مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

وما يستفاد من بعض الأدلّة الناهضة عليها من إثبات الإباحة كقوله : « كلّ شيء مطلق » (١) ونحوه إنّما هو تفضّل من الدليل ، وإلاّ فلا وجه للتمسّك ببعض ما لا يستفاد منها إلاّ رفع العقاب كما هو الغالب فيها ، كقوله : « ما حجب الله علمه عن العباد ... » (٢) وقوله : « رفع عن امتي ... » (٣) ونحوهما ممّا يدل على الرفع والوضع وانتفاء العقاب والمؤاخذة.

لا يقال : إنّ مفاد أصالة الإباحة لا يزيد على نفي الحرج وعدم المؤاخذة ، فلا ينهض فرقا.

لأنّا نقول : إنّ المبيح يدّعي الإذن والترخيص ، كما يستفاد من قولهم في دفع حجة الحاظرين : بأنّ الإذن معلوم.

وأمّا ثالثا : فبأنّ النزاع في المقام في الإباحة الواقعيّة ، وفي البراءة في الإباحة الظاهرية. ويظهر ذلك من الرجوع إلى مطاوي استدلالاتهم وفحاوي كلماتهم ، ألا ترى أنّهم قد جعلوا في قبال القول بالحظر القول بالوقف (٤) مع تصريحهم باشتراكهما في العمل (٥) ، فلولا أنّ المراد بالحظر الحظر الواقعي لما صحّ عدّ القول بالوقف قولا آخر ، ولا شكّ أنّ الحظر بعد ما كان واقعيّا لا مناص من كون الإباحة أيضا واقعيّة.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٩١٧ ، الباب ١٩ من أبواب القنوت ، الحديث ٣.

(٢) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

(٣) الوسائل ١١ : ٥٦ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل والثاني.

(٤) وهو مختار الشيخ في العدّة ٢ : ٧٤٢ ، ونسبه فيه إلى شيخه المفيد قدس‌سره ، وانظر معارج الاصول : ٢٠٣ ، ومناهج الأحكام : ٢٠٨.

(٥) كما صرّح به السيّد في الذريعة ٢ : ٨٠٩.

٤٠١

وممّا يدلّ على أنّ الكلام في المقام في الإباحة الواقعيّة استدلال القائل بالحظر بأنّ التصرّف في الأشياء المذكورة تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، وجواب المبيح : بأنّ الإذن من المالك معلوم ، فإنّ كلاّ من الدليل والجواب أدلّ دليل على أنّ المراد بالإباحة والحظر الواقعيّين منهما كما لا يخفى ، إذ التصرّف في ملك الغير حرمته واقعيّة وبعد معلوميّة الإذن إباحة التصرّف واقعيّة. وكذا احتجاج القائل بالإباحة بما يقرب من قاعدة اللطف يلائم كونها واقعيّة ، إلى غير ذلك ممّا يلوح من عنواناتهم لها في ذيل مبحث الحسن والقبح في عرض وجوب شكر المنعم ، كما عرفت في أوّل الوجوه (١).

فإن قلت : بعد ما كانت الإباحة واقعيّة لا يجوز ورود الشرع بخلافها لأولها (٢) إلى التناقض بين العقل والشرع.

قلت : ورود الشرع بخلافها لا يقتضي التناقض ، فإنّ العقل في موضوع التصرّف في ملك الغير بغير إذن المالك يحكم بالحظر وفي موضوع (٣) الإذن يحكم بالإباحة ، ولا يجوز ورود الشرع بخلاف حكم العقل في هذين الموضوعين. نعم ، يمكن تبدّل أحد الموضوعين بالآخر بحصول الإذن كما في الغصب على ما لا يخفى ، فلا تناقض على تقديره.

وأمّا رابعا : فلأنّ المستفاد من ظاهر قولهم : « أصالة الإباحة » ومن موارد إجرائها فيها ـ كما هو المتداول في ألسنة القدماء ـ اختصاصها بالشبهة التحريميّة. ومن ظاهر « البراءة » اختصاصها بالشبهة الوجوبيّة ولا أقلّ من عمومها لها وللتحريمية.

__________________

(١) راجع الصفحة : ٣٤٠.

(٢) في ( ش ) : « لأدائها ».

(٣) في ( ش ) زيادة : « موضع ».

٤٠٢

فالفرق ظاهر بين المقامين. وربما يذكر في وجه الفرق وجوه أخر ضعيفة (١).

الثاني من الامور (٢) في تحرير محل النزاع :

فنقول : الأشياء عند العدليّة تنقسم على قسمين : قسم يستقلّ بإدراك حكمه العقل ، وقسم لا يستقلّ.

الأوّل خارج عن هذا النزاع وينقسم على أقسامه الخمسة : من الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة العقليّات.

والثاني أيضا على قسمين ، فإنّه إمّا من الأفعال التي لا يمكن بقاء النوع وحفظ النظام بدونه ـ كالتنفّس في الهواء ونحوه من ضروريّات العيش ـ وإمّا أن لا يكون من هذا القبيل. والأوّل أيضا خارج عن هذا النزاع ، ضرورة حكم العقل بجواز ارتكابه فيه (٣) ، ففي الحقيقة مرجع هذا القسم إلى الأوّل. والثاني لا يخلو إمّا أن يكون ممّا يشتمل على أمارة المنفعة أم لا. وعلى الثاني فلا شكّ في كونه (٤) لغوا وعبثا ، فلا يجوز الارتكاب فيه أيضا (٥) إمّا الكراهة عقليّة أو حرمة ، كما لا يخفى (٦). والأوّل إمّا أن يكون ممّا يشتمل على أمارة المفسدة أيضا أم لا. وعلى الأوّل فلا ريب أيضا في عدم جواز الارتكاب فيها. وعلى الثاني فهو محلّ النزاع.

