مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

قد دلّ أيضا على كونه معفوّا عنه ، كما لا يخفى (١). وكما في الصبيّ المراهق ، بناء على ما هو التحقيق : من ثبوت الأحكام العقليّة في حقّه دون الأحكام الشرعيّة. إلاّ أنّه لا يرد نقضا عليه ، على ما لا يخفى فالإغراء المذكور لازم في هذه الموارد ، فما هو الجواب عنها هو الجواب عنه في المقام.

وقد يتخيّل : أن التوبة أيضا ممّا يرد نقضا على المقام. وليس كذلك (٢) ، فإنّ فيها حالة ترتدع النفس بها عن القبائح حقيقة ، كما هو ظاهر على من له شمّ روائح المعاني. ولا فرق في ذلك بين أن يكون العفو معلّقا على إيجاد سبب كالبكاء على الحسين عليه‌السلام أو لم يكن ؛ فإنّه ربما يتوهّم الجاهل ويغترّ بفعل القبائح نظرا إلى عدم تخلّف وعده.

وثانيا : أنّ الأحكام العقليّة من ضروريّات جميع الملل والأديان ، فالمكلّف يعلم بتحريمه في الشريعة قبل اطّلاعه على الوعد على عفوها ، فلا غرو ولا اغترار.

وثالثا : أنّ الآية ممّا لا ينبغي الاستناد إليها في اعتقاد العفو ، نظرا إلى عدم كونه من الأحكام الشرعيّة وعدم إفادة أصالة الحقيقة في غير الأحكام الشرعيّة شيئا. نعم ، لو حصل العلم بالعفو عنها ولا أقلّ من الظنّ الشخصي تمّ ما ذكروا (٣) وأنّى لها لإفادة (٤) العلم لأمثال المكلّفين الذين يغترّون بالعفو (٥).

__________________

(١) لم يرد « كما لا يخفى » في ( ش ).

(٢) في ( ط ) : « ليس على ما ينبغي ».

(٣) في ( ط ) : « ما ذكر ».

(٤) في ( ط ) : « في إفادة ».

(٥) في ( ط ) زيادة : « ونحوه ».

٣٨١

نعم ، يحصل العلم بذلك من أهل الله ، وهم لا يعصون الله طرفة عين (١)!

ومنها (٢) : ما أجاب عنها العلاّمة في التهذيب : من أنّ دلالة الآية على نفي الملازمة ظاهرة ، وقد سبق في مقام إثباتها ما يفيد القطع بها ، والظاهر يدفع بالقاطع ، فلا بدّ من تأويلها وتنزيلها على غير محلّ الكلام من تخصيص ونحوه (٣). وتبعه في ذلك المحقّق القمّي (٤).

واعترض عليه بعض الأجلّة بعدم استقامة هذا الجواب (٥) على إطلاقه ، فإنّ (٦)

__________________

(١) في ( ط ) بدل عبارة « نعم يحصل ـ إلى ـ طرفة عين » ما يلي : اللهمّ إلاّ للمتخلين عن جلباب البشريّة والمتخلّقين بأخلاق الربوبيّة ، وهم لا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون به ولو لم يجزهم بالجنة ويعذّبهم في النار. وبالجملة : فالعالم بالعفو ممّن له رتبة عالية لا يغترّ بذلك ، والمغترّ لا يعلم. والاستناد إلى ما لا يفيد العلم ولا الظنّ في الاغترار إنّما هو كمن يغترّ على الله تعالى بلا احتمال أيضا. فهنا إنّما يشبه بما أفاده الشيخ في كفاية التقليد في الاعتقادات للعوام بعد ما أورد على نفسه : بأنّ القول به إنّما يوجب اغترار العوّام وعدم الفحص والاجتهاد في العقائد. فأجاب : بأنّ العلم بالكفاية لا يحصل إلاّ لمن جاس خلال الديار في تحصيل المطالب والأنظار ، وهو مجتهد قطعا فلا غرو. ومن لا يعلم بالكفاية فلا بدّ له من الاجتهاد فلا اغترار. [ راجع عدّة الاصول ٢ : ٧٣١ ]. وعلى مثل هذا الجواب قد بنينا في دفع الإشكال الوارد على العفو في ثلاثة أيّام في ربيع الأعياد والغدير ونحوه ؛ فتدبّر.

(٢) في ( ط ) : « الثالث ».

(٣) لم نعثر عليه في التهذيب ولا في غيره ، نعم هو موجود في شرح التهذيب للعميدي : ١٩.

(٤) القوانين ٢ : ٦.

(٥) في ( ش ) : « بعدم استقامته ».

(٦) في ( ط ) : « فقال ».

٣٨٢

استلزام الحكم العقلي للحكم الشرعي ـ واقعيّا كان أو ظاهريّا ـ مشروط في نظر العقل بعدم ثبوت منع شرعي من جواز تعويله عليه ـ إلى أن قال (١) ـ : والجواب المذكور إنّما يقتضي منع دلالتها على القسم الأوّل (٢) ، انتهى.

