بوجوبه.

وبالجملة ، فالظاهر منها وجوب الإنذار الّذي يترتّب عليه الحذر الموجب لتحصيل العلم بالتكليف أو رفعه كما هو قضيّة حقيقة الحذر ، فتدبّر.

سلّمنا دلالة الآية على التقليد التعبّدي ، لكن لا يدلّ على تقليد الميّت ؛ لأنّ الظاهر على ذلك التقدير جواز الأخذ بإنذار الحيّ. وما يبدو في بعض الأنظار من الإطلاق فلعلّه مبنيّ على قاعدة اشتراك التكليف وليس المقام منه ، إذ ليس الشكّ في العموم والخصوص ، بل الشكّ في الحكم الشرعيّ كما هو ظاهر. وأمّا صدق الإنذار فيما إذا كان المنذر أوجد السبب ونصب العلامة فهو على خلاف الظاهر ، فإنّ السبب ليس إنذارا حقيقة.

وأمّا فيما لو عصى المكلّف بعد إنذاره في زمن الحياة ، فإن أخذه العاصي للعمل ثم لم يعمل به عصيانا فعلى القول بأنّ التقليد هو الأخذ يكون من التقليد

٤٧٣

الاستمراري ، وعلى القول بأنّه العمل فلم يتحقّق تقليد سواء أخذه أو لم يأخذه. ولا نسلّم وجوب الحذر بعد الموت في الصورة المفروضة ، فإنّ الظاهر من الآية ترتّب الحذر على الإنذار فيما يصحّ انتزاع وصف « المنذريّة » من المنذر ، ولا يصحّ ذلك بعد الموت ، فتأمّل.

سلّمنا الإطلاق أيضا ، لكن الإنصاف أنّ الإجماعات المنقولة في صدر المسألة يكفي في تخصيص الآية وتقييدها بصورة الحياة.

ثم إنّ ما ذكرنا من تسليم الإطلاق إنّما هو مبنيّ على أن يكون وجه الاستدلال بالآية هو ما أفاده في المعالم (١) : من أنّ بعد انسلاخ كلمة الترجّي عن معناها تكون ظاهرة في محبوبيّة مدخولها للمتكلّم ؛ لأنّ ذلك يمكن أن يكون علاقة في المقام ، وإذا تحقّق حسن الحذر وجب ؛ لأنّ مع وجود المقتضي يجب ومع عدمه لا يحسن ؛ لأنّ العقاب إمّا معلوم الوجود فيجب الحذر ، أو معلوم العدم ـ إذ لا يعقل الشكّ في العقاب ـ فلا يحسن الحذر. ولا ينافي ذلك حسن الاحتياط ؛ لأنّه مع الأمن كما لا يخفى ، إذ بدونه فالاحتياط واجب.

وأمّا بناء على أن يكون وجه الاستفادة هو الملازمة العرفيّة بين وجوب الإنذار وحرمة الردّ ووجوب القبول فظاهر انتفاء الإطلاق ، وستعرف توضيحه في الآيات الآتية.

الثانية : قوله تعالى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(٢) لأنّه لو فرض السؤال ومات المسئول بعد الجواب يلزم القبول لئلاّ يلغو وجوب السؤال ،

__________________

(١) المعالم : ١٩٠.

(٢) النحل : ٤٣ ، والأنبياء : ٧.

٤٧٤

كما عرفت في استدلال الشهيد بحرمة كتمان ما في الأرحام على وجوب قبول قولهنّ (١). والإنصاف : أن لا دلالة في الآية على التقليد أصلا.

أمّا أوّلا : فلأنّ الظاهر من سياق الآية هو إرادة علماء اليهود ، كما رواه علماء التفسير (٢) ، فإنّ الآية واردة في مقام معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن الظاهر أنّ ذلك لا يكفي فيه غير العلم ، ففي الآية إراءة طريق إلى ما يوجب العلم ، وهو الظاهر من قوله : ( إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فإنّه ظاهر في أنّ الوجه في وجوب السؤال هو تحصيل العلم.

ولئن أغمضنا عن ذلك ولم نأخذ بما هو اللائح من سياقها ، فهناك أخبار عديدة مشتملة على الصحيح وغيرها يدلّ على أنّ أهل الذكر هم الأئمّة عليهم‌السلام على وجه الحصر (٣).