__________________

(١) في ( ط ) بدل « ضعيفة » : « كلّها غير وجيهة فلا نطيل بذكرها وتزييفها ».

(٢) تقدّم أوّلها في الصفحة : ٣٩٩.

(٣) في ( ط ) : « بجواز الارتكاب فيهما ».

(٤) في ( ط ) : « كونها ».

(٥) في ( ط ) : « أيضا فيها ».

(٦) لم ترد عبارة « إمّا لكراهة عقليّة أو حرمة كما لا يخفى » في ( ش ).

٤٠٣

وبالجملة ، فالنزاع إنّما هو في الأفعال الغير الضروريّة التي لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه الخالية عن إمارة المفسدة المشتملة على أمارة المنفعة.

وربما توهّم بعض الأجلّة (١) دخول ما لا فيه أمارة المفسدة ولا أمارة المنفعة (٢) في النزاع ، وليس بسديد. وأمّا ما زعمه من اشتمال العنوان بشموله لها بعد ما يظهر منهم التصريح بخلافه في عناوينهم (٣) ، فممّا لا يصغى إليه ، كتوهّم شمول الأدلّة لها. نعم ما زعمه من الدليل ربما يشمله ، إلاّ أنّه بمعزل عن الصواب ، لعدم استقامة الاحتجاج بمثله في أمثال المقام كما لا يخفى (٤).

بقي هنا شيئان :

أحدهما : ما استشكله المحقّق القمّي (٥) : من أنّه بعد ما كان مثل شمّ الطيب وأكل الفاكهة ممّا اختلف في إباحته ، فأي شيء يبقى بعد ذلك يكون مباحا عقليّا في قبال أقسامه الأربعة؟ فالأولى تربيع الأقسام فيما يستقلّ العقل بإدراك حكمه.

وقد يجاب عنه بما ذكره بعض الأجلّة (٦) : بأنّ التقسيم مبني على أن يراد باستقلال العقل في الجملة ولو بحسب بعض أفراده ، وفساده غير خفيّ.

__________________

(١) الفصول : ٣٤٧.

(٢) في ( ش ) : « ما لا فيه الأمارتين ».

(٣) الفصول : ٣٥٠.

(٤) لم ترد عبارة « كتوهّم ـ إلى ـ كما لا يخفى » في ( ش ).

(٥) القوانين ٢ : ٩.

(٦) لم يرد « بعض الأجلّة » في ( ش ) ، وانظر الفصول : ٣٤٦.

٤٠٤

وقد يجاب أيضا (١) : بأنّ العلم بعدم المفسدة فيما فيه أمارة المصلحة يوجب القطع بالإباحة ، فهو مباح عقليّ قطعيّ.

ويرد عليه : أنّ دليل الحاظر : بأنّ التصرّف فيه تصرّف غير مأذون فيه يجري فيه أيضا ، فلا يصير متّفقا عليه كما هو المطلوب ، ولا غائلة فيه بعد تمييز (٢) المفاهيم.

وثانيهما : ما هو المعروف بينهم : من أنّ فرض العنوان فيما لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه يناقض دعوى الحاظر والمبيح باستقلال العقل (٣) : بإباحته أو حظره. وهذا هو الوجه في اختيار الحاجبي عدم الحكم في المسألة (٤) حيث إنّ الحكم فرع الحاكم ولا حاكم في المقام ، أمّا العقل فلأنّ المفروض عدم استقلاله بالحكم ، وأمّا الشرع فلأنّ الكلام قبل وروده.

وأجيب (٥) عنه بوجوه :

الأوّل : أنّ لا يستقلّ بإدراك حكم العناوين الخاصّة من حيث أنفسها وفي حدود ذواتها ـ كأكل الرمّان وشرب الماء البارد ـ فيما ليس هناك ضرورة ونحوهما ، وهو لا ينافي استقلال العقل بإدراك حكم عنوان عامّ صادق على تلك العناوين الخاصّة على وجه كلّي إجمالي كما في الحكم بكليّة الكبرى في الشكل الأوّل.

__________________

(١) انظر القوانين ٢ : ٩.

(٢) في ( ط ) : « تميّز ».

(٣) في ( ش ) : « بالاستقلال ».

(٤) المختصر وشرحه : ٧٧ ـ ٧٨.

(٥) انظر الفصول : ٣٥٠.

٤٠٥

وفيه : أنّ التقسيم حينئذ يبقى (١) بلا وجه ، لجريانه بعد فيما يستقلّ العقل بإدراك حكمه ، مثلا : الظلم الخاصّ القائم بشخص خاصّ ممّا لا يستقلّ العقل بقبحه بخصوصه ، بل مما يستقلّ العقل بإدراك حكمه من حيث اندراجه تحت عنوان كلّي « الظلم ». وكذا ردّ الوديعة ونحوه لو لوحظ من حيث خصوص أفراده لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه ، ولو لوحظ باعتبار شمول عنوان كلّي له فهو من المستقلاّت العقليّة (٢) ونحن لا نقول : بأنّ اختلاف حكم الكلّي والجزئي لا يجزي في دفع الإشكال ، كيف! ولولاه لبطل الاستدلال من أصله ، بل نقول : بأنّ مجرّد هذا الاختلاف لا يقضي بعدّ الظلم من المفاهيم التي يستقلّ العقل بإدراك حكمه ، وما نحن فيه ممّا لا يستقلّ بإدراكه بعد جريان الكلام المذكور فيه أيضا كما عرفت.