ولا يخفى أنّ الجواب المذكور في غاية المتانة وبمكان من الواقع (٣) ؛ فإنّك قد عرفت سابقا في مسألة القطع : أنّ حجّيّة العلم غير مجعولة ، بل هو بنفسه طريق إلى الواقع وليس بواسطة في ثبوت أحكام متعلّقه له ، إذ الأحكام ممّا تترتّب عليه في مرتبة ذاته ، والعلم متأخّر عن المعلوم ولا يعقل تأثير المتأخر في المتقدم وإلاّ يلزم تقديم المتأخر أو تأخير المتقدّم.

بل التحقيق : أنّ القطع إنّما هو مرآة لثبوت أحكام متعلّقه عليه ؛ ولهذا لا يحتاج في إثباتها وترتّبها (٤) عليه إلى شيء آخر عدا دليل الواقع ، فإنّ الكبرى في قياس يطلب فيه إثبات التحيّز مثلا للإنسان هو قولنا : « كلّ حيوان متحيّز »

__________________

(١) ورد في ( ط ) مكان « إلى أن قال » نصّ عبارة الفصول : ولهذا يصحّ عقلا أن يقول المولى الحكيم لعبده : لا تعوّل في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك أو يؤدّي إليه حدسك ، بل اقتصر في ذلك على ما يصل منّي إليك بطريق المشافهة أو المراسلة. ومن هذا الباب ما أفتى بعض المحقّقين : من أنّ القطّاع الذي يكثر قطعه من جهة أمارات لا توجبه يرجع عادة إلى المتعارف ولا يعوّل على قطعه الخارج منه ـ إلى أن قال ـ ولكن العقل قد يستقلّ في بعض الموارد بعدم ورود منع شرعي ، وقد لا يستقلّ ولكن يبني على التعويل عليه في الظاهر ما لم يثبت خلافه. والاحتجاج بالآية على تقدير دلالتها إنّما يقتضي منع حجّية القسم الثاني.

(٢) الفصول الغروية : ٣٤٣.

(٣) لم يرد « وبمكان من الواقع » في ( ش ).

(٤) في ( ط ) : « في إثبات الآثار وترتيبها ».

٣٨٣

ولا دخل للعلم في ثبوت التحيّز للأصغر سوى أنّه طريق إليه ومرآة يحكي عنه ، وكذا لا مدخليّة لإثبات النجاسة للبول في العلم بالبوليّة (١) ؛ ولذا يقال في قياس يطلب فيه (٢) ذلك وكلّ بول نجس ، بدون توسيط العلم ومدخليّته في الكبرى ، إلاّ في كونه جهة للقضيّة كالضرورة والدوام ونحوهما ، وعلى هذا فلا يعقل تخصيص الاعتبار ببعض أقسامه دون آخر ، لعدم مدخليّته في شيء ، وإلاّ يلزم خروج الواقع (٣) عن كونه واقعا ، وقد أجمع العقلاء على امتناع تخلّف الذات والذاتي عن صاحبها (٤) فالقول بالتفصيل بين أقسام العلم ثم القول بحجّيته ظاهرا لا واقعا ممّا لا يصغى إليه (٥) لا ظاهرا ولا واقعا.

وقد ظهر من ذلك : أنّ ما نسب (٦) إلى بعض المحقّقين : من الفتوى بعدم اعتبار قطع القطّاع أيضا غير سديد كما مرّ مفصّلا. نعم ، لو أخذ الشارع العلم جزءا لموضوع أو جعله موضوعا لصحّ تخصيص ذلك بما أراده بحسب الخصوصيّات المعتبرة في أنفس الأشياء في حدود ذواتها ، كما لا يخفى. فعلى ما ذكرنا يظهر أنّه لو قيل للقطّاع : « لا تعمل بقطعك » فلا بدّ من أن يكون هذا إرشادا له إلى زوال قطعه. أو يقال له : لا تعمل بقطعك فيمن لا يعرف مناقضة ذلك للعلم ويعتقد صحّة المنع ، كما في حقّ بعض من لا يلتفت إلى شيء من العوام (٧).

__________________

(١) لم ترد عبارة « وكذا لا مدخلية ـ إلى ـ بالبولية » في ( ش ).

(٢) في هامش ( ش ) زيادة : « إثبات النجاسة ».

(٣) في ( ط ) : « سلب الواقع ».

(٤) لم ترد عبارة « وقد أجمع ـ إلى ـ صاحبها » في ( ش ).

(٥) من هنا إلى قوله : « ومنها » لم يرد في ( ش ).

(٦) نسبه صاحب الفصول كما مرّ.

(٧) من بعد قوله : « ممّا لا يصغى إليه » إلى هنا لم يرد في ( ش ).

٣٨٤

ومنها (١) : ما ذكره غير واحد (٢) : من أنّ المراد من « الرسول » (٣) أعمّ من الظاهري والباطني ، فيصير كناية عن إتمام الحجّة ولو بالعقل ، والتعبير بـ « الرسول » إنّما هو رعاية للغالب ، حيث إنّ التبليغ به غالبا.

ومنها (٤) : أنّ البعث الذي هو غاية في التعذيب حاصل. أمّا إذا كان المراد مجرّد البعث ـ ولو على تقدير خلوّه عن التبليغ ـ فلما عرفت. وأمّا إذا كان المراد به التبليغ فهو أيضا حاصل ؛ لما ورد عنهم عليهم‌السلام : من صدور كلّ حكم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أرش الخدش ، وهو مخزون عندهم عليهم‌السلام (٥).

