مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

القبيح منه لا امتنان له ـ فواه جدّا ، فإنّ عدم صدور القبيح منه تعالى إنّما هو لغنائه ، لا لشيء آخر على وجه يضطر إليه ، فإنّ امتناع القبيح لصارف يؤكّد الامتنان ، حيث إنّ اتّصافه (١) بذلك أيضا من أعظم المنن (٢) ، كما أنّ فيّاضيّته على وجه الإطلاق محض الامتنان على العباد ، وإلاّ فلا وجه لعدّ الوجود من أعظم نعمائه التي منّ بها على خلقه ، كما لا يخفى.

وأمّا على مشرب التحقيق ، فبأن يقال : إنّ حسن الفعل قد يتدارك بوجوه أخر ويحرز بجهات أخرى على الوجه الأتمّ الأكمل من غير تكليف إذا اقتضى المصلحة لذلك ، كما في الحكم بإفطار الصوم في السفر ، فإنّ التنعّم بنعمه في السفر (٣) عند المشقّة قد يوجب شكر المنعم والخضوع لوجهه الكريم المنّان المشتمل على أكمل المصالح وأتمّ الفوائد ، فرفع التكليف والإحسان بما لا يستحقّه من مجازاته تعالى له بجزائه الجميل ممّا لا يقدر العاقل بإحصاء (٤) وجوه امتنانه عمّا قليل. كذا أفاد الأستاذ ـ دامت إفاداته ـ لكنّه لا يخفى عدم اندفاع النقض على المذهبين بذلك وإن حلّ الإشكال به ، فتدبّر.

الخامس (٥) : لا ريب في أنّ كثيرا من الأحكام المقرّرة في الشريعة معلّلة في الحقيقة ظنّا أو احتمالا بحكم غير مطّردة في مواردها ، ومع ذلك فقد حافظ الشارع على عمومها وكلّيتها حذرا من الأداء إلى الاختلال بموارد الحكم ،

__________________

(١) في ( ش ) بدل « اتّصافه » : « المتصارف » أو « التصارف ».

(٢) في ( ش ) زيادة : « به ».

(٣) لم يرد « في السفر » في ( ش ).

(٤) في ( ش ) : « بإحضار ».

(٥) من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.

٣٦١

كتشريع العدّة المعلّلة بحفظ الأنساب ونحوه ، فالفعل في الموارد المنفكّة عن العلّة خال عن المصلحة مع اطّراد الحكم واختصاص الحكمة بالبعض (١).

والجواب عنه :

أوّلا : فبما عرفت مرارا.

وثانيا : أنّه لا نسلّم كون تلك الحكم علّة للحكم الشرعي ، كيف! ولولاها لزم التخلّف ، بل تلك الحكم إنّما هي تقريبات لأذهان المخاطبين لمناسبة جزئيّة ، أو علل لتشريع الحكم وإظهاره وإبرازه كما في شأن نزول الآيات القرآنية ، فإنّ المصالح الكامنة في الأشياء المقتضية للأمر بها والنهي عنها ممّا لا يعلمها إلاّ الله والراسخون في العلم من امنائه وخلفائه.

وأمّا ما تخيّله : من كفاية الاحتمال فيما يراه (٢) من نفي الملازمة ـ كما أشار إليه بقوله : « ظنّا أو احتمالا » وصرّح به أخيرا في ذيل كلامه ـ فلعلّه سهو عن قلمه أو غفلة عن قواعد المناظرة ، فإنّ الناقض لا بدّ وأن يكون في مقام النقض موردا لمورد يخالف مقصود خصمه قطعا ولا يكفيه الاحتمال ، نعم المانع يكفيه الاحتمال في قبال الاستدلال.

وبالجملة ، فمن يقول بالملازمة فإن منعها مانع بتجويز أمثال ذلك فلا بدّ لنا (٣) من إحكام الدليل الدالّ على الملازمة وسدّ باب الاحتمال بإقامة البراهين القطعيّة ، وإن نقضها الناقض بأن يقول : إنّ المورد الكذائي قد تخلّف فيه الحكم المذكور فلا بدّ له من إتيانه بمورد قطعيّ المخالفة ، وعلينا إمّا إصلاحه أو الالتزام

__________________

(١) الفصول : ٣٣٩.

(٢) العبارة في ( ش ) هكذا : « وأمّا ما تخيّله من أنّ كثيرا من الأحكام فيما يراه ».

(٣) كذا ، والظاهر : له.

٣٦٢

بمقالته ، ومن الظاهر أنّ الوجوه التي استند إليها في عدم ثبوت الملازمة إنّما هو أوردها على وجه النقض كما لا يخفى ، فلا وجه حينئذ لإبداء الاحتمال.

وثالثا : أنّه كما يحتمل أن يكون اطّراد تلك الأحكام بواسطة حسن في التكليف كذلك يحتمل أن يكون بواسطة حسن في الفعل المكلّف به في غير الموارد الموجود فيها العلّة ؛ لأنّ اشتمال فرد على مصلحة من (١) طبيعة ممّا يجدي (٢) في انتزاع عنوان عن فرد مماثل له في النوع ، فيصير ذلك العنوان من وجوه ذلك الفرد ، ويحتمل أن يكون حسنا فيصير مأمورا به.