الثاني (٣) : انّ ما لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه ضرورة من دون حاجة إلى الوسط في الإثبات هل يستقل بإدراك حكمه بالنظر ومع ملاحظة الدليل والوسط أم لا؟ فمحلّ النفي هو الإدراك الضروري ومحلّ الإثبات على تقديره هو الإدراك النظري ، فلا تناقض.

وقد يستفاد هذا الجواب من تحرير البعض في عنوان البحث كالعميدي (٤) على ما لا يخفى (٥).

__________________

(١) لم يرد « يبقى » في ( ش ).

(٢) لم ترد عبارة « لو لوحظ ـ إلى ـ العقليّة » في ( ش ).

(٣) في ( ش ) زيادة : « من الوجوه ».

(٤) انظر منية اللبيب : ٢١.

(٥) لم يرد « على ما لا يخفى » في ( ش ).

٤٠٦

وفيه أيضا : ما عرفت من جريانه بعينه فيما يستقلّ العقل بإدراكه ، كيف! ومرجع هذا الوجه عند التدبّر هو الوجه الأوّل ، وعلى (١) بعض الوجوه فالعنوان الذي لا يستقلّ بإدراك حكمه العقل إلاّ بعد ملاحظة الوسط ليس من المستقلاّت العقليّة وإنّما الوسط منها.

ولا معيار في المقام لاختلاف المراتب ، فربما يكون الشيء بعنوان جزئي منها وربما يكون منها باعتبار صنفه على اختلاف مراتب الأصناف أو باعتبار نوعه أو جنسه السافل إلى أن يصل إلى جنس الأجناس في سلسلة الطول ، فأكل الفاكهة في المقام بمنزلة الظلم الشخصي في ذلك المقام. فكما أنّ الظلم الشخصي لا يعدّ من المستقلاّت العقليّة إلاّ باعتبار الاندراج فكذلك ، أكل الفاكهة لا يعدّ منها إلاّ باعتبار التصرّف في ملك الغير الذي مرجعه في الحقيقة إلى عنوان الظلم على بعض الوجوه ، كما لا يخفى.

الثالث : ما أفاده بعض أفاضل المتأخّرين (٢) طاعنا على الفاضل القمّي حيث استصعب دفع الإشكال ، وهو : أنّ الحكم في المقام بالنسبة إلى مرحلة الظاهر والجهل بالنسبة إلى مرحلة الواقع ، والنفي في الواقع لا ينافي الإثبات في الظاهر كما في أصالة البراءة ، فإنّ شرب التتن ممّا لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه الواقعي ويستقلّ بإدراك حكمه الظاهري من غير تناقض بين الحكمين.

وفيه : أنّك قد عرفت فيما تقدّم : أنّ حكم العقل بالإباحة عند المبيح وبالحظر عند الحاظر واقعيّ على ما هو لائح من مطاوي كلماتهم وإن كان باعتبار جهالة حكم موضوعه.

__________________

(١) في ( ط ) : « على ».

(٢) لم نعثر عليه.

٤٠٧

وتوضيحه وتحقيقه يحتاج إلى رسم مقدّمة ، وهي : أنّه لا يتصوّر في الحكم العقلي أن يكون ظاهريّا بل كلّ ما يحكم به العقل فهو حكم واقعي ، لأنّ اختلاف الأحكام الشرعيّة بأن يكون بعضها واقعية وبعض آخر ظاهريّة إنّما هو بواسطة إمكان جعل حكم في الواقع وعدم الوصول لمانع إلى المكلّف ، فما هو مجعول واقعا حكم واقعيّ ، وما هو المحكوم به في مقام العمل والفتوى حكم ظاهري. وهذا كما هو ظاهر يصحّ فيما لو كان الحاكم غير المكلّف وأمّا فيما إذا كان هو المكلّف ـ كما فيما نحن فيه ـ فلا وجه لعدم الوصول حتّى يقال : بأنّ المجعول الغير الواصل حكم واقعيّ والمحكوم به في مقام الجهل بالواقع حكم ظاهريّ.

لا يقال : قد يكون الفعل قبيحا والعقل من حيث جهله بقبحه مثلا يحكم بجواز ارتكابه وإباحته ، فمن حيث قبحه واقعا له حكم واقعيّ ، ومن حيث الجهل به له حكم ظاهريّ.

لأنّا نقول : الكلام في المقام إنّما هو في الحكم التابع للقبح والحسن على ما هو المقرّر في المراد منهما (١) في محلّ النزاع ، والحسن والقبح بالمعنيين المعهودين لا يلحقان للأفعال (٢) الغير الاختياريّة اتّفاقا من العدليّة والأشعرية ، فالفعل القبيح في الواقع لا يتّصف بالقبح إلاّ بعد العلم به على وجه يصير (٣) اختياريّا ، فهو حال الجهل لا يتحقّق قبيحا ؛ لأنّ المفروض عدم العلم بالعنوان القبيح ومع عدمه لا يصحّ قصده وبدون القصد لا يكون اختياريّا فلا يكون متّصفا بالقبح في الواقع.