لا يقال : إنّ المراد بالتبليغ هو التبليغ التفصيلي ، كما هو ظاهر من مساق الآية الواردة في مقام إتمام الحجّة.

لأنّا نقول : لا نسلّم ظهور ذلك من الآية ، بل الغاية تسليم وجوب اللطف على حسب ما يتعارف فيه ، كما يظهر من كيفيّة تبليغ الأنبياء والأوصياء من الاكتفاء به ولو نوعا ، فإنّه ربما يمنع الإيصال إلى جميع الأشخاص عادة ويمنع عنه المانع (٦) ، ولتحقيق المقام محلّ آخر (٧).

وقد يجاب بوجوه ضعيفة أخر لا مجال لذكرها وتزييفها ، فتدبّر (٨).

__________________

(١) في ( ط ) : « الرابع ».

(٢) كالمحقّق القمي في القوانين ٢ : ٢٥ ، والنراقي في المناهج : ١٤١ ، ١٤٧.

(٣) في ( ش ) زيادة : « في الآية ».

(٤) في ( ط ) : الخامس.

(٥) انظر الكافي ١ : ٢٣٨ ، باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ...

(٦) العبارة في ( ط ) هكذا : « فإنّه ربما يمنع من الإيصال إلى جميع الأشخاص مانع ».

(٧) لم يرد عبارة « ولتحقيق المقام محلّ آخر » في ( ش ).

(٨) لم ترد عبارة « وتزييفها فتدبّر » في ( ش ).

٣٨٥

وممّا استند إليه الفاضل التوني لدفع الملازمة (١) جملة من الأخبار ، مثل ما رواه الكليني عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إنّ الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثمّ أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب ... » (٢).

وجه الدلالة : أنّ قوله : « أرسل » عطف على الموصول ، لعدم الاعتداد بالإرسال لولاه ، لتمام الحجّة بدونه ، فيدلّ على أنّ الله تعالى لا يحتجّ على العقل وحده ، وهو المطلوب. ولعلّ المراد من « المعرفة » ما بها يتمكّن من تمييز الحقّ عن الباطل كما يشهد به (٣) جملة من الأخبار ـ كما في الكافي (٤) ـ : من أنّ حجّة الله تعالى على الخلق هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحجّته فيما بينه وبينهم هو العقل لتميّز الحقّ عن الباطل ، فيدلّ على انحصار الحجّة من الله تعالى في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والشرع.

والجواب حمل الرواية على الغالب ، حيث إنّها واردة في مقام بيانه ، والغالب عدم تماميّة الحجّة إلاّ بالشرع ، ومن ذلك الأخبار الدالّة على عدم التكليف إلاّ بعد البعثة ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة (٥).

ومجمل الجواب : حصول البعثة ، فلا بدّ من ترك ما يستقلّ العقل بقبحه وفعل ما يستقلّ العقل بحسنه.

__________________

(١) الوافية : ١٧٢.

(٢) الكافي ١ : ١٦٤ ، الحديث ٤.

(٣) في ( ط ) : « يشعر بذلك ».

(٤) الكافي ١ : ٢٥ ، الحديث ٢٢.

(٥) انظر كمال الدين وتمام النعمة : ٥٠٨ ، ذيل الحديث ٣٧ ، وعلل الشرائع ١ : ١٢٠ ، الباب ٩٩ ، الحديث الأوّل ، والتوحيد : ٤٥ ، الباب ٢ ، الحديث ٤.

٣٨٦

ومن ذلك أيضا الأخبار الدالّة على عدم جواز خلوّ الزمان عن حجّة ليعرّفهم ما يصلحهم وما يفسدهم (١).

والجواب : أنّ « وجوب نصب الإمام للمستقلاّت العقليّة » أوّل الكلام ، والسيّد المرتضى (٢) والطبرسي (٣) ينكرانه ، بل وجماعة وافرة من العلماء أيضا (٤).

ومن ذلك قوله : « كلّ شيء مطلق » (٥).

وجوابه عدم نهوضه في المستقلاّت العقليّة كما مرّ.

ومن ذلك ما رواه الكليني عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : « بني الإسلام على خمسة ـ إلى أن قال ـ : أما إنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ، فيكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان على الله حقّ في ثوابه » (٦) ووجه الدلالة ظاهر بعد عدّ التصدّق في عداد ما ذكر ، فإنّه من قبيل الإحسان الذي هو (٧) من المستقلاّت العقليّة.

والجواب : أنّ ذلك (٨) مبنيّ على الحثّ والمبالغة في معرفة وليّ الله ، ولا دلالة له على عدم حجّية المدركات العقليّة. وأمّا التصدّق فبقرينة الحجّ

__________________

(١) انظر الكافي ١ : ١٧٨ ، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة.

(٢) انظر الذريعة ٢ : ٨٢٤ و ٧٠٠ ـ ٧٠١.

(٣) انظر مجمع البيان ٣ : ٤٠٤ ذيل الآية الشريفة ، (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

(٤) انظر العدّة ٢ : ٧٤١ ـ ٧٤٦ ، ومناهج الأحكام : ١٤٦.

