مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

وأخبار وافرة (١) واستجوده الثاني (٢). فزعم أنّ أصالة حجّيّة كلّ ظنّ إنّما هي من ثمرات مسألة الملازمة ، إذ بعد إحراز حكم العقل بحجّيّة الظنّ وتطابق الحكمين ـ كما هو المقصود بالبحث في الملازمة ـ فالظنّ حجّة شرعيّة وأيّة ثمرة أعظم منها ، إذ عليها تدور رحى الفقه من الطهارات إلى الديات.

واعترض عليه بعض من تأخّر عنه (٣) بمنع مقدّمات الانسداد على ما قرّره المورد.

ولعمري! إنّه اعتراض بارد ومنع فاسد ، إذ لا يناط ترتّب الثمرة على صحّة المذهب كما لا يخفى ، بل إن كان ولا بدّ من الاعتراض فليعترض : بأنّ جماعة ـ منهم السيّد علم الهدى (٤) والعلاّمة (٥) رحمه‌الله (٦) ـ نقلوا الإجماع على حجّيّة الظنّ في مورد الانسداد ، فلا ثمرة أيضا. إلاّ أنّه أيضا (٧) بمعزل عن الصواب ، كما لا يخفى.

والتحقيق فيه يتوقّف على تمهيد مقدّمة فيها تتميم لما تقدّم أيضا.

فنقول : قد تقدّم وجوب دفع الضرر الدنيوي عقلا ، وقد مرّ فيه الكلام على وجه يليق بالمقام. وأمّا الضرر الأخروي فلا شكّ في كونه واجب الدفع أيضا ،

__________________

(١) الوافية : ١٧٤.

(٢) شرح الوافية : ٢٢٢.

(٣) انظر الفصول : ٣٥١.

(٤) لم نعثر عليه ، نعم اعترف بالعمل بالظن عند تعذّر العلم ، كما حكى عنه الشيخ في الفرائد ١ : ٣٨٨ ، وانظر رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣٩.

(٥) انظر المختلف ٣ : ٢٦.

(٦) في ( ط ) بدل « رحمه‌الله » : « آية الله ».

(٧) لم يرد « أيضا » في ( ش ).

٤٢١

بل العقل حكمه فيه أشدّ والنقل إبلاغه أبلغ ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ألف ألف ضربة من السيف أحسن من الموت على الفراش » (١) في مقام الجهاد ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى (٢) ، ولا يصلح لمعارضته شيء مع وجوده ـ بخلاف الضرر الدنيوي ـ فإنّه مع احتمال العقاب لا يعقل معارضته بشيء آخر ، إلاّ أن يرتفع العقاب ، فلا كلام في أنّ العقل يستقلّ بوجوب دفع الضرر سيّما إذا كان أخرويا ، إلاّ أنّ الحكم العقلي في المقام وأمثاله إنّما هو مجرّد إرشاد وإراءة للمصلحة (٣) إذ لا تشريع منه (٤) وطلب وجوبيّ أو ندبيّ على اختلاف مراتب المصالح.

والحكم الشرعي المطابق لحكم العقل أيضا هو إرشادي ، إذ لا حكم تشريعيّ كما هو توهّمه بعضهم ، وإذ هو فاسد ؛ لأنّ المراد من الإرشاد في الأوامر والنواهي المسوقة لبيان ذلك (٥) ليس إلاّ بيان حقيقة الفعل وآثاره المترتّبة عليه من مدح أو ذم أو نحوهما من غير أن يكون مفيدا لإيجاب أو استحباب أو تحريم (٦) ،

__________________

(١) الوسائل ١١ : ١١ ، الباب الأوّل من أبواب الجهاد ، الحديث ٢٣ ، وفيه : « ألف ضربة ... ».

(٢) في ( ش ) : « ممّا لا يخفى ».

(٣) في ( ش ) : « إرادة لمصلحة ».

(٤) في ( ط ) : « أو تشريع منه ».

(٥) العبارة في ( ط ) هكذا : « والحكم الشرعي المطابق لحكم العقل أيضا هو حكم إرشادي أو حكم تشريعي. قد يتوهّم ـ كما عن بعضهم ـ أنّ حكم العقل في أمثال المقام وكذا حكم الشرع حكم تشريعيّ. وليس على ما توهّمه ؛ لأنّ المراد بالإرشاد في الأوامر والنواهي المسوقة لبيانه ليس ... ».

