مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

بأنّه بعد الفحص الأكيد لم يطّلع على الخلاف بين الأصحاب المجتهدين في الأوائل والأواسط.

ولو سلّمنا عدم حصول القطع بالحكم على وجه يقطع في الموارد الإجماعيّة فيكفي في المسألة هذه الإجماعات المنقولة مع الشهرة المحقّقة قطعا ، فإنّ المسألة يكفي فيها ما يكفي في المسائل الفرعيّة ، لكونها ملحقا بها ، لاشتراكها معها فيما هو الخاصّة للمسائل الفرعيّة ، وهو أنّ المقلّد يعمل بها بعد أخذها من المفتي من دون حاجة إلى مقدّمة أخرى ، فهو ينتفع من المسألة لو كانت معلومة.

ولو سلّم كونها من المسائل الأصوليّة ـ كما يظهر من المحقّق القمّي (١) ـ فلا نسلّم أنّ الظنّ لا يكفي في الأصول بعد دلالة الدليل على اعتباره فيما إذا كان من الظنون الخاصّة. وأمّا الظنون المطلقة فقد حقّقنا في محلّه أنّها غير مختصّة بالفروع ، فإنّ قضيّة الانسداد هو لزوم تحصيل الظنّ بفراغ الذمّة الحاصل بالعمل بالظنّ في نفس الحكم الشرعي أو في المسألة الأصوليّة.

ولو سلّمنا عدم كفاية الظنّ في الأصول ، فنقول : إنّ هذه الإجماعات يستكشف منها ـ على وجه لا ينبغي الارتياب فيه ـ أنّ عند المجمعين دليلا معتبرا يدلّ على ذلك. وذلك يكفي في المقام ، إذ لا يلزم أن يكون الدليل معلوما على وجه التفصيل ، بل يكفي وجوده ولو إجمالا.

والعجم من القائلين بالظنون المطلقة كيف ساغ لهم ترك التعويل على مثل هذه الإجماعات في هذه المسألة مع أنّهم يكتفون في الفروع بما هو أدنى من ذلك!

__________________

(١) القوانين ٢ : ٤٠٥.

٤٤١

الثالث : ما احتجّ به ثاني المحقّقين في حاشية الشرائع (١) ـ تبعا للعلاّمة (٢) ـ وهو أنّ المفتي إذا مات سقط قوله بموته بحيث لا يعتدّ به ، وما هذا شأنه لا يجوز الاستناد إليه شرعا.

أمّا الأولى فللإجماع على أنّ خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنع انعقاد الإجماع ؛ اعتدادا بقوله واعتبارا بخلافه ، فإذا مات وانحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد الإجماع وصار قوله غير منظور إليه شرعا ولا معتدّا به.

أمّا الثانية فظاهرة.

ثم أورد على نفسه اعتراضا بقوله : إنّما انعقد الإجماع بموت الفقيه المخالف ، لأنّ حجّيّة الإجماع إنّما هي بدخول المعصوم في أهل العصر من أهل الحلّ والعقد ، وبموت الفقيه المخالف في الفرض يتبيّن أنّه غير الإمام ، فتعيّن دخول الإمام في الباقين ، ومن ثمّ انعقد الإجماع بموته ، ولا يلزم من ذلك أن لا يبقى للميّت قول شرعا.

فأجاب عنه : بأنّه على هذا يلزم من موت الفقيه المخالف انكشاف خطأ قوله ، فلا يجوز العمل حينئذ من هذا الوجه (٣).

أقول : وليس هذه الحجّة ممّا يعوّل عليها.

أمّا أوّلا : فلاختصاصها بما إذا كان قول الميّت مخالفا لأقوال معاصريه في حال حياته ، فإنّ انكشاف خطأ قوله بعد موته إنّما يكون فيما إذا كان جميع أهل عصره مخالفا له حتّى ينعقد الإجماع بعد موته على خلافه فيكشف عن خطأ قوله.

__________________

(١) حاشية الشرائع ، الورقة : ٩٩.

(٢) انظر نهاية الوصول : ٤٤٤.

(٣) حاشية الشرائع : ٩٩.

٤٤٢

وأمّا إذا كان أهل عصره مختلفين في الفتوى فلا دليل على خطأ قوله ، إذ المفروض أنّ الموت لم يثبت كونه مبطلا لقوله ، وإنّما اتّفق كشف الموت عن بطلان قوله في الفرض السابق باعتبار تحقّق الإجماع وانعقاده على خلاف فتوى الميّت ، فيختصّ بصورة الكشف. بل وذلك ممّا لا كلام فيه ، حتّى أنّ الحيّ لو فرض كشف خطائه في فتواه ، فلا يجوز تقليده.

ومن هنا يظهر : أنّه لا سبيل إلى التمسّك بالإجماع المركّب في إتمام الدليل ، فإنّه لا مسرح له فيما إذا كان الحكم مستفادا من علّة معلوم الانتفاء في الطرف الآخر. اللهم إلاّ أن يقال : إنّ تقليد الميّت تظهر الثمرة فيه فيما إذا لم يكن فتواه مطابقا لأحد من الأحياء ، إذ على تقدير المطابقة فلا تظهر الثمرة إلاّ على القول بلزوم تعيين المفتي في التقليد. ولعلّه لا دليل على التعيين عند مطابقة العمل للواقع ، فيقرّر الدليل حينئذ : بأنّ الأخذ بقول الموتى إذا كان موافقا لأقوال الأحياء ولو واحدا منهم فلا كلام فيه ، إذ ليس ذلك اعتمادا على الميّت ، لعدم دليل على التعيين ، وإذا لم يكن موافقا فهو خلاف الإجماع ، إمّا بسيطا كما إذا كان الكلّ على خلافه مع اتّفاقهم ، أو مركّبا (١) كما إذا كان أقوالهم مع اختلافها مخالفة له.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره مبنيّ على طريقة خاصّة في الإجماع يظهر ممّا ذكره فخر المحقّقين في بعض الفروع وغيره ، ولعلّها قريبة من طريقة اللطف في الإجماع ، ولذلك يمنع عن تحقّق الإجماع خلاف الواحد وينعقد بعد ارتفاع الخلاف. وهذه الطريقة ممّا لا دليل يقضي بها ـ كما هو المحرّر في محلّه ـ