__________________

(١) لم يرد « في المراد منهما » في ( ش ).

(٢) كذا ، والظاهر : لا يلحقان بالأفعال.

(٣) في ( ط ) زيادة : « به ».

٤٠٨

وإذا تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : إنّ حكم العقل بقبح التصرّف في ملك الغير يقع على وجوه :

فتارة مع العلم بعدم إذنه ، ولا ريب في كونه حكما واقعيّا غير منوط بالجهل.

وأخرى مع عدم العلم بإذنه ، فإمّا مع إذنه واقعا أو مع عدم الإذن في الواقع ، والحكم بقبح التصرّف في الصورتين أيضا حكم واقعيّ وإن كان في موضوع الجهل (١) ، فإنّ تعريض النفس في معرض الهلاكة عنوان حكم العقل ولا اختلاف فيه في جميع الصور ، وعدم وقوع الهلاكة في البعض لا يناط بالاختيار ، فلا يصحّ القول بكونه فارقا في الصور الثلاثة.

وبالجملة ، فمقتضى القول بالحظر ـ كما هو ظاهر ما تمسّك به ـ هو الحظر الواقعي. وفي قباله القول بالإباحة ، سيّما بعد ملاحظة ما أجابوا به عن دليل الحظر من معلوميّة الإذن هو الإباحة الواقعيّة. فجعل النزاع في الحكم الظاهري في المقام ـ كما في أصالة البراءة ـ ودفع التناقض بأنّ عدم الاستقلال إنّما هو بالنسبة إلى الواقع والاستقلال إنّما هو بالنسبة إلى الظاهر إنّما هو تأويل بما لا يرضاه المتنازعون ، كما لا يخفى على المتأمّل (٢).

فالتحقيق في دفع الإشكال هو أن يقال : إنّ استقلال العقل إنّما هو في موضوع عدم وجدان ما يقتضي المفسدة ، وعدم استقلاله فيما لم يلاحظ مع الفعل هذا العنوان ، وليس من الحكم الظاهري في شيء ، فإنّ موضوعات أحكام العقل

__________________

(١) في ( ش ) : « وإن كان موضوع موضع الجهل ».

(٢) لم يرد « كما لا يخفى على المتأمّل » في ( ش ).

٤٠٩

ليس أحدها في سلسلة طول الآخر ، بل الكلّ في عرض سواء. بخلاف الأحكام الشرعيّة ، فإنّها ربما يكون أحد الموضوعين فيها في عرض الموضوع الآخر ـ كالحاضر والمسافر ـ وقد يكون مرتّبا على الآخر كما في أصالة البراءة على ما سيجيء تحقيقه ـ إن شاء الله ـ والأحكام الظاهريّة إنّما تتصوّر فيما إذا كان أحد الموضوعين مرتّبا على الآخر. مثلا حكم العقل بحرمة الظلم حكم واقعيّ وحكمه بحرمة الضرب فيما إذا شكّ في حصول التأديب أيضا حكم واقعي وإن حصل التأديب ، ومثله في الشرعيّات يسمى بالحكم الظاهري ، فإنّ للشيء مع قطع النظر عن العلم والجهل حكما مخزونا في الشرع.

وأمّا الأحكام العقليّة ، فموضوعاتها لا تحصل إلاّ بعد العلم والإرادة ، حيث إنّ الكلام ـ على ما عرفت ـ إنّما هو في الحكم التابع للحسن والقبح اللاحقين للأفعال (١) الاختياريّة التي لا تصير اختياريّة إلاّ بعد العلم والإرادة ، فما لم يقصد حصول عنوان لم يحصل على وجه يتّصف بالحسن والقبح وإن وقع ما هو القبيح أو الحسن في الواقع ، كالتأديب المترتّب على الضرب فيما لم يكن مقصودا وقتل النبيّ المترتب على الصدق إذا لم يكن الصادق مريدا له في صدقه.

والسرّ في جميع ذلك هو ما عرفت في المقدّمة الممهّدة : من أنّ مناط الانقسام إلى الحكمين هو إمكان جعل الأحكام الشأنيّة وعدم وصولها إلى المكلّف ، فيمكن أن يقال : إنّ للشيء مع قطع النظر عن الجهل حكما ومن حيث هو مجهول حكما آخر. بخلاف الأحكام العقليّة ، فإنّ الشأنيّة فيها غير معقول ، لامتناع ذهول النفس عنها ، كما لا يخفى.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : اللاحقين بالأفعال.

٤١٠

الثالث من الامور (١) : في بيان الأقوال في المسألة :

فقيل بالإباحة (٢). وقيل : بالحظر (٣). وتوقّف شيخ الأشاعرة (٤) ، وفسّر تارة بعدم الحكم (٥) ، واخرى بعدم العلم بالحكم (٦).

قلت : إنّ التفسير الأوّل يلائم مذهب الأشاعرة بعدم حكم للعقل في أمثال المقام ، كما عن الحاجبي (٧) وأضرابه ، والتفسير الثاني يلائم كون هذا البحث إحدى مسألتي التنزّل والمماشاة ، كما لا يخفى.