وبالجملة ، فلا دليل على انحصار المصلحة في شيء بخصوصه ، فلعلّ الحكم في الأفراد الغير الواجدة لتلك الحكم مستند إلى علّة عامّة لغيرها أيضا أو (٣) يخصّ بها ، ولعمري! كيف يرضى العاقل ـ فضلا عن الفاضل ـ بالاستناد إلى مثل هذه الوجوه في دفع ما قد اتّفقت العدليّة عليه؟ كما سنبيّنه إن شاء الله.

السادس (٤) : الصبيّ المراهق إذا كان لطيف القريحة كامل العقل تثبت في حقّه الأحكام العقليّة ، مع أنّه لا يجب عليه شرعا (٥).

والجواب الالتزام بالأحكام الشرعيّة في حقه أيضا بعد ما أدرك الحكم العقلي كحرمة الظلم أو وجوب ردّ الوديعة ، غاية ما في الباب عفوه ثابت بالشرع تفضّلا كما في المعاصي الصغيرة مثلا ؛ مع أنّ الحكم بثبوت العفو

__________________

(١) في ( ش ) زيادة : « انتزاع ».

(٢) في ( ش ) : « لا يجدي ».

(٣) في ( ش ) : بدل « أو » : « و ».

(٤) من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.

(٥) الفصول : ٣٣٩.

٣٦٣

في بعض المقامات ـ كما لو فرضنا فيما لو قتل الصبيّ قبل بلوغه ساعة مع كمال عقله وإدراكه نبيّا أو وصيّ نبيّ ـ في غاية الصعوبة ، فإنّه ربما يخالف العدل على ما لا يخفى.

وبالجملة ، فنحن نقول : إنّ كلّما أدرك العقل أنّ الفعل الفلاني ممّا يترتّب عليه الثواب بمعنى جزاء الخير ، أو العقاب بمعنى جزاء الشرّ ، أو لا يترتّب عليه شيء منهما عند العقلاء والحكماء ، فيمتنع أن يكون حكم الشارع الذي هو خالق العقلاء الحكماء بخلافه. وإن شئت التوضيح فلاحظ المباح العقلي هل يصحّ أن يحكم الشارع بوجوبه أو حرمته أو لا يصحّ؟ وقس عليه البواقي.

فنقول : إنّ بعد ما أدرك العقل جهات الفعل ولم يحكم بوجوبه أو حرمته أو استحبابه أو كراهته وحكم بإباحته ، فإيجاب الشارع الحكيم له لا يخلو عن وجوه :

إمّا لحسن فيه قبل الأمر والمفروض خلافه.

أو لحسن فيه بعد الأمر على وجه يتفرّع عليه التكليف ، فالأمر فيه محقّق لعنوان حسن مطلوب حقيقة هو مأمور به واقعا كما في الأوامر التعبّديّة كالصلاة والزكاة ، فإنّ بعد الأمر يحصل عنوان حسن غير الامتثال هو يصير مأمورا به. وأمّا حسن الامتثال فلا يتفرّع عليه التكليف بل الامتثال يتفرّع عليه ، فلا يصلح وجها لتعلّق التكليف بالفعل.

وإمّا الابتلاء (١) ...

__________________

(١) عطف على قوله : إمّا لحسن فيه. ولا يخفى عدم ارتباط قوله : « كما أورده القوشجي ... » بما قبله ، ولذا أفرزناه عنه ، والظاهر ـ بل المقطوع ـ سقوط بعض الكلمات ، والكلمات الآتية أيضا لا تخلو عن تشويش.

٣٦٤

كما أورده القوشجي على المحقّق الطوسي في بيان كلامه (١). وإرادة القبيح قبيحة وكذا ترك إرادة الحسن ، فأمّا مع العلم فلا وجه له ، وأمّا مع الجهل فالامتثال به أيضا لا حسن فيه ؛ لأنّ حسن الامتثال إنّما هو من حيث تحصيل محبوب المولى ، والمفروض أنّه لا حسن فيه.

نعم ، في صورة الجهل لاعتقاد المخاطب (٢) ـ من حيث ظاهر الأمر الكاشف عن الطلب واقعا ـ بالمحبوبيّة يحسن منه الانقياد ويحرم عليه التجرّي بترك المطلوب على حسب ما اعتقده ، وهذا ليس من حسن الامتثال في شيء كما لا يخفى ، وليس هذا الأمر إلاّ صوريّا صرفا ولفظيّا بحتا ، والكلام على تقدير خلافه فلا يصلح نقضا على الملازمة الواقعيّة.

نعم ، لو قلنا : بأنّ الطلب أمر يغاير الإرادة أو لا يستتبعها ، بل يمكن الانفكاك بينهما كما يراه بعض الأعاظم (٣) ـ تبعا للأشاعرة ـ فلا ملازمة بين الحكمين. ولعلّ الناقض المذكور قد بنى كلامه على ذلك ، إلاّ أنّ الكلام معه حينئذ (٤) في أصل المبنى.

ثم إنّه قال في عنوان المبحث بعد ما نفى الملازمة الواقعيّة : « هذا إذا أريد بالملازمة القطعيّة الواقعيّة منها ، ولو أريد بها الملازمة ـ ولو بحسب الظاهر ـ فالظاهر ثبوتها » (٥) ثم قال ـ بعد إيراد النقوض على الملازمة الواقعيّة بما

__________________

(١) انظر شرح التجريد للقوشجي : ٣٤٠.