وأمّا ثانيا : فلأنّ بعد فرض الدلالة لا إطلاق فيها على وجه يشمل الميّت ، إذ من الظاهر ظهورها في الحيّ ، إذ لا يعقل السؤال من الميّت. وأمّا وجوب القبول فالمفروض أنّه مدلول التزامي لوجوب السؤال ، ولا يعقل الإطلاق والتقييد في المداليل الالتزامية ، إذ الموجب هو لزوم اللغويّة لولاه ويكفي في دفعه القبول حال الحياة في الأغلب.

الثالثة : آية الكتمان وهو قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ

__________________

(١) راجع الصفحة : ٤٦٩.

(٢) انظر مجمع البيان ٣ : ٣٦٢ و ٤ : ٤٠ ذيل الآية في سورتي النحل والأنبياء.

(٣) الكافي ١ : ٢١٠ باب أهل الذكر ، والوسائل ١٨ : ٤١ ، الباب ٧ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ٣ و ٤ و ٦ و ٨ و ٩ و ١٢ و ١٣ و ٢٧ و ٣١.

٤٧٥

وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ )(١) دلّت الآية على وجوب الإظهار وحرمة الكتمان ، وهو يلازم وجوب القبول.

وفيه :

أولا : أنّ المورد ممّا لا يمكن تخصيصه في العمومات ، ومورد الآية كتمان اليهود لعلامات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن المعلوم : أنّ ذلك لا بدّ فيه من العلم ، فلا دلالة فيها على التقليد التعبّدي.

وثانيا : سلّمنا لكنّه لا إطلاق بالنسبة إلى الميّت ، لعدم ما يوجبه.

الرابعة : آية النبأ (٢) ، ويدلّ على دلالتها على التقليد استدلال العلماء بها على عدالة المفتي ، فلولا دلالتها لم يكن له وجه.

وفيه : أنّ النبأ هو الإخبار عن الواقع ، لا الإخبار عن الاعتقاد.

وأمّا وجه الاستدلال بها : فهو من حيث إنّ الإخبار عن الرأي ربما يكون كذبا ، فالعدالة معتبرة فيه من هذه الجهة.

وأمّا السنّة :

فما يمكن الاستيناس بها على المدّعى صنفان :

الأوّل : الأخبار الخاصّة الواردة في مقامات خاصّة ، مثل ما دلّ على الأمر بالرجوع إلى زرارة بقوله : « إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس » مشيرا إلى زرارة (٣).

__________________

(١) البقرة : ١٥٩.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٠٤ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩.

٤٧٦

وقوله عليه‌السلام حينما سأل ابن أبي يعفور عمّن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة : « فما يمنعك عن الثقفي؟ » يعني محمّد بن مسلم (١).

وقوله للعقرقوفي : « عليك بالأسدي » يعني أبا بصير (٢).

وقوله لعليّ بن مسيّب : « عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا » (٣).

وقوله لمّا قال له عبد العزيز بن المهدي : « ربما أحتاج ولست في كلّ وقت ألقاك أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ فقال : نعم » (٤). وفيه دلالة واضحة على أنّ قبول قول الثقة مفروغ عنه وإنّما السائل سأل عن الصغرى.

وفي الكافي عن أحمد بن إسحاق ، قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام وقلت له : من أعامل أو عمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له : العمري ثقة ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون » (٥).

وقال الصادق عليه‌السلام لأبان بن تغلب : « اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك » (٦).

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٠٥ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٣.

(٢) المصدر السابق : ١٠٣ ، الحديث ١٥.

(٣) المصدر السابق : ١٠٦ ، الحديث ٢٧.

(٤) المصدر السابق : ١٠٧ ، الحديث ٣٣ ، مع تفاوت يسير.

(٥) الكافي ١ : ٣٣٠ ، الحديث الأوّل ، والوسائل ١٨ : ١٠٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

(٦) المستدرك ١٧ : ٣١٥ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤.

٤٧٧

وقوله : « ائت أبان بن تغلب ، فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا » (١).

وجه الدلالة في هذه الأخبار : أنّ بعضها مختصّة بالفتوى وبعضها شاملة للرواية أيضا ، فيكون هذه الروايات أدلّة على التقليد وبإطلاقها تدلّ على جواز تقليد الميّت أيضا.

والجواب : أنّ قضية الإنصاف عدم دلالة جملة من هذه الأخبار على قبول قول المفتي. وعلى تقدير الدلالة فلا دلالة فيها على قبول قول الميّت وفتواه.