__________________

(١) في هامش المطبوع ما يلي : مبنيّ على القول بتحقّق الإجماع المركّب على هذه الطريقة بمجرّد انحصار القول في الموجودين ، منه رحمه‌الله.

٤٤٣

بل المختار في الإجماع هو الوجه الذي لا ينافي فيه خلاف البعض ولا يحصل بالاجتماع أيضا.

لا يقال : إنّ الاحتجاج إنّما هو في قبال العامّة وهم يعتبرون في الإجماع الاجتماع ولا ينعقد مع مخالفة البعض ، ويدلّ على ذلك : أنّ المستدلّ يعتقد عدم الخلاف بين أصحابنا في ذلك.

لأنّا نقول : إنّه صرّح في الجواب عن الاعتراض : بأنّ الكلام إنّما هو في الإجماع على طريقة الإماميّة ، فراجعه (١).

واعترض في الوافية على الحجّة المذكورة بقوله : بأنّه منتقض بمعروف النسب ، مع أنّهم اعتبروا شهادة الميّت في الجرح والتعديل ، وهو يستلزم الاعتداد بقوله في عدد الكبائر (٢) ، انتهى.

أقول : إمّا أن يكون مراد المستدلّ إبطال قول الميّت بموته بواسطة إمكان انعقاد الإجماع على خلافه بعد موته ، بخلاف قبل الموت ، فإنّه لا يمكن انعقاد الإجماع على خلافه اعتدادا بقوله كما هو صريح الاستدلال قبل الاعتراض. وإمّا أن يكون مراده إبطال قول الميّت بواسطة كونه على خلاف الإجماع ، كما هو ظاهر الجواب عن الاعتراض. وعلى التقديرين لا وجه للنقض بمعلوم النسب.

أمّا على الأوّل : فلأن مفروض المستدلّ أنّ خلاف الواحد مضرّ في حصول الإجماع ولو كان معلوم النسب ، فلا يمكن انعقاد الإجماع على خلافه حتّى يقال : بأنّ اللازم من الدليل المذكور عدم الاعتداد بقول معلوم النسب أيضا ، لإمكان انعقاد الإجماع على خلافه.

__________________

(١) انظر حاشية الشرائع : ٩٩.

(٢) الوافية : ٣٠١.

٤٤٤

وأمّا على الثاني : فلأنّ مناط الفساد إنّما هو ظهور بطلان القول ، فإن فرض وجود المناط في قول معلوم النسب فهو أيضا باطل ولا ينافي المطلوب. وإن لم يكن المناط موجودا فلا وجه للنقض ، لعدم الاشتراك حينئذ.

وأمّا ما أورده من حديث الجرح والتعديل وقبول شهادته بعد الموت ، فان أراد المعارضة بنفس قبول الشهادة مع قطع النظر عن إعمال فتواه في الشهادة ، فعلى التقريب الثاني فهو ممّا لا يرتبط بالمقام ، وعلى الأوّل فالفرق بين الشهادة والفتوى هو : أنّ المناط في الشهادة موجود بعد الموت مثل الرواية ، بخلاف الفتوى ، فإنّ الكلام في ذلك.

وإن أراد أنّ قبول شهادته يوجب الاعتماد على قوله في عدد الكبائر وفيما هو مناط التعديل من الملكة وحسن الظاهر إلى غير ذلك من الامور الاجتهاديّة ، ففيه : أنّ التعويل على شهادته في الجرح والتعديل ليس اعتمادا على مذهبه في عدد الكبائر ، بل إنّما هو بواسطة أنّ الألفاظ الواردة في مقام الشهادة تحمل على الواقع من غير ملاحظة مذهب الشاهد. نعم ، لو علم أنّ الجرح إنّما هو بواسطة شيء مبنيّ على مذهبه فعند المخالفة لمذهب المجتهد لا نسلّم وجوب الأخذ بشهادته في الجرح والتعديل.

ثمّ إنّ بعض الأجلّة اعترض على الدليل ـ بعد النقض بمعلوم النسب ـ : أنّ عدم الاعتداد بقوله في تحقّق الإجماع لا يلازم عدم الاعتداد به في مقام التقليد (١).

وفيه : أنّه لا مساس له بكلام المستدلّ على الثاني ، وعلى الأوّل فيمكن ادّعاء الأولويّة أو عدم القول بالفصل ، فتأمل.

__________________

(١) الفصول : ٤٢١.

٤٤٥

الرابع : أنّ الحجّة في حقّ المجتهد والمقلّد أمر واحد ، فإنّه نائب عنه في فهم النتائج المستفادة من الأدلّة التي هي موارد التقليد والبناء على القواعد والفحص عن المعارضات والترجيح بينها ، ومن المعلوم أنّ المعتبر في حقّ المقلّد ليس قوله وفتواه ، بل إنّما هو سبيل في الوصول إلى ما هو المعتبر في حقّه وهو فهمه وظنّه ، والإدراكات المتعلّقة بالقوى المتعلّقة بالبدن لا تبقى بعد خراب البدن ، فيرتفع ما هو الحجّة بعد الموت ، فلا وجه للاعتماد على قول الميّت وهو المطلوب.