(٥) الوسائل ٤ : ٩١٧ ، الباب ١٩ من أبواب القنوت ، الحديث ٣.

(٦) الكافي ٢ : ١٩ ، الحديث ٥.

(٧) لم ترد عبارة « من قبيل الإحسان الذي هو » في ( ط ).

(٨) في ( ش ) : « عن ذلك ».

٣٨٧

والصوم والصلاة محمول على الواجب منه كالزكاة الواجبة (١) ، وإلاّ فليس مطلق التصدّق ممّا بني عليه الإسلام.

ويمكن أن يقال : إنّ غاية ما يستفاد من الحديث عدم الثواب إلاّ بعد دلالة ولي الله ، ويمكن الالتزام بذلك حتّى في الواجبات العقليّة ، كما يراه بعضهم من عدم استقلال العقل في لزوم الثواب في الأشياء الحسنة وإن كان يستقلّ في قبح الأشياء القبيحة ولزوم العذاب على تقديرها ، لكنّ الإنصاف فساد هذا الجواب ، كما يشعر بذلك اتّفاق المتكلّمين على خلافه (٢).

واستند الفاضل التوني أيضا (٣) : بأنّ أصحابنا والمعتزلة قالوا : بأنّ التكليف ممّا يستقلّ به العقل لطف ، والعقاب بدون اللطف قبيح ، فلا يجوز العقاب على ما لا يرد به نصّ من الشارع وإن كان قد حكم به العقل.

وأجاب المحقّق القمي (٤) ـ تبعا للسيّد الكاظمي (٥) ـ بمنع وجوب كلّ لطف استنادا إلى أنّ كثيرا من الألطاف مندوبة ، لوضوح أنّ التكاليف المندوبة أيضا لطف في المندوبات العقليّة أو مؤكّدة للواجبات العقليّة. وربّما يقال (٦) : باستشعارهم ذلك من كلام المحقّق الثاني في باب النيّة (٧).

__________________

(١) لم يرد « الواجبة » في ( ش ).

(٢) لم ترد فقرة « ويمكن أن يقال ... إلى هنا » في ( ش ).

(٣) الوافية : ١٧٣.

(٤) القوانين ٢ : ٨.

(٥) الوافي في شرح الوافية ( المخطوط ) ، أوائل بحث الأدلة العقلية ذيل قول الماتن ، الثالث : ما عليه الأصحاب والمعتزلة.

(٦) انظر الفصول : ٣٤٥.

(٧) جامع المقاصد ١ : ٢٠٢.

٣٨٨

وفي دلالته على ما ذكر تأمّل ، ومن أراد الاطّلاع عليه ، فراجعه (١).

وفيه : أنّ الجواب المذكور ممّا لا يوافقه البرهان ، فإنّه هدم لما أسّسه أكابر المتكلّمين في جملة من الأصول الدينيّة. فلعلّ المانع المذكور قد يتسرّى منعه إلى عدم وجوب اللطف في (٢) بعث الأنبياء.

وقد أفاد مثل ذلك أيضا في ردّ مسلك الشيخ في الإجماع (٣) ، ونحن لم نحصّله إلى الآن ؛ ولعلّ المنشأ في ذلك ما قد اشتهر بينهم : من أنّ اللطف ما يقرّب العباد إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية فيما لم يصل إلى حدّ الإلجاء ؛ وصدق ذلك في مثل المقام أدّاهم إلى مثل هذه المقالة ، مع أنّ فسادها ممّا لا يخفى. والعجب! أنّهم إنّما أخذوا بظاهر التحديد مع (٤) صراحة الدليل على وجوب اللطف بخلافه ، حيث علّل بلزوم نقض الغرض ، كما مثّله جماعة : بأنّ من أراد ضيافة شخص وتعلّق غرضه بها ولو بواسطة عوده إليه وعلم بأنّه ما لم يفعل بالنسبة إليه نوع إكرام ـ كما إذا أظهر طلب قدومه في ضمن رقعة أو إرسال أمين من امنائه إليه ـ أنّه لم يجبه يجب عليه حينئذ أن يفعل ما يتوقّف حصول غرضه عليه تحصيلا للغرض ، فإنّ نقضه من العاقل الحكيم يعدّ قبيحا ولو قطعنا النظر عن التعليل (٥) فالتحديد المذكور أيضا لا يدلّ على مرادهم ، حيث إنّ المراد إيصال العباد إلى المصالح ،

__________________

(١) لم ترد عبارة « استنادا ـ إلى ـ فراجعه » في ( ش ) وورد بدلها : الخ.

(٢) لم يرد « اللطف في » في ( ش ).

(٣) القوانين ١ : ٣٥٣.

(٤) في ( ش ) بدل « مع » : « على ».

(٥) لم ترد فقرة « كما مثّله ـ إلى ـ عن التعليل » في ( ش ) ، وفي هامشها ما يلي : « كما مثّلوا له بمن أراد الضيافة بشخص فلا بدّ له ... ».