(٦) في ( ش ) : « للإيجاب أو الاستحباب أو التحريم ».

٤٢٢

فلا يترتّب على مخالفة الأوامر الإرشاديّة إلاّ ما يترتّب على نفس الفعل من آثاره ، ولا على إطاعتها إلاّ ما يترتّب عليه في (١) نفسه من دون أن يترتّب على الإطاعة والعصيان فيهما (٢) ما يترتّب عليهما في الأوامر (٣) التشريعيّة من الفوائد المنوطة بهما ، والعقل في مقام الحكومة لا يزيد حكمه على هذا القدر كما لا يخفى (٤) إذ ليس له سلطان المالكيّة. وأمّا الشرع وإن كان له سلطنة التشريع. إلاّ أنّ في بعض الأفعال ما يمنع عنه وبعضها ممّا لا يقبله كما في الأوامر الواردة في مقام الإطاعة والعصيان كقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(٥) مثلا ، وفي مقام الاتّقاء عن النار كقوله تعالى : ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ )(٦) وفي مقام طلب القرب (٧) إليه ورفع الدرجة في الجنّة وأمثالها ؛ فإنّ تلك الامور غايات (٨) في الأوامر الشرعيّة ، فالأمر بها لا يزيد على إفادة حسنها في نفسها من غير أن يحتاج إلى غاية أخرى فيها. وعلى هذا فلا يصحّ أن (٩) يكون الأمر بها في الشريعة أمرا تشريعيّا.

__________________

(١) لم يرد « في » في ( ش ).

(٢) كذا ، والظاهر : فيها.

(٣) لم يرد « الأوامر » في ( ش ).

(٤) لم يرد « كما لا يخفى » في ( ش ).

(٥) النساء : ٥٩.

(٦) البقرة : ٢٤.

(٧) في ( ط ) زيادة : « بالنسبة ».

(٨) في ( ش ) زيادة : لسائر الأوامر الشرعيّة مثل i أَقِيمُوا الصَّلاةَE ونحوه من التكاليف.

(٩) في ( ط ) : « فلا يصلح لأن ».

٤٢٣

وإن أبيت عن ذلك ، فنقول : لو كان الأوامر المترتّبة على تلك الامور وما يقاربها تشريعيّة يلزم التسلسل ، وبطلان التالي كالملازمة ضروريّ ، فلا يترتّب على مخالفة النهي عن معصية الرسول إلاّ ما يترتّب على معصية الرسول ، ولا عصيان في تلك المخالفة ؛ لما عرفت من لزوم التسلسل على تقديره.

فظهر من جميع ما مرّ : أنّ حكم العقل بوجوب شيء إنّما هو مجرّد إرشاد منه ، وحكم الشرع المطابق له قد يكون تشريعيّا كما في كثير من الشرعيّات ، وقد يكون إرشاديّا كما في وجوب دفع الضرر الاخروي المنتهى إلى العقاب وما يماثله ؛ وإذا تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : قد تقدّم في مباحث الظنّ اختلاف مشارب القائلين بالانسداد في كيفيّة الاستنتاج منه ، فتارة بالحكومة كما هو مشرب التحقيق ، واخرى بالكشف على ما مرّ تفصيل القول في بيان المراد منهما. وعلى التقديرين لا وجه لتفريع مسألة الظنّ على مسألة الملازمة.

أمّا على الأوّل : فلأنّ حكم العقل تارة في مقدّماته كقبح التكليف بما لا يطاق ، واخرى في نفس النتيجة وعلى التقديرين لا يتمّ ما ذكره.

أمّا الأوّل ، فلأنّ قبح التكليف راجع إلى فعل الله تعالى وخروج أفعاله تعالى عن مسألة التلازم والتطابق ممّا لا يدانيه ريبة ، فإنّ أفعاله تعالى ليس ممّا يتعلّق به حكم شرعيّ. وأمّا الحكم العقلي فيها (١) فليس على ما هو المتراءى منه كما تخيّله جهّال الأشاعرة على ما تقرّر في محلّه.

__________________

(١) في ( ش ) : « وأمّا العقلي فيهما ».