(٢) في ( ط ) : « المكلّف ».

(٣) انظر ضوابط الاصول : ٤٧ ، وشرح القوشجي : ٢٤٦.

(٤) لم يرد « حينئذ » في ( ش ).

(٥) الفصول : ٣٣٧.

٣٦٥

عرفت (١) والاستدلال على مقصوده من إثبات الملازمة بين حسن التكليف ووقوعه في أثناء الاحتجاج على الملازمة الظاهريّة في المقام الثاني الذي يرجع في محصّل (٢) المعنى إلى حجّيّة العلم والقطع في الظاهر ـ : ومن هنا يتّضح أنّه لو جهل العقل جهات التكليف وأدرك جهات الفعل حكم في الظاهر بثبوت التكليف عملا بعموم الآيات وما في معناها من الأخبار ؛ ولأنّ قضيّة جهات الفعل وقوع التكليف على حسبها ، إلاّ أن يعارضها مانع. ولا يكفي احتماله ، إذ المحتمل لا يصلح في نظر العقل لمعارضة المقطوع به (٣) ، انتهى.

وهذا أيضا ليس في محلّه ، فإنّ الملازمة لو كانت ثابتة فهي واقعيّة على ما عرفت ، وإلاّ فالملازمة الظاهريّة ممّا لا محصّل لها.

وأمّا ما استند إليها من عموم الآيات : فعلى تقدير دلالتها إنّما يثبت بها الملازمة الواقعيّة دون غيرها ، فالحكم بلزوم العمل على مقتضى ما أدركه العقل من جهات الفعل في الظاهر يبقى بلا دليل.

وغاية ما يمكن الاستناد إليه في تصحيح مرامه هو أن يقال : إنّ الرجوع إلى الوجدان يقضي بأنّ الجهات المحسّنة للفعل بعد وصول العقل إليها إنّما هي المقتضية للتكليف ، واحتمال المانع ممّا لا يعبأ به العقل سيّما إذا كان بعيدا ، مع أنّ الأصل يقضي بعدمه ، فيثبت التكليف في مرحلة الظاهر إلى ثبوت مانعة.

وفيه :

أوّلا : أنّ الرجوع إلى الوجدان شاهد صدق على أنّ جهات الفعل علّة تامّة

__________________

(١) في ( ش ) زيادة : « ما عليها ».

(٢) في ( ط ) : « تحصيل ».

(٣) الفصول : ٣٤٠.

٣٦٦

للتكليف ، فليست هناك حالة منتظرة له. وبعد التنزّل نقول : إنّ كونها علّة تامّة (١) لا دليل على كونها مقتضية للحكم ، فلعلّها جزء للمقتضي ، فإنّ ارتفاع التكليف في الصبي (٢) يحتمل أن يكون لوجود مانع منه ، ويحتمل أن يكون مستندا إلى فقدان شرط من شروط التكليف ولا معيّن لأحد الاحتمالين في البين ، فالجزم بأنّ العدم في أمثال المقام مستند إلى وجود المانع إنّما هو تعرّض على الغيب أو تحكّم (٣).

وثانيا : لو سلّمنا إحراز المقتضي فلا نسلّم أنّ الشكّ إنّما هو في وجود المانع عن ثبوت المقتضي وترتّبه على المقتضي ، كيف! ويحتمل أن يكون الشكّ في مانعيّة شيء موجود ولا يجري الأصل حينئذ (٤) لعدم العلم بالحالة السابقة ، فإنّ ما يحتمل مانعيّته مذ خلق ومنذ جعل يحتمل مانعيّته وعدمها ، فهي من الآثار واللوازم الغير الشرعيّة (٥) وقد تقرّر في مقامه عدم جريان الأصل فيها لكنّه يختصّ بالموانع الواقعيّة للمطالب الخارجيّة ، وأمّا الموانع الجعليّة كالموانع الشرعيّة التي يناط كونها مانعة للأحكام الشرعيّة بجعل فيها ، فيجري فيها الأصل ، وليس (٦) المقام منه ـ كما لا يخفى ـ فإنّ الكلام في الموانع التي تمنع عن ترتّب الحكم العقلي على مقتضياتها ، وهذه أمور واقعيّة غير منوطة بجعل ، ولا وجه للأصل فيها.

__________________

(١) لم يرد « إنّ كونها علّة تامّة » في ( ش ).

(٢) لم يرد « في الصبي » في ( ش ).

(٣) في ( ش ) : « بحكمه ».

(٤) في ( ط ) بدل « حينئذ » : فيه.

(٥) لم يرد « الغير الشرعيّة » في ( ط ).

(٦) في ( ط ) : « إلاّ أنّه ليس ».

٣٦٧

ودعوى استقرار بناء العقلاء على عدم اعتبار ما يحتمل مانعيّته في ترتيب آثار (١) المقتضي بعد إحراز المقتضي غير مسموعة جدّا ، كيف! ولا نجد منها عينا ولا أثرا ، ألا ترى أنّه من أراد المسافرة إلى بلد خاصّ بعد وجود المقتضي لذلك السفر واحتمل هناك مانعيّة شيء موجود عنه فهم لا يترتّبون (٢) آثار وصول المسافر إلى البلد المقصود له عليه : من إرسال المكاتيب إليه وتوكيله وجعله وصيّا ، وغير ذلك.