٣٨٩

ولا شكّ أنّ اللطف أصلح وفعل الأصلح واجب عليه ، فلا ينقسم إلى الواجب والمندوب ، إلاّ أن يراد بالوجوب ما فيه المصلحة الموجبة للّطف مع قطع النظر عن لزوم فعل الأصلح عليه تعالى (١) وبالجملة ، فالتحقيق منع كونه لطفا.

قال المحقّق الطوسي : فإنّ من عدم التكليف في الواجبات العقليّة لا يلزم نقض الغرض ، لاستقلال العقل بلزوم الإتيان. ولو سلّمنا كونه لطفا فيكون واجبا ، فهو صادر ولا دلالة فيه على مقصود الخصم ، إذ التبليغ حاصل نوعا ولو إجمالا ، والبيان موجود فالعقاب صحيح (٢). كذا أفاد ، إلاّ أنّه لا يخلو من ضعف ، حيث إنّ كلام المستدلّ في قبح العقاب بدون اللطف وحصول اللطف وإن كان يصحّح العقاب ، إلاّ أنّه خارج عن فرض المستدلّ ، كما لا يخفى.

__________________

(١) لم ترد عبارة « إلاّ أن يراد ـ إلى ـ عليه تعالى » في ( ش ).

(٢) لم نعثر عليه.

٣٩٠

أصل (١)

هل الحسن والقبح ذاتيّان للأشياء ، أو بالصفات اللازمة ، أو يفصّل بين الحسن والقبح ، ففي الأوّل يكفي انتفاء الجهة المقبّحة وفي الثاني بالصفات اللازمة ، أو بالوجوه والاعتبارات ، أو يختلف بحسب اختلاف الأشياء ، ففي البعض ذاتي وفي آخر اعتباري وفي ثالث بالصفات اللازمة؟ وجوه بل أقوال :

فقيل : بأنّهما ذاتيّان (٢). ويحتمل أن يراد به أمران :

أحدهما : أن يكون نفس ذات الشيء كافية في انتزاع الحسن والقبح منها من غير حاجة إلى ملاحظة حيثيّة خارجة عنها بعد وجودها ، كما في سائر لوازم الماهيّات كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة ، فإنّ بعد ملاحظة الحيثيّة التعليليّة المقيّدة لوجودها يكفي في انتزاع الزوجيّة منها ، أي ذاتها.

وثانيهما : أن يكون الذات مقتضية للحسن والقبح ، فيتوقّف انتزاعها عنها إلى عدم المانع في الخارج. فعلى الأوّل إمّا أن يكون المراد بـ « الذات »

__________________

(١) في ( ش ) : « هداية ».

(٢) نسبه المحقّق النراقي في المناهج : ١٤٢ إلى ظاهر السيّد الداماد في السبع الشداد ، انظر السبع الشداد المطبوع ضمن « اثنى عشر رسالة » : ٤٢ ـ ٤٣ ، وحكاه في هداية المسترشدين : ٤٤٠ عن قدماء المعتزلة ، وانظر المستصفى ١ : ٢٧ و ٥٥ ـ ٥٦ ، والإحكام للآمدي ١ : ١٢٠ ، ونسبه في شرح المختصر : ٧٠ إلى المعتزلة والكراميّة والبراهمة.

٣٩١

ذوات كلّيّات الأجناس العالية والمتوسطة والأنواع الحقيقيّة والأصناف ، أو المراد ذوات المصاديق الخارجيّة والجزئيّات الحقيقيّة ولا يجري هذا التقسيم في الثاني ، إذ لا يعقل أن يكون الجزئي الحقيقيّ مقتضيا للحسن ، لجواز انقسامه باعتبار وجود المانع وعدمه ، والمفروض كونه جزئيّا حقيقيّا ، هذا خلف.

والظاهر أن المراد هو الأول من الأول كما يرشدك إليه ما اورد على القائل بالذاتيّة : من عدم جواز النسخ على تقديرها (١) وجواب بعض أصحاب هذه المقالة بأنّ النسخ من جهة تعارض الذاتيّين (٢) ، فإنّ كلاّ من الإيراد والجواب صريح في أنّ المراد هو أنّ الذات تكفي في انتزاع الحسن والقبح. وكذا يشعر بذلك ما اورد عليهم : من لزوم التناقض في الصدق الضارّ والكذب النافع (٣) ؛ مضافا إلى أنّ احتمال أن يكون الذات مقتضية للحسن والقبح فاسد من جهة أخرى ؛ لأنّ عدم المانع إن لوحظ فيهما على وجه يصير منوعا فينقلب إلى الأوّل ، وإلاّ فلا يفترق عن القول بالوجوه والاعتبارات.

ويحتمل ضعيفا أن يراد بالذات ذوات الجزئيّات أيضا ، إذ ليس المراد : أنّ الحسن والقبح في الكلّ كذلك ، بل قد يكون ذات المصداق الخارجي مقتضيا للحسن أيضا ، فلا ينتقض بالعلم ، لعدم مدخليّة صدق زيد في حسن كلّي الصدق ، كما لا يخفى.

__________________

(١) انظر هداية المسترشدين : ٤٤٠ ، والمناهج : ١٤٢.

(٢) المناهج : ١٤٢.

(٣) انظر الإحكام للآمدي ١ : ١٢٠ وما بعدها ، وهداية المسترشدين : ٤٤٠.