٤٢٤

وأمّا الثاني ، فلأنّ حكم العقل بالعمل بالظنّ ـ على ما عرفت ـ مرجعه إلى الاحتياط في المظنونات ، وهو من فروع الإطاعة والعصيان وقد تقدّم (١) في المقدّمة الممهّدة عدم تعلّق حكم شرعيّ بهما. فالظنّ حال الانسداد كالعلم حال الانفتاح ، فكما أنّ العلم لا يقبل الجعل ـ كما ذكر في باب القطع ـ فكذا الظنّ ، فلا وجه لجريان مسألة التلازم فيه. سلّمنا كون الإطاعة والعصيان ممّا يقبل الحكم الشرعيّ على ما قد يتوهّم ، إلاّ أنّ الأدلّة الشرعيّة الآمرة بالإطاعة والناهية عن العصيان في الكتاب والسنّة فوق حدّ الإحصاء ؛ فلا ثمرة أيضا ، كما لا يخفى ذلك.

وأمّا على الثاني : فلأنّ مرجع الاستنتاج على القول بالكشف إلى قياس استثنائيّ مركّب من منفصلة مانعة الخلوّ ، فينتج رفع التالي وضع المقدّم ، كأن يقال : المرجع إمّا الظنّ أو العلم أو البراءة أو الاحتياط ، والتوالي فاسدة للمفاسد المترتّبة عليها ـ كما هو المقرّر في محلّه ـ فينتج مرجعية الظنّ مثلا. وهذا الحكم العقلي البرهاني وإن كان حجّة شرعيّة أيضا ، إلاّ أنّه خارج عن مسألة التلازم والتطابق ، فإنّ الفاضل التوني (٢) إنّما هو في مقام دفع الثمرة في الأحكام العقليّة التي تثبت من جهة التحسين والتقبيح العقليّين ، دون الاستلزامات العقليّة كوجوب مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ وأمثالهما.

ولو لا أنّ الكلام في ثمرة الحسن والقبح ـ فالأحكام العقليّة ولو كانت شرعيّة ممّا لا تعدّ ولا تحصى ـ فلا وجه للاقتصار على مسألة الظنّ ، فإنّ كثيرا

__________________

(١) في ( ط ) : « تقرّر ».

(٢) الوافية : ١٧٤.

٤٢٥

ما ثبت الحكم الشرعي بأدلّة عقليّة صرفة كاجتماع النقيضين على تقدير عدمه أو وجوده ، وأمثال ذلك ممّا لا يخفى على المتدرّب في مطاوي كلماتهم ومجاري استدلالاتهم (١).

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المطلوب من حجّيّة الظنّ حال الانسداد هو كونه مناطا لجميع الأحكام الشرعيّة من الحكم بفسق المتخلّف عنه والحكم بعصيانه ونحو ذلك كما في الظنون الخاصّة ، فإنّ المتخلّف عن البيّنة (٢) ولو كان مصادفا للواقع عاص في الظاهر. فالقائل بالظنّ المطلق لا بدّ له من التزام هذه الأحكام كما هو كذلك أيضا (٣) فإنّهم ملتزمون بها ، كما لا يخفى على المطّلع بكلماتهم. والدليل الناهض بحجّيّة الظنّ لا يفي بذلك ، فإنّ غاية ما يتصوّر استفادته منه هو وجوب العمل بالظنّ بمعنى الاكتفاء بالامتثال الظنّي ، ولا دلالة فيه على حرمة التخلّف عنه ولو كان مصادفا للواقع ، فلا بدّ من إثبات كون الظنّ حجّة شرعيّة على ما هو الشأن في سائر الحجج الشرعيّة ولو بواسطة عنوان التجرّي والانقياد اللاحقين في حالتي المخالفة والموافقة ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يتمّ القول بكونها ثمرة للملازمة ، للأدلّة الكثيرة الواردة في مقام التجرّي والانقياد شرعا [ كما لا يخفى ](٤) لو لم نقل بأنّ التجرّي والانقياد أيضا من فروع الإطاعة والعصيان على ما قد توهّمه بعضهم (٥) ، فتدبّر.

__________________

(١) لم ترد عبارة « في مطاوي كلماتهم ومجاري استدلالاتهم » في ( ش ).

(٢) في ( ش ) زيادة : « خبر الواحد بناء على كونه من الظنّ الخاصّ ».

(٣) لم يرد « أيضا » في ( ش ).

(٤) لم يرد « كما لا يخفى » في ( ش ).