وأمّا أصالة عدم وجود المانع فقد تقرّر (٣) في محلّه : أنّه جار في الامور الشرعيّة ، فإنّ من آثار عدم المانع الشرعي وجود المقتضي الشرعي بخلاف الامور الواقعيّة فإنّها تستند إلى عللها الواقعيّة بجميع أجزائها : من وجود المقتضيات ورفع الموانع ، فعدم المانع المحرز بالأصل (٤) لا يجدي في الحكم بوجود المقتضي فيها.

وبالجملة ، مرجع الأصل في أمثال ذلك إلى الاصول المثبتة ، ولا ثبات لها عندنا (٥).

والحاصل : أصالة عدم المانع وإن كان يجدي في إثبات الملازمة الظاهريّة ، إلاّ أنّ الكلام في مورده ، فإثبات أنّ المقام إنّما هو ممّا نعلم فيه بوجود المقتضي ونشكّ في وجود المانع دونه خرط القتاد.

__________________

(١) في غير ( ط ) : « الآثار ».

(٢) كذا ، والمناسب : لا يرتّبون.

(٣) في ( ط ) : « قلنا ».

(٤) في ( ط ) زيادة : « الشرعي ».

(٥) العبارة في ( ط ) هكذا : « فإنّه أصل مثبت ولا ثبات له عندنا ».

٣٦٨

وقد يستفاد من كلامه الملازمة الظاهريّة أيضا فيما لو أدرك العقل بعض جهات الفعل واحتمل وجود معارض يعارض قبحه أو حسنه فيما أدركه ، كما إذا أدرك حسن العدل أو قبح الكذب ولكنّه يحتمل هناك وجود عنوان آخر في الكذب من إنجاء نفس محترمة ونحوه ، فانّ العقل في مقام الظاهر يستقلّ بحرمته أو وجوبه مثلا ما لم ينكشف الخلاف أو يعتمد على أصالة عدم المانع ، وهذا أيضا ممّا لا وجه له في وجه ، فانّ العقل بعد ما أحرز العنوان الحسن فلا يجدي في الحكم بخلاف مقتضاه احتمال طريان عنوان القبيح ؛ لأنّ الحسن وخلافه من الصفات الطارئة على الأفعال الاختياريّة والعناوين المقصودة ، فكلّما لم يكن العنوان القبيح مقصودا لا يتّصف بالقبح وإن وقع وكذا العنوان الحسن ، فإنّ قطع اليد من اليتيم ممّا يستقلّ به العقل قبحا ، ولا يكفي في رفع قبحه احتمال رفع شقاقلوسه (١) مثلا وإن وقع مفيدا واقعا ، فالحكم بقبح الظلم وقطع اليد حكم واقعيّ غير مبتن على الظاهر ، فعند عدم القصد إلى العنوان الحسن لا يتزلزل العقل في الحكم بالقبح حكما واقعيّا ولا يحتمل الخلاف لا في الواقع ولا في الظاهر ، فكيف يكون مثل هذا الحكم حكما ظاهريّا؟ ولا حاجة إلى إعمال الأصل في عدم لحوق العنوان المحتمل ، فإنّ الآثار التي تحرز بالأصل ويحكم بترتّبها في المقام ممّا (٢) يترتّب على نفس الشكّ في وجود العنوان اللاحق من غير حاجة إلى إعمال الأصل ، كما لو شككنا في حجّيّة أمارة فنفس الشكّ فيها يكفي في عدم ترتيب آثار الحجّيّة عليها فلا فائدة حينئذ في إجراء أصالة عدم الحجّيّة كما نبهنا عليه في مباحث حجّيّة الظنّ.

__________________

(١) هو داء يموت أو يفسد به العضو ، أصله : سفاكلوس ، لغة يونانيّة ( لغت نامه دهخدا ٩ : ١٢٦٤٤ ).

(٢) في ( ش ) زيادة : « لا ».

٣٦٩

وبالجملة ، إذا أدرك العقل بعض جهات الفعل وأحرز عنوانا حسنا وشكّ في وجود عنوان آخر معارض للأوّل (١) فبمجرّد الشكّ يحكم بحسن الفعل واقعا من غير تأمّل وتزلزل ، فإنّ الشكّ دليل على عدم عنوان مقتض للقبح ، إذ لا يتّصف بالقبح إلاّ بعد القصد والاختيار ، ولا قصد مع الشكّ فلا قبح قطعا من غير احتمال خلاف في الواقع ؛ واحتمال وقوع العنوان القبيح ممّا لا يجدي ؛ لأنّه بعد عدم القصد فعل اضطراري لا يتّصف بحسن ولا قبح.

ومن هذا القبيل فعل المتجرّي لو اعتقد حرمة شيء واجب واقعا ، فإنّه لا يجدي به مع عدم قصده إليه ولا يتّصف بالحسن والقبح ، وكذا لو اعتقد وجوب شيء حرام وتركه تجرّيا على الله ـ نعوذ بالله ـ فإنّه يذمّ على نفس التجرّي ولا يمدح في ترك الحرام الواقعي ، كما نبّهنا عليه في بعض المباحث السابقة (٢).