أمّا المقدّمة الأولى ـ وهي اتّحاد الحجّة ـ فظاهرة ، فإنّ مجرّد القول ولو عند انتفاء الظنّ وزواله بواسطة زوال الملكة لهرم أو نحوه لا يكون مناطا لعمل المقلّد ، بل لا بدّ من مقارنته للظنّ الفعلي في حقّه. بل لو اطّلع على ظنّ المجتهد بدون توسّط القول كان ذلك حجّة له ومناطا لعمله. ولا ينافي ذلك عدم الالتفات إليه بواسطة عروض غفلة وذهول حاصل حال الإغماء والنوم ونحوه ، لوجود الظنّ في تلك الحالة في الخزانة.

وأمّا المقدّمة الثانية : فاستدلّ الوحيد البهبهاني عليها : بأنّ الظنّ هي الصورة الحاصلة في الذهن ، ولا يبقى تلك الصورة حال النزع لشدّتها وكثرة الاضطراب الواقع فيها ، بل ولا تبقى حال النسيان والغفلة أيضا ، فما ظنّك بما بعد الموت حيث صار الذهن جمادا لا حسّ فيه (١)!

أقول : وهذا الاستدلال مبنيّ على أن يكون الذهن جزءا من البدن ويكون الصورة العلميّة محفوظة فيه على وجه لو حاول النفس إدراك تلك الصورة والالتفات إليها كان الذهن وسيلة في نيلها إليها. وهو غير معلوم لا وجدانا ولا

__________________

(١) الرسائل الفقهيّة : ١٥.

٤٤٦

برهانا ، بل المعقول عندنا هو : أنّ الذهن قوّة من قوى النفس الناطقة بها يدرك المعلومات ، وليس من أجزاء البدن ، فخراب البدن وانقطاع الروح منه لا يلازم ارتفاع الصور العلميّة ؛ ولا نضايق من القول بأنّ تعلّق النفس بالبدن العنصري له دخل في حصول الإدراكات والملكات في هذه النشأة ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب القول بزوال تلك الإدراكات عند انخلاع النفس وخروجها من البدن ، إذ يحتمل أن يكون ذلك معدّا وانتفاء المعدّ لا يوجب انتفاء المعلول ، كيف! والقول به على وجه الإطلاق يوجب القول بما لا أظنّ أن يلتزم به أحد ، وهو زوال الصور العلميّة الثابتة للنفس في هذه النشأة ، مع أنّ المقصود الأصليّ من الإيجاد ربما يكون تحلية النفس بالصور العلمية من المعارف والاعتقادات الحقّة ، فإنّها كمال لقوّتيها ـ النظريّة والعمليّة ـ.

أمّا الأولى ، فظاهر. وأمّا الثانية ، فلأنّ تحصيل الملكات الفاضلة وتجريد النفس عن الصفات الرذيلة موقوف على الصور العلميّة ، كما لا يخفى. ولو سلّم فتلك الملكات أيضا في عرض الصور العلميّة ، فإنّها أيضا من الأعراض الحالّة في الحيوان الناطق في الظاهر ، فانقطاع الروح كما يقضي بارتفاع الأولى يقضي بارتفاع الثانية أيضا ، مع أنّ ذلك ظاهر الفساد.

اللهم بالقول بالفرق بين الظنون الحاصلة من النظر والعلوم التي يقتضيها الفطريّة الإلهيّة التي فطره الله عليها. وهو كما ترى لا يساعده دليل ولا يوافقه اعتبار ، فإنّ النفوس الإنسانيّة في بدو الفطرة قبل حدوث العلقة بينها وبين أبدانها ـ كما صرّح به غير واحد من أرباب المعقول والمنقول (١) ونطقت به الآثار

__________________

(١) راجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٣١ وشرح المنظومة : ٣٠٣.

٤٤٧

المعصوميّة (١) ـ خالية عن جميع الصور العلميّة ، ضروريّة كانت أو نظريّة علميّة أو ظنيّة ، ثمّ بواسطة قواها الظاهرة والباطنة يتحلّى بالعلوم الأوّليّة المستتبعة للعلوم النظريّة إلى أن يصل إلى حدّ يكون في ذلك الحدّ عقلا بالفعل ، فكلّ العلوم التي افيض عليها من المبدأ الفيّاض إنّما هي حادثة بعد تعلّق النفوس بالأبدان في هذه النشأة ؛ ولهذا كانت مزرعة للنشأة الآخرة.

وبالجملة ، فنحن لا نسلّم أنّ محالّ هذه الأعراض هي الأجسام الحيوانيّة بل يحتمل احتمالا قويّا أن يكون النفس محلاّ لها ، والمفروض بقاء النفس بعد خراب البدن ، فلا يلزم بقاء العرض مع ارتفاع الموضوع وهو الحيوان الناطق ، فعلى المستدلّ إقامة دليل على ذلك. ولا ينافي ما ذكرنا أن يكون للآلات الجسمانيّة مدخل في حصولها على وجه الإعداد ، غاية الأمر عدم حصولها بعد الموت ، وأين ذلك من زوال الحاصل؟ فلا أقلّ من الشكّ في بقاء تلك الصور ، والأصل قاض ببقائها.