٣٩٢

وقيل (١) بالصفات اللازمة (٢). ويحتمل أن يراد بها ما هي لازمة للذوات الكلّيّة والجزئيّة (٣). ويحتمل أن يراد بها الصفات التي هي بمنزلة الفصول للأجناس. والظاهر أنّ المراد هي الصفات اللازمة لنفس (٤) الماهيّات على وجه يكفي في انتزاعها تحقّق الماهيّة ، فعلى القول بالذاتي نفس الحسن والقبح بمنزلة تلك الصفات. وعلى هذا القول هذه الصفات واسطة فيه ، كما لا يخفى.

وقيل بالتفصيل بين الحسن والقبح فيكفي في الأوّل انتفاء جهة مقبّحة ، وفي الثاني بالصفات اللازمة (٥). ويحتمل أن يكون المراد من « الحسن » عدم الحرج في الفعل. وإليه ينظر ما قد يوجد في كلمات بعضهم : من أنّ الحسن ما لا حرج في فعله (٦). ويحتمل أن يراد أنّ الحسن في الفعل إنّما هو بحسب اقتضاء الذات ، فيكفي فيه انتفاء جهة مقبّحة ، بخلاف القبح فإنّه بالصفات اللازمة (٧) على أحد الوجوه المتقدّمة فيها. وهذا هو الظاهر.

__________________

(١) عطف على قوله : فقيل بأنّهما ذاتيّان.

(٢) ذهب إليه جماعة أخرى من المعتزلة ، انظر الإحكام للآمدي ١ : ١٢٠ ، والمختصر وشرحه : ٧٠ ، وشرح التجريد للقوشجي : ٣٣٨ ، وفواتح الرحموت المطبوع ضمن المستصفى : ٢٧.

(٣) في ( ط ) : « أو الجزئيّة أيضا ».

(٤) في ( ش ) : لا نفس.

(٥) نسبه في فواتح الرحموت المطبوع ضمن المستصفى : ٢٧ إلى قوم من المعتزلة ، وانظر الإحكام للآمدي ١ : ١٢٠ أيضا.

(٦) قاله العضدي في شرح المختصر : ٧٠.

(٧) لم يرد « اللازمة » في ( ش ).

٣٩٣

وقيل بالوجوه والاعتبارات (١).

والفرق بين الوجوه والاعتبار ـ على ما يساعده الاعتبار وإن كان لا يظهر من موارد كلماتهم ـ هو : أنّ المراد بالأوّل هي العناوين المنتزعة من ذوات الأفعال التي لا يمكن تخلّف الفعل عنها ، فلا بدّ من أن يقع على واحد منها كالتأديب والتعذيب (٢) في الضرب ، والإنجاء والإضرار في الكذب ونحوهما. والمراد بالاعتبار : هو الأوصاف اللاحقة للأفعال باعتبار ملاحظة المعتبر على وجه لو لم يكن الاعتبار لما كانت تلحق بالفعل ؛ مثلا قد يكون الخروج عن البلد ممّا لا يقضي به شيء ، إلاّ أنّه بعد ملاحظة خروج الرفقة والرئيس قد يوجد في نفس الخروج صفة بعد الاعتبار تقضي بالخروج ، كما لا يخفى. وقد يصير المثال من قبل الأوّل ؛ والأمر سهل.

ثم الفرق بين هذا القول والقول الأوّل ظاهر ، فإنّه على الأوّل مورد الحسن تمام الفعل والوجه ، وعلى الثاني نفس الفعل باعتبار الوجه.

وأمّا الفرق بين هذا القول والقول بالصفات اللازمة أيضا ظاهر باللزوم وعدمه.

ثم إنّ أصحاب هذا القول بين معمم في الوجوه والاعتبارات حتّى العلم والجهل ، سواء كانا متعلّقين بالصفة أو الموصوف. ومخصّص بالموصوف فقط. ومخصّص بغيرهما مطلقا.

__________________

(١) قاله الجبائيّة كما في المختصر وشرحه : ٧٠ ، وفواتح الرحموت المطبوع ضمن المستصفى : ٢٧.

(٢) في ( ط ) بدل « التعذيب » : « الإهانة ».

٣٩٤

فعلى الأوّل ما لم يعلم بالظلم وبقبحه لا يكون قبيحا. وعلى الثاني لو جهل بالظلم لا يكون قبيحا. وعلى الثالث فهو قبيح مطلقا.

وقيل باختلاف الموارد (١) ، فربّما يكون ذاتيّا كما في الظلم والشرك وشكر المنعم والخضوع لوجهه الكريم ، وربّما يكون بالوجوه والاعتبار كما في التأديب والتعذيب (٢) وغير ذلك كما في اعتبار (٣) مطابقة العمل بقول الأعلم ـ مثلا ـ فإنّ هذه المطابقة ليست من العناوين المتّحدة مع الفعل في الخارج إلاّ اعتبارا. وهذا هو الحقّ الحقيق بالتصديق الذي لا محيص عنه.