فتخلّص ممّا مرّ : أنّ الملازمة الظاهريّة ممّا لا محصّل لها بوجه ، والحقّ ثبوت الملازمة الواقعيّة.

وما قد يتوهّم في المقام : من دلالة الظواهر على انتفاء الملازمة ، كما في قوله تعالى في تحريم الشحوم على اليهود : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ... )(٣) الخ ، وقوله : ( جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ... )(٤) الخ ، وقول ابن عبّاس في اليهود في قصّة البقرة : من « أنّهم شدّدوا فشدّد الله عليهم » (٥) ـ وأمثال ذلك ـ فممّا لا يقاوم

__________________

(١) في ( ط ) هكذا : « عنوان آخر يعارض قبحه حسنه ».

(٢) لم ترد عبارة « كما نبّهنا عليه في بعض المباحث السابقة » في ( ش ).

(٣ و ٤) الانعام : ١٤٦.

(٥) انظر مجمع البيان ١ : ١٣٥.

٣٧٠

ضرورة العقل ، فلا بدّ من حمله على أنّ الفعل بعد الظلم والبغي والتشديد منهم اختلف أوصافه ، لا أنّ مجرّد الظلم حرّم الشحوم عليهم مثلا من غير وجدان الفعل للصفة المقتضية للتحريم ، كما نبّه عليه المحقّق القمّي في بعض مباحث القياس (١) ، فتدبّر جيّدا فإنّه حقيق بالتدبّر (٢).

وممّا يعدّ من الوجوه الدالّة على ثبوت الملازمة الواقعيّة بين حكمي العقل والشرع الإجماع بأقسامه : نقلا وتحصيلا ، مركّبا وبسيطا.

أما الإجماع البسيط : فيكشف عن تحقّقه أمور :

منها : ما عزى الأستاذ إلى الشيخ في العدّة : من أنّه لا خلاف في أنّ كلّ محظور عقلي فهو محظور شرعي (٣). وظاهره نفي الخلاف بين أرباب التحصيل وأهل النظر ، ولا أقلّ من نفيه بين العدليّة.

ومنها : ما أفاده جمال المحقّقين في تعليقاته على العضدي (٤) : من أنّه لا خلاف بين العدليّة في ذلك.

ومنها : ما ذكروه في ثمرة النزاع بين الفريقين من ترتيب (٥) الأحكام الشرعيّة على القول بالإدراك وعدمه على تقدير عدمه.

__________________

(١) القوانين ٢ : ٨١.

(٢) لم ترد عبارة « من غير وجدان ـ إلى ـ بالتدبّر » في ( ش ).

(٣) انظر العدة ٢ : ٧٤١.

(٤) الحاشية على مختصر الاصول في أول مبحث مبادئ الأحكام : ٦٦ ، وفيها نسب ذلك إلى « المذهب ».

(٥) في ( ش ) : « ترتّب ».

٣٧١

ومنها : احتجاج الأشعري (١) في نفي الحسن والقبح : بلزوم الجبر في أفعاله تعالى ، وجواب العدليّة (٢) : بأنّ انتفاء القبح لصارف لا ينافي الاختيار وعدم تعرّضهم في دفع ذلك بمنع الملازمة مع كفايته في الجواب ، كما لا يخفى.

ومنها : احتجاج الأشعري أيضا : بنفي التعذيب اللازم للحكم الشرعي على انتفاء الملزوم كما يرشد إليه قوله تعالى : ( ... وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(٣) وجواب أهل العدل : بأنّ الرسول أعمّ من الرسول الظاهر ، ولم يتعرّض واحد منهم لنفي الملازمة إلاّ من هو محجوج بالإجماع.

ومنها : ما أضافه بعضهم (٤) بالمدح والذمّ الثواب والعقاب آجلا وعاجلا في تفسير الحسن والقبح عند تحريره لمحلّ النزاع ، فإنّه قد أفرط في الإشعار بأنّ بعد تسليم الإدراك لا ينبغي التشكيك في ثبوت الملازمة حتّى أنّه يعلم في مقام إثبات الحسن والقبح ، وإلاّ فهو بظاهره فاسد ، إذ لا يذهب وهم إلى دعوى إدراك الثواب والعقاب في الآجل إلاّ بعد تسالم الخصمين بعد الإدراك في ثبوته.

وبالجملة ، فمن تدبّر في مطاوي كلماتهم في مجاري استدلالاتهم وموارد ثمراتهم وتحرير عنواناتهم لا يكاد يرتاب في ثبوت الملازمة بعد تسليم صغرى الإدراك ، حتّى أنّ الأشاعرة الذين نسبتهم إلى القواعد المأخوذة من مشكاة الولاية ومصباح الهداية كنسبة السوفسطائيّة إلى القواعد الموروثة عن البداهة

__________________

(١) راجع الإحكام للآمدي ١ : ١٢٠ ـ ١٣٣ ، والمختصر وشرحه للعضدي : ٧٠.

(٢) راجع كشف المراد : ٣٠٤ ، والفصول : ٣٢٠ وما بعدها ، ومناهج الأحكام : ١٤٠.