وقد يظهر من بعضهم دعوى زوال الظنّ بعد الموت لا بواسطة أنّ الموت يوجب خراب البدن ، بل بواسطة كشف حجاب النفس عن الواقع واطّلاعها على اللوح المحفوظ بعد الموت. وهو الظاهر من المحقّق الداماد رحمه‌الله في توجيه كلام جدّه المحقّق الثاني حيث أراد السيّد دفع الاستصحاب القاضي بالبقاء ، حيث قال : إنّ الظنّ لمّا جاز أن يكون مخالفا للواقع والموت الجسماني الذي حقيقته انقطاع النفس عن البدن ورجوعها إلى عالم الملكوت الذي هو ميقات حقيقة الحقّ وانكشاف بطلان الباطل ، فيمكن أن يتحقّق به انكشاف خطأ ظنّه الذي كان

__________________

(١) منها قوله تعالى : ( وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) ، النحل : ٧٨. وراجع الميزان ١٢ : ٣١٢.

٤٤٨

حاصلا في الحكم في هذه النشأة ، فلا يبقى اعتقاده القائم بنفسه الذي وجب اتّباعه ، فاستصحاب بقاء الظنّ الحاصل له في الحياة بنحو حصوله فيها غير معقول ، إذ من شرائط الاستصحاب بقاء الموضوع على حاله ، فقياس حال الموت بحال الحياة غلط ناش عن عدم البصيرة (١) ، انتهى.

وظاهره تسليم أنّ الظنّ يمكن بقاؤه بعد الموت وإنّما يناقش في جريان الاستصحاب بواسطة احتمال انقلابه إلى خلافه لاحتمال مخالفته للواقع. وهذا الاحتمال لا يجدي في العلوم المطابقة للواقع والمعارف الحقّة ، كما هو ظاهر.

ثم إنّ ما ذكره إلى آخره لا ينهض بدفع الاستصحاب ، فإنّ مجرّد إمكان انقلاب الظنّ بخلافه لا يكون موجبا لعدم جريان الاستصحاب ، بل هو محقّق لجريانه كما لا يخفى. والقول : بأنّ الموت يوجب زوال الظنّ قطعا إمّا بواسطة كونه مخالفا للواقع وإمّا بواسطة انقلابه علما مطابقا للظنّ فلا يجري الاستصحاب مبنيّ على عدم جريان الاستصحاب في الأمور المختلفة شدّة وضعفا كالسواد المردّد بين انقلابه بياضا أو اشتداده ، والظاهر مساعدة العرف على جريان الاستصحاب في مثل المقام وإن كان الوجه عدم جريانه بملاحظة الدقّة.

إلاّ أنّه مع ذلك لا وجه للاستصحاب في المقام ، فإنّ جواز التقليد ربما يقال مترتّب على الظنون الحاصلة للمجتهد في حال الحياة ولم يدلّ دليل على جواز الرجوع إلى ظنّ المجتهد ولو كان باقيا بعد الموت.

وتوضيحه : أنّ جريان الاستصحاب في الظنّ باعتبار مطلق الاعتقاد الحاصل في ضمن العلم أو الظنّ إنّما يثمر في جواز التقليد بعد الموت فيما لو كان جواز التقليد ثابتا لمطلق الاعتقاد ، وليس كذلك ، بل المعلوم إنّما هو ثبوته للظنّ

__________________

(١) انتهى ما قاله الميرداماد ، انظر شارع النجاة ، المطبوع ضمن ( اثني عشر رسالة ) : ١٠ ـ ١١.

٤٤٩

الحاصل حال الحياة بشرط بقائها ، فإنّ الوجه في المنع هو عدم العلم بالجواز فيما عدا الظنّ الحاصل في زمان الحياة ، بل ولو فرض بقاء الظنّ بعينه بعد الموت ما كنّا نقول بجواز اتّباعه كما عرفت في تقرير الأصل.

ثم إنّه ربما يستدلّ أيضا على ارتفاع الظنّ بعد الموت : بأنّ الإدراك إنّما هو من مقتضيات الصفراء ، وبعد الموت ترتفع جميع الأخلاط.

وهو على تقدير تسليمه لا يقضي بارتفاع الإدراك الحاصل وإنّما يقضي بعدم حصوله بعد ارتفاع ما يقضي به.

وقد يدّعى بداهة عدم بقاء الظنّ وزواله بعد الموت كما هو الظاهر من الوحيد البهبهاني رحمه‌الله (١).

ولعلّ مراده : أنّ من المشاهد المحسوس صيرورة العالم عاميا بعد اندراس علومه وانطماس ملكته بواسطة الهرم والكبر الموجبين لضعف القوى الحيوانيّة سواء كانت من القوى الإدراكيّة أو غيرها ، فكلّما يتزايد الهرم فيه يزداد الضعف في قواه إلى أن يصل إلى حدّ لا يقدر على الكسب ، ثم يزداد إلى أن يصل إلى حدّ لا يقدر على حفظ مدركاته في السابق ، وكلّ ذلك بواسطة اختلال يقع في البدن ، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً )(٢) فلو لا أنّ القوى الجسمانيّة التي ترتفع بعد الموت قطعا لها مدخل في الصور العلميّة حدوثا وبقاء لا معنى لزوال تلك الصورة بعد حدوث الضعف في تلك القوى. وتوضح ذلك ملاحظة حال من اختلّ دماغه بواسطة حدوث حادثة في هامّته كالضرب الشديد مثلا ، فإنّه يختلّ إدراكه ومدركاته أيضا.