ولعلّ هذا ما ذهب إليه الإماميّة بأجمعهم على حسب ما يظهر منهم في موارد كلماتهم ومطاوي تحقيقاتهم ؛ ولذا (٤) لا يلتزمون بالنسخ في جميع الأحكام كما صرّح به الشيخ في العدّة (٥) والعلاّمة في النهاية (٦) وجماعة من متكلّمي الإماميّة (٧) ، كما لا يخفى على المتتبّع (٨) ، لكن ينبغي أن تخصّص الوجوه والاعتبار بغير العلم والجهل المتعلّقين بالصفة ، إذ لولاه لزم الدور الباطل (٩) فإنّ العلم بالقبح

__________________

(١) مناهج الأحكام : ١٤٢.

(٢) في ( ط ) بدل « التعذيب » : الإهانة.

(٣) لم يرد « اعتبار » في ( ش ).

(٤) في ( ط ) : « ولهذا تراهم ».

(٥) انظر العدّة ٢ : ٤٩٩.

(٦) نهاية الوصول : ٢١٧.

(٧) لم نعثر عليه.

(٨) لم ترد عبارة « وجماعة من متكلّمي الإمامية كما لا يخفى على المتتبّع » في ( ش ).

(٩) لم يرد « الباطل » في ( ش ).

٣٩٥

متأخّر عنه لكونه متعلّقا به ، فلو كان العلم المتأخّر عنه مؤثّرا فيه قبحا (١) لزم تأثير المتأخّر في المتقدّم ، فلا بدّ من فرضه مقدّما ؛ وعلى تقديره يلزم تقدّم العلم على وجوده وتأخّر القبح عن وجوده ، وهو باطل جدّا.

بخلاف العلم بالموصوف ، إذ لو لم يكن الموصوف معلوما لما كان وقوعه على وجه الاختيار ، فإنّه ممّا علم ضرورة احتياج الفعل الاختياري إلى العلم والإرادة ، فعلى تقدير الجهل يكون الفعل اضطراريّا ومن المقطوع به المجمع عليه عدم اتّصاف الفعل الاضطراري بالحسن والقبح.

فالعلم بالموصوف لا بدّ وأن يكون ممّا له دخل بالحسن والقبح على هذه الوجوه (٢) دون العلم بالصفة ؛ لما عرفت ، مضافا إلى لزوم التصويب ، إذ الظلم في حقّ العالم بقبحه حرام وفي حقّ الجاهل مباح ، وما هو إلاّ اختلاف الأحكام في حقّ العباد من غير اندراجهم تحت عنوان يخصّهم بالعلم والجهل.

تنبيهان :

الأوّل : منشأ (٣) هذا النزاع بينهم هو ما قد تقرّر عند المتكلّمين : من أنّ النزاع في أنّ اختلاف الأفعال هل هو بواسطة اختلافها في حدود أنفسها وذواتها ، أو لأمور خارجة عنها؟ كالنزاع بين أرباب الصنعة في اختلاف الجواهر والفلزّات ، فيمكن إرجاع الاختلاف في المقام إلى اختلاف أقوالهم هناك ، فمن يرى أنّ شرب الخمر ماهيّة متميّزة عن غيرها لا تختلف لوقوعها في حالتي

__________________

(١) في ( ط ) : « مؤثّرا في قبحه ».

(٢) في ( ط ) : « هذا الوجه ».

(٣) في ( ط ) : « لعلّ منشأ ».

٣٩٦

المرض والصحّة ، بل ذلك أمر خارج عنها ، يقول : إنّ الحسن والقبح ليسا بالذات بل يلحقان الأفعال باعتبار الصفات الخارجة. ومن قال : بأنّ الوقوع في حالتي الصحّة والمرض منوّع للشرب يقول : بأنّ القبيح هو الشرب الواقع في حالة الصحة ، وهكذا ...

الثاني : قد ذكروا في ثمرة النزاع امورا لا يترتّب شيء منها على قول من الأقوال ، أحسنها في المقام أمران :

أحدهما : أنّ القول بالوجوه والاعتبار على تقدير التعميم إلى العلم المتعلّق بالصفة لازمه التصويب ، وباقي الأقوال لازمها التخطئة.

ولا يخفى ضعفه ، فإنّ (١) أصحاب هذه المقالة الباطلة لا يقولون بالحكم الواقعي ولا الحسن والقبح ، بل لازم القول بالتصويب حدوث الحكم بواسطة الظنّ. ومن هنا قد يجاب عن إشكال الدور عليهم : بأنّ المراد الظنّ بما هو أشبه بالقواعد والأصول ، كما قرّره العضدي (٢). فحينئذ إنّما (٣) هو نوع آخر من التصويب كما هو اللازم من مذهبنا : من ثبوت الأحكام الواقعيّة والحسن والقبح ، كما مرّ.

وأمّا التصويب المشهور عنه أهله فلا ملازمة بينه وبين هذا القول بل قد يخالفه ؛ لأنّ مبنى التصويب على عدم الحكم والحسن والقبح ، ومبنى هذا القول على وجودها. ومن هنا يعلم أن الجواب الذي أورده العضدي لا ينهض جوابا هناك.

__________________

(١) في ( ش ) : « وفيه أنّ ».

(٢) انظر شرح المختصر : ٤٧٠.

(٣) في ( ط ) بدل « فحينئذ إنّما » : « نعم ».