(٣) الإسراء : ١٥.

(٤) انظر هداية المسترشدين : ٤٣٣ ، والفصول : ٣١٦.

٣٧٢

والمنتهية إلى الضرورة و (١) لا ينكرون ثبوت الملازمة بعد تسليم الإدراك كما عرفت في إلزاماتهم على العدليّة ؛ فتنبّه في الغاية وتذكّر ما أسلفنا لك في تحرير العنوان إلى النهاية.

وأمّا الإجماع المركّب : فلأنّ علماء الإسلام بأجمعهم بين منكر للحسن والقبح العقليّين وبين ملتزم بالملازمة بين الحكمين ، فكلّ من قال بثبوت الإدراك العقلي التزم بملازمته للحكم الشرعي ، إلاّ ما قد يحكى عن الزركشي (٢) وأشباهه ممّن لا يعتدّ بشأنهم في تحصيل الإجماع الكاشف عن رضا الإمام والرئيس بالعمل بما أدركه العقل ، فالقول بثبوت الحسن والقبح وانتفاء الملازمة إحداث لقول ثالث ، فيكون باطلا.

وممّا يدلّ على ثبوت الملازمة أيضا : الكتاب والسنّة :

فمن الأوّل : قوله ـ عزّ من قائل ـ في مدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ... يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ... )(٣) والتقريب : أنّ المعروف والمنكر هما الحسن والقبيح العقليّان ، والمستفاد من السياق بدلالة وقوعه في مقام المدح هو العموم وإن كان تعريف الجنس ممّا لا يلازمه ، ولا مدح على تقديره كما لا يخفى. والأمر فيه محمول على مطلق الطلب ، لعموم المعروف للمستحب ، فالترك لو كان من المنكرات التي تنهى عنها فالفعل واجب وإلاّ فهو مستحبّ ، فلا يرد عدم التميز كما زعمه بعض الأجلّة (٤).

__________________

(١) الظاهر زيادة : و.

(٢) حكاه الفاضل التوني في الوافية : ١٧٥.

(٣) الأعراف : ١٥٧.

(٤) انظر الفصول : ٣٤١.

٣٧٣

وقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ... )(١) وجه الدلالة : أنّ العدل من كلّ شيء وسطه ومستقيمه ومستقيم الأفعال حسنها ، والعموم أيضا مستفاد من المقام على ما عرفت.

وقوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... )(٢).

وقوله تعالى : حكاية عن لقمان في وصيّة ابنه : ( يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... )(٣).

وجه الدلالة في الكلّ واضح. والمناقشة فيها ممّا لا وقع لها بعد اعتضاد بعضها ببعض كما لا يخفى.

ومن الثاني (٤) جملة من الأخبار :

منها : ما ورد في خطبة الوداع التي خطب بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الغدير : « إلا ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويبعّدكم عن النار إلاّ وقد أمر الله تعالى به ، ألا ما من شيء يقرّبكم إلى النار ويبعّدكم عن الجنّة إلاّ وقد نهاكم عنه » (٥).

ومنها : ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل سأله عن طول الجلوس في بيت الخلاء : « دع القبيح لأهله ، فإنّ لكلّ شيء أهلا » (٦).

__________________

(١) النحل : ٩٠.

(٢) آل عمران : ١٠٤.

(٣) لقمان : ١٧.

(٤) يعني ومن السنّة ، عطف على قوله : فمن الأوّل.

(٥) الوسائل ١٢ : ٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٢.

(٦) الوسائل ٢ : ٩٧٥ ، الباب ١٨ من أبواب الأغسال المسنونة ، وفيه حديث واحد. مع تفاوت يسير.

٣٧٤

وجه الدلالة ظاهر ، وفيما تقدّم منّا من البرهان العقلي كفاية.

فلنعطف عنان القلم إلى بيان الكلّيّة القائلة : بأنّ « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » فنقول : إنّ هذه الكلّيّة منهم تحتمل وجهين :

الأوّل : أنّ كلّ ما حكم به الشرع قد صدّقه في الحكم في تلك الواقعة العقل واعتقد وقوعه في محلّه وصدوره من أهله ، وهذا المعنى ممّا لا [ يكاد ](١) ينكره القائل بانفكاك الحكمين من العدليّة أيضا.

الثاني : أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم العقل على طبقه حكما إنشائيّا جعليّا كما في عكسه ، على ما مرّ تحقيق الكلام فيه.

فالمعنى الأوّل يتوقّف ثبوته على مقدّمتين مسلّمتين عند العدليّة ، وقد فرغنا عن إثباتهما في غير الفنّ.

إحداهما : أنّ أفعاله تعالى معلّلة بأغراض لا تعود إليه لئلاّ يلزم الاستكمال في حقّه والعبث منه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وثانيهما : امتناع الترجيح بلا مرجّح وأنّه لا يكفي للترجيح إرادة الفاعل وتعلّق قصده بأحد المتساويين في نظر الفاعل وإلاّ لزم الترجّح بلا مرجّح وهو ضروري البطلان وبديهي الاستحالة.

فبعد إحراز هاتين المقدّمتين لا يعقل عدم تصديق العقل لأحكام الشرع ، فإنّه تعالى خبير في حكمه وحكيم في صنعه ، فلا مناص من إمضاء العقل حكم الشرع على الوجه المذكور.