وإذ قد عرفت هذه الامور فالمنقول من حجج المبيحين امور :

أحدها : ما نقله الشيخ في محكيّ العدّة (٨) : من أنّ تلك الأفعال منفعة بلا مضرّة. أمّا إنّها منفعة فبالفرض ، وأمّا إنّها بلا مضرّة ؛ لأنّها لو كانت فيها مضرّة آجلا أو عاجلا لوجب على الحكيم اللطيف نصب أمارة مفيدة للعلم ولا أقلّ من الظنّ المفيد للوثوق عليها والمفروض عدمها.

__________________

(١) تقدّم ثانيها في الصفحة : ٤٠٣.

(٢) ذهب إليه المرتضى في الذريعة ٢ : ٨٠٩ وفي العدّة ٢ : ٧٤٢. نسبه إلى أكثر المتكلمين من البصريين وفي المناهج : ٢٠٨ نسبه إلى كثير من الامامية.

(٣) قال الشيخ : ذهب كثير من البغداديين وطائفة من أصحاب الامامية إلى انها على الحظر. العدة ٢ : ٧٤٢.

(٤) كما نسب إليه في المناهج : ٢٠٨ والفصول : ٣٤٦ واختاره الشيخان. انظر مختصر كتاب اصول الفقه : ٤٣ والعدة ٢ : ٧٤٢.

(٥) نسبه في المناهج : ٢٠٨ إلى الرازي.

(٦) كما فسّر به النراقي في المناهج : ٢٠٨.

(٧) انظر المختصر وشرحه : ٧٧ ـ ٧٨.

(٨) العدّة ٢ : ٧٤٦ ـ ٧٤٧.

٤١١

والجواب عنه ـ على ما نبّه به الشيخ (١) والمحقّق الجمال في تعليقاته على العضدي (٢) ـ منع لزوم نصب أمارة عليها ، لم لا يجوز أنّه تعالى قد وكلنا على أنفسنا بعد وضوح طريقة العقلاء في الإطاعة والعصيان.

وهذا الجواب عن الشيخ كما ترى يناقض ما أورده في الإجماع : من أنّ طريق ثبوت الإجماع منحصر في سلوك سبيل اللطف (٣) ، بل هذا هو بعينه ما أورد عليه السيّد (٤). ومن العجب! أنّ السيّد قد احتجّ للقول بالإباحة بهذه الحجّة (٥). اللهمّ إلاّ أن يوجّه بأنّ اللطف ربما يقول بوجوبه الشيخ على الله تعالى بعد ما يقتضي التكليف ، لا قبل ملاحظة ما يقتضي التكليف. إلاّ أن فيه ما لا يخفى.

وبالجملة فالسيّد والشيخ متعاكسان في المسألتين ، بل ربما يعدّ هذا من الشيخ من وجوه التأييد لاعتبار الإجماعات المنقولة في كلماته رحمه‌الله (٦).

وثانيها : أنّ الأشياء المشتملة على المنفعة لو لم تكن مباحة لزم أن يكون إيجادها عبثا منه تعالى (٧) ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا (٨).

__________________

(١) العدّة ٢ : ٧٤٦ ـ ٧٤٧.

(٢) الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، ذيل قول العضدي : « لا حكم لأفعال العقلاء قبل الشرع » ، الورقة : ٩٩.

(٣) انظر العدّة ٢ : ٦٠٢ و ٦٢٨.

(٤) لم يرد « السيّد » في ( ش ).

(٥) الذريعة ٢ : ٨١٠ ـ ٨١١.

(٦) في ( ط ) : « في كلامه ، فتدبّر ».

(٧) انظر الذريعة ٢ : ٨١٩ ، والعدة ٢ : ٧٤٧.

(٨) لم ترد عبارة « تعالى عن ذلك علوّا كبيرا » في ( ش ).

٤١٢

وفيه : أنّ سخافته بحيث لا يخفى على أحد ، إذ غاية ما يمكن للقول (١) عدم العلم بالفائدة ، ولا يلزم منه عدم الفائدة ، وإلاّ فالفائدة فيها معلومة لمن تدبّر وتبصّر.

وثالثها : ما احتجّ به بعض الأجلّة (٢) ، وهو : أنّ ضرورة العقل قاضية بالإباحة في الظاهر عند عدم ما يدلّ على الخلاف ، من غير فرق بين المشتمل على المنفعة وغيره ، لظهور أنّ التكليف بأقسامه الأربعة مشروط بالعلم والبيان عقلا وعادة ، وإذ ليس فليس ، ولا نعني بالإباحة إلاّ ذلك.

وفيه ـ بعد الغضّ عمّا أشرنا إليه سابقا في تحرير محلّ النزاع من انحصار عناوين القوم فيما يشتمل على المنفعة ، ومن أنّ الحكم بالإباحة حكم واقعيّ ـ أنّه إن أراد قضاء ضرورة العقل بالإباحة بمعنى عدم الحرج والمؤاخذة فمسلّم ، إلاّ أنّه لا يجديه ، لوقوعه في غير محلّ النزاع ، كما صرّح به العضدي (٣) حيث حكم بعدم النزاع في الإباحة بهذا المعنى حتى عند الأشعري. وإن أراد الإباحة بمعنى الإذن والترخيص كما قد يقال باستظهاره من نفي الأحكام الأربعة وإثباته. ففيه : أنّه لا نسلّم قضاء الضرورة (٤) بالإباحة بهذا المعنى.