أترى أنّ الأمر بالرجوع إلى « أبان » مع كونه حيّا يدلّ على أنّ الميّت ممّا يمكن الرجوع إليه؟ وعلى تقدير الدلالة فلا دلالة فيها على ما هو المطلوب في زماننا ، فإنّ جواز الرجوع إلى الأموات فيما إذا كانوا مثل هؤلاء الأجلاّء الذين يكون فتاويهم بمنزلة رواياتهم ، كما يستفاد من قول الشيخ أبي القاسم العمري في كتب الشلمغاني : « أقول فيها ما قاله العسكري عليه‌السلام في كتب بني فضّال » (٢) فإنّه ينادي بأنّ فتاويهم إنّما هي متون الروايات ، فلا عبرة بقياس حال غيرهم بهم.

وأمّا الثاني : فهي الأخبار العامّة ، وهي كثيرة.

منها : ما يدلّ على وجوب قبول الحكم عند الترافع ، مثل رواية عمر بن حنظلة الواردة في الترجيحات : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّه بحكم الله استخفّ » (٣) الحديث. ومثل مشهورة أبي خديجة

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٠٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠٧.

(٢) المصدر السابق : ١٠٣ ، الحديث ١٣.

(٣) المصدر السابق : ٩٩ ، الحديث الأول.

٤٧٨

« انظروا إلى رجل يعرف شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم حكما » (١) ودلالتهما على التقليد إمّا من الأولويّة ـ كما قيل (٢) ـ وإمّا لعدم القول بالفصل ، وإمّا بواسطة أنّ رفع الخصومة المترتّب (٣) على القضاء فيكون موقوفا على قبول فتواه ويتمّ بالإجماع المركّب.

ومنها : ما يدلّ على وجوب الرجوع إليهم الشامل للرواية والفتوى بإطلاقه مثل قوله الحجّة ـ عجّل الله فرجه ـ على ما رواه المشايخ الثلاثة في الغيبة وإكمال الدين والاحتجاج في التوقيع الشريف لاسحاق بن يعقوب : « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله » (٤).

وجه الدلالة : أنّه عليه‌السلام أمر بالرجوع إلى رواة الأحاديث وهو بإطلاقه شامل للرواية والفتوى ، وعلى التنزّل فقوله عليه‌السلام : « فإنهم حجّتي عليكم » يوجب ذلك ؛ لأنّ الحجّة يقبل قوله وفتواه أيضا ، وهو دليل على اعتبار قوله بعد موته أيضا فإنّ الحجّة قوله معتبر مطلقا. ويؤيّده قوله : « وأنا حجّة الله » فإنّ ذلك يفيد أنّ حجّية من جعله حجّة إنّما هو من قبيل حجّية نفسه عليه‌السلام الموجب لاعتبار قولهم بعد موتهم أيضا.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٤ الباب الأول من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

(٢) قاله السيد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٥٩٨.

(٣) كذا والمناسب : « مترتب ».

(٤) كتاب الغيبة : ٢٩١ ، الحديث ٢٤٧ ، وكمال الدين : ٤٨٤ ، الحديث ٤ ، والاحتجاج ٢ : ٢٨٣ ، وعنها في الوسائل ١٨ : ١٠١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

٤٧٩

ومنها : ما هو صريح في جواز التقليد ، كرواية الاحتجاج عن تفسير الإمام عليه‌السلام في قوله تعالى ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ )(١) والرواية طويلة لا بأس بإيرادها ، وهو أنّه :

قال رجل للصادق عليه‌السلام : فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ، وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلّدون علماءهم ، فإنّ لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال عليه‌السلام : بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة. أمّا من حيث استووا ، فإنّ الله تعالى ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علماءهم. وأمّا من حيث افترقوا فلا. قال بيّن لي يا بن رسول الله ، قال عليه‌السلام : إنّ عوام اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشا وتغيير الأحكام من وجهها بالشفاعات والتعصّب الشديد الذي يفارقون إليه أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم وعرفوهم يتعارفون (٢) المحرّمات واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على الله ولا على الوسائط بينهم وبين الله ، فلذلك ذمّهم لمّا قلّدوا من عرفوا ومن علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل فيما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لا تظهر لهم. وكذلك عوام أمّتنا

__________________

(١) البقرة : ٧٨.

(٢) في التفسير المنسوب إلى العسكري عليه‌السلام : « يقارفون ».

٤٨٠