__________________

(١) انظر الرسائل الفقهية : ٩ ـ ١٠.

(٢) النحل : ٧٠.

٤٥٠

وبالجملة ، فمدخليّة الأمور الجسمانيّة في حدوث الإدراك وبقائه على الوجه المذكور ظاهر ، إلاّ أنّه مع ذلك لا نجد من أنفسنا الحكم بارتفاع الصور العلميّة بعد الموت بعد ما عرفت من الأمارات المقتضية للبقاء ، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد استدلّ المحقّق الثاني بما يقرب من الوجه المذكور ، وهو : أنّ دلائل الفقه لمّا كانت ظنّية لم تكن حجّيتها إلاّ باعتبار الظنّ الحاصل معها ، وهذا الظنّ يمتنع بقاؤه بعد الموت ، فيبقى الحكم خاليا عن السند فيخرج عن كونه معتبرا شرعا (١).

وتوضيحه : أنّ الأمارات الظنّية بنفسها لا تستلزم النتائج ، وإلاّ لكانت أدلّة ، فلا يجوز التعويل عليها ما لم يقترن معها ظنّ الفقيه على وجه الاستدامة الحكميّة كما في حال النوم والغفلة ؛ ولهذا لا يجوز العمل بها لمن لم يبلغ درجة الفقاهة ولا له بعد زوال ظنّه وتبدّله إلى نقيضه ، فالمعتبر حقيقة هو ظن الفقيه الحاصل من الأمارة ، ويمنع بقاء الظنّ بعد الموت.

واعترض عليه في الوافية (٢) ـ بعد تسلّم زوال الاعتقادات ـ بمنع خلوّ الحكم عن السند ، قال : وهل هذا إلاّ عين المتنازع فيه؟ إذ نقول : إذا حصل للمجتهد العلم أو الظنّ بالحكم من دليل أو أمارة اقترن به علمه أو ظنّه فلم لا يجوز العمل بذلك الحكم؟

وحاصله : أنّه لا دليل على استدامة مقارنة الظنّ للحكم ، لم لا يكتفى باقترانه له في الجملة في حال الحياة؟ فدعوى لزوم المقارنة الدائميّة في مرتبة نفس المدّعى أو عينه.

__________________

(١) حاشية الشرائع : ٩٩.

(٢) الوافية : ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

٤٥١

أقول : لا إشكال في أنّ القدر المعلوم حجّيته ـ على ما قلنا في تقرير الأصل ـ هو الظنّ على الوجه الّذي أفاده المحقّق الثاني فإنّه على تقدير البقاء أيضا قلنا : بأنّه ليس مناطا للعمل ، لكونه مشكوكا فيه. وعلى هذا التقرير لا وجه للمنع المذكور ، فإنّ من يقول بخلافه لا بدّ له من إقامة الدليل ، فإنّه موافق للأصل. لكن الكلام في إتمام هذا الدليل مع قطع النظر عن الأصل على وجه لو كان الأصل بخلاف ذلك يكون كافيا في قطع الأصل ، فاعتراض الفاضل التوني في محلّه كما هو قضيّة الإنصاف.

الخامس : ما استند إليه المحقّق المذكور ، وهو أنّه لو جاز العمل بفتوى الفقيه بعد موته لامتنع في زماننا الإجماع على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين ، والوقوف لأهل هذا العصر عليهما بالنسبة إلى الأعصر السابقة كاد أن يكون ممتنعا (١).

أقول : إنّ معرفة الأعلم في السابقين ليس بأشكل من معرفته في الموجودين ، بل لعلّه أسهل. وعلى تقدير ذلك لا دليل على ثبوته فيكون ساقطا ، لامتناع التكليف بما لا يطاق ، وعلى تقدير السقوط لا يدلّ على عدم جواز تقليد الميّت.

والأولى أن يقال : إنّ وجوب تقليد الأعلم مع جواز تقليد الميّت يوجب عدم جواز تقليد الأحياء في الغالب ، إذ قلّ ما يتّفق أن يعلم بالأعلميّة في الأحياء حتى بالنسبة إلى الأموات ، فالإجماع على وجوب تقليد الأعلم في الأحياء دليل على أنّ الأموات لا عبرة بأقوالهم.

__________________

(١) حاشية الشرائع : ٩٩.

٤٥٢

قال الشهيد (١) في رسالته المعمولة في المسألة : لو صحّ جواز تقليد الميّت يلزم من ذلك التزام شنيع ، وهو أنّه يتعيّن الرجوع حينئذ إلى الأعلم من الأحياء والأموات عملا بما قرّرناه من القاعدة ، فلو فرض مجتهد حيّ يعلم قصور رتبته عن بعض من سلف من الفقهاء الأموات ولكن ليس في العصر سواه أو فيه غيره ولكنّه أعلم الأحياء ، يلزم على هذا عدم جواز الرجوع إليه والأخذ بقوله ، لوجوب تقليد الأعلم والفرض أنّ بعض الأموات أعلم منه وأنّ قولهم معتبر ، وهذا خلاف الإجماع.

لا يقال : هذا الفرض منفيّ بالإجماع على خلافه ، فبقي الكلام فيما لا إجماع عليه ، فإنّ مثل ذلك كاف في تخصيص العامّ والتمسّك بما عدا المخرج بالدليل.

لأنّا نقول : هذا باطل محال لزم من جواز تقليد الميّت من حيث اتّفق أو على وجه مخصوص ، وكلّ حكم لزم منه [ المحال ] فهو محال ، فيكون جواز تقليد الميّت على ذلك الوجه محالا ، وبه يتمّ المطلوب (٢).