وقد زعم بعض المعاصرين (٢) : أنّ من قال بعدم كفاية الإرادة في الترجيح ـ كما في المقام ـ إنّما ينافي قوله في دفع ما ذهب إليه سليمان بن عبّاد الصيمري :

__________________

(١) لم يرد « يكاد » في ( ش ).

(٢) انظر القوانين ١ : ١٩٤.

٣٧٥

من أنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة أو الوضع إنّما هو لمناسبة ذاتية ، بأنّ إرادة الواضع مرجّحة ؛ فإنّ كون إرادة الواضع مرجّحة إنّما يناسب مذاق من يجوّز صدور الفعل عن الفاعل من غير اقترانه واستناده إلى الفاعل وقدرته ، وأمّا على المشرب الحق الأصفى الأتمّ الأكمل فلا يكفي في الترجيح تعلّق الإرادة بأحد المتساويين ، إذ الكلام إنّما ينقل إلى نفس الإرادة بعد تساوي نسبتها إلى الطرفين (١).

لكنّه لا يخفى عدم استقامة ما زعمه ، فإنّ الإرادة تارة قد يقال للقصد ، وأخرى للعلم بالأصلح. فعلى الأوّل لا يكفي في الترجيح كما في المقام ، وعلى الثاني فهي بعينها هي المصلحة الداعية للفعل وصدوره من الفاعل. والمراد من « الإرادة المرجّحة » في مقام الوضع هو هذا المعنى ، نظرا إلى منع انحصار المرجّح في الوضع فيما يرجع إلى ذات اللفظ ، والإتيان بلفظ « الإرادة » مجرّدا عن القيد المذكور إنّما هو الإشعار بتوغّل اللفظ وما يتعلّق به من الوضع ومرجّحاته في التوقيفيّة ، كما لا يخفى.

وأمّا المعنى الثاني (٢) : فتارة يحمل على أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل تفصيلا أو فعلا ، وأخرى على أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل إجمالا أو بعد الاطّلاع على جهات الفعل. فعلى الأوّل لا شكّ في فسادها ، لمخالفتها للوجدان الصحيح. وعلى الثاني فلا شكّ في صحّتها ، لوجوه :

منها : أنّه لو لم يكن « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » صادقا لم يصدق قولنا : « كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع » والتالي باطل فالمقدّم

__________________

(١) العبارة في ( ط ) هكذا : إلى نفس الإرادة مساواة الفعل بالنسبة إليها أيضا.

(٢) يعني المعنى الثاني لقاعدة « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » راجع الصفحة : ٣٧٥.

٣٧٦

مثله. أمّا بطلان التالي ، فلما تقدّم في المقام الأوّل. وأمّا الملازمة ، فلأنّ عدم صدق قولنا : « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » يلازم عدم صدق عكسه ، وهو قولنا : « بعض ما حكم به العقل حكم به الشرع » وكذب العكس يلازم صدق نقيضه ، لاستحالة ارتفاع النقيضين ، وهو قولنا : « لا شيء ممّا حكم به العقل حكم به الشرع » وقد ثبت أنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، وهو المذكور في التالي.

وأمّا القول بأنّ العقل يمكن أن لا يكون له حكم في مورد حكم الشرع فليس على ما ينبغي ؛ لأنّ الكلام إنّما هو بعد الاطّلاع على الواقع على ما هو عليه ، وعلى تقديره لا يعقل عدم الحكم ؛ لأنّ الأحكام منحصرة بالحصر العقلي في الخمسة ، كما لا يخفى.

ومنها : الكتاب العزيز ، قوله تعالى : ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ... )(١) وقوله ـ عزّ من قائل ـ : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ... )(٢).

وجه الدلالة : أنّ المستفاد من انحصار المأمور به في القسط والمحرّم في الفواحش هو ذلك ، كما هو ظاهر.

ومنها : الأخبار ، كما في خطبة أوصى بها أمير المؤمنين ابنه الحسن ـ عليهما أفضل الصلاة والسلام من الرحمن وأكملها ـ : من أنّه تعالى « لم يأمرك إلاّ بحسن ولم ينهك إلاّ عن قبيح » (٣) ، وقول الباقر عليه‌السلام في رواية سبق

__________________

(١) الأعراف : ٢٩.

(٢) الأعراف : ٣٣.

(٣) نهج البلاغة : ٣٩٦ ، الرسالة ٣١.

٣٧٧

ذكرها « فإنّه لا يكره الله إلاّ القبيح » (١) فالأمر ظاهر لا ينبغي أن يرتاب فيه ذو مسكة.

نعم ، بقي هنا شيء ، وهو : أنّه قد تقدّم (٢) أنّ الأشاعرة قد تمسّكوا في نفي الإدراك العقلي بآية التعذيب ؛ نظرا إلى أنّ انتفاء اللازم يساوق انتفاء الملزوم ـ وهو الحكم الشرعي ـ جريا على طريقة العدليّة من ثبوت الملازمة بعد ثبوت الحسن والقبح.

وتنظّر فيه الفاضل التوني : بأنّ ثبوت الحسن والقبح العقليّين لا يلازم وقوع التكليف ؛ نظرا إلى جواز التفكيك بين الحكمين (٣) ، فاستند في دفع الملازمة بالآية المذكورة في أحد الوجهين.