وما تخيّله : من اشتراط التكليف بأقسامه الأربعة بالعلم فهو كذلك ، إلاّ أنّ الإباحة بهذا المعنى ـ أيضا ـ من الأحكام التكليفيّة ويحتاج إلى العلم عقلا وعادة. ولو سلّم فانتفاء الأربعة لا يلازم إثبات الإباحة ، لوجود الواسطة وهو

__________________

(١) في ( ط ) : « ما يمكن القول به ».

(٢) الفصول : ٣٤٧.

(٣) شرح مختصر الاصول : ٧٨.

(٤) في ( ط ) : « لقضاء ضرورة العقل ».

٤١٣

عدم الحكم ، فإنّ الأحكام وإن كانت منحصرة في الخمسة ، إلاّ أنّه لا ينهض دليل على ثبوتها في جميع الأشياء بحسب حكم العقل ، فتدبّر.

ورابعها : ما استند إليه جملة من المتأخّرين (١) ، وهو استقرار طريقة العقلاء بعدم الاجتناب عنها وحكمهم بلحوق المتحرّز عنها بأصحاب السوداء والجنون ، واستحقاق المقتصر في التنفّس على قدر الحاجة للذمّ عقلا.

وفيه : أنّ محلّ الكلام على ما مرّ يشمل فيما لو كان المفسدة مشكوكة ؛ لأنّ انتفاء أمارة المفسدة لا ينافي الشك بوجودها (٢). ولا نسلّم استقرار طريقة العقلاء في محلّ الشكّ بالإباحة لو لم نقل بأنّ سجيّة كلّ عاقل يحكم بالاجتناب عند الشكّ ، لعدم العلم بالإذن عند الشك. وأمّا إلحاق المتحرّز بأصحاب السوداء والجنون فهو إنّما يثمر في إبداء الاحتمال ، لا العمل بمقتضاه بعد حصول الشكّ (٣).

وبالجملة ، لا دلالة في الدليل المذكور على الإباحة في جميع الصور ، بل العقلاء يقتصرون على الظنّ بالسلامة ولو بتحصيل الظنّ من بعض السوالف (٤) ، والامور الغير المعتبرة من التسويلات النفسانيّة كما هو مشهور (٥).

__________________

(١) منهم المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٩.

(٢) كذا ، والظاهر : في وجودها ، وكذا في الموارد الآتية.

(٣) في ( ط ) زيادة ما يلي : « كما قد يمكن الاستشعار من قولهم أصحاب السوداء ، على ما لا يخفى ».

(٤) السوالف ، جمع السالفة ، لغة عاميّة يقصد بها القصص وأمثالها.

(٥) في ( ط ) زيادة ما يلي : « كما هو مشهود من ملاحظة حالهم في أمور معاشهم ، مثلا لو فرضنا نزول بليّة مساوية النسبة في الكلّ فالنفس تحتال في إخراجها منها لا على وجه يكون مردّدا في الواقع ، بل في تحصيل الظنّ بالخروج ، كما لا يخفى ».

٤١٤

وقد يحتجّ للقول بالإباحة بأقيسة مشهورة وأمثلة عرفيّة (١) ، كالاستظلال بحائط الغير والاستضاءة من نوره والاصطلاء بناره. وليس على ما ينبغي ، للقطع بالفرق من حصول الإذن فيها دون غيرها كما لا يخفى.

واحتجّ القائل بالحظر بوجهين :

الأوّل : ما مرّ الإشارة إليه مرارا : من أنّ ارتكاب تلك الأفعال تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، فإنّ العبد في مقام العبوديّة لا يملك شيئا حتى نفسه فكيف لغيرها! والتصرّف في ملك الغير بغير إذنه قبيح فيحرم التصرّف فيها (٢).

والجواب عنه : أنّ قبح التصرّف في ملك الغير مطلقا عقلا (٣) ممنوع ، بل ما يستلزم (٤) التضرّر للمالك أو في صورة منع المالك وإن لم يستلزم ضررا بالنسبة إلى المالك ، فإنّ التصرّف في ملك الغير لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه بعنوان نفسه ، بل من حيث أوله إلى عنوان آخر يستقلّ العقل بإدراك حكمه كالظلم ونحوه ، وعند انتفاء التضرّر أو عدم المنع لا قبح فيه ، لعدم رجوعه إلى عنوان قبيح. نعم ، في الصورتين المذكورتين يرجع إلى الظلم.

أمّا الأولى : فظاهر.

وأمّا الثانية : فلأنّه بعد تسليم تسلّط المالك على ملكه وعدم إذنه في التصرّف ومنعه منه بعد التصرّف فيه بغير إذنه ظلما ، فإنّه وضع الشيء

__________________

(١) كما احتجّ بها المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٩.

(٢) انظر الذريعة ٢ : ٨٢١ ، والمختصر وشرحه للعضدي : ٧٧.

(٣) لم يرد « عقلا » في ( ط ).

(٤) في ( ش ) : « ما لا يستلزم » ، وفي ( ط ) : « ما لم يستلزم ».