أقول : لمانع أن يمنع لزوم ذلك من تقليد الميّت ، فلعلّه ناش من لزوم تقليد الأعلم ، إلاّ أنّه خلاف الإنصاف ؛ لأنّ وجوب تقليد الأعلم عندهم مفروغ عنه ، فالإجماع المحكيّ على وجوب تقليد الأعلم لا بدّ من تخصيصه بالأحياء على وجه يظهر منه عدم الاعتداد بتقليد الأموات ، فيكون هذا الإجماع مثل الاجماعات المنقولة على عدم جواز تقليد الميّت ، إلاّ أنهما مختلفان بالصراحة والظهور.

__________________

(١) أي الشهيد الثاني.

(٢) رسائل الشهيد الثاني ١ : ٤٠.

٤٥٣

السادس : ما تمسّك به المحقّق المذكور أيضا (١) : من أنّ المجتهد إذا تغيّر اجتهاده وجب العمل بالآخر ولا يعلم الأخير في الميّت.

وفيه : أنّه إن اريد أنّه لا يمكن العلم بالتقديم والتأخير في الميّت على وجه الإطلاق فهو غير سديد ، ضرورة إمكان العلم بذلك في كثير من الموارد ، كما أنّه إذا علم تأخير تأليف الكتاب الموجود فيه الفتوى ونحوه. وإن اريد أنّه قد لا يمكن ذلك فهو لا ينهض مانعا من التقليد ، فإنّ الحيّ قد لا يمكن العلم بذلك في فتواه أيضا. وطريق الحلّ فيهما واحد ، وهو عند عدم إمكان العلم أو ما يقوم مقامه بالتعيين إمّا أن يكون متمكّنا من الرجوع إلى فتوى لا معارض لها من ذلك المفتي فلا بدّ من الرجوع إليه ، وإلاّ كان مخيّرا بحكم العقل.

ومنه يظهر الجواب عمّا أورده الشهيد الثاني رحمه‌الله : من أنّ كثيرا من الفتاوى المنقولة من الكتب غير مستند إلى أحد من المجتهدين فلعلّ المفتي بها ليس مجتهدا (٢) ؛ فإنّ انحصار المانع في أمثال هذه الموانع دليل على الجواز على تقدير تسليم وجودها ؛ مع أنّ الظاهر أنّ أحدا من أرباب الكتب المتداولة لا ينسبون القول إلى من ليس مجتهدا.

لا يقال : إنّ تعيين المفتي من الشروط ، لأنّا نقول : لا دليل على ذلك كما يبيّن في محلّه.

ثم إنّهم قد ذكروا وجوها أخر كلّها مزيّفة. والعمدة في المقام هو الوجهان المقدّمان ، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.

__________________

(١) حاشية الشرائع : ٩٩.

(٢) رسائل الشهيد الثاني ١ : ٢٨.

٤٥٤

هداية

في ذكر احتجاج المجوّزين :

وهي كثيرة لا تحصى ، أقواها أمور ، منها : العقل والكتاب والسنّة والإجماع.

أمّا الأول فتقريره من وجوه :

أحدها : ما عوّل عليه المحقّق القمّي رحمه‌الله (١) ومحصّله : أنّ رجوع العامي إلى المجتهد ليس تعبّدا كما يومئ إليه تعليلهم في وجوب الأخذ بالأعلم بأنّ الظنّ في طرفه أقوى ، مضافا إلى أنّه لا دليل على التعبّد. أمّا السيرة والإجماع فلا جدوى فيهما. أمّا الأولى ، فلأنّ السلف المعاصرين للإمام كان باب العلم في حقّهم مفتوحا وعملهم إنّما هو بعلمهم. وأمّا الإجماع فهو موهون بذهاب فقهاء حلب على وجوب الاجتهاد عينا (٢) وإنكار جملة من أصحابنا الأخباريّين للتقليد (٣) ممّا لا يقبل الإنكار ، فأين الإجماع؟ بل التقليد اعتباره في حقّ العامي إنّما هو بواسطة الظنّ الثابت اعتباره بعد الانسداد على وجه العموم والكلّية بالبرهان العقلي ، ولا فرق بين الظنّ الحاصل من قول الحيّ وغيره ، كما هو قضيّة ضرورة العقل ، فمناط

__________________

(١) القوانين ٢ : ٢٧٠.

(٢) كابن زهرة في الغنية ٢ : ٤١٤ ، وابي الصلاح في الكافي : ٥١١.

(٣) انظر هداية الأبرار : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ ، والفوائد المدنيّة : ٤٠ ، وانظر مفاتيح الأصول : ٥٨٩ أيضا.

٤٥٥

العمل بقول الحيّ موجود في قول الميّت ، بل ربما يكون الظنّ الحاصل من قول الميّت أقوى. وبالجملة ، فلا فرق بين المجتهد والمقلّد في جواز العمل بالظن ، فإنّ المسوّغ للمجتهد هو موجود بعينه في حقّ المقلّد ، فلو دار أمره في الفروع بين حيّ وميّت وحصل له الرجحان في أنّ متابعة ذلك الميّت أقرب إلى حكم الله يجب اتّباعه ، بل وكيف يجوز للعالم الذي لا يجوّز ذلك منعه عنه إذا لم يحصل من قوله الظنّ بعدم الجواز؟ وعلى تقدير حصوله فلا يوجب ارتفاع الظنّ في المسألة الفرعيّة ، فيدور الأمر بينهما. ومن هنا يظهر : أنّه لا وجه للقول : بأنّ الإجماع المنقول والشهرة المحقّقة كلّ منهما أمارة ظنّية على عدم جواز الاعتماد على الميّت في الفروع ، إذ بعد تسليم إمكان انعقاد الإجماع في مثل هذه المسألة التي لم تكن متداولة في زمان المعصوم وإفادة المنقول منه ـ كالشهرة ـ الظنّ لا ترجيح لهذا الظنّ بالنسبة إلى الظنّ الحاصل في المسألة الفرعيّة لو لم نقل بأنّ الظنّ بالواقع أقوى ؛ لأنّ المقصود هو الوصول إلى الواقع.