ولقد أجاب عنها القوم بوجوه (٤) :

منها (٥) : أنّ الآية ـ على ما يشهد به مساقها ـ واردة في مقام نفي التعذيب في الدنيا قبل البعثة ، ويظهر ذلك بعد الرجوع إلى الآيات السابقة منها واللاحقة لها ، فعدم وقوع التعذيب في مستقلاّت العقل في الدنيا لا يقتضي عدم (٦) ترتّب العقاب عليها ولو في الآخرة ، لوضوح أنّ نفي الأخصّ لا يستلزم نفي الأعمّ ولو في فرد آخر غير الأخصّ.

__________________

(١) راجع الصفحة : ٣٧٤ والرواية عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

(٢) راجع الصفحة : ٣٣٢ و ٣٧٢.

(٣) الوافية : ١٧١ ـ ١٧٢.

(٤) انظر هداية المسترشدين : ٤٤٠ ، والفصول : ٣٤٢ ، ومناهج الأحكام : ١٤١ و ١٤٧.

(٥) في ( ط ) : « الأوّل ».

(٦) في ( ط ) : لا يقضي بعدم.

٣٧٨

ومنها (١) : أنّ غاية ما يستفاد من الآية نفي العذاب الفعلي ولو في الآخرة ، وهو لا ينافي الاستحقاق ، لمكان العفو. واستحقاق العقاب في المستقلاّت العقليّة ممّا لا يدانيه ارتياب.

واعترض عليه في الوافية : بأنّ الواجب ما يجوّز العقل ترتّب العقاب على تركه (٢) ، وبعد ما عرفت من العفو ـ كما اعترفت به ـ لا يجوّز العقل ترتّب العقاب على المدركات العقليّة ؛ للقطع بصدق المخبر بالعفو.

والجواب عنه : أنّ تعريف الواجب بما ذكره إنّما هو اقتراح من نفسه ـ قدّس الله نفسه ـ فإنّ حقيقة الوجوب هو الطلب (٣) الأكيد ، وهو أمر بسيط لا مدخل لتجويز ترتّب العقاب عليه فيه ، كيف! ولا نقول بمدخليّة الاستحقاق أيضا (٤) في حقيقته.

وأمّا ما عرّفه بعضهم بما يترتّب على تركه الذمّ والعقاب (٥) ، فهو تعريف باللازم ، وعلى تقديره فلا غائلة أيضا ؛ لأنّ تجويز ترتّب العقاب على تركه إنّما هو من حيث ذات الواجب مع قطع النظر عمّا عداه ، وهذا موجود في المقام وإن لم نجوّز ترتّب العقاب على تركه نظرا إلى امتناع تخلّف وعده سبحانه ، فإنّ عدم التجويز لعارض ليس بضائر ، كما لا يخفى.

__________________

(١) في ( ط ) : « الثاني ».

(٢) الوافية : ١٧٢.

(٣) في ( ط ) زيادة : « الحتمي ».

(٤) لم يرد « أيضا » في ( ط ).

(٥) كما عرّفه المعتزلة حسب ما نقل عنهم العلاّمة في نهاية الوصول : ٧ ، وعرّفه شيخنا البهائي في الزبدة : ٣٧ ، بأنّه ما يستحق تاركه لا إلى بدل ذمّا.

٣٧٩

فإن قلت : إنّ من جملة ما يقرّب العباد إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية هو وعد الله سبحانه على الطاعة ووعيده على ارتكاب المعصية ، بل هذا من أعظم ألطافه ـ جلّت عظمته ـ على العباد ، فالإخبار بالعفو إنّما يوجب التهاون في مدركات العقول ويورث الإغراء في أفاعيلهم والذهول ، فربما يفرط المكلّف فيما تشتهيه نفسه من ارتكاب المحرّمات العقليّة وترك واجباتها اتّكالا على عفوه تعالى واعتمادا على فضله ، وذلك ينافي ما هو المعلوم من طريقة الشرع من الحثّ على فعل الواجبات والتحريض على ترك المحرّمات ، فهو نقض لغرضه تعالى ؛ وعلى هذا فلا وجه لحمل الآية على الإخبار بالعفو ، بل لا بدّ من حملها على نفي الحكم قبل بيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيتمّ ما يراه المستدلّ من نفي الحكم الشرعي في موارد استقلال العقل.

قلت : مع أنّ ذلك لازم على تقدير عدم الحكم الشرعي في موارد حكم العقل أيضا على ما تنبّه به المستدلّ أيضا (١) في بيان وجه ترديده ـ كما لا يخفى على من لاحظ كلامه ـ فهو منقوض :

أوّلا : بالموارد التي وعد الله تعالى بالعفو عنها (٢) فيها ، كما فيمن ترك الكبائر ، فإنّه عفو في صغائره ، على ما يشهد به الكتاب العزيز : من قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ )(٣) الآية ، وكما في الظهار (٤) ، فإنّ ما دلّ على حرمته

__________________

(١) لم يرد « أيضا » في ( ش ).

(٢) لم يرد « عنها » في ( ش ).

(٣) النجم : ٣٢.

(٤) المجادلة : ٢.

٣٨٠