(٥) انظر تفصيل المسألة في فرائد الأصول ١ : ٣٧ ـ ٥٠.

٤٢٦

تمّ الكلام في أصالة الإباحة ، والسلام على من اتّبع الهدى (١).

__________________

(١) لم ترد « والسلام على من اتّبع الهدى » في ( ط ) ، وفيها زيادة ما يلي :

« تمّ ما أفاده ـ قدّس الله نفسه الزكيّة ـ في مسائل الملازمة وأصالة الإباحة. ثمّ لا يخفى أنّه ـ طاب ثراه ـ قد خرج من قلمه الشريف ما يتعلّق بمسائل القطع والظنّ ، وما يتعلّق بمسائل البراءة والاستصحاب ، وكذا مسائل التعادل والتراجيح على النحو الأوفى. إلاّ أنّ المسائل المذكورة لمّا برز فيها ما أفاده بلا واسطة شيخه وأستاذه بل أستاذ الكلّ الشيخ مرتضى الأنصاري ـ طيّب الله رمسه العالي ـ واشتهر في غاية الاشتهار حتّى انحصر في عصرنا بحث المشتغلين في كلّ مجلس فيه أغنانا ذلك عن طبع ما برز منه رحمه‌الله بواسطة صاحب المطارح ، فصرفنا الهمّة من بعد ذلك إلى طبع مسألتي تقليد الميّت وتقليد الأعلم ، فإنّهما أنفع للمشتغلين ».

٤٢٧
٤٢٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الكلام في اشتراط الحياة في المفتي

٤٢٩
٤٣٠

هداية

اختلفت كلمات أرباب النظر في اشتراط الحياة في المفتي.

فالمعروف بين أصحابنا الاشتراط.

والمنسوب إلى العامّة عدمه ، بل صرّح في المنهاج (١) بإجماعهم عليه ، حيث قال : جواز تقليد الميّت إجماعيّ في عصرنا.

وهو خيرة الأخباريّين من أصحابنا ، ومنهم أمينهم الأسترآبادي (٢) والمحدّث الكاشاني في محكيّ السفينة (٣) وفي مفاتيحه ظاهرا (٤) والسيّد الجزائري (٥) ، ووافقهم المحقّق القمّي (٦) من المجتهدين.

وذهب بعضهم الى عدمه (٧) مع عدم المجتهد الحيّ ، نقله فخر المحقّقين (٨) عن والده واستبعده وحمل كلامه على محلّ آخر. وهو المحكيّ عن

__________________

(١) لا يوجد لدينا.

(٢) الفوائد المدنيّة : ١٤٩.

(٣) سفينة النجاة المطبوع ضمن الأصول الأصيلة : ١٣٩.

(٤) مفاتيح الشرائع ٢ : ١٥٢ ، المفتاح ٤٩١.

(٥) كشف الأسرار ٢ : ٧٧ ـ ٩٢.

(٦) القوانين ٢ : ٢٦٥ ـ ٢٧٣.

(٧) أي عدم اشتراط الحياة.

(٨) حاشية الشرائع ( مخطوط ) : ١٠٠ ، وعنه في الوافية : ٣٠٠.

٤٣١

الأردبيلي (١) والشيخ سليمان البحراني (٢) والشيخ عليّ بن هلال (٣).

قلت : ولعلّه ليس تفصيلا في المقام ، فإنّ الكلام ـ على ما ستعرف ـ إنّما هو في الجواز عند التمكّن من استعلام حال الواقعة من الحيّ ، وأمّا عند عدمه فلبيان الحكم فيه محلّ آخر ، كما لو انقرض الاجتهاد ، العياذ بالله.

وذهب الفاضل التوني (٤) الى عدم الاشتراط فيما إذا كان المفتي ممّن علم من حاله أنّه لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأدلّة كالصدوقين ومن شابههما من القدماء ، فإنّه يجوز الأخذ بفتاويهم حيّا وميّتا. وأمّا إذا كان ممّن يعمل بالأفراد الخفيّة للعمومات واللوازم الغير الظاهرة للملزومات فلا يجوز تقليده حيّا وميّتا.

وهو أيضا ليس من التفصيل في هذه المسألة وإنّما ذلك يعدّ تفصيلا في أصل التقليد. فالأولى عدّ الفاضل في عداد نظرائه من الأخباريّين.