٤١٥

في غير محلّه ، ومن المعلوم تعاليه ، تعالى عن الضرر والمنع اقتراحا كما في غيره من الملاّك. ولك أن تقول : إنّ التضرّر في حقّه تعالى ممتنع غير معقول ، وكذلك المنع الاقتراحي. إلاّ أن يحتمل أن يكون بواسطة ضرر متعلّق بنا ، فإنّ أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض الراجعة إلينا دفعا للعبث والاستكمال في حقّه تعالى. ومع هذا الاحتمال لا يجوز الإقدام على ارتكاب مثل تلك الأفعال.

ومع ذلك فلا يستقيم وجها آخر في قبال ثاني الوجهين ، لأوله حقيقة إليه ، كما ستعرف.

الثاني : ما استند إليه الشيخ في العدّة (١) : من أنّ في ارتكاب تلك الأفعال إقداما بما لا يؤمن النفس من ضررها ، وهو قبيح.

ولتحقيق الحال في هذا الاحتجاج محلّ آخر ، إلاّ أنّه لا بدّ من الإشارة إليه إجمالا.

فنقول : لا كلام في قبح الإقدام بما يعلم التضرّر كما لا كلام في قبحه فيما لو ظنّ بالضرر. وإنّما الكلام في أنّ الظنّ بالسلامة يكفي في رفع القبح أو لا بدّ من دفع الضرر الموهوم ، وعلى تقدير الكفاية فهل الشكّ في الضرر يجب الاحتراز عنه عقلا أو لا؟

وقد يقال : بأنّه لا قبح في العقول في عدم التحرّز عن الضرر الموهوم ، وغاية ما يقال به (٢) هو الاستحسان العقلي ، ولا يزيد على استحبابه عقلا.

__________________

(١) العدّة ٢ : ٧٤٢.

(٢) في ( ط ) : « وإنّما غاية ما يمكن القول به ».

٤١٦

إلاّ أنّه بمعزل عن التحقيق ـ على ما يظهر من بعضهم (١) ـ حيث إنّ الموارد التي يستكشف منها حال العقلاء في أمور معادهم ومعاشهم من اكتفائهم بالظنّ في السلامة إنّما هو بواسطة انسداد طرق العلم لهم (٢) بحيث لو اقتصروا على المنافع المعلومة والمضارّ المعلومة لزم اختلال نظامهم. وذلك لا ينافي حكمهم بالوجوب فيما لا يعارضه ما هو أقوى منه أو مساو له. وأمّا الضرر المشكوك فلا ينبغي الشك بوجوب التحرّز عنه عقلا ، بل ويظهر ذلك من كلمات المتكلّمين أيضا ، كما يلوح عند حكمهم بوجوب شكر المنعم ، كما لا يخفى. إلاّ أنّ الظاهر من الفقهاء ـ بل كاد أن يكون إجماعا منهم ـ عدم لزوم الاجتناب عنه ، كما فيما لو شكّ في وجوب السفر مع العلم بعدم ترتّب الضرر على تركه ، وكما لو شكّ في الوضوء بترتّب الضرر عليه ، فإنّهم مطبقون على عدم الاعتناء بهذا الشكّ إلاّ عن جماعة من المتأخّرين ، أوّلهم الفاضل الهندي في شرح (٣) الشرح على ما حكاه الأستاذ (٤).

وبالجملة ، فالذي يظهر منهم عدم لزوم الاحتراز شرعا. ولا ينافيه أيضا خلاف بعض المتأخّرين (٥) ؛ لأنّهم ـ على ما صرّح به الفاضل ـ إنّما قالوا به بواسطة زعمهم أنّ موضوع الخوف الصادق مع (٦) الشكّ في الحكم بالإفطار والتيمّم

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) في ( ش ) : « طريق العلم بهم ».

(٣) وهو المناهج السوية في شرح الروضة البهية ، ولكن لم نعثر عليه بعد الفحص التام في المواضع المناسبة.

(٤) لم يرد « على ما حكاه الأستاذ » في ( ش ).

(٥) وهو الفاضل الهندي.

(٦) في ( ش ) بدل « مع » : على.

٤١٧

ونحوهما يغاير موضوع الضرر ، وإلاّ فموضوع الضرر لا يقضي بتقييد الإطلاقات في صورة الشكّ كما يقضي به عند العلم أو الظنّ.

فالفاضل لو سلّم انحصار المقيّد في الضرر ، كما هو كذلك ـ على ما بيّنّاه في محلّه مستقصى من أنّ الخوف طريق إلى الضرر ـ لا يقول بوجوب دفع الضرر المشكوك ، ولا يحكم بتقييد ما دلّ على وجوب الصوم ـ مثلا ـ عند الشكّ في الضرر ، والعقل لصرافته يحكم بالوجوب ، فلا بدّ من توجيه وتوفيق.

والذي يظهر لي في الجواب ـ على ما أفاده الأستاذ ـ أن يقال : إنّ الضرر المنفيّ في الشريعة المقيّد لموضوعات أحكام الشرع عبادة ومعاملة هو الضرر الدنيوي ، كما يظهر من ملاحظة حكمهم بسقوط الصوم والوضوء في موضوع الضرر وعدم لزوم العقد الضرريّ مثلا. ولا يصحّ أن يكون الضرر الأخرويّ مقيّدا لإطلاق ما دلّ على ثبوت الحكم الشرعي ؛ لأنّ المراد بالضرر الأخرويّ ـ على ما يستفاد من كلمات المتكلّمين وجملة من الأخبار ـ ليس إلاّ العقاب ، وهو من توابع الحكم الشرعي ، فلو فرض تقييد موضوعه بهذا الضرر لزم الدور.