٣٩٧

وثانيهما : أنّ لازم القول بالذاتي جواز اجتماع الأمر والنهي في مثل الصدق الضارّ والكذب النافع ، لعدم جواز تخلّف الذاتي.

وضعفه ظاهر أيضا ، لأنّ القائل بالذاتيّة إن قال : بأنّها مقتضية للحسن والقبح فلا ملازمة أصلا (١) ؛ لاحتمال كون الضرر مانعا عن الحسن ، والنفع مانعا عن القبح ، فلا حسن ولا أمر ، فلا يجتمع الأمر والنهي. وإن قال : بأنّها علّة تامّة للانتزاع كما مرّ (٢) ، فلازمه اجتماع الحسن والقبح معا ، لامتناع تخلّف اللازم عن الملزوم ، إلاّ أنّه لا ملازمة بينه وبين الاجتماع ؛ لأنّ الحسن والقبح إنّما يوجبان الأمر (٣) والنهي لو لم يكن هناك جهة خارجة توجب قبح الحسن وحسن القبيح بالعرض كما في موارد اجتماعهما ، فإنّ الكذب النافع قبيح بالذات وحسن بالعرض ، ولا يؤثّر مثل هذا الحسن والقبح في الأمر والنهي ؛ لأنّه في قوّة الخارج عن تحت القدرة والاختيار. ولو صحّ هذه الثمرة فلازمه جواز الاجتماع المسبّب من الأمر أيضا ، مع أنّ البداهة تشهد بخلافه.

هذا تمام الكلام في مسألة الحسن والقبح.

__________________

(١) لم يرد « أصلا » في ( ش ).

(٢) لم يرد « كما مرّ » في ( ش ).

(٣) في ( ش ) : « بالأمر ».

٣٩٨

أصل (١)

اختلف الآراء في أنّ الأصل في الأفعال الاختياريّة التي لا ضرورة فيها عقلا هل هو الإباحة أو الحظر؟ على أقوال :

وقبل الخوض في نقلها ونقدها ينبغي رسم أمور :

الأوّل :

أنّه قد استصعب بعضهم (٢) الفرق بين هذه المسألة وبين المسألة الآتية : من أنّ الأصل العملي في مقام الشكّ في التكليف ـ على حسب اختلاف موارده ـ هو البراءة أو الاحتياط ، زاعما أنّ عنوان إحدى المسألتين مغن عن الأخرى ، إمّا لعموم إحداهما ، وإمّا لاتّحادهما.

وليس على ما زعم ولا على تلك المكانة من الصعوبة ، فإنّ الفرق بين المقامين في منار.

أمّا أوّلا : فلأنّ جهة عنوان البحث في المقام تغاير الجهة المعنونة في ذلك المقام.

وبيان ذلك : انّ الأشاعرة بعد ما نازعوا مع العدليّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين في إثبات الحسن والقبح ونفيه نازعوهم في مسألتين على سبيل التنزّل والانحطاط عمّا قالوا به ، مما شاة منهم للعدليّة ، فجعلوهما من فروع تلك

__________________

(١) في ( ش ) : « هداية ».

(٢) لم نعثر عليه.

٣٩٩

المسألة وتذنيباتها ـ كما يظهر ذلك بعد الرجوع إلى عناوينهم ـ إحداهما وجوب شكر المنعم ، والأخرى هذه المسألة ، فكأنّهم قالوا : سلّمنا أنّ للعقل في بعض العناوين ـ كوجوب ردّ الوديعة والظلم والإحسان ـ حكما ، ولكنّا لا نسلّم أنّ هذين المقامين من جملة موارد حكم العقل ، فلا حكم للعقل على تقدير حكومته فيهما. والعدليّة قالوا : بأنّ العقل يحكم في الأولى منهما بالوجوب ، وبالإباحة أو الحظر في الثانية.

فمحصّل النزاع في المقام إنّما يرجع إلى أنّ للعقل حكما في الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة أم لا؟ ولا مدخل في تشخيص المرجع في العمل عند الشكّ فيه ، فانّ الحاضر ربما يحكم بالإباحة في ذلك المقام والمبيح بالحظر ، من غير تناف بينهما ، لإمكان ورود دليل عقليّ أو نقليّ آخر على خلاف ما أصّله في هذا المقام.

وملخّص النزاع في المقام الآتي يرجع إلى أنّ المرجع شرعا عند الشكّ في التكليف ـ باختلاف أقسامه وموارده سواء كان المدرك في ذلك هو العقل أو النقل ـ ما ذا؟ فالأخباريّ على الاحتياط والأصولي على البراءة ، فكان الجهة الملحوظة في تلك المسألة مباينة للجهة المبحوث عنها في المقام.

وبعبارة مجملة هي : أنّ مسألة أصالة البراءة من المسائل الأصوليّة التي هي مبان لأحكام أفعال المكلّفين. وهذه المسألة من فروع الخلاف في الحسن والقبح الذي هو من مبادئ الأحكام ، على ما هو المحرّر في كلماتهم كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المقصود بأصالة الإباحة ـ بعد الإغماض عمّا تقدّم ـ هو إثبات الإباحة التي هي من الأحكام. والمطلوب بأصل البراءة هو نفي العقاب.

٤٠٠