ونقل السيّد صدر الدين في محكيّ شرح الوافية (٥) عن بعض معاصريه التفصيل بين البدوي والاستمراري ، فلم يقل بالاشتراط في الثاني وقال به في الأوّل.

والمختار ما هو المعروف بين الأصحاب. وقبل الخوض في المطلب ينبغي رسم مقدّمة :

وهي : أنّه لا إشكال في اختلاف الفتوى والرواية في الأحكام واللوازم المترتّبة عليهما. أمّا الرواية المنقولة لفظا فمغايرتها واختلافها للفتوى أمر لا يكاد

__________________

(١) مجمع الفائدة ٧ : ٥٤٧.

(٢ و ٣) حكاه عنهما السيّد الصدر في شرح الوافية : ٤٧٠ ـ ٤٧١.

(٤) الوافية : ٣٠٧.

(٥) شرح الوافية : ٤٧١.

٤٣٢

يستريب فيه العاقل فضلا عن الفاضل. وأمّا المنقولة معنى فهي وإن كانت مفاد اللفظ الصادر عن الإمام عليه‌السلام لكنّه بشرط العلم أو الظنّ المعتبر بمساواة الألفاظ في الأصل والمنقول في الإفادة ، ولا يجوز التعويل في النقل على أمر قد اعتقده اجتهادا ، والملحوظ فيه إنّما هو بيان المراد من حديث واحد. إلى غير ذلك.

وأمّا الفتوى فهي عبارة عن الإخبار بأحكام الله بحسب الاعتقاد ، ومنشأ الاعتقاد إنّما يكون الخبر تارة وغيره تارة أخرى ، فيجوز الفتوى عند توقّفها على إعمال الظنون الاجتهاديّة في الأحاديث الواصلة إلى المجتهد والأخذ بمجامعها وحمل بعضها على بعض. إلى غير ذلك من الاختلافات التي يطّلع بها الخبير المتتبّع بين الفتوى والنقل للرواية معنى.

ومن هنا منع من الفتوى بعض من لم يمنع من الرواية معنى ، بل لعلّ النقل بالمعنى ممّا لم يقل بالمنع منه أحد من أصحابنا ، فإنّ المخالف في هذه المسألة أبو بكر الرازي وأتباعه (١). بخلاف الفتوى ، فإنّ الأخباريّة بأجمعهم على المنع من الإفتاء ، فإنّه فرع الاجتهاد وهم ليسوا من أصحاب الاجتهاد كما هو المعروف من طريقهم. وكلمات جملة منهم ممّن اطلعنا عليها صريحة فيما ذكرنا ، فما يجوز عندهم من الفتوى عبارة عن نقل الحديث بالمعنى ، وما ليس كذلك فلا يجوّزونه ويلحقونه بالقول بالقياس والاستحسان ، ويعتقدون أنّ أرباب الفتاوى ـ بالمعنى الذي ذكرنا ـ خرجوا بذلك عمّا هو المأخوذ عن الأئمّة الأطهار ، وزعموا أنّهم في ذلك تبعوا العامّة في العمل بالرأي والاجتهاد المنهيّ عنه والاستحسان.

وليس المقام محلّ إبطال ذلك الزعم ، وإنّما المقصود أنّهم لمّا أرادوا الفرق بين الفتوى والنقل اعتقدوا فساد الأوّل زعما منهم أنّها داخلة في المنهيّ عنه.

__________________

(١) انظر الإحكام للآمدي ٢ : ١١٥.

٤٣٣

والكلام في المقام إنّما هو في جواز التقليد بعد الموت في هذه الفتاوى التي لا يقول الأخباري بها حال الحياة أيضا ممّا هي موقوفة على إعمال الاعتقادات في تشخيص مداليل الأدلّة.

ولا كلام لنا في الأخبار المنقولة بالمعنى على وجه لا يختلف الأصل والمنقول إلاّ في العبارة كما في الترجمة بالفارسيّة من مراعاة العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ، فإنّه لا يجوز نقل المطلق بالمقيّد وإن ظنّ الناقل أنّ المراد منه المقيّد ، فإنّ ذلك الظنّ منه اجتهاد لا يكون حجّة إلاّ له. ومن هنا يظهر أنّ خلاف الأخباريّين كما نقلناه ليس واردا في هذا المقام ، على ما عرفت من كلام التوني أيضا.