أقول : فيه وجوه من النظر :

أمّا أوّلا : فلأنّ منع السيرة استنادا إلى انفتاح باب العلم في حقّ الموجودين في زمان الأئمّة عليهم‌السلام ممّا لا يصغى إليه ، فإنّه إن أراد من الانفتاح إمكان الوصول لهم إلى الأحكام الواقعية علما فهو ممّا لا سبيل إلى إثباته بل المنصف يقطع بخلافه ضرورة. وإن أراد ما هو الأعمّ من العلم ومن الأمارة المعلومة الاعتبار فهو حقّ ، لكنّه ينهدم معه بنيان الكلام ، إذ ليست تلك الأمارة إلاّ قول العالم للجاهل وفتواه في غير مورد الرواية المنقولة لفظا ومعنى.

وأمّا منع الإجماع بخلاف الحلبيّين والأخباريّين فليس في محلّه ، لانقطاع الأوّل ، وقد عرفت أنّ إنكار الأخباريّ إنّما هو بواسطة حسبانه أنّ الفتوى أمر

٤٥٦

مغاير لما هو جائز عنده ، ولذلك لو لم يكن الفتوى مبنيّة على الأنظار الدقيقة التي ما جعل الله لهم في ذلك حظّا ونصيبا لا نراهم مانعين منه.

وبالجملة ، فجواز تقليد العاميّ في الجملة معلوم بالضرورة للعاميّ وغيره ، وليس علم العاميّ بوجوب الصلاة في الجملة أوضح من علمه بوجوب التقليد مع اتّحاد طريقهما في حصول العلم من مسيس الحاجة وتوفّر الدواعي عليه واستقرار طريقة السلف المعاصرين للأئمة عليهم‌السلام والخلف التابعين لهم إلى يومنا هذا ، وذلك ظاهر جدّا لمن تدبّر.

هذا بالنسبة إلى أصل مشروعيّة التقليد وعلم المقلّد بوجوبه عليه.

وأمّا بالنسبة إلى خصوصيّات التقليد : من أنّه هل يجب تقليد الحيّ أو الميّت أو الأخباريّ أو الاصوليّ إلى غير ذلك من الامور المختلف فيها ، فإمّا أن يكون ذلك العاميّ مرجّحا لأحدهما بواسطة اجتهاده في هذه المسألة على وجه اطمأنّ بأنّه هو الواقع في حقّه فلا كلام ، وإلاّ فإن لم يلتفت إلى ما هو القدر المتيقّن وتردّد بين الخصوصيّتين فحكمه التخيير عنده لو لم يسأل عن حاله في حال التردّد عن المجتهد مع عدم التفاته إلى وجوب السؤال ، وإن سأل فالمجتهد يفتيه بما هو الواقع عنده. وإن التفت إلى ما هو القدر المتيقّن

فعقله من باب الاحتياط يهديه ويرشده إلى الأخذ بالقدر المتيقّن.

فعقد المسألة إنّما هو لبيان تكليف المقلّد لو التفت إلى جهله في هذه المسألة مع عدم طريق ظاهريّ له فيها وسأل عن المجتهد. وإلاّ فالمقلّد لا مناص له من الرجوع إلى الحيّ فيما لو علم الاختلاف بين العلماء وتردّد بين الخصوصيّتين مع التفاته بالقدر المتيقّن ووجوب السؤال كما هو الحال في الأغلب. ولا ينافي ذلك فيما لو رجع إلى المفتي الواجد للمشكوك فيه وأفتاه بكفاية الفاقد للشرط ،

٤٥٧

فإنّه بعد ما صار (١) عالما بواقع المسألة ، بل هداية العقل له إلى الواجد إنّما هو طريق ظاهري علاجا للشكّ في نفس الواقعة دفعا لما يلزم عليه الدور فيما لو رجع إلى الفاقد.

وأمّا ثانيا : فلأنّ القول بمساواة المجتهد والمقلّد في أمثال زماننا الذي يتوقّف الاستنباط على مقدّمات لا ينال إليها إلاّ الأوحديّ من الناس يكاد يلحق بإنكار الضروريّات ، كيف! لو كانا متساويين لزم على المقلّد تحصيل الظنّ بعدم المعارض ، كالمجتهد ، فإنّ مناط العمل بالظنّ فيهما هو الدليل العقلي ، وهو لا يقتضي حجّيّة الظنّ مطلقا ولو كان قبل الفحص ، فإن قلت بوجوب الفحص فيهما يلزم منه تفسيق عامّة المقلّدين ، وإن قلت بعدمه فيهما فهو مخالف لما اعترف به الكلّ. وإن قلت بالفرق بينهما بواسطة الإجماع على العدم في المقلّد والوجوب في غيره ، قلنا : لعلّ اتّفاقهم على العدم بواسطة اعتقادهم أنّ العاميّ لا يقاس حاله بحال المجتهد لانفتاح باب العلم الشرعيّ في حقّه وهو الفتوى.