والعقل وإن كان مستقلاّ في لزوم دفع الضرر ولو كان دنيويّا إلاّ أنّه بعد ملاحظة انضمامه بحيثيّة تجريديّة لا مطلقا ، ففيما لو عارضه ما هو أقوى منه لا قبح في عدم الاجتناب. والموارد التي لا يجب الاجتناب فيها بأجمعها إنّما هو بواسطة تعارض الضرر بما هو أقوى منه (١) ولو كان الكاشف عن التعارض وجود ما يعارضه حكم الشرع ، كيف! والشارع يحكم بوجوب شيء ولو كان مشتملا على ضرر قطعيّ كما صرّح به جماعة منهم الشهيد في القواعد (٢) في مقام نفي التقيّة

__________________

(١) لم ترد عبارة « لا قبح ـ إلى ـ أقوى منه » في ( ش ).

(٢) انظر القواعد والفوائد ٢ : ٥٨ ، القاعدة (٢٠٨).

٤١٨

عن الدماء وإظهار كلمة الكفر ، فإنّه ربما يكون مباحا ، وقد يكون حراما فيحرم على المكلّف إظهار كلمة الكفر ولو انجرّ إلى قتله يقينا ، لكن فيما لو كان المأمور بإظهار الكفر ممّن يعتدّ بشأنه بحيث لو أظهر كلمة الكفر احتمل وقوع ثلمة في الدين مثلا.

وبالجملة ، فبعد ما لاحظنا طريقة الشرع من عدم الاعتبار بالضرر المقطوع ولو في بعض المقامات مع قطع العقل بلزوم الاحتراز فيه ـ ولا يذهب وهم إلى تناقض بين حكمي الشرع والعقل ، لظهور أنّ حكم العقل إنّما هو في صورة الانفراد وعدم التعارض ـ لا إشكال ولا تنافي أيضا في المقام ، بل بطريق أولي ، فيجوز أن يحكم الشارع بعدم ترتيب (١) آثار الضرر المشكوك بأصالة عدم الضرر ونحوها من الأمارات الشرعيّة في مواردها.

وحكم العقل بلزوم الاجتناب أيضا في محلّه. ولا ينافيه ما تقدّم من التطابق أيضا ، لاختلاف الأحكام باختلاف الموضوعات كما لا يخفى ؛ ولذا تراهم يتمسّكون في مقام نفي الحكم المشتمل على الضرر بأدلّة شرعيّة من غير أن يلتفتوا إلى حكم العقل بوجوب الاجتناب. فرفع الضرر الدنيوي ولزوم الاجتناب عنه في الأحكام الشرعيّة حكم شرعيّ ، ولا مانع من تخصيص الشارع حكمه باعتبار اختلاف مصالح الحكم بمورد دون آخر.

ومن هنا يعلم وجه لزوم الاجتناب فيما إذا اشتمل أحد الإنائين على السمّ في الشبهة المحصورة ، حيث إنّه لا دليل شرعا على جواز الارتكاب من الاصول العمليّة كما يظهر ذلك في محلّه إن شاء الله. والعقل لصرافته يحكم بلزوم الاجتناب من غير ما يقضي بخلافه ولو بواسطة اختلاف الموضوع. كما أنّه يظهر لزوم

__________________

(١) في ( ش ) : « ترتّب ».

٤١٩

الاجتناب فيما نحن فيه ؛ لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر ولو في صورة الشكّ ممّا لا يعارضه شيء ، فأكل الفاكهة وشمّ الورد وإن اشتمل على أمارة المنفعة وخلا عن أمارة المفسدة ، إلاّ أنّه ليس عدم الضرر به في الدنيا مقطوعا به والعقل مستقلّ بوجوب الاجتناب ، وحيث إنّه لا شرع كما هو المأخوذ في العنوان ـ أي عنوان المسألة ـ فلا تعارض أيضا.

ثمّ إنّ المراد من قولهم : « قبل الشرع » ـ بعد ما عرفت من أنّ الكلام في حكم العقل ـ ظاهر ، يعنون به قبل ملاحظة الشرع ، فلا حاجة إلى بعض التطويلات الواقعة في كلام جملة منهم في المقام.

تذنيب

قد ذكر المحقّق القمّي في آخر المبحث كلاما طويلا (١) مرجعه إلى أنّ اعتبار أصالة الإباحة على القول بها في أمثال زماننا الذي قد كشف الشارع الحكيم عن حال جملة من الأشياء المشتملة على أمارة المنفعة الخالية عن أمارة المضرّة (٢) ـ كشرب الفقّاع واستماع الغناء وأمثال ذلك ـ ظنّي فالقول بحجّيّتها موقوف على اعتبار الظنّ واستقلال العقل بحجّيّته. وفرّع عليه الحكم بكونها من المستقلاّت العقليّة ، وعلى ذلك بنى الأمر في الردّ على الفاضل التوني والسيّد الشارح ـ رضوان الله عليهما ـ حيث حكم الأوّل : بأنّ النزاع في الملازمة قليل الجدوى بل عديمها ، إذ ما من مورد لحكم العقل إلاّ وقد ورد من الشارع فيه آثار كثيرة

__________________

(١) القوانين ٢ : ١٢.

(٢) في ( ط ) : « المفسدة ».

٤٢٠