قال السيّد الجزائري (١) في مقام الاستدلال على ما ذهب إليه من عدم الاشتراط : إنّ كتب الفقه شرح لكتب الحديث ومن فوائدها تقريب معاني الأخبار إلى أفهام الناس ؛ لأنّ فيها العامّ والخاصّ والمجمل والمبيّن ... إلى غير ذلك. وليس كلّ أحد يقدر على بيان هذه الامور من مفادها ، فالمجتهدون بذلوا جهدهم في بيان ما يحتاج إلى البيان وترتيبه على أحسن النظام والاختلاف بينهم مستند إلى اختلاف الأخبار أو فهم معانيها من الألفاظ المحتملة ، حتى لو نقلت تلك الأخبار لكانت موجبة للاختلاف ، كما ترى الاختلاف الوارد بين المحدّثين ، مع أنّ عملهم مقصور على الأخبار المنقولة ، وبالجملة فلا فرق بين التصنيف في الفقه والتأليف في الحديث ، انتهى.

__________________

(١) قاله في بعض رسائله ، ولا توجد لدينا كما قاله القمي أيضا في شرح الوافية ( مخطوط ) : ٤٧١ ـ ٤٧٢.

٤٣٤

ويظهر منه أنّ تجويزهم لذلك ليس إلاّ من جهة أنّ الفتوى عندهم هي الرواية المنقولة بالمعنى على وجه لو اعتقد اختلافهما ما كان يقول بذلك ، كما هو ظاهر من مساق كلامه.

وبالجملة ، أنّ المجتهدين قد خالف طريقتهم طريقة الأخباريّين في العمل بالظنون الاجتهاديّة التي هي منتهية إلى القطع ، والأخباريّون لا يعتقدون العمل بالظنون وإن كان عملهم على خلاف معتقدهم ، فيتخيّلون أنّ الفتوى عبارة عن الرواية المنقولة ، فحسبوا جواز الاعتماد عليها بعد الموت وقبله كالرواية. بخلاف المجتهدين ، فإنّهم يعتقدون الاختلاف بين الرواية والفتوى بما عرفت ، فلا يرون الجواز.

ومن هنا يظهر أيضا : أن لا وجه لاستدلال بعضهم بطريقة السلف ، فإنّهم كانوا يعملون بفتاوى عليّ بن بابويه عند إعواز النصوص ، فإنّ تلك الفتاوى ليست بمنزلة الفتاوى المعمولة عندنا ، فإنّ أمثالها من فتاوى أصحاب الأئمة إنّما هي في الأغلب مضامين الروايات كما يرى الأخباريّون في مطلق الفتاوى ، فهي أخبار منقولة بالمعنى وهي حجّة للمجتهد والمقلّد ، ومن اطّلع على حال السلف وكيفيّة الاستفتاء والإفتاء يقطع بما ذكرنا.

ويكفيك شاهدا في المقام ما قاله العمري بعد ما سئل عنه عن كتب الشلمغاني ، فإنّه قال : أقول فيها ما قاله العسكري عليه‌السلام في كتب بني فضّال : « خذوا ما رووا وذروا ما رأوا » (١) فإنّه أفتى بنصّ الرواية.

__________________

(١) كتاب الغيبة : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ، الحديث ٣٥٥ ، والوسائل ١٨ : ٧٢ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٩.

٤٣٥

وليس ذلك راجعا إلى تفصيل التوني (١) ، فإنّه يعتقد ذلك في الفتاوى الموجودة. وهو خطأ وإنّما ذلك مختصّ في زمان الأئمة وما يقرب منه ، حيث إنّه لم يكن الفقه والاستنباط بهذه الصعوبة ، كما لا يخفى على المطّلع.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا في المقدّمة ، فالذي يدلّ على المختار وجوه :

الأوّل : أصالة حرمة العمل بالظنّ بل بمطلق ما وراء العلم التي دلّت الأدلّة الأربعة بتمامها عليها ، خرج عنها فتوى الحيّ إجماعا ووفاقا منّا ومن القائلين بعدم الانسداد ، بقي الموارد المشكوكة تحت الأصل ومنها فتوى الميّت. ولا مخرج عن هذا الأصل سوى ما تخيله المجوّز ، وستعرف فساده.