والإنصاف : أن القول بأن التقليد من باب الدليل العقلي في غاية الركاكة ، لأنّ هذا الدليل العقليّ وإن لم نقل بلزوم الاطّلاع على تفاصيل مقدّماته ـ كما أورده بعض الأفاضل (٢) ـ وقلنا بأنّ مقدّماته ثابتة في الواقع ، فلا ينافي اعتقاد بعض العلماء خلافها ، فإنّ ذلك غير ضائر فيما هو الواقع كما أورده المورد المذكور ممّا ليس مستندا للعاميّ في عمله ورجوعه إلى المفتي ، فإنّ الداعي إلى ذلك ليس إلاّ ما هو المفطور في جميع الناس من رجوع الجاهل إلى العالم ، وذلك

__________________

(١) كذا ، والظاهر : بعده صار.

(٢) لم نعثر عليه.

٤٥٨

وإن كان بواسطة تحصيل المعرفة بالحكم ، إلاّ أنّ الأغلب عدم حصولها منه ، بل ولا يحصل الظنّ أيضا كما هو ظاهر لمن راجع وجدانه ، ومع ذلك فهو المقرّر من الأئمة عليهم‌السلام والمطابق لما عليه العمل من الأمّة قديما وحديثا ، فصار بذلك طريقا للجاهل. وهذا هو المسوّغ للمجتهد في ردعه العاميّ عن العمل بالظنّ الحاصل من قول الميّت.

كيف! ولو قيل بأنّ الظنّ هو الطريق في حقّ المقلّد يلزم منه إمّا تخريب أساس الشريعة ، أو فرض العاميّ مجتهدا ؛ لأنّ ذلك الدليل العقليّ لا يختصّ بالتقليد ، بل يعمّ سائر الأمارات الظنّية.

والقول بأنّ الإجماع إنّما قام على عدم جواز العمل بغير التقليد من الأمارات الظنّية مع أنّ المناط هو الظنّ بعد أنّه تناقض في حكمي العقل والشرع على وجه لا مصحّح له ـ كما بيّنا في وجه استثناء القياس ـ ممّا لا سبيل إلى إثباته ، فإنّ الإنصاف : أنّ المنع من غير التقليد إنّما هو بواسطة أنّ التقليد طريق خاصّ في حقّه ، وأمّا على تقدير الظنّ فلا نسلّم انعقاد الإجماع على عدم جواز العمل بما يستفاد للعاميّ من الأخبار على وجه ظنّي ، ومن المعلوم : أنّ ذلك يوجب بناء فقه جديد ، كما هو ظاهر.

فإن قلت : إنّه يجب ردعه عن مثل هذه الظنون.

قلت : كيف يجوز للعالم ردعه مع عدم حصول الظنّ من قوله وكون الحكم مظنونا في حقّه؟ سلّمنا الإجماع على عدم جواز العمل بتلك الأمارات حتّى على تقدير كون التقليد ظنّيا لكنّه لا ينفع ؛ لأنّه ليس بديهيّا يعرفه العاميّ ، والاطّلاع على الإجماع ممّا يمنعه المستدلّ كما يظهر منه ، وإخبار المجتهد له ربما لا يوجب الظنّ.

٤٥٩

وأمّا ثالثا : فلأنّ الظنّ الحاصل من الإجماع المنقول والشهرة المحقّقة بين العلماء الماهرين المطّلعين على الأسرار الإلهيّة أقوى من الظنّ الحاصل من قول الميّت في المسألة الفرعيّة ، بل لا يكاد يقاس أحدهما بالآخر.

قوله (١) : إن الظن بالواقع يقدّم على الظن بالحكم الظاهري.

قلنا : قد فرغنا عن إبطال هذا القول ـ كالقول بلزوم الأخذ بالظنّ في الحكم الظاهري ـ في محلّه ، فإنّ نظر العقل في دليل الانسداد الذي هو العمدة في الأدلّة هو الحكم بلزوم تفريغ الذمّة ، ولا فرق في ذلك بين الواقع وبين أبداله.

لا يقال : إنّ أقربيّة هذا الظنّ في نظر المقلّد أوّل الكلام ، وعلى تقديره فلا دليل على لزوم الأخذ بهذه الأقربيّة.

لأنّا نقول : إنّ أقربيّة هذه الظنون في نظر المجتهد هو المعيار ، فإنّ نظر المقلّد قد عرفت عدم انضباطه وعدم اعتباره ، ولا يمكن إلقاء عنانه في عنقه لئلاّ يتّبع كل ناعق وناهق. وأمّا لزوم الأخذ بهذه الأقربيّة ، فلأنّ دليل الانسداد لا يمكن أن يكون مفاده حجّيّة كلّ واحد من هذين الظنّين اللذين يقتضي اعتبار أحدهما عدم اعتبار الآخر.

فإمّا أن يقال : بأنّ كلّ واحد من هذين الظنّين خارج عن الدليل وهذا بعد كونه محالا ـ لأنّ الدليل العقلي غير قابل للتخصيص ـ مثبت للمطلوب ، وهو عدم اعتبار قول الميّت إذا صار مظنونا.

وإمّا أن يقال : بأنّ الأولى استعماله للظنّ في المسألة الأصولية لكونه بمنزلة المزيل للظنّ في المسألة الفرعيّة ، وهو أيضا مثبت للمطلوب.

__________________

(١) أي المحقّق القمي قدس‌سره ، راجع القوانين ٢ : ٢٦٩.

٤٦٠