فإن قلت : لا نسلّم أنّ الرجوع إلى الحيّ وفاقيّ ، فإنّ القائل بوجوب تقليد الأعلم إذا قال بجواز تقليد الميّت لا يحكم بالمساواة بل المقدّم هو الأعلم ولو كان ميّتا.

قلت : إنّ التخيير عند التساوي يلازم التخيير عند الأعلميّة ، لعدم القائل بالتفصيل ؛ مع أنّ القائل بوجوب تقليد الأعلم لا يقول بجواز تقليد الميّت غالبا ، لاتّحاد المناط.

ولا وجه لمنع الفاضل التوني عن عموم الأدلّة الدالّة عليه واختصاصها للاصول (٢). كيف! وعمومها ممّا لا ينبغي إنكاره ؛ مع أنّ منع العموم يوجب خللا في أمره وأمر نظرائه من الأخباريّة في موارد كثيرة ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الوافية : ٣٠٧.

(٢) الوافية : ٣٠٤.

٤٣٦

وبالجملة فقد قرّرنا في محلّه : أنّ الحجّية متن كانت مشكوكة يجب القول بعدمها ، والمقام منه ، فإنّ قول الميّت مع قول الحيّ مشكوك الحجّيّة والشكّ فيهما كاف في الحكم بعدم الحجّيّة.

وممّا ذكرنا تعرف فساد ما قد يقال : إنّ الأصل الجواز فإنّ ذلك في مقام الشكّ في الحجّيّة ممّا لم يقل به أحد.

الثاني : ظهور الإجماع المحقّق من الطائفة المحقّة. ويمكن الاطّلاع عليه واستعلامه من كلمات أصحابنا الإماميّة في المسألة ، فإنّ نقل الاتّفاق والإجماع فوق حدّ الاستفاضة.

فعن المحقّق الثاني في شرح الألفيّة : لا يجوز الأخذ عن الميّت مع وجود المجتهد الحيّ بلا خلاف بين علماء الإمامية (١).

وعن المسالك : فقد صرّح الأصحاب في كتبهم المختصرة والمطوّلة وفي غيرها باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله. قال : ولم يتحقّق إلى الآن خلاف في ذلك ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا وإن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور (٢).

وقال في محكيّ الرسالة المعمولة في المسألة : تحقّق بعد التتبّع الصادق لما وصل إلينا من كلامهم ما علمنا من أصحابنا ممّن يعتبر قوله ويعتمد على فتواه مخالفا في ذلك ، فعلى مدّعي الجواز بيان القائل به على وجه لا يلزم منه خرق الإجماع. ثم قال : ولا قائل بجواز تقليد الميّت من أصحابنا السابقين وعلمائنا

__________________

(١) شرح الألفية ( رسائل المحقق الكركي ) ٣ : ١٧٦.

(٢) المسالك ٣ : ١٠٩.

٤٣٧

الصالحين ، فإنّهم ذكروا في كتبهم الأصوليّة والفقهيّة قاطعين بما ذكرنا (١). وادّعى في محكيّ كتاب آداب العلم والتعلّم الإجماع على ذلك (٢).

وعن المعالم العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود المجتهد الحيّ (٣).

وعن شارع النجاة للمحقّق الداماد نفي الخلاف صريحا (٤).

وهو الظاهر من العلاّمة في النهاية (٥) ، حيث لم يذكر الخلاف بعد الفتوى ، مع أنّ عادته ـ سيّما في النهاية ـ على ذكر الخلاف.

وعن ابن أبي جمهور الأحسائي : لا بدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله ووجب الرجوع إلى غيره ، إذ الميّت لا قول له ؛ وعلى هذا انعقد إجماع الإماميّة وبه نطقت مصنّفاتهم الأصولية ، لا أعلم فيه مخالفا منهم (٦).

وعن المقدّس الأردبيلي نسبته إلى الأكثر (٧).

ولا يدلّ على وجود الخلاف بعد ما علمت من ذهابه إلى التفصيل الذي قد قلنا بأنّه ليس تفصيلا. فالنسبة إلى الأكثر بواسطة خلاف العلاّمة على

__________________

(١) رسائل الشهيد الثاني ١ : ٤٤.

(٢) انظر منية المريد : ١٦٧.

(٣) المعالم : ٢٤٨.

(٤) شارع النجاة ، المطبوع ضمن ( اثني عشر رسالة ) : ١٠.

(٥) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٤٤٤.

(٦) راجع « رسالة التقليد » للشيخ الانصاري : ٣٣.

(٧) مجمع الفائدة ٧ : ٥٤٩.

٤٣٨

ما حكاه الفخر (١) والشيخ الجليل عليّ بن هلال (٢).

وعن الوحيد البهبهاني في فوائده : أنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ الفقيه لو مات لا يكون قوله حجّة (٣). وقال في موضع آخر : وربّما جعل ذلك من المعلوم من مذهب الشيعة (٤).

وقال بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين بعد اختياره ذلك : للإجماع المحقّق (٥).

ولعمري! إنّ الإنصاف يقضي بعدم غرابة هذه الدعوى منه بعد ما سمعت كلام الأساطين المتتبّعين الماهرين في البعد (٦) والتحصيل. وأمّا ما ذكره الشهيد في الذكرى (٧) من خلاف البعض ، فهو كما يراه الشهيد الثاني من أنّ « العلماء » يعمّ العامّة والخاصّة (٨) ، وبعض الأعمّ أعمّ من بعض الأخصّ. وهذا هو الشهيد الثاني فقد نسب القول (٩) إلى الأكثر ، مع ما عرفت من ادّعائه الإجماع.

__________________

(١) حكاه عن الفخر المحقق الثاني في حاشية الشرائع الورقة : ١٠٠.

(٢) انظر شرح الوافية : ٤٧١ ، ومناهج الأحكام : ٣٠١.

(٣) انظر الرسائل الفقهية : ٧ ـ ٨ و ١٦.

(٤) انظر الرسائل الفقهية : ٧ ـ ٨ و ١٦.

(٥) لعلّه المحقق الكلباسي في الجزء الثاني من إشارات الأصول ، لا يوجد لدينا.

(٦) كذا ، ولا نعرف القصد من ذلك.

(٧) الذكرى ١ : ٤٤.

(٨) رسائل الشهيد الثاني ١ : ٤٧.

(٩) أي القول بالجواز المنقول عن العامة ، حيث نسبه إلى الأكثر في المنية : ١٦٧ ، والمقاصد العلية : ٥١ ـ ٥٢.

٤٣٩

وبذلك يندفع ما قد يستكشف من العلاّمة الخلاف في التهذيب (١) ـ على ما حكي ـ حيث إنّه عبّر أنّ الأقرب كذا ، فإنّ أمثال هذه العبارة لا تنافي الإجماع ، ألا ترى عبارة العلاّمة في متابعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للشرع السابق ، فإنّه يقول في التهذيب : الأقرب أنّه لم يكن متعبّدا بشرع (٢) مع ظهور قيام الضرورة عندنا على عدم المتابعة.

وأمّا مخالفة الأخباريّين فقد عرفت أن ذلك بواسطة تخيّلهم أنّ الجائز من الفتوى لا يفارق النقل بالمعنى ، كما عرفت من كلام السيّد الجزائري (٣) ، حيث إنّه صريح فيما ذكرنا. كما أنّ خلاف العامّة أيضا لا ينبغي أن يعدّ خلافا ، لاستقرار طريقتهم على بطلان الاجتهاد الخارج من الأربعة.

وبالجملة ، دعوى الإجماع على عدم الجواز من أصحابنا الإماميّة ـ سيّما على طريقة الحدس ـ ليس بعيدا. ومجرّد كون المسألة رباعيّة الأقوال لا ينافي الإجماع بعد ما عرفت من رجوع التفصيل إلى المنع كما في تفصيل العلاّمة (٤) وإلى الجواز كما في تفصيل التوني (٥) وكون القول الآخر للعامّة.

فما يظهر من بعض عوام الأخباريّة تقليدا لبعض الآخر منهم : من أنّه أين الإجماع في مثل المسألة؟ ممّا لا يصغى إليه ، لا سيّما بعد اعتراف بعض الأعاظم (٦)

__________________

(١) تهذيب الوصول : ٢٨٩.

(٢) تهذيب الوصول : ١٧٨.

(٣) راجع الصفحة : ٤٣٤.

(٤) راجع الصفحة : ٤٣٢.

(٥) راجع الصفحة : ٤٣٢.

(٦) لعل المراد منه الشهيد الثاني في كلامه المحكي عن الرسالة كما تقدم في الصفحة : ٤٣٧.

٤٤٠